9 مصاحف الكتاب الاسلامي/

الخميس، 25 مايو 2023

ج10ج11وج12.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ{أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

ج10ج11وج12.كتاب المدخل

 للْعَبْدَرِيُّ{أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ ، وَكَانَ صَاحِبَ عَائِلَةٍ ، وَفَقْرٍ ، وَكَانَ النَّاسُ فِي سَنَةٍ شَدِيدَةٍ ، وَغَلَاءٍ فَجَاءَ لَيْلَةً بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ إلَى بَيْتِهِ فَوَجَدَ أَوْلَادَهُ يَبْكُونَ ، فَقَالَ لِأُمِّهِمْ : مِمَّ يَبْكُونَ ؟ فَقَالَتْ : مِنْ الْجُوعِ قَالَ فَتَرَكْتهمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَطَلَعْت عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ ، وَمَرَّغْت خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ ، وَقُلْت : يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ يَبْكُونَ إلَيَّ ، وَأَنَا أَبْكِي إلَيْك أَعْطِنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ قَالَ فَإِذَا سَحَابَةٌ قَدْ طَلَعَتْ فَجَاءَتْ فَعَمَّتْ الدَّارَ فَأَمْطَرَتْ فُولًا عَلَى الدَّارِ ، وَحْدَهَا قَالَ فَنَزَلْت إلَى الْأَوْلَادِ ، وَأَخْبَرْتُهُمْ فَطَلَعُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ بَقِيَ عِنْدَهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهُ إلَى أَنْ دَخَلَ الْقَمْحُ الْجَدِيدُ .

، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ بَقِيَ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْلٍ ، وَلَا شُرْبٍ قَالَ .

وَلَوْ بَقِيت كَذَلِكَ لَمْ أَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ طُولَ حَيَاتِي لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْأَكْلِ مِنْ طَرِيقِ الِامْتِثَالِ لِسُنَّةٍ لَا غَيْرٍ .

فَمَنْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَطُرُقُ الْفَتْحِ لَهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، وَأَوَانٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا زَمَانٌ ، وَذَاكَ زَمَانٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِي فِيهِمَا وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ ، وَلَا يَزُولُ ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي نَجَاتِهِ مِنْ النَّارِ ، وَجَوَازِهِ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَشُرْبِهِ مِنْ الْحَوْضِ ، وَدُخُولِهِ الْجَنَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ ، وَفِي ثَوْبٍ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِسُوقٍ يُبَاعُ فِيهِ لَمَا سَاوَى إيمَانُ أَحَدِكُمْ كُسَيْرَةً فَيَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ جَمِيعِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ ،

وَيَقُولُ : فَضْلُ اللَّهِ أَعْظَمُ ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ ، ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَجَاتِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ مَا خَلَّصَهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ ، وَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فَلَوْ انْقَطَعَ عَنْهُ السَّبَبُ أَيِسَ ، وَضَجِرَ ، وَشَكَا ، وَبَكَى .

فَإِذَا لَمْ يَخْلُصْ إيمَانُهُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَكَيْفَ يُخْلِصُهُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَهْوَالِ فَفَضْلُ اللَّهِ أَعْظَمُ ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَأَوْجَبُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } لَكِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْتَلِي خَلْقَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ وِفَاقًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِرَبِّهِ ، وَبِحُكْمِهِ ، وَبِإِرَادَتِهِ مَاقِتًا لِأَحْوَالِ نَفْسِهِ ، وَرَأْيِهِ ، وَتَدْبِيرِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ بِمَنِّك إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ ، وَصَحْبِهِ ، وَسَلَّمَ

فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ ، وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ الرَّدِيئَةِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ حُصُولِ عَرْبَدَةٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِعْلِ نَشَّافٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَهَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِيهَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ .

، وَقَدْ قَالَ لُقْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ يَا بُنَيَّ عَلَيْك بِذَوِي التَّجَارِبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَرَّبَ قَدْ دَخَلَ فِي الْمَخَاضَةِ ، وَعَرَفَهَا ، وَعَرَفَ مَوْضِعَ السَّلَامَةِ فِيهَا ، وَمَوْضِعَ الْعَطَبِ فَعَلِمَ مَا يَتَجَنَّبُ مِنْهَا ، وَمَا يَحْذَرُ ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ، وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ

( فَصْلٌ ) : وَآكُد مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ ، وَالسُّكُونُ إلَيْهِ ، وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَقَدْ قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ ، وَوَعَدَهُ النَّاسُ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ ، وَقَالَ : اتَّقِ الْأَغْنِيَاءَ فَإِنَّك مَتَى عَقَدْت قَلْبَك مَعَهُمْ ، وَطَمِعْت فِيهِمْ فَقَدْ اتَّخَذْتهمْ رَبًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إذَا أَرَدْت أَنْ تَكُونَ فِي رَاحَةٍ فَكُلْ مَا أَصَبْت ، وَالْبَسْ مَا وَجَدْت ، وَارْضَ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْك ، وَقَالَ : مَنْ دَارَ حَوْلَ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يَدُورُ بِدَرَجَاتِهِ فِي الْجَنَّةِ لِيَأْكُلَهَا فِي الدُّنْيَا ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ : الْعِبَادَةُ حِرْفَةٌ ، وَحَوَانِيتُهَا الْخَلْوَةُ ، وَرَأْسُ مَالِهَا الِاجْتِهَادُ بِالسُّنَّةِ ، وَرِبْحُهَا الْجَنَّةُ ، وَقَالَ : الصَّبْرُ عَلَى الْخَلْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِخْلَاصِ ، وَقَالَ : اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ : الْعُلَمَاءِ الْغَافِلِينَ ، وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْجَاهِلِينَ ، وَقَالَ : الزُّهْدُ ثَلَاثُهُ أَشْيَاءَ : الْقِلَّةُ ، وَالْخَلْوَةُ ، وَالْجُوعُ ، وَقَالَ : عَلَى قَدْرِ حُبِّك لِلَّهِ يُحِبُّك الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِك مِنْ اللَّهِ يَخَافُك الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ شُغْلِك بِاَللَّهِ يَشْتَغِلُ فِي أَمْرِك الْخَلْقُ ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ النَّيْسَابُورِيُّ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا ارْتَكَبَ كُلَّ خَطِيئَةٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَخَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا سَلِيمَ الْقَلْبِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ قِيلَ : يَا أَبَا حَفْصٍ هَلْ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلِيلٍ قَالَ : بَلَى قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَاتِّبَاعُهُ مَحَبَّةُ أَصْحَابِهِ

لِأَجْلِهِ ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ السَّمَرْقَنْدِيُّ : كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ ، وَكَمْ مِنْ مُغْتَرٍّ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفَقِيرُ قُوَّتُهُ مَا وَجَدَ ، وَلِبَاسُهُ مَا سَتَرَ ، وَمَسْكَنُهُ حَيْثُ نَزَلَ ، وَقَالَ : حَقِيقَةُ الْغِنَى أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَمَّنْ هُوَ مِثْلُك ، وَقَالَ : الَّذِي مَنَعَ الصَّادِقِينَ الشَّكْوَى إلَى غَيْرِ اللَّهِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ ، وَكَتَبَ أَبُو الْأَبْيَضِ كِتَابًا إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ : سَلَامٌ عَلَيْك ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَبَرَكَاتُهُ ، وَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَمْ تُكَلَّفْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا نَفْسًا وَاحِدَةً فَإِنْ أَنْتَ أَصْلَحْتهَا لَمْ يَضُرَّك فَسَادُ غَيْرِهَا ، وَإِنْ أَنْتَ أَفْسَدْتهَا لَمْ يَنْفَعْك صَلَاحُ غَيْرِهَا ، وَاعْلَمْ أَنَّك لَنْ تَسْلَمْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُبَالِي مِنْ أَكْلِهَا مِنْ أَحْمَرَ ، وَأَسْوَدَ .

قَالَ شَقِيقُ بْنُ أَدْهَمَ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُعْرَفُ تَقْوَى الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : فِي أَخْذِهِ ، وَمَنْعِهِ ، وَكَلَامِهِ ، وَقَالَ : دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ : أَوَّلِهَا : ضَعْفُ النِّيَّةِ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ .

وَالثَّانِي - صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً بِشَهَوَاتِهِمْ .

وَالثَّالِثِ - غَلَبَةُ طُولِ الْأَمَلِ عَلَى قُرْبِ أَجَلِهِمْ .

وَالرَّابِعِ - اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَنَبَذُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .

وَالْخَامِسِ - آثَرُوا رِضَى الْمَخْلُوقِينَ فِيمَا يَشْتَهُونَ عَلَى رِضَى خَالِقِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَ .

وَالسَّادِسِ - جَعَلُوا أَدِلَّاتِ السَّلَفِ دِينًا ، وَمَنَاقِبَ لِأَنْفُسِهِمْ .

، وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ : الْزَمْ خِدْمَةَ مَوْلَاك تَأْتِيك الدُّنْيَا رَاغِمَةً ، وَالْجَنَّةُ رَاغِبَةً ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ مُتَمَكِّنٍ فِي الْعِلْمَيْنِ عِلْمِ الْحَالِ ، وَعِلْمِ السُّنَّةِ إنْ

أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَدْخُلُ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشَّيْخُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ .

إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ ، وَخَرْقِ الْعَادَاتِ مَا يَمُدُّ بِهِ الْمُرِيدَ فِي خَلْوَتِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ الَّذِي لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ ، وَالسَّلَامَةُ ، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَوْجُودَةٌ عَلَى يَدِهِ مُتَيَسِّرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِزَاجَ الْمُرِيدِ ، وَقَدْرَ مَا يَحْمِلُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ ، وَقَدْرَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْهَا ، وَقَدْرَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ ، وَمِنْ سَعَادَةِ الْمُرِيدِ إنْ وَجَدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ ، وَلَا ظُهُورِ خَرْقِ الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِالتَّجْرِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ ، وَاطَّلَعَ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ ، وَمَا يَلِيقُ بِالْمُرِيدِ فِي خَلْوَتِهِ ، وَمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَادَاتِ ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يَدْخُلَ بِنَفْسِهِ خِيفَةً مِنْ مَوَاضِعِ الْعَطَبِ ، وَأَعْنِي بِدُخُولِ الْخَلْوَةِ هُنَا مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُرِيدُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ ، وَأَمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ دُونَ مُجَاهَدَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى شَيْخٍ يُسْلِكُهُ ، بَلْ لِسَانُ الْعِلْمِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِهِ فِي الْخَلَاءِ ، وَالْمَلَأِ لَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ فِي حَقِّهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا اتَّبَعَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ فَهُوَ وَلِيُّ وَقْتِهِ لِأَجْلِ حَالِ الزَّمَانِ فَمَا أَسْعَدَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَعْنِي تَرْكَ دُخُولِ الْخَلْوَةِ عَلَى نِظَامٍ مَعْلُومٍ .

أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ، وَفِي الْأَسْوَاقِ يَحْتَرِفُونَ ، وَفِي الْحَوَائِطِ يَعْمَلُونَ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْخَلَوَاتُ عَلَى يَدِ الْمُرَبِّينَ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ ، وَسَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ : إنَّمَا جُعِلَتْ الْخَلْوَةُ لِلْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ لِلْمُرِيدِينَ لَمَّا أَنْ كَثُرَتْ الْفِتَنُ وَالْمُخَالَفَاتُ فَاحْتَاجَ الْمُرِيدُونَ إذْ ذَاكَ إلَى الْفِرَارِ لِأَجْلِ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ ، وَخَوَاطِرِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِدُخُولِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ الْمَعْهُودَةَ عِنْدَ السَّالِكِينَ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا ، وَالدَّسَائِسِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ الْمُرِيدِ ، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْأَطْوَارِ ، وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ مَرَاتِبُ عَدِيدَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مِثْلُهُ ، وَأَلْخَصُ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُهُ : نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ .

أَمَّا قَوْلُهُ نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ .

فَمِثَالُهُ النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا بِعَيْنِ التَّمَنِّي وَالِاشْتِهَاءِ ، فَذَلِكَ يُوجِبُ الْحِرْصَ وَالْحَسَدَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ ، وَهُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَعْصِيَةٍ فَبِالنَّظَرِ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا يَهُونُ عَلَيْك مَا أَنْتَ

فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ ، وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِك ذَنْبُك فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ .

فَمِثَالُهُ الْمُبْتَدِي يَنْظُرُ إلَى أَهْلِ النِّهَايَاتِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ، وَمَنْ تَنَاهَى فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ لِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا هُمْ يَأْخُذُونَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّعَبُّدِ أَوْفَرُ نَصِيبٍ ، وَتُسْتَغْرَقُ أَوْقَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ ، وَلَمْ يَتْعَبُوا فِيهِ لِرِفْقِهِمْ ، وَسِيَاسَتِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ ، وَمَا كَانَ الْخَرْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلِّمُوا ، وَارْفُقُوا } اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ نَدَرَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ مَحْمُودٌ ، وَمَا نَدَرَ لَا يُحْكَمُ بِهِ .

نَعَمْ إذَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ هَذَا الْحَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّشَبُّثُ بِمَا قَدْ ذُكِرَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ نَفْسِهِ فَشَأْنُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ كَسْبُهُمْ ، وَلِمَ اكْتَسَبُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِي طَرِيقِهِ ، وَحَيَّرَ مَنْ لَاذَ بِهِ .

هَذَا هُوَ عَيْنُ الْحِيرَةِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ .

فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ فَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِي التَّعَبُّدِ ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِهِ

عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالرِّفْقِ ، وَالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا أَنْ يَنْظُرَ فِي الدِّينِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَيْهِ } هَذَا هُوَ السُّمُوُّ ، وَالرِّفْعَةُ - اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ ، وَلَا تَجْعَلْ حَظَّنَا مِنْهُ الْكَلَامَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ ، وَلِأَتْبَاعِهِ .

فَمِثَالُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ ، وَأَقَامَهُ اللَّهُ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ النِّهَايَاتِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ ، وَيَتُوبَ يُرِيدُ مِنْ حِينِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ سِيَاسَةٍ تَقَعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَا تَدْرِيجٍ هَذَا هُوَ التَّعَبُ مَعَ نَفْسِهِ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِهِ ، وَهُمْ لَا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي التَّعَبِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى مَقَامٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ ، وَالْخَيْرِ اقْتَصَرَ خَيْرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمْ مَنْ لَاذَ بِهِمْ ، وَبِخِدْمَتِهِمْ أَعْنِي فِي الِاقْتِدَاءِ .

وَأَمَّا الْبَرَكَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهَا غَالِبًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ { هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } - نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ ، وَلِأَتْبَاعِهِ .

فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْمُتَمَكِّنُ فِي طَرِيقِهِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّوْبَةَ ، وَالرُّجُوعَ أَخَذَهُ بِاللُّطْفِ ،

وَالرَّحْمَةِ ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، وَسَاسَ بِرَأْيِهِ السَّدِيدِ ، وَتَدْبِيرِهِ الرَّشِيدِ فَيَنْظُرُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَا يُصْلِحُهُ ، وَمَا هُوَ الْعَوْنُ لَهُ عَلَى مَا أَرَادَ ، ثُمَّ يُرَقِّيهِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ هَذَا السَّيِّدِ وَسِيَاسَتِهِ إيَّاهُ .

وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْ تَقَدَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ، وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ الْفُرُوضَ أَوَّلًا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا ، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ لَا غَيْرٍ ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ ، وَاللُّطْفِ بِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى { : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } ، ثُمَّ لَمَّا أَنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِتَالِ ثُمَّ لَمَّا أَنْ كَثُرَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَظَهَرَتْ الْكَلِمَةُ نَزَلَتْ الْفُرُوضُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَمَّا أَنْ تَقَرَّرَ لَهُمْ الدِّينُ ، وَتَقَوَّى أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْجِهَادِ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { : اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .

فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } ، ثُمَّ إنَّ الْفُرُوضَ لَمْ تَتِمَّ إلَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ تَعَالَى فِيهَا { : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَالِمُ بِعِبَادِهِ ، وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمْ ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ ، وَبِجُمْلَةِ الْفُرُوضِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَأَمَرَ بِذَلِكَ أَوَّلًا { : أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَيْهِ أَخِيرًا مَضَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَانْتَفَعَ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَرَاحَ ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ ، وَوَجَدُوا الرَّاحَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : خَاطِبُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } فَلَيْسَ مَنْ دَخَلَ فِي التَّعَبُّدِ ، وَتَمَرَّنَ فِيهِ ، وَكَثُرَتْ الْمُجَاهَدَةُ لَدَيْهِ كَمَنْ ابْتَدَأَ الدُّخُولَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّوْدَاءِ حِينَ سَأَلَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ : فِي السَّمَاءِ .

فَقَالَ لِصَاحِبِهَا : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَقَنَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهَا بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ مَوْجُودٌ ، وَذَلِكَ يَنْفِي مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الْآلِهَةُ فِي الْأَرْضِ فَإِلَهُ السَّمَاءِ ، وَإِلَهُ الْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْمَوْجُودُ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَلَّ فِي السَّمَاءِ تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا إذْ إنَّ السَّمَاءَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ ، وَلَا يَحِلُّ الصَّانِعُ فِي صَنْعَتِهِ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي كَانَتْ هِجْرَتُهُ قَدِيمَةً ، وَتَمَكَّنَ مِنْ الْعِلْمِ ، وَمِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ حِينَ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ فَقَالَ مُعَاذٌ : أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِك ؟ فَلَمْ يَكْتَفِ مِنْ مُعَاذٍ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ إيمَانِهِ ، وَقَنَعَ مِنْ السَّوْدَاءِ بِمَا قَدْ ذَكَرَتْ

لِأَجْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعِلْمِ ، وَأَنْوَاعِ التَّعَبُّدِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ

: ( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ فِي زَمَانِهِ أَوْ بَلَدِهِ مَشَايِخُ يَرْجُو بَرَكَتَهُمْ ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَسْكُنْ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى حَالِهِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِ مِنْهُمْ عِلْمٌ أَوْ إنَابَةٌ أَوْ رُجُوعٌ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْعَوْدَةِ إذْ إنَّ خُطَاهُ تَبْقَى لِغَيْرِ فَائِدَةٍ .

سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَعِيبُ هَذَا ، وَيَقُولُ : لَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَرَدَّدَ إلَّا لِمَوْضِعٍ تَحْصُلُ لَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ بَهِيمَةِ السَّانِيَةِ لَا تَزَالُ تَمْشِي طُولَ يَوْمِهَا ، وَهِيَ لَمْ تَبْرَحْ مِنْ مَوْضِعِهَا ذَلِكَ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إذْ إنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلِ - أَنْ يَكُونَ الْمَزُورُ مِنْ الْأَكَابِرِ ، وَالْفُضَلَاءِ لَكِنَّ أَصْحَابَهُ مَعْلُومُونَ مَعْرُوفُونَ فَخَيْرُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُرِيدُ زِيَادَةً عِنْدَ زِيَارَتِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ نَصِيبٌ فَتَرْكُ ذَلِكَ بِهِ أَوْلَى ، وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ خَيْرِهِ مَقْصُورًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ .

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرِيدُ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ وَاغْتِنَامُ بَرَكَتِهِمْ بِهِ أَوْلَى مَا لَمْ يُعَارِضْهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ مِنْ ارْتِكَابِ بِدْعَةٍ أَوْ رُؤْيَتِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِطَالَةُ أَوْقَاتِهِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَتُهُمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي زِيَارَةِ طَالِبِ الْعِلْمِ لَهُمْ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْضَبِطُ ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ مِنْهُمْ مَنْ

يَكُونُ خَيْرُهُ عَامًّا لِسَائِرِ النَّاسِ .

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرِيدَ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ ، وَفِي ارْتِبَاطِهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِ ، وَيَحْذَرُ مِنْ تَقَضِّي أَوْقَاتِهِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ .

قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ عُمْرُك نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أَنْ يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ فِيمَا مَضَى هُوَ بَابُ نَدْبِ الْأَطْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْفِكْرُ فِيمَا يَأْتِي ادِّعَاءُ النُّفُوسِ تَحْصِيلَ الْأَعْمَالِ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَا يَبْرُزُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَكْنُونِ ، وَالتَّقْدِيرَاتِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنَّا ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ

: ( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ نَظَرًا إلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَإِلَى لُطْفِهِ بِهِ ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرِيدَ يُصْبِحُ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ فَيَنْهَضُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَيَذْكُرُ مَا قُدِّرَ لَهُ ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ فَيَفْهَمُ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْخَيْرِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَإِنْ فُتِحَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْرَادِ اللَّيْلِ أَوْ أَوْرَادِ الصَّوْمِ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ فَإِنْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالشُّكْرِ زَادَتْ أَوْ تَمَادَتْ ، وَإِنْ رَأَى ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا شَيْءَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَهَذَا يُخَافُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } ، وَالْكُفْرُ عَامٌّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ { : إنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ : بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ : أَيَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ } ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : بَابُ كُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ فَلَا يُقَيِّدُهَا بِالشُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّهَا فَتَذْهَبُ عَنْهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ جَهْدَهُ ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَكُونُونَ فِي يَوْمِهِمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ بِالْأَمْسِ ، بَلْ يَزْدَادُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي - تَرَقِّيًا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كُلُّ يَوْمٍ لَا أَتَّخِذُ فِيهِ بِرًّا أَوْ قَالَتْ : لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا لَا

بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا جَاءَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لَهُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَتَوَابِعِهَا ، وَمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ، وَالتَّحْذِيرِ فَيَتَّبِعُ ذَلِكَ ، وَيَعْمَلُ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ فِي يَوْمِهِ ، وَذَلِكَ تَرَقٍّ لَا شَكَّ فِيهِ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ { : إنَّ أَخَوَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فَأَثْنَى الصَّحَابَةُ عَلَى الْأَوَّلِ فَسَأَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الثَّانِي - فَقَالُوا : لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ إنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَهَلْ تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا قَالُوا : لَا ، فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ } ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إنَّ الدَّوَامَ عَلَى الْحَالِ زِيَادَةٌ فِيهِ فَإِذَا أَصْبَحَ الْمُرِيدُ ، وَامْتَثَلَ مَا كَلَّفَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَقِّهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى حِينِ أَجَلِهِ فَحِينَئِذٍ تُطْوَى صَحِيفَةُ عَمَلِهِ فَلَا زِيَادَةَ بَعْدَهَا فَإِنْ حَصَلَ لِلْمُرِيدِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، وَإِلَّا فَالطَّرِيقُ حَاصِلٌ لَهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكْفُرَ هَذِهِ النِّعَمَ بِتَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِهَا ، وَأَحْسَنَ إلَيْهِ فِيهَا

: ( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْخَوَاطِرِ حَسَنِهَا ، وَسَيِّئِهَا فَإِمَّا أَنْ يُمَيِّزَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَكُونَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ عَارِفٍ بِهَا إذْ إنَّ الْخَوَاطِرَ ، وَالْهَوَاجِسَ ، وَالْهَوَاتِفَ لَا تَنْحَصِرُ أَعْدَادُهَا ، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا ، وَتَشَعُّبِهَا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِنْهَا ، وَتَلَبَّسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَقَفَ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ وَيَذْهَبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ زَمَانِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّ اللَّعِينَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُرِيدِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ أَتَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَنْحَصِرُ فَإِذَا كَانَ مُمَيِّزًا لِلْخَوَاطِرِ ، وَغَيْرِهَا انْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الْكُبْرَى .

وَالْخَوَاطِرُ أَرْبَعَةٌ : رَبَّانِيٌّ ، وَمَلَكِيٌّ ، وَنَفْسَانِيٌّ ، وَشَيْطَانِيٌّ .

سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الرَّبَّانِيُّ أَوَّلُهَا ، وَهُوَ مِثْلُ لَمْحَةِ الْبَرْقِ لَا يَثْبُتُ ، وَالنَّفْسَانِيُّ يَعْقُبُهُ مِثْلُ الْمُصَلِّي مَعَ السَّابِقِ فَمَا يَمُرُّ ذَاكَ إلَّا وَقَدْ اسْتَقَرَّ هَذَا فِي مَحَلِّهِ وَحَدَّثَ وَسَوَّلَ وَشَهَّى ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْخُلْفُ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِسُرْعَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ قَلَّ أَنْ تَقَعَ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ فَبِالْمُصَادَفَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِهِمْ ، وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ الْمُمَيِّزُونَ لِلْخَاطِرِ الْأَوَّلِ فَقَلَّ أَنْ يُخْبِرُوا بِشَيْءٍ إلَّا وَيَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ قَالَ تَعَالَى { : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِالشُّيُوخِ وَالْمُرِيدِينَ ، بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ لَكِنَّ التَّمْيِيزَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَخْتَصُّ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الْخَوَاطِرِ فَلَا بُدَّ لَهَا أَنْ

يَزِنَهَا عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَمَا وَافَقَ أَمْضَاهُ ، وَإِلَّا تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالتَّأْنِيسِ ، وَأَمَّا الْخَاطِرُ الْمَلَكِيُّ فَهُوَ كُلُّ خَاطِرٍ يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ أَوْ خَيْرٍ مَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ يُتَوَقَّعُ مَعَهُ تَرْكٌ أَوْ بِطَالَةُ وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ الْمَلَكِيِّ فِي شَيْءٍ .

وَأَمَّا الْخَاطِرُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَرْذَلُهَا ، وَهُوَ الْخَاطِرُ الشَّيْطَانِيُّ فَهُوَ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرِّ ، وَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْوُقُوعَ فِي الْمُخَالَفَةِ كَيْفَ كَانَتْ ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ تَرَكَهَا ، وَأَتَى إلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ إذْ مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَائِنَةً مَا كَانَتْ ، وَالْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يُفَارِقُهُ فَإِنْ أَنْتَ رَدَدْتَهُ عَلَيْهِ أَلَحَّ بِهِ عَلَيْك ، وَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ ، وَيُمَنِّيك بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَهُ ، وَيَعِدُك بِالْغُرُورِ ، وَأَنَّك إذَا نِلْت مَا أَلْقَتْهُ إلَيْك تَفْعَلُ أَنْتَ مَا تُحِبُّ أَنْ تُوقِعَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى التَّشْمِيرِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ حِينَ نُزُولِهَا بِهِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ نَظَرِ شَيْخٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ مَعَهُ فِيهَا ، وَإِلَّا فَلِسَانُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ قَائِمٌ ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّلَامَةِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا ، وَالْعَطَبُ فِي غَيْرِهَا مَوْجُودٌ غَالِبًا إلَّا لِمَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ،

وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

فَصْلٌ : جَامِعٌ لِبَعْضِ آدَابِ السُّلُوكِ ، وَلِبَعْضِ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .

وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخَلَوَاتِ إذْ إنَّهُ بِسَبَبِهَا يُدْرِكُ الْمُكَلَّفُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَمِنْ النِّعَمِ ، وَمِنْ تُحَفِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ بِهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُهُ .

أَلَا تَرَى إلَى بَرَكَةِ هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي يُنْطِقُهُمْ اللَّهُ بِهَا ؟ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي قُوَّتِهِمْ ، وَلَا مِنْ قُدْرَتِهِمْ إلَّا بِبَرَكَةِ تَوَجُّهِهِمْ ، وَإِقْبَالِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَأَعْظَمُ مَا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْتِزَامُ الْخَلَوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَام الْحَافِظُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْفَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَنَفَعَ بِهِ ، وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ : قَدْ رَضِيت مِنْ أَحَدِكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ عَلَى دِينِهِ كَمَا يَتَّقِي عَلَى دُنْيَاهُ ، وَقَالَ : شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا عَمِلْت بِهِمَا أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ ، وَلَا أُطَوِّلُ عَلَيْك قِيلَ : وَمَا هُمَا ؟ قَالَ : تَحْمِلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ ، وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَيْضًا : قَاتِلْ هَوَاك أَشَدَّ مَا تُقَاتِلُ عَدُوَّك ، وَقَالَ رَجُلٌ لَهُ : إنَّك مُشَدِّدٌ فَقَالَ : مَا لِي لَا أُشَدِّدُ ، وَقَدْ صَدَّنِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ عَدُوًّا أَمَّا أَرْبَعَةٌ فَشَيْطَانٌ يَفْتِنُنِي ، وَمُؤْمِنٌ يَحْسُدُنِي ، وَكَافِرٌ يُقَاتِلُنِي ، وَمُنَافِقٌ يَبْغُضُنِي ، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ فَالْجُوعُ ، وَالْعَطَشُ ، وَالْعُرْيُ ، وَالْحَرُّ ، وَالْبَرْدُ ، وَالْهَرَمُ ، وَالْمَرَضُ ، وَالْفَقْرُ ، وَالْمَوْتُ ، وَالنَّارُ ، وَلَا أُطِيقُهُنَّ إلَّا بِسِلَاحٍ ، وَلَا أَجِدُ لَهُنَّ سِلَاحًا أَقْوَى مِنْ التَّقْوَى ، وَقِيلَ لَهُ : مَا مَالُكَ ؟ فَقَالَ :

ثِقَتِي بِاَللَّهِ ، وَإِيَاسِي مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَقَالَ : مَا رَأَيْت يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا يَقِينَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ تَحْنُ عَلَيْهِ .

وَقَالَ : يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ حِفْظًا لِلِسَانِهِ مِنْهُ لِمَوْضِعِ قَدَمَيْهِ ، وَقَالَ : أَفْضَلُ خَصْلَةٍ تُرْجَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَرْجَاهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُبْتَدِي خَمْسُ خِصَالٍ ، وَإِلَّا فَلَا تَرْجُهُ : عَقْلٌ حَسَنٌ ، وَاتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ ، وَصُحْبَةُ الْأَكَابِرِ ، وَمِنْ أَيْنَ يَأْكُلُ ، وَحِفْظُ لِسَانِهِ ، وَصِيَانَتُهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إذَا رَأَيْت الْعَالِمَ لَا يَتَوَرَّعُ فِي عِلْمِهِ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَأْخُذَ عَنْهُ شَيْئًا ، وَكَانَ يَقُولُ : وَضَعُوا مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدُّنْيَا فَلَمْ تَنْفَتِحْ ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا مَفَاتِيحَ الْآخِرَةِ فَانْفَتَحَتْ .

وَقَالَ رَجُلٌ لِلْجُنَيْدِ : مَنْ أَصْحَبُ ؟ قَالَ : مَنْ تَقْدِرُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْك ، وَسُئِلَ مَرَّةً أُخْرَى مَنْ أَصْحَبُ ؟ قَالَ : مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَنْسَى مَا لَهُ ، وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ : قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ ، وَمَاتَ عَلَى الْعَطَشِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا ، وَقَالَ : مَنْ عَرَفَ اللَّهَ لَا يُسَرُّ إلَّا بِهِ ، وَقَالَ : لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ مَا فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ ، وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِقَلْبِهِ ، وَأَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ .

وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ مُتَابَعَتُهُ حَبِيبَ اللَّهِ فِي أَخْلَاقِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، وَأَوَامِرِهِ ، وَسُنَّتِهِ ، وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى سُلْطَانِ اللَّهِ ذَهَبَ سُلْطَانُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ كُلَّهَا فَقِيرَةٌ عِنْدَ هَيْبَتِهِ ، وَقَالَ رُوَيْمٌ : لَا تَزَالُ

الصُّوفِيَّةُ بِخَيْرٍ مَا تَنَافَرُوا فَإِذَا اصْطَلَحُوا هَلَكُوا ، وَقَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْت لِرُوَيْمٍ : أَوْصِنِي فَقَالَ : أَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْأَمْرِ بَذْلُ الرُّوحِ فَإِنْ أَمْكَنَك الدُّخُولُ فِيهِ مَعَ هَذَا ، وَإِلَّا فَلَا تَشْتَغِلْ بِتُرَّهَاتِ الصُّوفِيَّةِ .

وَقَدْ قِيلَ : إنَّ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ نَوْبِيًّا ، وَكَانَ لِبَنِي فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُ : مَا بَلَغَ بِك مَا نَرَى فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ ، وَطُولُ الصَّمْتِ ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي .

وَمِنْ كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لِلْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا أَحْبَبْت أَنْ أَعِيشَ يَوْمًا : الظَّمَأُ لِلَّهِ بِالْهَوَاجِرِ ، وَالسُّجُودُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ خِيَارَ الْكَلَامِ كَمَا تُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ .

وَرُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ ، وَعَالِمُكُمْ جَاهِلٌ ، وَجَاهِلُكُمْ مُغْتَرٌّ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : جَاهِدْ نَفْسَك بِأَصْنَافِ الرِّيَاضَةِ ، وَالرِّيَاضَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْقُوتِ مِنْ الطَّعَامِ ، وَالْغَمْضِ مِنْ الْمَنَامِ ، وَالْحَاجَةِ مِنْ الْكَلَامِ ، وَحَمْلِ الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ مَوْتُ الشَّهَوَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمَنَامِ صَفْوُ الْإِرَادَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْكَلَامِ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ ، وَمِنْ احْتِمَالِ الْأَذَى الْبُلُوغُ إلَى الْغَايَاتِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ أَشَدَّ مِنْ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَفَاءِ ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْأَذَى .

، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : طُوبَى لِمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ، وَقَالَ الْفَرَبْرِيُّ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَى بَابِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُوَّةٍ ، وَهُوَ يَبْكِي ، وَلِحْيَتُهُ تَرْجُفُ فَقَالَ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ

بِالصَّلَاةِ ، وَيْحَكُمْ لَيْسَ هَذَا زَمَانَ حَدِيثٍ إنَّمَا هُوَ زَمَانُ بُكَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَاسْتِكَانَةٍ وَدُعَاءٍ كَدُعَاءِ الْغَرِيقِ إنَّمَا هَذَا زَمَانٌ احْفَظْ فِيهِ لِسَانَك ، وَاخْفِ مَكَانَك ، وَعَالِجْ قَلْبَك ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ .

وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ أَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعِي عَلَى خَدِّي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مُضْطَجِعًا عَلَى قَبْرٍ ، وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا يَا بُنَيَّ ؟ فَقَالَ : أَخْبَرْتنِي أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَك أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لَا يُطْفِئُ حَرَّهَا إلَّا الدُّمُوعُ فَقَالَ : ابْكِ يَا بُنَيَّ .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ .

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : إنَّ لِلذُّنُوبِ ضَعْفًا فِي الْقُوَّةِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَإِنَّ لِلْحَسَنَاتِ قُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ .

وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ دَعَوْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ : تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ ، وَأَنْشَدُوا خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ فَصِرْت حَيًّا ، وَعُلِّمْت الْفَصِيحَ مِنْ الْخِطَابِ وَعُدْت إلَى التُّرَابِ فَظَلْت فِيهِ كَأَنِّي مَا بَرِحْت مِنْ التُّرَابِ خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ، وَأَرْجِعُ بِالذُّنُوبِ إلَى التُّرَابِ ، وَلَقِيَ حَكِيمٌ حَكِيمًا فَقَالَ لَهُ : إنِّي لَأُحِبُّك فِي اللَّهِ فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت مِنِّي مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي لَأَبْغَضْتنِي فِي اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ - لَوْ أَعْلَمُ مِنْك مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِك لَكَانَ لِي فِيمَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي شُغْلٌ عَنْ بُغْضِك ، وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ إذَا قِيلَ لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ : أَصْبَحْنَا ضَعْفَى مُذْنِبِينَ نَأْكُلُ

أَرْزَاقَنَا ، وَنَنْتَظِرُ آجَالَنَا ، وَقِيلَ : لِلْمُغِيرَةِ كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْنَا مُعْتَرِفِينَ بِالنِّعَمِ مُقِرِّينَ بِالذُّنُوبِ يَتَحَبَّبُ إلَيْنَا رَبُّنَا ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنَّا ، وَنَتَبَاغَضُ إلَيْهِ ، وَنَحْنُ إلَيْهِ فُقَرَاءُ ، وَقَدْ قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ أَيْنَ عَيْشُك فَقَالَ : نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا فَلَا دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ وَقِيلَ : لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْت طَوِيلًا أَمَلِي قَصِيرًا أَجَلِي سَيِّئًا عَمَلِي .

كَلَامُ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَمِعْت مَنْصُورًا يَقُولُ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ : إنِّي جَاعِلٌ لِبَصَرِك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ فَأَطْبِقْهُ ، وَإِنِّي جَاعِلٌ لِفِيك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْطِقَ بِهِ فَأَطْبِقْهُ ، وَإِنِّي جَاعِلٌ لِفَرْجِك سِتْرًا فَلَا تَكْشِفْهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَك ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَصْحَابُ ثَلَاثَةٌ صَاحِبُك ، وَصَاحِبُ صَاحِبِك ، وَعَدُوُّ عَدُوِّك ، وَالْأَعْدَاءُ ثَلَاثَةٌ ، عَدُوُّك ، وَعَدُوُّ صَاحِبِك ، وَصَاحِبُ عَدُوِّك .

وَمِنْ كِتَابِ الْبَاجِيِّ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مَنْ يَرْجُوهَا ، وَإِنَّمَا يُجَنِّبُ اللَّهُ النَّارَ مَنْ يَخْشَاهَا ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ ، وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا لَا تَيْأَسْ فِيهِ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَارْجُهُ رَجَاءً لَا تَأْمَنْ فِيهِ مِنْ عِقَابِهِ فَقَالَ : يَا أَبَتَاهُ ، وَكَيْفَ ، وَإِنَّمَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ فَقَالَ يَا بُنَيَّ : إنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ شُقَّ قَلْبُهُ لَوُجِدَ فِيهِ نُورُ رَجَاءٍ ، وَنُورُ خَوْفٍ لَوْ وُزِنَا لَمْ يَمِلْ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ

كَيْفَ يَأْمَنُ النَّارَ مَنْ هُوَ وَارِدُهَا ، وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَى الدُّنْيَا مَنْ هُوَ مُفَارِقُهَا ، وَكَيْفَ يَغْفُلُ مَنْ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ ؟ يَا بُنَيَّ لَا شَكَّ فِي الْمَوْتِ فَإِنَّك كَمَا تَنَامُ كَذَلِكَ تَمُوتُ ، وَلَا شَكَّ فِي الْبَعْثِ فَإِنَّك كَمَا تَسْتَيْقِظُ كَذَلِكَ تُبْعَثُ يَا بُنَيَّ إنَّ الْإِنْسَانَ لَثَلَاثَةٌ ، فَمِنْهُ لِلَّهِ ، وَمِنْهُ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ لِلَّهِ فَرُوحُهُ ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَعَمَلُهُ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ فَجَسَدُهُ .

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَا أَمِنَ أَحَدٌ عَلَى دِينِهِ إلَّا سُلِبَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُ مَا يُسْلَبُ النَّاسُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَقَالَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ : إذَا ظَفِرْت مِنْ ابْنِ آدَمَ بِثَلَاثٍ لَمْ أَطْلُبْهُ بِغَيْرِهَا إذَا أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إنَّك تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى ، وَأَنْتَ إنْ كُنْت لَمْ تُخْطِئْ خَطِيئَةً مَشَيْت عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ فَقَالَ لَهُ عِيسَى : فَامْشِ عَلَى الْمَاءِ فَمَشَى ذَاهِبًا ، وَرَاجِعًا حَتَّى إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْبَحْرِ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ غَرِقَ فَدَعَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَبَّهُ فَأَخْرَجَ الرَّجُلَ فَقَالَ لَهُ : مَالَك ذَهَبْت وَرَجَعْت ثُمَّ غَرِقْت أَلَيْسَ زَعَمْت أَنَّك لَمْ تُخْطِئْ خَطِيئَةً قَطُّ ؟ قَالَ : مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ إلَّا أَنِّي وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنِّي مِثْلُك ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ : أَمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَوْمًا مَرَّةً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : مَا زَالَ بِي الشَّيْطَانُ آنِفًا حَتَّى رَأَيْت أَنَّ لِي فَضْلًا عَلَى مَنْ خَلْفِي لَا أَؤُمُّ أَبَدًا ؟ .

وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّ رَجُلٍ قَطُّ إلَّا لَزِمَ قَلْبَهُ أَرْبَعُ خِصَالٍ : فَقْرٌ

لَا يُدْرِكُ عَنَاهُ ، وَهَمٌّ لَا يَنْقَضِي مَدَاهُ ، وَشُغْلٌ لَا يَنْفَدُ لَأْوَاهُ ، وَأَمَلٌ لَا يَنْقَطِعُ مُنْتَهَاهُ ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قِيلَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ : كَيْفَ حَالُك ؟ قَالَ : حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ ، وَيَسْقَمُ بِسَلَامَتِهِ ، وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْحَيَاةِ فَالصِّحَّةُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْمَوْتِ فَالْمَرَضُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْحَيَاةَ فَالْغِنَى ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْمَوْتَ فَالْفَقْرُ انْتَهَى كَلَامُ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ سَجْدَةٍ ، وَكَانَ يُسَمَّى السَّجَّادَ .

، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ عَلِيلٌ وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْ تَدْعُوَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَيُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ ، وَيَعْظُمَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ فَلْيُطِعْ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ ، وَلْيَلْزَمْ الْمِنْهَاجَ الْأَوَّلَ ، وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هَبْ لِي مِنْ قَلْبِك الْخُشُوعَ ، وَمِنْ عَيْنَيْك الدُّمُوعَ ، ثُمَّ اُدْعُنِي أَسْتَجِبْ لَك فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِّ إذَا دَعَانِ .

وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا : وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ لِخَادِمِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ مَعِي فِي قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَكْتَسِبُ الذُّنُوبَ إنَّمَا يَعْمَلُ الذُّنُوبَ جَاهِلٌ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى أَحَدًا فَيَقُولُ : لَيْسَ يَرَانِي أَحَدٌ أَذْهَبُ لِأُذْنِبَ أَمَّا أَنَا فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ دَاخِلَ قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَالِي وَلِهَذَا الْخَلْقِ كُنْت فِي صُلْبِ أَبِي وَحْدِي

ثُمَّ صِرْت فِي بَطْنِ أُمِّي وَحْدِي ، ثُمَّ دَخَلْتُ الدُّنْيَا وَحْدِي ، ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحِي وَحْدِي ، وَأَدْخُلُ قَبْرِي وَحْدِي ، وَيَأْتِينِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَيَسْأَلَانِي وَحْدِي ، فَإِنْ صِرْت إلَى خَيْرٍ كُنْت وَحْدِي ، وَإِنْ صِرْت إلَى شَرٍّ كُنْت وَحْدِي ، ثُمَّ أَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدِي فَإِنْ بُعِثْت إلَى الْجَنَّةِ بُعِثْت وَحْدِي ، وَإِنْ بُعِثْت إلَى النَّارِ بُعِثْت وَحْدِي فَمَالِي وَلِلنَّاسِ ، ثُمَّ فَكَّرَ سَاعَةً ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الرَّعْدَةُ حَتَّى خَشَى أَنْ يَسْقُطَ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : أَصْلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ ، وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ فِي حَرْفَيْنِ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ افْعَلْ فَفِعْلُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ، وَمَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا تَفْعَلْ فَتَرْكُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَهَى عَنْهُ .

وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِإِخْوَانِهِ ، وَلَا يُوَاظِبَ عَلَى الْخَلْوَةِ ، وَيَتْرُكَ التَّبَرُّكَ بِهِمْ ، وَبِسَمَاعِ فَوَائِدِهِمْ مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى نَفْسِهِ جَهْدَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ : لَهُ الصُّحْبَةُ عَلَى وُجُوهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا آدَابٌ ، وَلَوَازِمُ .

فَالصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ ، وَمُرَاقَبَةِ الْأَسْرَارِ أَنْ يَخْتَلِجَ فِيهَا مَا لَا يَرْضَاهُ ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ ، وَالرَّحْمَةِ ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَا يَنْحُو نَحْوَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ ، وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ ، وَتَعْظِيمِ أَصْحَابِهِ ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، وَأَزْوَاجِهِ ، وَذُرِّيَّتِهِ ، وَمُجَانَبَةِ مُخَالَفَتِهِ فِيمَا دَقَّ وَجَلَّ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ ، وَتَقْدِيمِ مَنْ قَدَّمُوهُ ، وَحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِمْ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ ، وَالسُّنَنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخِدْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ لَهُمْ ، وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَعَنْ مَشَايِخِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { : مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ السُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ فَإِذَا أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فَلَا

سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ لِيُصْلِحَهُ اللَّهُ وَيُصْلِحَ عَنْ يَدَيْهِ ، وَالنَّصِيحَةُ لَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالْجِهَادُ مَعَهُ .

فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَامَّتِهِمْ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا بِالنَّفْسِ ، وَالْمَالِ ، وَخِدْمَتِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا ، وَإِنْجَازِ وَعْدِهِمَا ، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مَا دَامَا فِي الْحَيَاةِ ، وَحِفْظِ عَهْدِهِمَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ، وَإِنْجَازِ عَادَاتِهِمَا ، وَإِكْرَامِ أَصْدِقَائِهِمَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ } ، وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ { : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبِرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِثْبَاتُ عَهْدِهِمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ بِالْمُدَارَاةِ ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ ، وَسَعَةِ الصَّدْرِ ، وَتَمَامِ الشَّفَقَةِ ، وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْأَدَبِ ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الْآيَةَ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ بِالْإِفْضَالِ عَلَيْهِ } ، وَالصَّفْحِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ ، وَالْغَضِّ عَنْ مَسَاوِيهِمْ مَا لَمْ تَكُنْ إثْمًا أَوْ مَعْصِيَةً ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ بِدَوَامِ

الْبِشْرِ ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ ، وَنَشْرِ الْمَحَاسِنِ ، وَسَتْرِ الْقَبَائِحِ ، وَاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ بِرِّهِمْ إلَيْك ، وَاسْتِصْغَارِ مَا مِنْك إلَيْهِمْ ، وَتَعَهُّدِهِمْ بِالنَّفْسِ ، وَالْمَالِ ، وَمُجَانَبَةِ الْحِقْدِ ، وَالْحَسَدِ ، وَالْبَغْيِ ، وَالْأَذَى ، وَمَا يَكْرَهُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَتَرْكِ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ .

، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْعُلَمَاءِ بِمُلَازَمَةِ إكْرَامِهِمْ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ ، وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَالنَّوَازِلِ ، وَتَعْظِيمِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ مَحَلِّهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَارِثِيهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الضَّيْفِ بِحُسْنِ الْبِشْرِ ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ ، وَطِيبِ الْحَدِيثِ ، وَإِظْهَارِ السُّرُورِ ، وَالْكَوْنِ عِنْدَ أَمْرِهِ ، وَنَهْيِهِ ، وَرُؤْيَةِ فَضْلِهِ ، وَاعْتِقَادِ الْمِنَّةِ لَهُ حَيْثُ أَكْرَمَهُ بِدُخُولِ مَنْزِلِهِ ، وَتَنَاوُلِ طَعَامِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ دَعَانَا فَأَبَيْنَا فَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا رَجَعَ الْفَضْلُ إلَيْنَا

فَصْلٌ فِي آدَابِ صُحْبَةِ الْأَعْضَاءِ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ الْجَوَارِحِ آدَابًا تَخْتَصُّ بِهَا .

فَآدَابُ الْبَصَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَخِيهِ نَظَرَ مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ يَعْرِفُهَا هُوَ مِنْك ، وَمَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ إلَى مَحَاسِنِهِ ، وَإِلَى أَحْسَن شَيْءٍ يَبْدُو مِنْهُ ، وَأَنْ لَا يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ فِي وَقْتِ إقْبَالِهِ عَلَيْهِ ، وَكَلَامِهِ مَعَهُ ، وَآدَابُ السَّمْعِ أَنْ يَسْتَمِعَ إلَى حَدِيثِهِ سَمَاعَ مُشْتَهٍ لِمَا يَسْمَعُهُ مُتَلَذِّذٍ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَلَّمَك لَا تَصْرِفْ بَصَرَك عَنْهُ ، وَلَا تَقْطَعْ حَدِيثَهُ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنْ اضْطَرَّك الْوَقْتُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْذَرْتَهُ فِيهِ ، وَأَظْهَرْت لَهُ عُذْرَك ، وَآدَابُ اللِّسَانِ أَنْ تُكُلِّمَ إخْوَانَك بِمَا يُحِبُّونَ فَتَخْتَارَ وَقْتَ نَشَاطِهِمْ لِسَمَاعِ مَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ ، وَتَبْذُلَ لَهُمْ نَصِيحَتَك ، وَتَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ ، وَتُسْقِطَ مِنْ كَلَامِك مَا تَعْلَمُ أَنَّ أَخَاك يَكْرَهُهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ لَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَلَا تَرْفَعْ عَلَيْهِ صَوْتَك ، وَلَا تُخَاطِبْهُ بِمَا لَا يَفْهَمُ عَنْك ، وَتُكَلِّمُهُ بِمِقْدَارِ فَهْمِهِ ، وَآدَابُ الْيَدَيْنِ أَنْ يَكُونَا مَبْسُوطَتَيْنِ لِإِخْوَانِهِ بِالْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ لَا يَقْبِضُهُمَا عَنْهُمْ ، وَعَنْ الْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ ، وَآدَابُ الرِّجْلَيْنِ أَنْ يُمَاشِي إخْوَانَهُ فَلَا يَتَقَدَّمُهُمْ ، بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَهُمْ فَإِنْ قَرَّبُوهُ تَقَرَّبَ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ مِنْ رَغَبَاتِهِمْ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ حُقُوقِ إخْوَانِهِ مُعَوِّلًا عَلَى الثِّقَةِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ : تَرْكُ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ مَذَلَّةٌ .

( فَصْلٌ ) اعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ هَذِهِ الْآدَابَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ آدَابُ الظَّوَاهِرِ ، وَهِيَ عُنْوَانٌ عَلَى آدَابِ السَّرَائِرِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ :

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ } .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمُرَاعَاةُ الْبَاطِنِ أَوْجَبُ مِنْ مُرَاعَاةِ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لِلْخَلْقِ ، وَالْبَاطِنَ لِلْخَالِقِ ، وَمَا كَانَ لِلْخَالِقِ فَهُوَ أَوْجَبُ فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْكَمَالُ ، وَالسَّعَادَةُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا ، وَصِفَةُ إخْلَاصِ الْبَاطِنِ التَّحَقُّقُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ ، وَالِاتِّصَافُ بِالصَّبْرِ ، وَسَلَامَةُ الصَّدْرِ ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالِاهْتِمَامُ بِأُمُورِهِمْ فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ

فَصْلٌ ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِخْوَانُ أَرْبَعَةٌ : أَخٌ كَالدَّوَاءِ ، وَأَخٌ كَالْغِذَاءِ ، وَأَخٌ كَالدَّاءِ ، وَأَخٌ كَالدِّفْلَى .

فَالْأَوَّلُ مَعْدُومٌ ، وَالثَّانِي مَفْقُودٌ ، وَالثَّالِثُ مَوْجُودٌ ، وَالرَّابِعُ مَشْهُودٌ .

أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ كَالدَّوَاءِ فَهُوَ مِثْلُ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ أَهَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِتَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ ، وَكَالصُّلَحَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ فَهُمْ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ ، وَمُجَالَسَتُهُمْ تَشْفِي الْأَسْقَامَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَقَدْ كَانَ الْمُرِيدُونَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ يَدْخُلُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ عَجْزٌ أَوْ كَسَلٌ خَرَجُوا إلَى مَجْلِسِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ فَتَنْتَعِشُ قُوَاهُمْ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ ، وَيَمُدُّهُمْ بِهِمَّتِهِ فَيَتَغَذَّوْنَ بِذَلِكَ ، وَيَرْجِعُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ أَنْشَطَ مَا كَانُوا أَوَّلًا فَهُمْ دَوَاءٌ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَأَنْتَ تَرَى تَعَذُّرَ هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ .

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ كَالْغِذَاءِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَخِ فِي اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْفِقِ الْوَدُودِ الْحَنُونِ الَّذِي يُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُك ، وَيَسُرُّهُ مَا يَسُرُّك ، وَيُجَوِّعُ نَفْسَهُ لِجُوعِك ، وَيَتَعَرَّى لِعُرْيِك ، وَيُكَابِدُ مَا نَزَلَ بِك أَكْثَرَ مِنْ مُكَابَدَةِ مَا نَزَلَ بِهِ ، وَأَنْتَ تَرَى فَقْدَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكِنَّ بَيْنَ الْفَقْدِ وَالْعَدَمِ فَرْقٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوجَدُ أَلْبَتَّةَ ، وَالْمَفْقُودَ قَدْ يُوجَدُ فِي مَوْضِعٍ مَا .

سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مَرَاتِبُ الْإِخْوَانِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا : فَالْأَوَّلُ - أَنْ يَكُونَ أَخُوك عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك ، وَهُوَ أَعْلَاهُمْ .

وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَخِيك الشَّقِيقِ ، وَهُوَ أَوْسَطُهُمْ .

وَالثَّالِثُ - أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك ، وَهُوَ أَقَلُّ الْإِخْوَانِ مَرْتَبَةً فَإِنْ عَجَزْت عَنْ ذَلِكَ فَلَا أُخُوَّةَ إذْ ذَاكَ أَعْنِي الْأُخُوَّةَ الْخَاصَّةَ

بِالْفُقَرَاءِ ، وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ .

فَأَمَّا الْأَخُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ مَعَ أَبِيهِ حَدِيثٌ فِي شَيْءٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } فَحَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ إنَّ الْمُرِيدَ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ إلَّا بِرِضَا شَيْخِهِ وَإِذْنِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي عِنْدَك كَأَخِيك الشَّقِيقِ فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ ، وَهُوَ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ يُقَاسِمُ أَخَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَإِنْ أَخَذَ الْأَخُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَخُ مِثْلَهُ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إنْ لَبِسَ ثَوْبًا كَسَا أَخَاهُ مِثْلَهُ ، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا أَطْعَمَ أَخَاهُ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ فِي الْأُخُوَّةِ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك أَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَقُومَ بِضَرُورَتِهِ مِنْ غِذَائِهِ ، وَكِسْوَتِهِ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فِي صَلَاحِ دِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مَعَ أَخِيهِ إذْ إنَّهُ لَا يَشْبَعُ الْمُكَلَّفُ ، وَعَبْدُهُ جَائِعٌ ، وَلَا يَلْبَسُ ، وَعَبْدُهُ عُرْيَانٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : { رَأَيْت أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي سَابَبْت رَجُلًا فَشَكَانِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعَيَّرْته بِأُمِّهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ إخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا

يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ } فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فَيَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْأُخُوَّةَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا إذْ إنَّهُ قَدْ يَشْبَعُ ، وَأَخُوهُ جَائِعٌ ، وَقَدْ يَلْبَسُ ، وَأَخُوهُ عُرْيَانٌ فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا لَهُ لِمَنْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَتَتَعَمَّرُ الذِّمَّةُ بِالْحُقُوقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِذَا أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ طَلَبُوا مِنْهُ الْأُخُوَّةَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ لِمَا طَلَبُوهُ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ بَعْدَ الْأُخُوَّةِ مَعَهُ ، وَلَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ غَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ حَالُهُ أَبَاتَ جَائِعًا أَمْ لَا أَوْ هُوَ عُرْيَانٌ أَمْ لَا ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَفَقَّدُهُ لَكِنْ بِالرُّؤْيَةِ وَالسُّؤَالِ لَيْسَ إلَّا دُونَ إعَانَةٍ وَمُشَارَكَةٍ فَشَغَلُوا ذِمَّتَهُمْ بِشَيْءٍ كَانُوا فِي غِنًى عَنْ تَرَتُّبِهِ فِيهَا .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ السَّيِّدُ عَلَى نَفَقَتِهِ ، وَكِسْوَتِهِ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِبَيْعِهِ فَالْبَيْعُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُقَابِلُهُ فِي حَقِّ الْأَخِ فَإِنَّك إذَا عَجَزْت عَنْ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ نَزَّلْت أَخَاك مَنْزِلَةَ بَيْعِ الْعَبْدِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا تَقَدَّمَ .

يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَقُولُ لِأَخِيهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ : عِنْدِي مِنْ الْمَالِ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ نِصْفُهُ وَلِي نِصْفُهُ ، وَلِي مِنْ الزَّوْجَاتِ كَذَا وَكَذَا فَاخْتَرْ مِنْهُنَّ مَا تُرِيدُ أَنْزِلْ لَك عَنْهُ ، وَكَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَسْأَلُ عَنْ السُّوقِ ، وَعَنْ الْحِيطَانِ يَعْمَلُ فِيهَا فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَاءَ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ ،

وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا لِلْمُخَالَفَةِ فَتَأَوَّهَ ، وَقَالَ : أَخِي يَقَعُ ، وَأَنَا بِالْحَيَاةِ فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ ، وَدَخَلَ خَلْوَتَهُ ، وَعَزَمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا إلَّا بِأَخِيهِ فَجَاءَ أَخُوهُ إلَى بَيْتِهِ فَأُخْبِرَ بِمَجِيئِهِ إلَيْهِ ، وَسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ فَجَاءَ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا إلَى بَيْتِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ دَخَلَ الْخَلْوَةَ فَقَالَ : أَخْبِرُوهُ بِأَنِّي قَدْ تُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَرَجَعْت إلَيْهِ فَمَا خَرَجَ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُؤَاخَاةُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَإِنْ رَأَيْت أَخَاك قَدْ غَرِقَ فَتَأْخُذُ بِيَدِهِ ، وَتُنْجِيهِ مِنْ الْمَهَالِكِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَك قُدْرَةٌ فَلَا تَدَّعِيهَا إذْ إنَّ مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ فِيهِ فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ لِلْإِمَامِ الشَّيْخِ الصَّقَلِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ ، وَالثَّالِثُ - مَوْجُودٌ فَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَالَطْت كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ عَاشَرْتهمْ بِمُلَابَسَةِ مَا تَجِدُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْأَذِيَّةَ الْبَالِغَةَ إمَّا فِي دِينِك أَوْ دُنْيَاك أَوْ عِرْضِك ، وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَإِنْ أَنْتَ خَالَطْته ، وَجَدْت مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - الَّذِي قَالَ : عَنْهُ إنَّهُ مَشْهُودٌ فَلَا شَكَّ فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ .

أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا تَكَلَّمْت مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي صَلَاحِ دِينِهِ فِي شَيْءٍ مَا قَابَلَك بِانْزِعَاجٍ ، وَخُلُقٍ سَيِّئٍ ، وَأَقَلُّ جَوَابِهِ أَنْ يَقُولَ لَك : مَا حَقَّرْت فِي النَّاسِ إلَّا أَنَا حَتَّى تَأْمُرَنِي ، وَتَنْهَانِي أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْك بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ ، وَيَنْظُرُ لَك عَوْرَاتٍ يُظْهِرُهَا أَوْ حَسَنَاتٍ يُخْفِيهَا أَوْ يَرُدُّهَا سَيِّئَاتٍ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَرَارَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى كَمَا هِيَ الدِّفْلَى إذَا تَنَاوَلْت مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْعَدَمِ

إذْ قِيلَ : إنَّهَا سُمٌّ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْك أَنْ تَفِرَّ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ ، وَبَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيَا سَعَادَتُهُ إنْ ظَفِرَ بِأَحَدِهِمَا كَمَا قِيلَ : وَإِذَا صَفَا لَك مِنْ زَمَانِك وَاحِدٌ فَهُوَ الْمُرَادُ وَأَيْنَ ذَاكَ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَدِمَهُمَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخَلْوَةُ وَالِاعْتِزَالُ إنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ إذْ إنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالنَّاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُهُ الْمُرِيدُ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ إلَّا النَّقْصُ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ جَهْدَهُ ، وَيَسْتَعِينُ بِرَبِّهِ مَعَ سَلَامَةِ صَدْرِهِ لَهُمْ ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِمْ عُمُومًا ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

( فَصْلٌ ) : مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ ، وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى .

وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ ، وَالتَّوَدُّدِ ، وَذَلِكَ يَقَعُ مِنْهُ عَلَى وُجُوهٍ : فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ فَسَبِيلُ الْعِلْمِ بِفَقْرِهِمْ ، وَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ السَّلَامَةِ لَهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى حِزْبِ الْفَائِزِينَ ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَذَى مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ الرَّحْمَةُ لَهُمْ ، وَإِذَا جَازَى عَلَى السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ ، وَإِذَا رَاعَى حَقَّ كُلِّ ذِي حَقٍّ ، وَإِنْ صَغُرَ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّاكِرِينَ ، وَإِذَا تَنَاسَى الشَّرَّ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْ دَنَسِ هَوَاجِسِ النُّفُوسِ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِالسَّخَاءِ فَسَبِيلُهُ الْبُعْدُ مِنْ صِفَةِ الْبُخْلِ ، وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْفَضْلِ ، وَالْيَقِينِ بِالْخَلَفِ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَطْلُبَ الْخَلَفَ الْفَانِي إذْ إنَّ كُلَّ مَا جَاءَهُ مِنْ الدُّنْيَا فَهُوَ ذَاهِبٌ فَانٍ ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِرَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ عَدَمُ الْفَرَاغِ وَالِاشْتِغَالُ بِوَظَائِفِ التَّكْلِيفِ ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْحُسْنِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَالتَّعَامِي عَنْ الْقَبِيحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَسَبِيلُهُ الْغَيْرَةُ فِي مُشَاهَدَةِ الْمَحَاسِنِ ، وَالِاشْتِغَالُ عَنْ الْقَبَائِحِ بِعُيُوبِ النَّفْسِ مَعَ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ، وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ فَسَبِيلُهُ إجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ .

وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دُونَ تَمَاوُتٍ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِاعْتِقَادِ الْأَثَرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَسَبِيلُهُ احْتِقَارُ النَّفْسِ ، وَرُؤْيَةُ عُيُوبِهَا ، وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِذَا تَرَكَ الْعُجْبَ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا حَسَنًا فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ

لَا فَاعِلَ لِلْأَشْيَاءِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَإِذَا أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يُرِيدَ بِصَالِحِ عَمَلِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَسَبِيلُهُ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ حَبْطِ الْأَعْمَالِ مَخَافَةَ تَوَقُّعِ الرِّيَاءِ فَيُقَدِّرُ الْخَلْقَ فِي حِزْبِ الْعَدَمِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ شَيْئًا .

وَإِذَا اسْتَشْعَرَ اطِّلَاعَ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ تَرْكُ الْفَرَاغِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَقْتٌ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الرِّبْحُ أَوْ جَبْرُ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ فَسَبِيلُهُ عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَإِذَا أَحَبَّ الْمَسَاكِينَ ، وَخَدَمَهُمْ ، وَأَمَاطَ الْأَذَى عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَ السُّرُورَ عَلَيْهِمْ بِإِرْفَادِهِمْ ، وَالْعَوْنِ لَهُمْ ، وَإِظْهَارِ الْبِشْرِ ، وَاحْتِمَالِ الْجَفَاءِ ، وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ ، وَالتَّلَطُّفِ فِي نُصْحِ مَنْ زَلَّ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ حَطِّ الْأَوْزَارِ ، وَالظَّفَرُ بِمَحَبَّةِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمِزَاحَ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ الِاهْتِمَامُ بِسَالِفِ الذُّنُوبِ ، وَإِذَا رَاعَى الْفَرْضَ بِطَلَبِ أَدَائِهِ كَمَا وَجَبَ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَإِذَا أَحْسَنَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ يَجُوزُ الْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ بِالْمَحَامِدِ ، وَإِذَا تَرَكَ الشَّهَوَاتِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِعَاقِبَتِهَا وَمَآلِهَا ، وَطَلَبُ الرُّقِيِّ عَنْ الْأَرْضِيَّاتِ ، وَإِذَا قَلَّلَ الطَّعَامَ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِهِ ضَرَرٌ فَسَبِيلُهُ التَّحَقُّقُ لِلْعِبَادَةِ ، وَالتَّهَيُّؤُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِذَا لَبِسَ الدُّونَ مِنْ الثِّيَابِ مَعَ مُجَانَبَةِ الشُّهْرَةِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الضَّرُورَةِ فَسَبِيلُهُ خَوْفُ الْحِسَابِ ، وَإِذَا تَرَكَ التَّنَعُّمَ بِمَلَاذِ الطَّيِّبَاتِ ، فَسَبِيلُهُ التَّشَبُّهُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَإِذَا تَرَكَ

الْهَمْزَ وَالِاحْتِقَارَ بِالْخَلْقِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّبَرِّي مِنْ صِفَةِ الْجَاهِلِينَ ، وَإِذَا تَرَكَ الْفَرَحَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبِيلُهُ الْجَهْلُ بِالْعَاقِبَةِ ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالدُّنْيَا ، وَإِذَا تَرَكَ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَ فَسَبِيلُهُ شَغْلُ الْوَقْتِ بِالْخِدْمَةِ ، وَالْإِيمَان بِالْقَدَرِ .

وَإِذَا وَاصَلَ الْأَحْزَانَ خَوْفًا مِنْ السَّابِقَةِ ، وَالْخَاتِمَةِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِانْكِسَارِ الْقَلْبِ ، وَجَمْعِ الْهَمِّ ، وَإِذَا جَمَعَ هُمُومَهُ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ الْفِرَارُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَلْبِ فِي شِعَابِ الْغَفْلَةِ ، وَإِذَا فَوَّضَ أُمُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرْحِ نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ دُونَ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ مَعَ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لِثِقَتِهِ بِالْمَضْمُونِ فَسَبِيلُهُ شُغْلُ الْوَقْتِ بِالتَّكْلِيفِ ، وَإِذَا تَرَكَ رُؤْيَةَ الْأَسْبَابِ حَتَّى اسْتَوَى عِنْدَهُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا فَسَبِيلُهُ إفْرَادُ الْحَقِّ بِالْخَلْقِ ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ ، وَالْجَلِيِّ كَالْخُبْزِ لَا يُشْبِعُ ، وَالْمَاءِ لَا يَرْوِي ، وَالثَّوْبِ لَا يُدْفِئُ ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ كُلُّهَا ، وَإِذَا تَرَكَ التَّمَلُّقَ لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ التَّمَلُّقِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُمْ ، وَإِذَا افْتَقَرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فَسَبِيلُهُ إظْهَارُ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَإِذَا غَابَ عَنْ الْخَلْقِ بِبَاطِنِهِ ، وَلَمْ يَسْعَ إلَيْهِمْ بِظَاهِرِهِ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْأُنْسِ بِالْمَخْلُوقِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْإِقْبَالَ عَلَى أَحَادِيثِ الْعَامَّةِ ، وَتَرَكَ التَّشَوُّفَ لَهَا بِصَوْنِ قَلْبِهِ عَنْهَا ، وَعِمَارَتِهِ بِذِكْرِ الْحَقِّ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْمِحْنَةِ ، وَإِطْفَاءُ نَارِ الْفِتْنَةِ ، وَخَوْفُ خُسْرَانِ الْآخِرَةِ .

وَإِذَا كَانَتْ نَفْسُ الْمُرِيدِ مُتَطَلِّعَةً

لِأَحَادِيثِ النَّاسِ لَمْ يُفْلِحْ أَبَدًا ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اسْتِفْتَاحَ بَابِ الْخَيْرِ كُلِّهِ ، وَسَدَّ بَابِ الشَّرِّ كُلِّهِ فِي نَفْسِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ إذْ هِيَ مِعْيَارُ الْقَلْبِ ، وَبِهَا تَتَبَيَّنُ الزِّيَادَةُ ، وَالنَّقْصُ ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَذْلِ الْجَهْدِ ، وَجَمْعِ النَّفْسِ ، وَمَحْضِ الصِّدْقِ ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَمُوَاصَلَةِ الْحُزْنِ حَتَّى إذَا اسْتَطَعْت أَنْ تَمُوتَ حِينَ تَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ فَمُتْ فَسَبِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ قُرْبُك مِنْ اللَّهِ ، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَنْزِلَةَ قُرْبِك عِنْدَهُ فَمُلَازَمَةُ الْجَدِّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَقِّ فِيك مَوْضِعٌ ، وَسَبِيلُهُ مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ ، وَإِجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِذَا أَرَدْت عِزَّةَ النَّفْسِ ، وَصِيَانَتَهَا عَنْ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ دَقَّتْ الْحَاجَةُ أَوْ جَلَّتْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ كُلِّ حَاجَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَدَبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُنْزِلَ نَفْسَهُ فِي صُورَةِ مُرْشِدٍ وَلَا مُوصٍ ، وَلَا مُتَكَلِّمٍ بِالْحِكْمَةِ ، وَلَا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَلَكِنْ لِيُشْغِلَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَاغِلٌ بِسَبَبِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ : دَوَاءُ الْقُلُوبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ ، وَخَلَاءُ الْبَاطِنِ ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ ، وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ .

وَقَالَ : أَيْضًا التَّاجِرُ بِرَأْسِ مَالِ غَيْرِهِ مُفْلِسٌ ، وَمِنْ كَلَامِ يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَا هَذَا هَلَّا حَجَرَك عَقْلُك عَنْ أَنْ تَبُوحَ بِسِرِّك إلَى أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ أَوْ أَنْ تَشْكُوَ حَالَك فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إلَيْهِمْ أَوْ تَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيك أَوْ تُجِيبَ إلَى أَمْرٍ لَا تَتَحَقَّقُ رُشْدَهُ ، وَلَا تَأْمَنُ ضَرَرَهُ يَا هَذَا اجْعَلْ رَبَّك مَوْضِعَ شَكْوَاكَ ، وَقَلْبَك خِزَانَةَ سِرِّك ، وَالْزَمْ مُرَاقَبَةَ مَوْلَاك فِي كُلِّ حَالٍ يَرِدُ عَلَيْك فَإِنْ رَأَيْت خَيْرًا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَإِنْ رَأَيْت

شَرًّا فَافْتَقِرْ فِيهِ إلَيْهِ ، وَانْظُرْ إلَى الْخَلْقِ هَيَاكِلَ مُصَرَّفَةً ، وَأَسْبَابًا مُسَخَّرَةً ، وَلَا تَشْكُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ ، وَحَسْبُك مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا ، وَتَرَى الْفَضْلَ كُلَّهُ مِنْ مَوْلَاك فَاشْكُرْهُ بِكُلِّيَّتِك فَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ حَقِيقَةً ، وَشُكْرُ سِوَاهُ مَجَازٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

( فَصْلٌ ) : فَإِنْ كَانَ الْمُرِيدُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْأَوْلَادِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهِمَّهُ شَأْنُهُمْ ، وَلْيَنْظُرْ إلَى مَا سَبَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقَدَرِ ، وَيَعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَضِيقُ عَنْ رِزْقِهِمْ ، وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهُمْ لَنْ يَفُوتَهُمْ ، وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ لَنْ يَفُوتُوهُ ، وَأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ فِي حَقِّهِمْ سِيَّانِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ كَانُوا لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ فَلَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ مَعَهُمْ إلَّا خَيْرًا ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ ، وَلْيَقُلْ : قَدْ اسْتَوْدَعْتُهُمْ لِمَنْ لَا تَخِيبُ لَدَيْهِ الْوَدَائِعُ فَلْيَطْرَحْ الْهَمَّ فِيهِمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً إنْ عَقَلَ وَلْيَظُنَّ بِمَوْلَاهُ خَيْرًا وَالسَّلَامُ .

( فَصْلٌ ) : فَإِنْ اُبْتُلِيَ الْمُرِيدُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَخِلْطَتِهِمْ بِالْأَذِيَّةِ وَالْجَفَاءِ مِنْهُمْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ ، وَيَرْجِعَ إلَى حَالِهِ وَيُفَتِّشَ خَبَايَا نَفْسِهِ فِي الَّذِي قِيلَ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا ، فَإِنْ وَجَدَهُ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ إذْ ذَاكَ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ إنَّمَا هُوَ نَذِيرٌ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ لِيَتُوبَ ، أَوْ يُوقِعَ بِهِ النَّكَالَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ ، وَيَرَى الْإِحْسَانَ وَالْفَضْلَ لِمَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ .

وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا قِيلَ عَنْهُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدِهَا : أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُبْتَلًى فَلْيَقُلْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ الِابْتِلَاءِ فِي الْبَدَنِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الِابْتِلَاءِ .

هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى سَلَامَتِهِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ .

الثَّانِي : وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ فِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَلَّمَهُ مِمَّا وَقَعَ أَخُوهُ فِيهِ ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَكَانَ بَلَاءً بَيِّنًا إذْ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ السَّلَامَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .

وَمِنْ كِتَابِ يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ سَاءَهُ الذَّمُّ وَأَعْجَبَهُ الْمَدْحُ فَذَلِكَ ذَكَرُ الصُّورَةِ خُنْثَى الْعَزِيمَةِ .

وَقَالَ لَوْ قَالَ لِي قَائِلٌ : إنَّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِحَظِّهِ مِنْ الْفَقْرِ لَمْ يَجِدْ طَعْمَ الْإِيمَانِ لَمَا خَالَفْتُهُ ، وَلَوْ أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعَافِيَةِ فِي الْخُمُولِ ،

وَالْغِنَى عَنْ النَّاسِ لَصَدَّقْتُهُ .

وَقَالَ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ فِي مَوَاطِنِ الِامْتِحَانِ حِيلَةٌ حَسَنَةٌ فِي التَّخَلُّصِ ، وَإِنْ أَبْطَأَ .

وَقَالَ : مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ نَصَبٍ وَتَعَبٍ لَمْ يُنْكِرْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهَا ، وَأَخَذَ مِنْ الرَّاحَةِ بِحَظِّهِ ، وَمَنْ تَوَهَّمَهَا مَنْزِلَ رَاحَةٍ لَمْ يُقَدِّرْ الرَّاحَةَ قَدْرَهَا إذْ أَتَتْهُ ، وَكَانَ تَعَبُهُ فِيهَا مُضَاعَفًا .

وَقَالَ : تَقْدِيمُ صِدْقِ اللُّجْأِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَبَادِئِ الْحَاجَاتِ عُنْوَانٌ عَلَى نَجَاحِ غَايَاتِهَا ، وَقَالَ : افْتَكِرْ فِي الْمَوْتِ تَهُنْ عَلَيْكَ الْمَصَائِبُ .

وَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ النَّفْسِ يَعْنِي فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا ، وَلَا أَجْرَأَ مِنْ اللِّسَانِ ، وَلَا أَشَدَّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقَلْبِ ، وَلَا أَعْدَمَ مِنْ الْإِخْوَانِ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَمَلِ

قَالَ : الصَّمْتُ وَغَضُّ الْبَصَرِ مِفْتَاحَانِ لِأَبْوَابِ الْقُلُوبِ ، وَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ النَّاسِ تَرَبَّعَ فِي بُحْبُوحَةِ الْعَافِيَةِ .

وَقَالَ : لَيْسَ إلَّا دُنْيَا وَآخِرَةٌ فَإِنْ أَرَدْتَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا رُمْتَ مُحَالًا وَذَهَبَتَا عَنْكَ مَعًا فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ .

وَقَالَ : الضَّرُورَاتُ تَدْعُو إلَى شَرٍّ كَثِيرٍ ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ .

وَقَالَ يَحْسُنُ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ مُرَقَّعًا وَنَعْلُهُ بَالِيًا وَمَسْكَنُهُ خَلَقًا فَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تَذْكِرَةٍ ، وَأَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى الْغِنَى ، وَأَحَثُّ بَاعِثٍ عَلَى تَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ إلَى الدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجَدِيدَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَلَّتْ عِبْرَتُهُ ، وَكَانَ حُبُّ الْعَاجِلَةِ أَغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ .

وَقَالَ : اطْمَعْ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ التَّفْرِيطِ وَلَا تَأْمَنْ مَكْرَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَإِيَّاكَ وَالْيَأْسَ مِنْ مَوْلَاكَ فَإِنَّهُ قَطْعٌ لِلسَّبَبِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، وَاحْذَرْ الْأَمَانِيَّ فَإِنَّهَا اغْتِرَارٌ بِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ عَلِمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا يَئِسَ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ عَلِمَ كُنْهَ عِقَابِ اللَّهِ لَمَاتَ خَوْفًا وَالسَّلَامُ .

وَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاضِي لَا يَرْجِعُ ، وَالْمُقَدَّرُ لَا يَتَبَدَّلُ ، فَاطِّرَاحُ الْهَمِّ سَعَادَةٌ مُعَجَّلَةٌ .

وَقَالَ خَمْسٌ يُؤْلِمُكَ غَمُّهَا فِي الدُّنْيَا ، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ إيلَامًا إلَّا أَنْ يَنَالَكَ عَفْوُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَقْلِلْ مِنْهَا ، أَوْ اسْتَكْثِرْ : الْمِزَاحُ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ ، وَالتَّعَرُّفُ بِالنَّاسِ ، وَإِفْشَاءُ سِرِّكَ إلَيْهِمْ وَالشَّكْوَى بِحَالِكَ إلَى الْخَلْقِ .

وَقَالَ : لَقَدْ رَابَنِي مَا أَرَاهُ مِنْ كَدِّ الْخَلْقِ لِلدُّنْيَا وَقِصَرِ هِمَّتِهِمْ عَلَيْهَا فِي إيمَانِهِمْ ، وَلَقَدْ رَابَنِي مَا أَرَاهُ مِنْ مُكَالَبَتِهِمْ عَلَيْهَا وَفَرْطِ جُنُوحِهِمْ إلَيْهَا فِي عُقُولِهِمْ ، وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَالِ إنَّكَ

إنْ نَطَقْتَ لَهُمْ بِالْحَقِيقَةِ سَخِرُوا مِنْكَ ، وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُمْ اتَّهَمُوكَ ، وَإِنْ مَازَحْتَهُمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا أَهْلَكُوكَ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوكَ فَلَا رَاحَةَ مَعَهُمْ وَلَا سَلَامَةَ دُونَهُمْ حَسْبِي اللَّهُ ، ثُمَّ حَسْبِي اللَّهُ مِنْهُمْ .

وَقَالَ : رَجُلَانِ أَكْرَهُ رُؤْيَتَهُمَا ، وَأُحِبُّ الْفِرَارَ مِنْهُمَا لِيَأْسِي مِنْ فَلَاحِهِمَا غَالِبًا : طَالِبُ كِيمْيَاءَ ، وَطَالِبُ مُلْكٍ .

وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ تَسَامَى إلَى رُتَبٍ لَا يَقْتَضِيهَا حَالُهُ وَلَا حِلْيَتُهُ ، وَآثَرَ هَوَاهُ وَأُمْنِيَتَهُ عَاشَ دَهْرَهُ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَلَمْ يَبْلُغْ الْغَايَةَ الَّتِي يَسْعَى إلَيْهَا ، وَمَنْ تَقَاعَدَ عَنْ الرُّتَبِ الَّتِي يُمْكِنُهُ بُلُوغُهَا عَاشَ مَهِينًا مَلُومًا ، وَمَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَتَنَاوَلَ مِنْهَا مَا كَانَ لَهُ صَالِحًا اسْتَحَقَّ اسْمَ النُّبْلِ وَكَانَ عَيْشُهُ هَنِيئًا وَقَلْبُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - خَاشِعًا .

وَقَالَ : أَنَا لَا أُصَدِّقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : مُكَالَمَةُ الْجَاهِلِ سَجْنٌ لِلْعَقْلِ .

وَقَالَ الرَّاحَةُ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : فَقِيرٍ صَالِحٍ ، أَوْ غَنِيٍّ عَاقِلٍ ، أَوْ أَحْمَق مَبْخُوتٍ .

وَقَالَ : يَا هَذَا إنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْ النَّاسِ مَرَّةً فَالْعَجَبُ مِنْكَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَقَدْ بَانَ لَكَ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ مُكَالَمَةَ النَّاسِ غُنْمُهَا نَدَامَةٌ وَالصَّمْتَ عَنْهُمْ سَلَامَةٌ ، ثُمَّ لَا يَصْرِفُكَ ذَلِكَ عَنْ الْهَذَرِ مَعَهُمْ ، وَالْخَوْضِ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَكُلُّهُمْ مَقْهُورُونَ لِطِبَاعِ أَنْفُسِهِمْ سَامِعُونَ مِنْ حَالِهِمْ مُبْصِرُونَ بِعُيُونِ رُءُوسِهِمْ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَمَا يُصْغِي إلَيْكَ مِنْهُمْ غَالِبًا إلَّا مُتَّهَمٌ ، أَوْ مُكَذِّبٌ ، أَوْ غَيْرُ مُحَصِّلٍ فَاصْحَبْهُمْ بِصَمْتٍ وَلَا يَكُونُ كَلَامُكَ لَهُمْ إلَّا جَوَابًا بِمَا لَا دَرَكَ فِيهِ عَلَيْكَ فِي دِينٍ ، أَوْ دُنْيَا فَإِنْ أَنْتَ صَبَرْتَ عَلَى أَذَاهُمْ كُفِيتَهُمْ وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْتَصِرَ لِنَفْسِكَ فَتُوكَلَ إلَيْهَا ، وَسَلِّمْ الْأَمْرَ إلَى مَوْلَاكَ

وَافْتَقِرْ إلَيْهِ تَجِدْهُ وَالسَّلَامُ .

وَقَالَ : الِالْتِفَاتُ إلَى النَّاسِ تَعَبٌ فِي الْعَاجِلِ وَنَدَامَةٌ فِي الْآجِلِ ؛ لِأَنَّ عَامَّتَهُمْ مَا بَيْنَ جَافٍ مُتَعَسِّفٍ ، أَوْ بَطِرٍ مُتَكَلِّفٍ فَلَيْسَ التَّأْثِيرُ بِالْأَوَّلِ بِأَسْوَأِ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالثَّانِي فَالرَّأْيُ أَنْ يُعَدَّا جَمِيعًا فِي حِزْبِ الْعَدَمِ حَتَّى لَا تَأْثِيرَ لِلِاضْطِرَارِ إلَيْهِمْ وَلَا لِلْجَفَاءِ مَعَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيهِمْ ، وَاعْتِقَادِ الرَّحْمَةِ وَالصِّلَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْإِقْبَالُ عَلَى مَا يَعْنِيكَ ، وَالصَّبْرُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَإِنَّكَ إذَا وَافَقْتَ الشَّرِيعَةَ وَلَاحَظْتَ الْحَقِيقَةَ لَمْ تُبَالِ بِمَنْ خَالَفَ رَأْيَكَ مِنْ الْخَلِيقَةِ .

وَقَالَ مَنْ تَفَكَّرَ فِيمَنْ سَلَفَ وَنَظَرَ فِي الْمَعَادِ هَانَ عَلَيْهِ جَفَاءُ الْخَلْقِ وَلَمْ يَغْتَرَّ بِلُطْفِهِمْ .

وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْزَمْ الصَّمْتَ عِنْدَ مُحَاضَرَةِ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتَكَلَّمْ مَعَ مَنْ لَكَ فِي كَلَامِهِ فَائِدَةٌ .

وَقَالَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ خَافَ وَحَزِنَ وَلَمْ يَفْتُرْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا ضَمِنَ لِعِبَادِهِ أَرْزَاقَهُمْ لَمْ يَشْغَلْهُ طَلَبُ الْمَضْمُونِ عَمَّا كُلِّفَ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا مَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ كَفَاهُ تَوَكَّلَ بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا لَا فَاعِلَ لِلْمَوْجُودَاتِ إلَّا هُوَ اقْتَصَرَ فِي كُلِّ مُرَامٍ إلَيْهِ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا رَقِيبًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتَحَى مِنْهُ حَقَّ الْحَيَاءِ .

وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَرَأَى تَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا وَانْزِعَاجِهِمْ عَنْهَا لَمْ يَطْمَئِنَّ إلَيْهَا ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْآخِرَةِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَتَخَيَّلَ نَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا وَأَيْقَنَ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهَا عَمِلَ لَهَا .

وَقَالَ الْزَمْ الْفَضْلَ وَاتْرُكْ الْفُضُولَ وَاغْتَنِمْ وَقْتَكَ تَفُزْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَبِمُلَازَمَةِ الْفَضْلِ تَنَالُ الشَّرَفَ وَبِتَرْكِ الْفُضُولِ تَنَالُ السَّلَامَةَ وَبِاغْتِنَامِ الْوَقْتِ

تَنَالُ الرِّبْحَ وَفِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَجْمُوعُ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

وَقَالَ : لَيْسَ إلَّا عَيْشُ الدُّنْيَا ، أَوْ عَيْشُ الْآخِرَةِ وَلَنْ يَجْتَمِعَا .

فَالْأَوَّلُ مَادَّتُهُ الْأَرْضِيَّاتُ ، وَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ .

وَالثَّانِي مَادَّتُهُ الْعُلْوِيَّاتُ ، وَهُوَ عَيْشُ الرُّوحِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْمَبْدَأَ ، وَالْغَايَةَ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ وَالسَّلَامُ .

وَقَالَ : يَا هَذَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ نَجَاةٌ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ غَيْرِ اللَّهِ .

وَقَالَ : مَا أَحَقَّكَ بِالنُّوحِ عَلَى نَفْسِكَ .

مَا أَوْلَاكَ بِإِلْقَاءِ التُّرَابِ عَلَى رَأْسِكَ .

مَا أَغْفَلَكَ عَمَّا حَلَّ بِكَ .

أَنَسِيتَ عَظَائِمَكَ .

أَمْ أَمِنْتَ عِقَابَ رَبِّكَ بَادِرْ يَا مِسْكِينُ وَاحْذَرْ سَدَّ الْبَابِ وَقَطْعَ الْأَسْبَابِ .

وَاسْتَنْزِلْ بِكَفِّ الضَّرَاعَةِ رَحْمَةَ مَوْلَاكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ .

وَقَالَ : إذَا سَافَرْت فَالْتَزِمْ فِي الطَّرِيقِ مَعَ أَهْلِ الرُّفْقَةِ الصَّمْتَ وَلَا تَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ إلَّا جَوَابًا يَسِيرًا مِنْ الْقَوْلِ لَفْظَةً أَوْ نَحْوَهَا .

فَإِنْ سُئِلْتَ مِنْ أَيْنَ ؟ فَقُلْ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ .

فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا شُغْلَكَ ؟ فَقُلْ أَبْتَغِي فَضْلَ اللَّهِ .

فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا اسْمُكَ ؟ فَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ .

فَإِنْ تَصَامَمْتَ لَهُمْ فَحَسَنٌ ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَلَدًا فَلَا تَصْحَبُهُ فِيهِ أَحَدًا صُحْبَةً تُوجِبُ عَلَيْكَ حَقًّا .

وَاحْسِمْ التَّعَارُفَ أَلْبَتَّةَ .

وَافْتَقِرْ إلَى اللَّهِ فِي حَوَائِجِكَ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ زَمَانَ صُحْبَةٍ وَلَا مُصَادَقَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانُ الْوَحْشَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالْفِرَارِ مِنْ النَّاسِ مَبْلَغَ الْوُسْعِ .

وَقَالَ : خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِلْفَتَى : بَطَرُ الْغَنِيِّ وَمَذَلَّةُ الْفَقِيرُ .

فَإِذَا غُنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا .

وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ .

وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ، وَالْبَلَاءُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّعَبِ ، وَالْمَشَقَّاتِ كَفُرْقَةِ الْأَحْبَابِ وَذَهَابِ الْمَالِ وَأَذَى النَّاسِ ، وَالْأَسْقَامِ ،

وَالْجُوعِ ، وَالْعَطَشِ ، وَالْقُمَّلِ وَالذُّبَابِ ، وَالْعَقَارِبِ ، وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ وَفَقْدِ الْوَطَنِ ، وَالْبَرْدِ ، وَالْحَرِّ ، وَالْعُرْيِ وَالشَّهَوَاتِ : كَشَهْوَةِ الْبَطْنِ ، وَالْفَرْجِ إلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ فَمَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَا تُنْكِرْ وُقُوعَهُ فِي مَحِلِّهِ وَلَا تَسْتَغْرِبْهُ ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَغْرَبُ فِيهَا الْمَسَرَّاتُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ لَهَا وَلَا تُقَابِلْ شَيْئًا مِنْ الْبَلَاءِ إلَّا بِالصَّبْرِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهَا مَتَى وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ وَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فِي زِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ ، وَالْإِمْدَادِ بِالْمَعْرِفَةِ .

وَقَالَ : مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَمْسِهِ وَغَدِهِ غَنِمَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ يَوْمِهِ .

وَقَالَ بِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَاللُّجُوءُ إلَيْهِ عُنْوَانُ النَّجَاحِ .

وَالْقُرْآنُ حَبْلُ الْعِصْمَةِ .

وَالسُّنَّةُ طَرِيقُ السَّلَامَةِ .

وَالْفِكْرَةُ مِفْتَاحُ الرُّشْدِ .

وَالْهِمَمُ مُثِيرَاتُ الْعَزْمِ وَالتَّبَصُّرُ ثَمَرَةُ الصِّدْقِ وَالظَّفَرُ نَتِيجَةُ الصَّبْرِ .

وَالِاسْتِغَاثَةُ دَرَجُ الْوُصُولِ .

وَالتَّضَرُّعُ أَمَارَةُ التَّخَلُّصِ .

وَالسَّحَرُ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ .

وَالْإِلْحَاحُ مُقَدِّمَةُ الْمَحَبَّةِ .

وَالتَّوَاضُعُ سُلَّمُ الشَّرَفِ .

وَالسَّخَاءُ خُلُقُ الْإِيمَانِ .

وَالزُّهْدُ شِعَارُ التَّقْوَى .

وَالتَّوَكُّلُ حِرْفَةُ الْمَعْرِفَةِ .

وَالتَّفْوِيضُ عَلَمُ السَّعَادَةِ .

وَالْخَوْفُ أَثَرُ الْجَدِّ .

وَالرَّجَاءُ إفَادَةُ الْجُهْدِ ، وَرَحْمَةُ الْخُلُقِ دَلِيلُ الطَّهَارَةِ .

وَاحْتِمَالُ الْأَذَى عَيْنُ الْفُتُوَّةِ ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ خُلُقُ النُّبُوَّةِ .

وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالْحُضُورِ عَيْشُ الرُّوحِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى قَتْلُ النَّفْسِ .

وَذِكْرُ اللَّهِ رَأْسُ مَالِ الْعَابِدِينَ .

مَنْ تَرَكَ الشَّهَوَاتِ قَرَعَ الْبَابَ ، وَمَنْ تَرَكَ الْحُظُوظَ رَفَعَ الْحِجَابَ .

قِيَامُ اللَّيْلِ بُسْتَانُ الْعَارِفِينَ .

الْأَحْوَالُ مَبْلَغُ الْقَوْمِ .

مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى الْكِلَابِ فَهُوَ أَحَدُ

الْفَرَاعِنَةِ السَّلْوُ عَنْ الْمَتْرُوكِ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَطْلُوبِ .

مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَهِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَهْوَنُ ، وَمَنْ صَحِبَ التَّسْوِيفَ أَدَّاهُ إلَى الْفَوْتِ .

وَمَنْ فَاتَهُ مَوْلَاهُ غَرِقَ فِي بَحْرِ الْيَأْسِ ، الدُّنْيَا سَلَامَتُهَا غَرَرٌ .

وَلَذَّاتُهَا قَذَرٌ .

قَالَ الشَّاعِرُ فَخَيْرُ لِبَاسِهَا نَفَثَاتُ دُودٍ وَخَيْرُ شَرَابِهَا قَيْءُ الذُّبَابِ وَأَشْهَى مَا يَنَالُ الْمَرْءُ فِيهَا مُبَالٍ فِي مُبَالٍ مُسْتَطَابِ ، وَعَنْ قُرْبٍ يَعُودُ الْكُلُّ تُرْبًا بِلَا شَكٍّ يَكُونُ وَلَا ارْتِيَابِ وَقَالَ : كُنْتُ قَدْ رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَهَا فَطَلَبْتُهَا فِي حِفْظِي فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ أَبْدَتْ الْوُدَّ وَأَظْهَرَتْ النُّصْحَ .

وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي السُّلْطَانُ وَإِنْ أَبْدَى التَّقْرِيبَ وَالْمُصَافَاةَ .

وَأَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ جَمًّا وَافِرًا .

وَأَنْ يَكُونَ الرَّابِعُ الزَّمَانَ وَإِنْ كَانَ مُطَاوِعًا مُسَالِمًا .

فَرُبَّ مَخْدُوعٍ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَخَانَتْهُ ، أَوْثَقُ مَا كَانَ بِهَا وَأَسْلَمَتْهُ أَمْيَلُ مَا كَانَ إلَيْهَا .

وَقَالَ : الرَّاحَةُ كُلُّهَا فِي الرِّضَا بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَكَ وَالتَّعَبُ كُلُّهُ فِي اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ .

وَمُدَافَعَةُ الْأَيَّامِ شِيمَةُ الْكِرَامِ .

وَاغْتِنَامُ الْوَقْتِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ وَاطِّرَاحِ الْأَمَلِ سَعَادَةٌ .

وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ .

وَقَالَ : يَا هَذَا إذَا رَأَيْتَ إنْسَانًا لَمْ تُلْزِمْكَ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ فَفِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ ، أَوْ أَشَدَّ ، وَإِنْ قُدِّرَ اجْتِمَاعُكَ مَعَهُ مُفَاجَأَةً فَاقْتَصِرْ فِي الْكَلَامِ مَعَهُ وَاعْتَذِرْ لَهُ بِشُغْلٍ وَاتْرُكْهُ بِسَلَامٍ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّ تَعَبَكَ فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إنَّمَا جَاءَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ .

( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً لِكُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا عَمَلٌ يَخُصُّهُ مِنْ الْأَوْرَادِ فَلَا يَقْتَصِرُ فِي الْوَرْدِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، بَلْ كُلُّ أَفْعَالِ الْمُرِيدِ وِرْدٌ .

قَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقُولُونَ جَوَابًا لِمَنْ طَلَبَ الِاجْتِمَاعَ بِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَكُونُ نَائِمًا هُوَ فِي وِرْدِ النَّوْمِ .

فَالنَّوْمُ وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْرَادِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ وَقْتُ النَّوْمِ مَعْلُومًا كَمَا أَنَّ وَقْتَ وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ يَكُونُ مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُ بِإِخْوَانِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا .

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ مَعَ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا كُلُّ ذَلِكَ وِرْدٌ مِنْ الْأَوْرَادِ إذْ إنَّ أَوْقَاتَهُ مُسْتَغْرَقَةٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ مِمَّا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ ، أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَرْدِ أَعْنِي التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا عَلَى جَادَّةِ الِاجْتِهَادِ ، وَالْفَرَاغِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَوَائِقِ ، وَالْعَوَارِضِ ، أَوْ مِنْ حَالٍ يَرِدُ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي حَقِّ الْمُرِيدِ ، بَلْ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ بُكَاءٌ أَوْ تَضَرُّعٌ أَوْ خَشْيَةٌ يَسْتَمِرُّ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْطَعُهُ ؛ إذْ إنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِلْمُرِيدِ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى فَرِيسَتِهِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا وَيَغْتَنِمْهَا لِئَلَّا تَنْفَلِتَ مِنْهُ فَقَلَّ أَنْ يَجِدَهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا لَذَّتْ لَكَ الْقِرَاءَةُ فَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ ، وَإِذَا لَذَّ لَكَ الرُّكُوعُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَسْجُدْ ، وَإِذَا لَذَّ لَكَ السُّجُودُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَرْكَعْ ،

الْأَمْرُ الَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْكَ فِيهِ فَالْزَمْهُ .

أَرَأَيْتَ إنْسَانًا يَطْلُبُ شَيْئًا فَإِذَا وَجَدَهُ تَرَكَهُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلُ وَلَا يُقْتَصَرُ فِي هَذَا عَلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ أَرَادَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ أَيْضًا ، بَلْ هَذَا آكَدُ لِاجْتِمَاعِ بَرَكَةِ الْإِخْوَانِ ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ الْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي حِسًّا لِاسْتِمْدَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ وَأَنْفَاسُهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمَلَأِ مَضْبُوطَةً بِالِاتِّبَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَوْرَادِهِ عَلَى الْقَلِيلِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ شُغْلٌ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهَا لِيَسَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّمِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى عَمَلِ السِّرِّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ الْجَهْرَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ وَمَا هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَأَكَّدُ تَحْصِيلُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ .

فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عَمَلُ السِّرِّ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ أَعْنِي مِنْ الْأَهْلِ وَمَا شَابَهَهُمْ .

فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِظْهَارُهُ أَوْلَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ مَعَهُمْ ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ إذْ إنَّ مِنْ الْأَهْلِ ،

أَوْ الْإِخْوَانِ مَنْ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ بَادَرَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ .

وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرُ لِمَا وَرَدَ { : لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالسِّرُّ أَوْلَى بِهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْخَلْوَةَ عَنْ أَهْلِهِ كَانَ بِهِ أَوْلَى .

فَالْمُرِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى ، بَلْ أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَزَالُ فِي عَمَلِ السِّرِّ فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ آثَارُ ذَلِكَ وَبَرَكَتُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى عَمَلِ سِرٍّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَفَظَةُ وَنَاشَدُوهُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا بِحَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ يُظْهِرُهَا لَهُمْ لِيُسَرُّوا بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَفَظَةَ يَفْرَحُونَ بِحَسَنَةِ الْعَبْدِ حِينَ يَعْمَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَى ثَوَابَهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ رُسُلَ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ إلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ لِكَرَاهِيَةِ الْمَلِكَ لَهُ .

وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِهَا ، وَهِيَ أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا .

لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ { : لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ } الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ .

وَالْحَفَظَةُ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُبُونَهُ .

فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْأَوْرَادِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَهِيَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَلَّى لِخَلْقِهِ

وَظَهَرَ بِآيَاتِهِ وَبَطَنَ بِذَاتِهِ فَهُوَ الظَّاهِرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَا يُقَالُ أَيْنَ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَتَى ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ فِي حَالِ التَّجَلِّي فَهُوَ مُسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ شَيْئًا مِنْ النِّعَمِ أَعْلَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

وَلَا يُعَكَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَفَظَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْحَسَنَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ عَطِرَةٌ ، وَإِذَا نَوَى السَّيِّئَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ نَوَى بِقَلْبِهِ مَا نَوَاهُ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الرَّائِحَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ حِيلَتِهِ ، بَلْ هُوَ فَيْضٌ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ وَامْتِنَانٌ عَلَى مَنْ خَصَّهُ وَاخْتَارَهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ فَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَرِيمٌ مَنَّانٌ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِيهَا الْبَرَكَةُ الشَّامِلَةُ فَخَيْرُهُمْ وَمَقَامُهُمْ الْخَاصُّ بِهِمْ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ الْمُرِيدُ إيَاسَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى حَالِهِمْ السَّنِيِّ وَلَا يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِحِيلَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَاجْتِهَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا نَظَرَ إلَى ذَلِكَ قَطَعَ بِهِ ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى فَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَيْهِ .

وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بَهِيمِيَّ الطَّبْعِ لَا يَرَى النِّعَمَ إلَّا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالسَّعَةِ فِي

الرِّزْقِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ حَالِ الْمُرِيدِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ حَالِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ يُعْطِي لِكُلِّ قَاصِدٍ مَا قَصَدَهُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرِيدَ غَنِيمَتُهُ مَا فَاتَهُ مِنْ الدُّنْيَا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمُرِيدُ لَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فَقَالَ نَعَمْ لَكِنَّ طَعَامَ الْمُرِيدِ الْجُوعُ وَكِسْوَتَهُ الْعُرْيُ فَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحِلُّ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ .

وَالْمَقْصُودُ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَدْ طَرَحُوا أُمُورَ الدُّنْيَا خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَأَسْنَدُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَقَرَّبَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَحَمَاهُمْ وَتَجَلَّى لَهُمْ بِصِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .

وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ بِدَايَتِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّرَقِّي فِي الزِّيَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ ، أَوْقَاتَهُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ لَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَشَقَّةً وَلَا تَعَبًا فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمُرِيدَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَمْشِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمَّا نِهَايَتُهُ فَلَا حَدَّ لَهَا ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : أَكْلُهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى وَكَلَامُهُمْ ضَرُورَةٌ فَلَا يَنَامُ الْمُرِيدُ إلَّا غَلَبَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُ ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ فَعَرَكَ

عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ .

وَمِنْ كَانَ نَوْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَهَيَّأَ لِحَالَةِ النَّوْمِ وَلَا لِلْأَذْكَارِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ إذْ حَالُ الْمُرِيدِ لَا يَنْضَبِطُ بِقَانُونٍ مَعْلُومٍ لِكَثْرَةِ اجْتِهَادِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ .

لَكِنْ يُحَافَظُ عَلَى السُّنَّةِ وَيَشُدُّ يَدَهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْجِبُهُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَوْفَ نَارِكَ مَنَعَنِي الْكَرَى فَيَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ فَكَانَ يُعْجِبُهُ مِنْهُ مُحَافَظَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ حَتَّى فِي الْفِرَاشِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّوْمُ فَإِذَا كَانَ الْمُرِيدُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَعْنِي مُحَافَظَتَهُ عَلَى السُّنَّةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

فَصْلٌ فِي قُدُومِ الْمُرِيدِ مِنْ السَّفَرِ وَدُخُولِهِ الرِّبَاطَ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَيَشُدُّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ ، أَوْ يَغْتَرَّ بِمَا قَدْ أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَفْعَالٍ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ وَعَكْسَهُ فِي الِابْتِدَاعِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمَا فَاقُوا عَلَى غَيْرِهِمْ إلَّا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ اُخْتُصُّوا بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ فُقَرَاءَ وَمُرِيدِينَ وَصُوفِيَّةٍ فَالْفَقِيرُ مَنْ افْتَقَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَكَنَ بِقَلْبِهِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَوَاطِرُ تَلْدَغُهُ فَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا وَيَفْتَقِرُ إلَى رَبِّهِ وَيُعَوِّلُ عَلَيْهِ ، وَالْمُرِيدُ مَنْ أَرَادَ رَبَّهُ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ وَكَانَ غَايَةَ طَلَبِهِ وَمُنَاهُ وَسَلِمَ مِنْ لَدَغَاتِ الْخَوَاطِرِ وَمُجَاهَدَتِهَا لِإِرَادَتِهِ لِرَبِّهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ .

وَالصُّوفِيُّ مِنْ صَفَا بَاطِنُهُ وَجَمَعَ سِرَّهُ عَلَى رَبِّهِ وَشَاهَدَ عَيَانًا جَمِيلَ صُنْعِهِ فَأَسْنَدَ الْأُمُورَ كُلَّهَا إلَيْهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَرَّبَهُمْ اللَّهُ وَاجْتَبَاهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ خِلَعَ إحْسَانِهِ وَلِحَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ ارْتَضَاهُمْ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَذَا مَقَامٌ خَاصٌّ بِهِمْ وَالثَّوْبُ النَّظِيفُ أَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ حِينَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَغُشِيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ شِعَارُهَا الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ رَأَوْهُ أَمْرًا عَظِيمًا فَأَقْلَعُوا عَنْهُ فِي وَقْتِهِمْ وَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ

فَعُجِّلَتْ لَهُمْ عُقُوبَتُهُ فَتَضَرَّعُوا إلَى اللَّهِ وَابْتَهَلُوا إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْهُمْ .

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ لَا يُسَامِحَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ ، وَلَوْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ .

فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي قَرَّرَهَا بَعْضُ النَّاسِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّرْقِ .

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا سِيَّانِ لَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهَا .

وَذَهَبَتْ الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ ، أَوْ اسْتَحْسَنَهُ ، وَقَالَ لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ صُوفِيٌّ سُنِّيٌّ يَعْنِي بِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ إذَا وَرَدَ الْبَلَدَ وَقَصَدَ دُخُولَ الرِّبَاطِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعَجَمِ الْخَانْقَاهْ فَالرِّبَاطُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّبْطِ ؛ لِأَنَّ سَاكِنَهُ مُرَابِطٌ فِيهِ وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ رُؤْيَةَ الْقَيْدِ فِي النَّوْمِ وَيَكْرَهُونَ الْغِلَّ فَهَذَا مِنْهُ .

وَلَهُمْ فِيمَا أَحْدَثُوهُ اصْطِلَاحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّجَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَثُرَ وُقُوعُهُ وَالْقَوْلُ بِهِ وَالْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ تَعَيَّنَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ دُخُولَ الرِّبَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ

يُشَمِّرُ كُمَّيْهِ وَيَبْتَدِئُ فِي ذَلِكَ بِالْيَمِينِ وَهَذَا إذَا أَرَادَ دُخُولَ الرِّبَاطِ ، أَوْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا طَاهِرًا وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئ بِتَشْمِيرِ كُمِّهِ الْأَيْسَرِ وَيُبَالِغُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيُسَمُّونَهَا آدَابًا .

حَتَّى أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَغَّلَ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَنَّهُ خَدَمَ شَيْخَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَشَمَّرَ كُمَّهُ الْأَيْمَنَ قَبْلَ الْأَيْسَرِ فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ أَيْنَ تُرِيدُ فَاسْتَفَاقَ لِخَطَئِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، فَقَالَ يَا سَيِّدِي إلَى بَغْدَادَ فَسَافَرَ إلَيْهَا .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى تَبْدِيلِ الْخَاطِرِ الْمُعَجَّلِ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ كَيْفَ وَقَعَ بِهَا هَذَا فِي أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَعَبُ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَتَرْكُ جَمْعِ الْخَاطِرِ فِي الْحَضَرِ وَبَرَكَتِهِ .

وَالثَّانِي : إخْبَارُ شَيْخِهِ بِمَا لَيْسَ فِي بَاطِنِهِ ، وَطَائِفَةُ الصُّوفِيَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .

ثُمَّ إذَا شَمَّرَ أَكْمَامَهُ يَشُدُّ وَسَطَهُ بِشَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْعُكَّازَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، وَالْإِبْرِيقَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَجْعَلُ السَّجَّادَةَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مَطْوِيَّةً وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فَكَيْفَ يَتَّخِذُهَا الْفَقِيرُ ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَحُولُ بَيْنَ وُجُوهِهِمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلٌ لَا حَصِيرٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَكَوْا إلَيْهِ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَلَمِ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُشْكِهِمْ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُزِلْ شَكْوَاهُمْ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ { : مَسْحُ الْحَصْبَاءِ مَسْحَةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } وَلَا يَرِدْ عَلَى هَذَا حَدِيثُ

الْخُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى شِدَّةِ الْأَلَمِ الَّذِي يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَلَمِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْبَشَرَةُ فَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ .

وَالْخُمْرَةُ هِيَ شَيْءٌ مَضْفُورٌ مِنْ الْخُوصِ قَدْرُ مَا يَضَعُ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إذَا سَجَدَ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْجُدُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَ وَجْهِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ لِاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ وَتَوَاضُعِهِ .

وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّوَاضُعِ ، وَهُوَ الْآنَ دَاخِلٌ إلَى الرِّبَاطِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ لَا يَدْخُلُهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَحَفِّظٌ عَلَى دِينِهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى السَّجَّادَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ وَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا ، وَالْعَوَائِدُ كُلُّهَا مَطْرُوحَةٌ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَضْلًا عَنْ الْمُرِيدِ .

ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ إذَا دَخَلَ الرِّبَاطَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ - تَعَالَى - إلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ ، أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، أَوْ يَتْرُكُ رَدَّ السَّلَامِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَأَمَرُوهُ بِتَرْكِ السَّلَامِ لِأَجْلِ هَذَا وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ إذْ إنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عَرَفَ ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ تَعْلِيلِهِمْ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ مَوْضِعِ الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - هُنَاكَ عِنْدَ الِارْتِيَاعِ وَمَا يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَالسُّنَّةُ عِنْدَ

لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ السَّلَامُ لَا بَعْدَ جُلُوسِهِ وَاسْتِئْنَاسِهِ .

ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ عِنْدَ إرَادَةِ دُخُولِهِ الرِّبَاطَ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ الْبَابِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ مَنْ فِي الرِّبَاطِ مِنْ الشُّبَّانِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيُؤْذُونَهُ بِالشَّتْمِ وَيُقِلُّونَ الْأَدَبَ عَلَيْهِ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَتَهُ وَيَكْسِرُونَ الْإِبْرِيقَ الَّذِي مَعَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَيْأَسُوا مِنْ غَضَبِهِ وَيُعَلِّلُونَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقِفُوا عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ وَحَمْلِهِ لِلْأَذَى إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَا تَنْتَصِرُ لِنَفْسِهَا وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ كَظْمًا لِلْغَيْظِ وَعَفْوًا عَنْ النَّاسِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا انْزَعَجَ لِذَلِكَ وَغَضِبَ لَا يُدْخِلُونَهُ الرِّبَاطَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ عَلَى أَذِيَّتِهِمْ لِأَجْلِ مَا يَرْجُو مِنْ حَاجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ ضِدَّهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَالْحَالَةِ هَذِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ الْخَادِمُ فَيَأْخُذُ السَّجَّادَةَ عَنْ كَتِفِهِ ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخِرِ وَيَدْخُل الْخَادِمُ وَالْوَارِدُ يَتْبَعُهُ حَتَّى إذَا حَصَلَ فِي وَسَطِ الرِّبَاطِ وَقَفَ الْوَارِدُ يَنْظُرُ أَيْنَ يَفْرِشُ الْخَادِمُ السَّجَّادَةَ فَيَعْرِفُ مَوْضِعَهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي السَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا هُوَ التَّأْنِيسُ بِالْبَشَاشَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ وَالتَّوَدُّدِ نَقِيضُ مَا عَامَلُوهُ بِهِ وَأَمَّا كَسْرُ الْإِبْرِيقِ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ شَتْمُهُ فَوَضَعُوا الشَّتْمَ وَخَرْقَ الْحُرْمَةِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ مَوْضِعَ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالضِّيَافَةِ ، ثُمَّ سَرَى هَذَا الْأَمْرُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ قُلُوبُ النَّاسِ بِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ لِحُسْنِ ظَنِّهِمْ بِهِمْ وَلِكَوْنِهِمْ مَنْسُوبِينَ إلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ فِي

الدُّنْيَا وَتَرْكِهَا ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ لَا يُخَالِفُونَ وَلَا يَبْتَدِعُونَ فَإِذَا صَدْرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا اقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي فِعْلِهِ فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقْعُدُ الرَّجُلُ وَأَوْلَادُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَشْتُمُ صَاحِبَهُ وَيَشْتُمُونَ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ وَيَلْعَنُونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَالْوَالِدَانِ يَنْظُرَانِ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { : الْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا } وَمِنْ كِتَابِ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ } .

وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ، ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لَعَنَ إنْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا } وَمِنْهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ } .

وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ } وَمِنْ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ

: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ } وَهُمْ الْيَوْم قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ فِي ذَلِكَ يَشْتُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُون أَجْنَبِيٍّ بَيْنَهُمْ يَكْفِهِمْ قَدْ كَفَوْا الْأَجْنَبِيَّ أَمْرَهُمْ وَلَا يَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ .

وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْقُبْحِ الْمُجْمَعِ عَلَى مَنْعِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْخَرُ مِنْهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا بَسْطٌ لَا حَقِيقَةٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ السَّرَيَانُ مِنْ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ إكْرَامُ الضَّيْفِ بِتَيْسِيرِ مَا حَضَرَ ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَكْسُ هَذَا الْأَمْرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ .

ثُمَّ إنَّ الْخَادِمَ إذَا فَرَشَ السَّجَّادَةَ يَجْعَلُ فَتْحَهَا إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ فَيُجْلِسُهُ لِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فِي فَرْشِهَا لَهُ إذْ ذَاكَ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي جِهَةِ الْيَسَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَتْحُهَا لِتِلْكَ الْجِهَةِ تَفَاؤُلًا بِالْفَتْحِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ التَّفَاؤُلَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمَا ذَكَرُوهُ كُلَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّجَّادَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَفَاصِيلُهَا فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَطْوِي طَرْفَهَا مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ فَإِذَا عَلِمَ الْوَارِدُ مَوْضِعَ السَّجَّادَةِ ذَهَبَ إلَى مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ ، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَأْخُذُ الْإِبْرِيقَ فَيَدْخُلُ بِهِ إلَى الْخَلَاءِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعِ

الْوُضُوءِ ، وَالْإِبْرِيقُ بِيَدِهِ فَيَضَعُهُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ وَيَجْعَلُ بُزْبُوزَهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَيَمْلَؤُهُ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَضَعُونَ الْإِبْرِيقَ فِيهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَهَذِهِ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُكَلَّفُونَ ، وَالْإِبْرِيقُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابٌ وَلَا أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَالْتِزَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَا تَرَكْتُهُ لَكُمْ فَهُوَ عَفْوٌ } ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا حَرَجَ فِي وَضْعِ الْإِبْرِيقِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَكَذَلِكَ فِي بَسْطِ السَّجَّادَةِ وَغَيْرِهَا فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ امْتَثَلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَمَا لَمْ يَرِدُ فِيهِ شَيْءٌ فَقَدْ وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَا نُضَيِّقُ عَلَى أَنْفُسِنَا بِاصْطِلَاحِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ مَشَى بِتُؤَدَةٍ إلَى مَوْضِعِ السَّجَّادَةِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ لَا بِسَلَامٍ وَلَا غَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ إلَى السَّجَّادَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى طَيَّةِ السَّجَّادَةِ ، ثُمَّ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَوَضَعَهَا إلَى جَانِبِهَا عَلَى الطَّرَفِ الْمَطْوِيِّ كَمَا هُوَ ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي وَسَطِ السَّجَّادَةِ ، ثُمَّ الرِّجْلَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ يُزِيلُ تِلْكَ الطَّيَّةَ بِيَدِهِ أَوْ بِقَدَمِهِ وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الطَّيَّةَ قُفْلَ السَّجَّادَةِ حَتَّى لَا يَفْتَحَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَتَعَيَّنَ إطْرَاحُهَا وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ بِهَذَا الْوُضُوءِ فِيهَا مَا فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوُضُوءَ إنْ كَانَ لِأَجْلِ دُخُولِ الرِّبَاطِ لَيْسَ إلَّا فَلَا شَكَّ

أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ تَوَضَّأَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، أَوْ دُخُولِ السُّوقِ فَلَا يُؤَدِّي بِهِ عِبَادَةً يُشْتَرَطُ الْوُضُوءُ فِيهَا ، وَإِنْ تَوَضَّأَ لِدُخُولِ الرِّبَاطِ وَلِلْحَدَثِ فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إذَا أَشْرَكَ فِي النِّيَّةِ هَلْ يَجْزِيهِ أَمْ لَا ؟ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ يَدْخُلُ الرِّبَاطَ إلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ خَرَجَ الْوُضُوءُ بِهَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَلْ الشَّائِبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ ، وَالْمُرِيدُ لَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ ذَلِكَ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَيَتُوبَ مِنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْ الذِّكْرِ أَتَى إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الرِّبَاطِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَبَسَطُوا لَهُ الْأُنْسَ وَيَقُومُ هُوَ إلَيْهِمْ وَيُعَانِقُهُمْ وَهَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ سَلَامِهِمْ عَلَيْهِ وَبَسْطِهِمْ لَهُ هُوَ السُّنَّةُ عِنْد اللِّقَاءِ فَأَخْرَجُوهُ عَنْ مَوْضِعِهِ الْمَشْرُوعِ إلَى مَوْضِعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِيهِ .

وَأَمَّا قِيَامُهُ لَهُمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْحَاضِرِ لِلْغَائِبِ حِينَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ .

وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فَفِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرَاهَتُهَا ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُكَلِّمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ الَّذِي لَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ مِنْ التَّنْمِيقِ وَالتَّزْكِيَةِ وَتَرْفِيعِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِأَشْيَاءَ الْغَالِبُ عَدَمُ بَعْضِهَا إلَّا مَنْ وَفَّقَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .

وَاحْتَجُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَاسْتِحْسَانِهَا وَأَمْرِ الْفُقَرَاءِ بِهَا بِأَنَّ مَشَايِخَهُمْ قَدْ قَرَّرُوا لَهُمْ

ذَلِكَ لِيَكُونَ تَحَفُّظُهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً وَدَلَالَةً عَلَى تَحَفُّظِهِمْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا فَتَكُونُ آدَابُ الظَّاهِرِ دَلَالَةً عَلَى حُصُولِ آدَابِ الْبَاطِنِ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِمَشَايِخِهِمْ ، وَقَدْ أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِ ، بَلْ هُمْ فِي عَبَاءَةٍ وَخَيْرٍ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ ذَرِيعَةً إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ بِالْآرَاءِ وَغَيْرِهَا فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ شَيْءٌ ، أَوْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا جَعَلَهُ أَصْلًا مَعْمُولًا بِهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا الدِّينُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ حَفِظَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ .

وَلَا حَاجَةَ فِي كَوْنِ الْفُقَرَاءِ يُحْسِنُونَ ظَنَّهُمْ بِمَشَايِخِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِهِمْ لَهُ مَجَالٌ مُتَّسِعٌ مَا دَامُوا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَحِينَئِذٍ يُرْجَعُ إلَيْهِمْ وَيُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِمْ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَأَرْجَى وَأَنْجَحُ بَلْ أَوْجَبُ مَعَ سَلَامَةِ الصَّدْرِ لِمَنْ قَالَ مَا قَالَ إذْ إنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا ، وَلَكِنَّ الْمُرِيدَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِيزَانُ الشَّرْعِ فِي يَدِهِ فَإِنَّ مَنْ وَفَّى وَاعْتَدَلَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ ، وَمَنْ نَقَصَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ ؛ إذْ إنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي الْغَلَطِ .

وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْوُرُودِ عَلَى الْحَوْضِ { : فَيُقَالُ إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ : فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا } أَيْ فَبُعْدًا فَبُعْدًا فَبُعْدًا .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الْعَبَدُ بِسَبَبِ التَّبْدِيلِ ، وَلَفْظُ التَّبْدِيلِ يَقَع عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ

هَذَا الِاحْتِمَالِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمَا الْأَصْلُ عِنْدَهُ فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى غَيْرِهِمَا ، وَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ .

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمُرِيدَ يُعْرَفُ حِينَ دُخُولِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُرِيدَ مُحَافِظٌ عَلَى السُّنَّةِ إذَا اسْتَأْذَنَ وَوَقَفَ بِالْبَابِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَأَخَّرَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ سَلَّمَ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ عُلِمَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِامْتِثَالِهِ هَذِهِ السُّنَنِ الثَّلَاثِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ مُرِيدٌ لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا لِلْأَكْلِ فَتَنَاوَلَ الْمُرِيدُ لُقْمَةً بِالْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ الْمَزُورُ مَنْ شَيْخُكَ يَا بُنَيَّ ؟ فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي النَّاحِيَةُ الْيُمْنَى تُوجِعُنِي ، فَقَالَ لَهُ : كُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَمَّنْ رَبَّاكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ بِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ خَالَفَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَرَضَ لَهُ بِقَوْلِهِ مَنْ شَيْخُكَ لِيُنَبِّهَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ فَكَانَ فِي الْمُرِيدِ مِنْ الْيَقِظَةِ وَالْحُضُورِ مَا فَهِمَ بِهِ مُرَادَهُ فَأَجَابَهُ فَهَكَذَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ بِمَنِّهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي لِبَاسِ الْعَالِمِ وَتَصَرُّفِهِ مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَتِهِ لَكِنَّ الْمُرِيدَ يَكُونُ أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِانْقِطَاعِهِ إلَى اللَّهِ وَتَبَتُّلِهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي تِلْكَ الثِّيَابِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّرَفِ فَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُهَا أَعْنِي مِنْ الْوُسْعِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ الْمُرِيدِ قَصِيرًا فِي الْغَالِبِ لَكِنَّهُ احْتَوَى عَلَى شَيْئَيْنِ قَبِيحَيْنِ : مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَوُجُودِ السَّرَفِ فِيهِ أَعْنِي فِي الْوُسْعِ الْخَارِقِ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ

( فَصْلٌ ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الصُّوفِيَّةَ نَظِيفَةٌ وَأَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُ النَّظِيفَ لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ التَّدْلِيسُ وَالتَّخْلِيطُ وَظَهَرَ .

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طَرِيقَةٍ ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ فَضَحَتْهُ فِيهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَإِنَّهُ لَا يُفْتَضَحُ فِيهَا غَالِبًا ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : وَأَحَدُهُمَا : أَنَّ طَرِيقَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالسَّتْرِ وَالْعَفْوِ وَالتَّصَفُّحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْعُيُونِ ، وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ سَتَرُوا عَلَيْهِ وَجَرُّوا عَلَيْهِ أَذْيَالَ الْفُتُوَّةِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَغَيَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَا يَقَعُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ : حَسَدْتَنِي وَيَقُومُ فِي حَمِيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَتَتَدَاعَى الْفِتَنُ وَتَكْثُرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَكَتَ مَنْ سَكَتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالِاتِّبَاعِ فَظَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِحَالِهِمْ السَّيِّئِ أَنَّ سُكُوتَهُمْ رِضَاءٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَوْهُ ، أَوْ سَمِعُوهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إذَا وَجَدُوا مَنْ يُقْبَلُ الْحَقُّ مِنْهُمْ أَلْقَوْا إلَيْهِ مَا يُخْلِصُونَ بِهِ مُهْجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ وَسَارُوا بِهِ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَا لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ ، بَلْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَرَحًا مِنْهُمْ بِهِدَايَةِ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى مَنْ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ } فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ السَّبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بَادَرَ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّهُ تَغَافَلَ وَتَنَاسَى لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ بِمَكِيدَتِهِ وَشَيْطَنَتِهِ يَتْبَعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَ كُلِّ سُنَّةٍ ضِدَّهَا .

أَلَا

تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ وَجَدَ الْمُرِيدَ أَكْثَرَ لِبَاسِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الْقِصَرِ وَغَيْرِهِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ دَسِيسَةً قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا ، وَهِيَ وُسْعِ الثَّوْبِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَادَةِ وَفِيهِ شَيْئَانِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُمَا إضَاعَةُ الْمَالِ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهِمَا وَقَنَعَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَدَسَّ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَبَدَّلَ مَا هُوَ أَكْبَرَ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْعَرَبِ فِي طُولِ ثِيَابِهِمْ حَتَّى صَارَتْ إذَا مَشَوْا تَنْجَرُّ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مُتَأَكِّدٌ فِعْلُهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَبَدَّلَ لِلنِّسَاءِ ضِدَّ ذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَزَادَ فِي ثِيَابِ بَعْضِ مَنْ نُسِبَ إلَى الْعِلْمِ قَرِيبًا مِمَّا سَبَقَ فِي ثِيَابِ الْعَرَبِ .

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَتْبَاعِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي ضِدِّهِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَسْتَيْقِظُ لِمَا أَلْقَاهُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الدَّسَائِسِ ، بَلْ تَلَقَّوْهَا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مِنْ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ تَعْلِيلَ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ وَتَحْسِينَهُ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى الْقَبُولِ مِنْهُ ، وَالْحِرْصِ عَلَى فِعْلِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَصَلَ مِنْ الْغَفَلَاتِ عَمَّنْ لَا يَغْفُلُ عَنَّا وَلَا يَنْسَانَا وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ وَهَذَا بَابٌ مُتَّسِعٌ مُتَشَعِّبٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ مَفَاسِدُهُ ، أَوْ يَتَعَيَّنَ مَا يَقَعُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ لَكِنْ نُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الدِّينَ وَالصَّلَاحَ ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوُصُولِ وَيَأْتِي بِحِكَايَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيُطَرِّزُ بِهَا كَلَامَهُ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ ، وَأَنَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا .

وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ حَاصِلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصْنِيفِ الْحِكَايَاتِ وَالْمَرَائِي الَّتِي يَخْتَلِقُهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ سِيَّمَا ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَجَرُّئِهِ وَدَعْوَاهُ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَهُ وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ فِي الْيَقَظَةِ وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ عَزِيزٍ وُجُودُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، بَلْ عَدِمَتْ غَالِبًا مَعَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ مَنْ يَقَعُ لَهُ هَذَا مِنْ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ حَفِظَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ الْعَيْنُ الْفَانِيَةُ لَا تَرَى الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ وَالرَّائِي فِي دَارِ الْفَنَاءِ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْإِشْكَالَ ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُوقِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ { :

أَوْلِيَائِي لَمْ أَزْوِ عَنْكُمْ الدُّنْيَا لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ زَوَيْتُهَا عَنْكُمْ لِتَسْتَوْفُوا الْيَوْمَ نَصِيبَكُمْ عِنْدِي اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِي ، أَوْ زَارَكُمْ مِنْ أَجْلِي ، أَوْ أَطْعَمَكُمْ لُقْمَةً مِنْ أَجْلِي فَخُذُوا بِيَدِهِ وَأَدْخِلُوهُ الْجَنَّةَ فَيَأْتُونَ إلَى الْمَحْشَرِ وَهُمْ يَجُرُّونَ أَذْيَالَ الْفَخْرِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ : يَا رَبَّنَا مَا بَالُ هَؤُلَاءِ دُونَنَا ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْتُمْ مُتُّمْ فِي الدُّنْيَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَؤُلَاءِ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَمُوتُ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً } أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ : مَنْ مَاتَ رَأَى الْحَقَّ وَمَنْ لَمْ يَمُتْ لَمْ يَرَ الْحَقَّ فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ إذَا مَاتَ مَوْتَةً وَاحِدَةً رَأَى الْحَقَّ فَمَا بَالُكَ بِسَبْعِينَ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فَذَهَبَ الْإِشْكَالُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَظَهَرَ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ الْمُؤَمَّلُ فِي الثَّوَابِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِالْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ ، وَهُوَ عَرِيٌّ عَنْهَا بِالِاتِّصَافِ بِضِدِّهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ الْمَشَايِخِ وَلَقْيَهُمْ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا رَآهُمْ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ ، وَهُوَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا هُوَ عَلَى طَرِيقِهِمْ ، بَلْ رَأَى بَعْضَ مَنْ صَحِبَ الشُّيُوخَ وَحَكَى عَنْهُمْ فَحَكَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ الْخَضِرِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا : إنَّ الْخَضِرَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيَقِفُ عَلَى بَابِهِ أَوْ دُكَّانِهِ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ ، وَهُوَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ، وَذَلِكَ كُلُّهُ تَقَوُّلٌ وَافْتِعَالٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْكَرُ إذَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِهِ فِي

مَحِلِّهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِي شَيْئًا مِمَّا يَخْطِرُ لَهُ قَدَّمَ قَبْلَهُ الِاسْتِشْهَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَقُولُ : قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } ، ثُمَّ يَحْلِفُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وَرَأَى ، وَأَنَّهُ خُوطِبَ فِي سِرِّهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ الْحَقِّ ، وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ إذَا مَوَّهَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّمْوِيهِ انْقَادُوا لَهُ وَقَالُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَنَزَّلُوهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ الرَّدِيئَةُ لَا تَنْحَصِرُ ، وَفِيمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ كِفَايَةٌ وَمُقْنَعٌ .

هَذَا حَالُ الْمُسْتَتِرِينَ مِنْهُمْ .

وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ خَرَقُوا السِّيَاجَ وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ ، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُهُمْ ، أَوْ يَمِيلُ إلَيْهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِثْلُ مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكَ الْمُبَالَاةِ بِهَا حَتَّى إنَّهُ لَيَجْلِسَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عَلَى زَعْمِهِ وَلَا يَحْتَرِقُ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ بِدْعَةً وَمُنْكَرًا إذْ إنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعْجِزَةِ إظْهَارُهَا وَالتَّحَدِّي بِهَا وَمِنْ شَرْطِ الْكَرَامَةِ عَكْسُ ذَلِكَ فَإِذَا أَظْهَرَهَا لِلنَّاسِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ بَابِ الْكَرَامَةِ .

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَقَعَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ دَاعِيَةٌ إلَى إظْهَارِهَا .

مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي مَرْكَبٍ مَوْسُوقَةٍ قَمْحًا فَهَاجَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْقَمْحُ لِبَعْضِ الظَّلَمَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ فِي وَقْتِهِ فَسَمِعَ النَّوَاتِيَّةَ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا الْقَمْحَ مَكِيلٌ عَلَيْنَا فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ أَخَذَنَا

الظَّالِمُ بِهِ فَالرَّأْيُ أَنْ نَرْمِيَ الرُّكَّابَ فِي الْبَحْرِ وَيَبْقَى الْقَمْحُ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَهُمْ قَالَ لَهُمْ ارْمُوا الْقَمْحَ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّا الضَّامِنُ لَهُ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَرَمَوْا الْقَمْحَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَلِيلُ فَسَكَنَ الْبَحْرُ فَلَمَّا أَنْ وَصَلُوا إلَى الْبَلَدِ طَالَبُوهُ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْكَيَّالِينَ فَجَاءُوا بِهِمْ فَقَالَ : اكْتَالُوا مَا بَقِيَ مِنْ الْقَمْحِ فَاكْتَالُوهُ فَوَفَّى مَا عَلَيْهِمْ أَعْنِي مَا كَانَ عَلَى النَّوَاتِيَّةِ مَسْطُورًا ، ثُمَّ رَدَّ رَأْسَهُ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَهُمْ : وَاَللَّهِ مَا عَمِلْتُهَا إلَّا حَقْنًا لِدِمَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ .

فَمَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ لِلضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ أَنَّ لِدُخُولِ النَّارِ أَدْوِيَةً تُسْتَعْمَلُ حَتَّى لَا تَعْدُوَ عَلَى مَنْ دَخَلَهَا مِمَّنْ اسْتَعْمَلَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةَ لَكِنْ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَدَخَلَا مَعًا لَاحْتَرَقَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ وَالزَّعْبَلَةِ وَخَرَجَ الْمُحِقُّ سَالِمًا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حِكَايَاتٍ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا .

مِنْهَا الْحِكَايَةُ الْمُسْنَدَةُ فِي مِصْبَاحِ الظَّلَامِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَا جَرَى لِلسُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ فِي دُخُولِهِمَا النَّارَ فَخَرَجَ السُّنِّيُّ وَلَمْ يَحْتَرِقْ وَبَقِيَ الْبِدْعِيُّ حُمَمَةً ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ يُدْخِلُ أَصْحَابَهُ النَّارَ وَلَا يَحْتَرِقُونَ فَقَالَ لِي سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ مِنْ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَنْ يَطْرُدَنِي لَأَخَذْتُ الشَّيْخَ نَفْسَهُ وَدَخَلْتُ وَأَنَا وَإِيَّاهُ النَّارَ حَتَّى نَنْظُرَ مَنْ يَحْتَرِقُ فِينَا .

وَقَدْ كَانَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ رَجُلٌ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ وَخَرْقَ الْعَادَةِ وَكَانَ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَضْيَافُ يَعْمَلُ لَهُمْ فَطِيرًا وَيَفِتُّهُ فِي قَصْعَةٍ وَيُؤْتَى بِهَا إلَيْهِ فَيَنْصِبُ

يَدَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَسَلُ نَحْلٍ فَيَلِتُّ بِهِ وَيُطْعِمُهُ مَنْ هُنَاكَ حَتَّى يَكْفِيَهُمْ ، ثُمَّ يُرْسِلُ يَدَهُ فَيَنْقَطِعُ فَسَمِعَ بِهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ فِي وَقْتِهِ فَجَاءَ إلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُ : نُرِيدُ أَنْ تُطْعِمَنَا مِنْ الْبَسِيسَةِ الَّتِي تُطْعِمُ النَّاسَ مِنْهَا فَقَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِالْفَطِيرِ عَلَى الْعَادَةِ فَأُحْضِرَ فَمَدَّ يَدَهُ لِيَسِيلَ الْعَسَلُ عَلَى الْعَادَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ فَقَالَ لَهُ : وَأَيْنَ مَا تَدَّعِيهِ ؟ فَقَالَ : انْقَطَعَ الْآنَ فَقَالَ لَوْ كَانَ حَقًّا مَا انْقَطَعَ ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ إذَا حَضَرَهُ الْحَقُّ زَهَقَ ، ثُمَّ عَزَّرَهُ وَوَبَّخَهُ بِالْكَلَامِ وَقَالَ لَهُ : كُنْتَ تُطْعِمُ الْمُسْلِمِينَ أَبْوَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ وَتَوَّبَهُ عَنْهُ .

وَمِنْهُمْ مِنْ يُظْهِرُ الْكَرَامَةَ بِإِمْسَاكِ الثَّعَابِينِ وَالْأُنْسِ بِهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إذْ إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِمَعِيشَتِهِمْ فَكَيْفَ يُعَدُّ كَرَامَةً ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ أَكْلِهِمْ الثَّعَابِينَ بِالْحَيَاةِ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ أَكْلَهَا لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدِ تَذْكِيَتِهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَكْلَهَا وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ بَلْ يُؤَدَّبُونَ كُلَّ أَكْلَةٍ مِنْ أَكَلَاتِهِمْ تَأْدِيبًا بَلِيغًا رَادِعًا ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ فَهُوَ مِنْ صَنْعَةِ النَّارِ نَجِيَّاتِ وَالسِّيمِيَاءِ وَمَا شَاكَلَهَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ فِي شَيْءٍ .

وَكُنْتُ أَعْهَدُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ تُفْعَلُ عَلَى أَبْوَابِهَا وَيَتَضَاحَكُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي لَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ وَيَسْتَغْنُونَ بِسَبَبِهَا وَهُمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ يَعُدُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ ويَعْتَقِدُونَهُمْ بِسَبَبِهَا وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ اسْتَنَّتْ سَنَةً سَيِّئَةً

وَهُمْ الَّذِينَ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ ، وَذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَارْتِكَابٌ لِلْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .

وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ مِثْلُ التَّدَاوِي وَغَيْرِهِ فَجَائِزٌ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ عَكْسَ ذَلِكَ فَلَا يَأْخُذُونَ شَيْئًا مِنْ شُعُورِ أَبْدَانِهِمْ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَنِيعٌ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الرُّهْبَانِ وَفِيهِ الْمُثْلَةُ وَالِاسْتِقْذَارُ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .

وَمِنْهُمْ مِنْ يَلْبَسُ اللِّيفَ ، وَالْأَشْيَاءَ الَّتِي لَا تَسْتُرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِثْلَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُثْلَةِ وَالشُّهْرَةِ ، وَالْبِدْعَةِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَأَشْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَأَقْبَحُ مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ لُبْسِ الْحَدِيدِ فَيَتَّخِذُ سِوَارَيْنِ فِي يَدَيْهِ كَمَا تَتَّخِذُهُمَا الْمَرْأَةُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ .

وَبَعْضُهُمْ يَحْمِلُ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا مِنْ حَدِيدٍ كَالْغُلِّ ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ وَيُعَلِّقُونَ فِي آذَانِهِمْ حِلَقًا مِنْ حَدِيدٍ .

وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عَلَى ذَكَرِهِ طَوْقًا مِنْ حَدِيدِ الْقُفْلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُيُوخَهُمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ يَفْعَلُونَهُ بِهِمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يُلْبِسُوهُ لِمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ وَيَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي حَتَّى لَا تُرْتَكَبَ وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَشَنَاعَتِهِ وَقُبْحِهِ ، وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

ثُمَّ مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي يَأْتُونَ بِنَقِيضِ مَا زَعَمُوا ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِمْ شُبَّانًا لَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ وَهُمْ مُقِيمُونَ مَعَهُمْ مَسَاءً وَصَبَاحًا وَيَخْلُو بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ دُونَ نَكِيرٍ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ .

وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ حَدِيدًا كَالْعَمُودِ

يَمْشِي بِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْحَدِيدَ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ ، وَقَدْ وَرَدَ { : مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } فَيَقَعُونَ فِي هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ ، وَالْجَهْلُ بِالْجَهْلِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .

وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ، وَأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ الْمُثْلَى وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَعَابُوا عَلَى فَاعِلِهَا ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي أَشْيَاءَ رَذِلَةٍ نَهَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَنْهَا ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْوِلَايَةِ .

فَمِنْ ذَلِكَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا يَزْعُمُ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالْوَلِيُّ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَوْ قَدَرَ أَنْ يَدْفِنَ نَفْسَهُ ، أَوْ يَكُونَ أَرْضًا يُمْشَى عَلَيْهِ لَفَعَلَ حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَ النَّاسِ بِالسَّوَاءِ فَكَيْفَ يَنْشُرُ الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الشُّهْرَةِ وَالدَّعْوَى وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ وَيُذَكِّرَهُمْ فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ الظُّهُورَ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ فِي شَيْءٍ ، بَلْ هُوَ عَكْسُ حَالِهِمْ .

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ فَكَيْفَ بِانْجِرَارِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ الْإِعْلَامِ إذْ إنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ رِجَالًا وَشُبَّانًا فَإِذَا أَشْرَفُوا عَلَى بَلَدٍ ذَكَرُوا اللَّهَ - تَعَالَى - جَهْرًا يَرْفَعُونَ بِذَلِكَ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يَقْصِدُونَ بِهِ الذِّكْرَ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ الْإِعْلَامَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ ، وَمَنْ قَارَبَهَا بِوُرُودِ الشَّيْخِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى

يَخْرُجُوا إلَى تَلَقِّيهِمْ فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَهُمْ خَرَجُوا إلَيْهِمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَاخْتَلَطُوا بِهِمْ فَصَارُوا مُجْتَمِعِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَتَكُونُ إذَا خَرَجَتْ خَرَجَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مِنْ السِّتْرِ ، وَالْمَشْيِ مَعَ الْجُدْرَانِ لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهُنَّ إذَا خَرَجْنَ لِلِقَائِهِمْ خَرَجْنَ مُنْكَشِفَاتٍ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ تَسَتَّرَ بَعْضُهُنَّ فَبَعْضُ تَسَتُّرٍ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالزَّغَالِيطِ وَيُسْمَعُ لَهُنَّ إذْ ذَاكَ ضَجِيجٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَرْأًى مِنْ الشَّيْخِ وَعِلْمِهِ بِهِمْ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَبْعَدَهُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ .

وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ ، وَهُوَ وَقُودُ الشَّمْعِ نَهَارًا حِين يَلْتَقُونَهُ وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ، التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إلَّا بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ فِي نَوَاهِيهِ ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الْبُعْدِ وَالْقِلَا ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَنِّهِ .

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالْجَمْعِ الَّذِي مَعَهُ وَمَفَاسِدِهِ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَضُرُّ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَكَلُّفِهِ لَهُمْ أَشْيَاءَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ تَلِيقُ بِهِمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعِيبُ عَلَى مَنْ أَتَى بِطَعَامٍ لَا يَخْتَارُونَهُ وَلَيْتَ هَذِهِ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَكِنَّهُمْ يُقَسِّطُونَ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي تِلْكَ الضِّيَافَةِ عَلَى الرُّءُوسِ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمُضْطَرٍّ

وَمُحْتَاجٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَدَايَنُونَ بِسَبَبِهَا وَبَعْضُهُمْ يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ يُعْطِيهِ وَعَمَّنْ يُدَايِنُهُ فَيَهْرُبُ قَبْلَ وُصُولِ الشَّيْخِ إلَى الْبَلَدِ فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى بَيْتِهِ ، وَهُوَ غَائِبٌ فَيَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ دَجَاجٍ أَوْ دَاجِنٍ ، وَبَعْضُ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْهُرُوبِ يُمْتَحَن مَعَ كُبَرَاءِ أَهْلِ الْبَلَدِ بِمَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لَهُ بِهِ وَتَفَاصِيلُ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَطُولُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّكَلُّفِ لَهُمْ إلَّا عَلَفُ دَوَابِّهِمْ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا فِيهِ } .

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَضَافُوا إلَيْهِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْهَدَايَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِالْفُتُوحِ لِلشَّيْخِ وَلِأَصْحَابِهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ سِيَّمَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ فَهَذِهِ الْوَظَائِفُ أَعْنِي الضِّيَافَةَ ، وَالْعَلَفَ ، وَالْفُتُوحَ لِلشَّيْخِ وَجَمَاعَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا حَتْمًا ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَخْذِ لِلشَّيْخِ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْخُذُوا لِخَادِمِ السَّجَّادَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّجَّادَةَ فِي نَفْسِهَا بِدْعَةٌ فَكَيْفَ يُتَّخَذُ لَهَا خَادِمٌ ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ لِخَادِمِ الْإِبْرِيقِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ السِّمَاطِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ الْعُكَّازِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ الدَّابَّةِ أَوْ الْفَرَسِ ثُمَّ الْمُزَمِّرُونَ الَّذِينَ مَعَهُ .

ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَرْقُصُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا .

ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَتَّى آخَى بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا اسْتِخْفَاءٍ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ حَتَّى يَقْعُدَ بَعْضُ النِّسَاءِ يُلْبِسْنَ بَعْضَ الرِّجَالِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الشَّيْخِ ، وَقَدْ آخَتْهُ فَلَا تُحْتَجَبُ عَنْهُ ؛ إذْ إنَّهَا

صَارَتْ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَكُتُبُ الْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ ، بَلْ افْتِعَالٌ مِنْهُمْ وَتَقَوُّلٌ بَاطِلٌ فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مِنْهُمْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الدِّينِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ مِنْهُمْ فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَالضَّلَالِ .

فَإِذَا عُلِمَ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ فَأَيُّ فَرْقٍ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالْأَذِيَّةِ ، بَلْ قَدْ يُوجَدُ بَعْضُ الْوُلَاةِ يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَيُنَزِّهُ مَنْصِبَهُ عَنْهَا فَلَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ إقْطَاعِهِ مَعَ أَنَّ الْوَالِيَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفُقَرَاءِ الْمُتَّبِعِينَ فَصَارَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَمْرِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْفُقَرَاءِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْوَالِي فِي هَذَا الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا شَيْئًا قَبِيحًا ، وَهُوَ اسْتِهْتَارٌ فِي الدِّينِ وَزَنْدَقَةٌ فَيَقُولُونَ : الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَنَحْنُ عَبِيدُ اللَّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ لِأَنَّا شُرَكَاؤُهُ فِيهِ وَهَذَا مِنْهُمْ حِلٌّ وَنَقْضٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ .

قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } فَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَصُونَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا فَلَا تَزَالُ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ .

ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ مِنْهُمْ ، وَالْهِدَايَةَ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ كَيْفَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ بِالْمَشْيَخَةِ ؟ وَلَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ ، أَوْ سُنَنِهِ ، أَوْ فَضَائِلِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ ، أَوْ فِي

التَّيَمُّمِ ، أَوْ فِي الصَّلَاةِ لَجَهِلَ ذَلِكَ غَالِبًا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا صَلَّى الْمُكَلَّفُ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْمَسْنُونِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ لَمَا عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ حُكْمِ السَّهْوِ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ لَمَا عَلِمَهُ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ دِينِهِ وَصَلَاحِهِ فَمَا بَالُكَ بِهِ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَبَعِيدٌ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الشَّيْخِ فِي جَهْلِهِ بِمَبَادِئ أَمْرِ دِينِهِ فَكَيْف بِمَنْ يَصْحَبُهُ أَمْ كَيْفَ بِمَنْ يُجِيزُهُ ؟ إذْ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الْعُلَمَاءَ إذْ لَوْ بَاشَرَهُمْ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ فَكَيْفَ يَصْحَبُهُمْ أَوْ يَتْبَعُهُمْ ؟ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ ، وَالْحَالَةَ هَذِهِ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ وَمَعَ كَوْنِهَا لَا أَصْلَ لَهَا فَالْإِجَازَةُ الَّتِي يُعْطُونَهَا شَبِيهَةٌ بِالظُّلْمِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا فِي الْغَالِبِ لِمَنْ سَأَلَهَا حَتَّى يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءً جَزِيلًا بِحَسَبِ حَالِهِمَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِشُكْرَانِ الدُّخُولِ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ فَيُعْطِي الشَّيْخُ مَا يَلِيقُ بِهِ وَلِخُدَّامِ الشَّيْخِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ مَا يَلِيقُ بِدَرَجَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ أَصْحَابُ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ وَلَا بُدَّ مِنْ لَيْلَةٍ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُ لِلسَّمَاعِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَيَخْتَلِطُونَ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَتْبِ الْإِجَازَاتِ لِمَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ وَلِمَنْ لَهُ ثُبُوتٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْكُهُولِ ، بَلْ يُعْطُونَهَا لِلشُّبَّانِ الْمُرْدَانِ وَلَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ فَيَتَسَلَّطُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى الْكَشْفِ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ

الْأَحْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ الْإِجَازَاتِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ .

هَذَا حَالُهُمْ مَعَ مَنْ سَأَلَ الْإِجَازَةَ مِنْهُمْ .

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْأَلْهَا فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجَاهَةٌ ، أَوْ جِدَةٌ ، أَوْ أَحَدُهُمَا وَيَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَارِيًّا عَنْ الْوَجَاهَةِ وَالْجِدَةِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُتَشَوِّفٌ لِلْإِجَازَةِ كَالْأَوَّلِ .

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ الْحِيَلَ فِي رَبْطِهِ عَلَيْهِمْ وَسُكُونِهِ إلَى قَوْلِهِمْ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ فَإِذَا ظَفَرُوا مِنْهُ بِذَلِكَ كَلَّفُوهُ التَّكَالِيفَ الَّتِي تَضُرُّ بِحَالِهِ وَحَالِ عِيَالِهِ غَالِبًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ إلَّا أَنَّ الظَّلَمَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ وَهَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ بِالْحِيَلِ ، وَالْخَدِيعَةِ .

وَأَمَّا إنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَجَاهَةَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخْدِمُونَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ تَكَلُّفِ النَّاسِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ ، وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَلَى الْغَنِيِّ مِنْهُمْ وَالْفَقِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ كَالْأَوَّلِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَمَسُّ أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ ؛ إذْ إنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ الْمُنَاصَحَةَ بَيْنَهُمْ وَالشُّفْعَةَ وَرَحْمَةَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

( فَصْلٌ ) : ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ ادِّعَائِهِمْ الْمَشْيَخَةَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبَادِئَ أَمْرِ دِينِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ بِالِانْتِمَاءِ إلَى الْمَشْيَخَةِ .

وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ : إنَّ الْفَقِيرَ لَا يَكُونُ فَقِيرًا يَكُونُ قَلْبُهُ كَأَنَّهُ فِي كَفِّهِ يَعْنِي مِنْ قُوَّةِ مُعَايَنَتِهِ لَهُ ، وَنَظَرُهُ لَا يَكُونُ فَيَعْرِفُ الزِّيَادَةَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بَدِيهَةً .

هَذَا حَالُ الْفَقِيرِ الْمُنْفَرِدِ بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَصِلَ إلَى اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِهِ .

وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ قُلُوبُ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهَا فِي كَفِّهِ وَكَذَلِكَ أَحْوَالُهُمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَيَعْلَمُ مَا يَزِيدُ فِيهَا وَمَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَيُرَبِّيهِمْ عَلَى مَا يَتَحَقَّقُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْ جُلَسَائِهِ ، بَلْ الشَّخْصُ نَفْسُهُ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَلَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا أُمُورٌ وَتَصَرُّفٌ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ عَاجِزًا عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا زَادَ فِي حَالِ أَصْحَابِهِ وَمَا نَقَصَ فِي غَيْبَتِهِ فَلَا يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ وَلَا الْهِدَايَةَ ، بَلْ إخْوَانٌ مُجْتَمِعُونَ يَتَذَاكَرُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ وَبَرَكَةَ اجْتِمَاعِهِمْ تَعُودُ عَلَيْهِمْ دُون أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَالًا ، أَوْ مَقَالًا هَذَا حَالُ الْقَوْمِ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ مِنْهُمْ وَالصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ وَالرُّكُونِ إلَى مَوْلَاهُمْ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا وَالْتِزَامِ الْوُقُوفِ بِبَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَعَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا وَلَا مَقَالًا ، بَلْ يَقُولُ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْآنَ مَا أَحْسَنَ أَنْ أَتُوبَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ يَظُنُّونَ بِي خَيْرًا وَمَا بِي مِنْ خَيْرٍ وَلَكِنَّنِي عَمْدٌ ظَلُومٌ كَمَا

تَدْرِي سَتَرْتَ عُيُوبِي كُلَّهَا عَنْ عُيُونِهِمْ وَأَلْبَسْتَنِي ثَوْبًا جَمِيلًا مِنْ السَّتْرِ فَصَارُوا يُحِبُّونِي وَلَسْتُ أَنَا الَّذِي أَحَبُّوا وَلَكِنْ شَبَّهُونِي بِالْغَيْرِ فَلَا تَفْضَحْنِي فِي الْقِيَامَةِ بَيْنَهُمْ وَلَا تُخْزِنِي يَا رَبِّ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِوَلَدِهِ لَمَّا أَنْ رَأَى مِنْهُ شَيْئًا لَا يُعْجِبُهُ يَا بُنَيَّ أَمَا تَعْرِفُ قَدْرَكَ فَقَالَ : وَمَا قَدْرِي فَقَالَ لَهُ : أُمُّكَ اشْتَرَيْتُهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَبُوكَ لَا أَكْثَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ .

هَذَا مَقَالُهُمْ مَعَ وُجُودِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ مِنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ هُوَ عَلَى الْعَكْسِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ وَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالرَّايَاتُ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَبَعْضُهُمْ يَدَّعِي الْوَلَهُ وَيَرْتَكِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُحَرَّمَاتٍ فَيَرْكَبُ عَلَى جَرِيدَةٍ قَدْ صَوَّرَ لَهَا وَجْهًا وَعَيْنَيْنِ وَأَنْفًا وَفَمًا وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ شَيْئًا كَأَنَّهُ سَوْطٌ وَيَرْكَبُ تِلْكَ الْجَرِيدَةِ وَيُمْسِكُهَا بِسَيْرٍ أَوْ خَيْطٍ كَأَنَّهُ لِجَامٌ لَهَا وَيَضْرِبُهَا وَيَجْرِي .

وَبَعْضُهُمْ يُعَلِّقُ فِيهَا جَرَسًا فَإِذَا مَشَى يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ وَالشُّبَّانُ غَالِبًا ، وَقَدْ يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَخْتَفِي مِنْهُ أَحَدٌ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِمْ وَيَعِيبُونَ عَلَى مَنْ اسْتَتَرَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ هَذَا مُولَهٌ .

وَهَذَا أَشَدُّ قُبْحًا مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ وَحْدَهُ فَيَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مَا تُسَوِّلُهُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الرَّذَائِلِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ .

فَكَيْفَ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ مَعَ ارْتِكَابِ نَهْيِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ : ( مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا ) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ صَوَّرَهَا ، أَوْ اسْتَعْمَلَهَا ، أَوْ رَضِيَ بِهَا .

وَمَا

الْعَجَبُ مِنْ هَذَا ، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَيُصَوِّبُ فِعْلَهُ بِأَنْ يَقُولَ : هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَخْرِيبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يُعَارِضْهُمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ النَّهْيُ الصَّرِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَرِيدَةِ صُورَةٌ لَاحْتَمَلَ التَّخْرِيبَ وَغَيْرَهُ .

هَذَا إنْ كَانَتْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ عَلَيْهِ مَحْفُوظَةً وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَهُوَ يُظْهِرُ الْوَلَهَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الدُّخُولِ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ مَحْفُوظُونَ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ مَوْجُودُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ الْأَرْضُ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ بِإِخْبَارِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .

( فَصْلٌ ) : ثُمَّ إنَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَتَّى ضَمُّوا إلَيْهَا مَفْسَدَةً أُخْرَى ، وَهِيَ أَخْذُ بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ شَابٍّ لِيَكُونُوا مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَتْبَاعِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يَحْلِقُونَ شَعْرَ رَأْسِ مَنْ يَتُوبُ عَلَى أَيْدِيهِمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْعَهْدِ وَمَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْبِدَعِ ، وَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَعَلَامَةً عَلَيْهِمْ .

هَذَا إذَا كَانَ الْحَلْقُ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ وَأَمَّا حَلْقُهُ لِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ .

{ فَصْلٌ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ : أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي ، وَمَا كَانَ مُرَادُهُ إلَّا أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِظْهَارِهَا وَإِشَاعَتِهَا ، وَإِظْهَارُ السُّبْحَةِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ ، بَلْ لِلشُّهْرَةِ وَالْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَيَتَّخِذَ السُّبْحَةَ فِي يَدِهِ كَاِتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ السِّوَارَ فِي يَدِهَا وَيُلَازِمُهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا وَيَرْفَعُ يَدَهُ وَيُحَرِّكُهَا فِي ذِرَاعِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ يَنْقُلُهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ يَعُدُّ مَا يَذْكُرُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا لِسَانٌ وَاحِدٌ فَعَدُّهُ عَلَى السُّبْحَةِ عَلَى هَذَا بَاطِلٌ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ يَذْكُرُ وَاللِّسَانُ الْآخَرُ يَتَكَلَّمُ بِهِ فِيمَا يَخْتَارُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْبِدْعَةِ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ عَلَى السُّبْحَةِ حَقِيقَةً وَيَحْصُرُ مَا يُحَصِّلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا يَعُدُّ مَا اجْتَرَحَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا } فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى مُحَاسَبَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاعْتِقَادِهِ وَجَوَارِحِهِ وَيَعْرِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَمَا وَافَقَ مِنْ ذَلِكَ حَمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَبَقِيَ خَائِفًا وَجِلًا خَشْيَةً

مِنْ دَسَائِسَ وَقَعَتْ لَهُ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا وَمَا لَمْ يُوَافِقْ احْتَسَبَ الْمُصِيبَةَ فِي ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِالتَّوْبَةِ ، وَالْإِقْلَاعِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ التَّوْبَةِ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَيَنْجَبِرُ بِذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْخَلَلِ .

وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَصْلُ عَمَلِهَا لِلتَّحَفُّظِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالْخَوَاطِرِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي كَسْبِ الْحَسَنَاتِ .

وَقَدْ قَالُوا : إنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ } .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ بَكَى أَرْبَعِينَ سَنَةً فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ فَقَالَ : اسْتَضَافَنِي أَخٌ لِي فَقَدَّمْتُ لَهُ سَمَكًا فَأَكَلَ ، ثُمَّ أَخَذْتُ تُرَابًا مِنْ حَائِطِ جَارٍ لِي فَغَسَلَ بِهِ يَدَيْهِ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي أَخَذْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .

وَحُكِيَ عَنْ آخَرَ مِثْلُهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : طَلَعَ لِي طُلُوعٌ فَرَقَيْتُهُ فَاسْتَرَحْتُ مِنْهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ لِعَدَمِ رِضَائِي بِمَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِي ، أَوْ كَمَا قَالَ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُمْ فِي مِثْلِ مَا وَصَفْنَاهُ عَنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَأَيُّ أَثْقَالٍ ، ثُمَّ يَحْصُرُ الْحَسَنَاتِ وَلَا يُفَكِّرُ فِي ضِدِّهَا ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا مُحَرِّكَةٌ وَمُذَكِّرَةٌ فَوَا سَوْأَتَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيكُ وَالتَّذْكِيرُ مِنْ الْقَلْبِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { : إنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ عَمَلَ الْجَهْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا } هَذَا ، وَهُوَ عَمَلٌ فَمَا بَالُكَ بِإِظْهَارِ شَيْءٍ لَيْسَ بِعَمَلٍ ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ عَمَلٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ يُخْفُونَ أَعْمَالَهُمْ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ الْعَظِيمِ مِنْهُمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ

خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ دُخُولِهِ الدَّسَائِسَ عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ مَا فِيهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّاجِرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمُحَاوَلَةِ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ فَلَا يَتْرُكُ مَا لَهُ فِيهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَيَأْخُذُ مَالَهُ فِيهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَذَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَكَيْفَ بِهِ مَعَ وُجُودِهَا ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْرِمُ نَفْسَهُ فَضْلَ الذِّكْرِ وَعَوْدَ بَرَكَتِهِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ فَلَوْ كَانَ يُسَبِّحُ وَيَعُدُّ عَلَى أَنَامِلِهِ لَكَانَ نُورُ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتُهُ فِي أَنَامِلِهِ .

وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَرَأَى نُورًا فِي طَاقٍ فَقَالَ مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي فِي الطَّاقِ ؟ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ سُبْحَتِي الَّتِي كُنْتُ أُسَبِّحُ عَلَيْهَا جَعَلْتُهَا هُنَاكَ ، أَوْ كَمَا قَالَتْ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلَّا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ فِي أَنَامِلِكِ } فَهَذَا إرْشَادٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ ، وَقَاعِدَةُ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى عَمَلٍ مَفْضُولٍ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قَرَأَ فِي الْخِتْمَةِ يَجْعَلُهَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعًا وَيُمْسِكُهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَجَمِيعُ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى تَمُرُّ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَتْلُوهَا وَيَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنْ يَقُولَ حَتَّى يَحْصُلَ لِكُلِّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَكْثُرَ الثَّوَابُ بِذَلِكَ .

فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَأَنَا إلَيْهِ رَاجِعُونِ .

{ فَصْلٌ } وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ فَيَقُولُ : إنَّهُ إذَا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ إنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَلَا زَوْجَتِهِ وَلَا نَفْسِهِ ، بَلْ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلشَّيْخِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ أَخَذَ مَالَهُ لَزِمَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا لَوْ تَصَرَّفَ الشَّيْخُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَة الْقَوْمِ وَلَا بِمَأْثُورٍ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى أَنْ يَنْتَمِي لِفُلَانٍ مِنْ الْمَشَايِخِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى كَأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَدَدِ الْمَشَايِخِ فَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ كَمَا يَنْتَسِبُ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ إلَى مَذَاهِبِهِمْ فَإِذَا انْتَسَبُوا إلَى ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ أَيْنَ هُوَ وَحَصَلَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ تَعَصُّبَاتٌ وَشَنَآنٌ كَثِيرٌ حَتَّى صَارُوا أَحْزَابًا وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ شَيْخِهِ الَّذِي يَنْتَمِي إلَيْهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .

وَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ .

وَلِذَلِكَ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ طَرِيقُ الْقَوْمِ وَاحِدَةٌ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ سُنَّةُ الْأَحْبَابِ وَاحِدَةٌ يَعْنِي أَنَّ مُشْرَبَهُمْ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ إنْكَارٌ لِأَخْذِ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمْ إذْ إنَّهُ عَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ الصَّالِحُ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَلَا نُنْكِر أَيْضًا الِانْتِمَاءَ إلَى الْمَشَايِخِ بِشَرْطِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُرِيدِ شَيْخُهُ ، وَغَيْرُ شَيْخِهِ بِالسَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَيَكُونُ إيثَارَهُ لِشَيْخِهِ

بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ وُصُولُهُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى يَدَيْهِ فَيَرَى لَهُ ذَلِكَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَقَعُ التَّفَضُّلُ لِشَيْخِهِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَأْبَى أَنْ يَأْخُذَ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَسَأَلْتُهُ مَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ ؟ أَهُوَ بِدْعَةٌ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي نَفْسَهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَأَخَافُ إنْ أَخَذْتُ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ لَا يُوفِي بِمَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ وَأَكُونُ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَأَتْرُكُهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَأُعَوِّضُ عَنْهُ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ بِالِاسْتِقَامَةِ ، أَوْ كَمَا قَالَ .

وَالْحَاصِلُ مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْخُ الْعَهْدَ عَلَى الْمُرِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاهُ وَلَا يَفْقِدُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ وَهَذَا هُوَ زُبْدَتُهُ وَأَصْلُهُ وَبَقِيَتْ تَفَارِيعُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَلَّ أَنْ تَتَنَاهَى ، وَهِيَ الْأَمَانَةُ الَّتِي عَرَضَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْغَالِبِ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَكَثِيرُ مَنْ وَفَّى ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَثِيرٌ مَنْ دَخَلَ فِي جَاهِ مَنْ وَفَّى وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ يَنْتَمُونَ إلَى الْمَشَايِخِ لِيَكُونُوا فِي حُرْمَتِهِمْ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ { : هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } فَكَمَا لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ

كَذَلِكَ لَا يَشْقَى بِهِمْ مُعْتَقِدُهُمْ وَلَا مُحِبُّهُمْ .

وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ إلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ، وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ } فَمَا رَأَيْتُ فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ .

وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ حِينَ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ هُوَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّ هَذَا طَلَبَ مَنْصِبًا عَظِيمًا فَأَرْشَدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ سَاجِدًا } فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ ، وَطَالِبُ الْمَعِيَّةِ تَشْمَلُهُ الدَّارُ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ جُعِلَتْ السَّعَادَةُ لِمَنْ نَالَهَا .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ سَلِمَ مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّنْغِيصِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا حِينَ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَرِيقِهِ

فَيُكَلِّفُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِبَعْضِ مَنْ فَعَلَ الذُّنُوبَ { : أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ } ، وَقَدْ وَرَدَ { : كُلُّ النَّاسِ مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ } فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَتُوبَ عَلَى يَدَيْهِ ، أَوْقَعَهُ الشَّيْخُ بِاعْتِرَافِهِ فِي هَذِهِ الْمَهَالِكِ فَكَانَ عَدَمُ التَّوْبَةِ بِهِ أَوْلَى ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَفِي هَذَا تَشَبُّهٌ بِالْقِسِّيسِينَ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ لِيَتُوبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ يُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَ لَهُمْ ذُنُوبَهُ ذَنْبًا ذَنْبًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ .

فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى تَخْلِيطِ أُمُورِ الدِّينِ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا فِيهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً شَنِيعَةً آلَتْ إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَتَرْكُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ هُوَ ارْتِدَادٌ ، أَوْ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ مِمَّنْ فَعَلَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُلَبِّدُونَ شُعُورَ رُءُوسِهِمْ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تُصِيبهُمْ فَإِذَا اغْتَسَلُوا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا الْمَاءَ إلَى الْبَشَرَةِ وَلَيْسَ ثَمَّ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى حَائِلٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَصَلَاتُهُمْ عَلَى هَذَا بَاطِلَةٌ ، ثُمَّ ضَمُّوا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَة مَفْسَدَةً أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالصَّوَابِ وَعَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ وَالْهِدَايَةِ .

نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ مِنْ بَلَائِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَانَى اتِّخَاذَ الْحُرُوزِ الْكَثِيرَةِ وَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ كَالْقِلَادَةِ لِلْمَرْأَةِ .

وَمِنْهُمْ مِنْ يَجْعَلُهَا عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى يَتَوَشَّحُ بِهَا وَهَذَا شُهْرَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ وَشَوْهٌ ظَاهِرٌ

، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ الْعَيْنِ وَمِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ فَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا بِأَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثَوْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيُمْنَعُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ سُبْحَةً كَبِيرَةً وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِهِ ، أَوْ يَتَوَشَّحُ بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ وَالتَّحَدُّثِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ إظْهَارًا مِنْهُ أَنَّهُ يُكَاشِفُهَا وَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْهَا خَيْطًا مِنْ صُوفٍ عَلَى صِفَاتٍ وَصِبْغٍ فَيَتَقَلَّدُونَ بِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشُّهْرَةِ ، أَوْ الشَّهْوَةِ ، وَالْبِدْعَةِ ، وَالْخُرُوجِ عَنْ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا رَذِلًا يَأْبَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَقَامَ النَّاسُ إلَيْهَا قَامَ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ فَإِذَا رَكَعُوا وَسَجَدُوا بَقِيَ وَاقِفًا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ لَا يُحْرِمُ وَلَا يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ ، ثُمَّ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنْ صَلَاتِهِمْ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَأَرْذَلُ مَنْ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ الْوَاصِلِينَ وَيَتَأَوَّلُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ تَخْرِيبٌ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُشْهَرَ وَلَا يُعْتَقَدَ ، وَتَأْوِيلُهُمْ هَذَا مِنْ السَّخَافَةِ وَالْحُمْقِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ فِي الدِّينِ وَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ وَأَوَّلُ أَرْكَانِهِ بَعْد كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ ؛ إذْ إنَّ مَنْ رَأَى وَلَمْ يُنْكِرْ كَمَنْ فَعَلَ وَلَا ضَرُورَةَ

تَدْعُو إلَى التَّخْرِيبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَشَى عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ وَالسُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَاقْتَفَى آثَارَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سِيَّمَا إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ فَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ النُّفُورُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ الْعَوَائِدَ وَالِابْتِدَاعَ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَتَمَسَّكَ بِهَا ، وَعَادَةُ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ النُّفُورُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا .

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا حَقُّ مَا أَبْقَيْتَ لِي حَبِيبًا .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا الْحَالِ مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ أَحَبُّوهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ ، وَمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ تَرَكُوهُ وَأَهْمَلُوهُ وَمَقَتُوهُ وَأَبْغَضُوهُ حَتَّى كَانَ مَنْ يُرِيدُ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْظِيمَ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ حَتَّى يَعْتَقِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ .

وَأَمَّا الْيَوْمَ فَيَعْتَقِدُونَ وَيَحْتَرِمُونَ مَنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الْمُحْدَثَةَ وَيَمْشِي عَلَيْهَا وَلَا يُنْكِرُ عَلَى أَحَدٍ مَا هُوَ فِيهِ فَمَنْ أَرَادَ التَّخْرِيبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلْيَتْبَعْ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فَإِنَّهُمْ يَنْفِرُونَ عَنْهُ وَلَا يَعْتَقِدُونَهُ غَالِبًا لِإِنْكَارِهِ مَا هُمْ فِيهِ حَتَّى قَدْ يَنْفُرَ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَأَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ .

ثُمَّ إنَّ الْمُخَرِّبَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ ذَلِكَ أَمْ لَا فَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ .

وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمَكْرُوهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ .

ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَغَالَوْنَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَيَقُولُونَ : هَذَا

بَدَلُ هَذَا قُطْبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَبَذَلَ جَهْدَهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَكَيْفَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ ، أَوْ هُمَا مَعًا ؟ ثُمَّ إنَّ الْمُتَّبِعَ مِنْ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ .

فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ كُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ قَالَهُ ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مَوْضِعٌ لَا أَدْخُلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَوْ اسْتَعْمَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْغَصْبَ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ : هَذَا مِنْ بَابِ الْوَرَعِ هَذَا لَيْسَ بِمُتَّبَعٍ ، وَقَدْ دَخَلَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فَقَدْ تَكُونُ لَهُ أَعْذَارٌ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ عُذْرَهُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ؛ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ لِسَانِ الْعِلْمِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنِّي لَا أَتَكَلَّمُ بِالْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالنَّاسُ يَحْمِلُونَ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَصَارَ لِسَانُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ وَرَعًا وَتَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ كَثِيرًا مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى الْوَرَعِ فَيَتْرُكُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ ، وَبَابُ الْوَرَعِ ضَيِّقٌ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا الْأَفْذَاذُ إذْ لَيْسَ هَذَا زَمَانُ الْوَرَعِ غَالِبًا وَمَا يَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْوَرَعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ لِيُثَبِّطَ عَنْ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ غَيْرُ

الْمُعْتَقِدِ يَقُولُ : هَذَا يَابِسٌ مُشَدَّدٌ مَرْبُوطٌ يُشِيرُ بِكَلَامِهِ وَحَالِهِ إلَى أَنَّ غَيْرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ .

وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ } وَفِي رِوَايَةٍ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كَيْفَ بِكُمْ إذَا فَسَقَ فِتْيَانُكُمْ وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ كَيْفَ بِكُمْ إذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ ، كَيْفَ بِكُمْ إذَا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟ } .

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : ثُمَّ إنَّ غَالِبَ حَالِهِمْ أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ يَدُورُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ .

فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اعْتِقَادُهُ شَهْوَةً فَيَعْقِدُهُ مُدَّةً ، ثُمَّ يَنْحَلُّ عَنْ اعْتِقَادِهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ اعْتِقَادُهُ لَكِنْ يَزِيدُ فِي اعْتِقَادِهِ وَيَتَغَالَى فِيهِ فَيَقُولُ هَذَا بَدَلٌ هَذَا قُطْبٌ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُهُمْ إذْ إنَّ الْقُطْبَ إنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ إلَّا الْوَاحِدُ مِنْ الْأَفْذَاذِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُ ؛ لِأَنَّ صِفَتَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الْأَنْوَارِ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدِيرُ الْقُطْبَ فِي الْآفَاقِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْكَانِ الدُّنْيَا كَدَوَرَانِ الْفُلْكِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ ، وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ الْغَوْثِ ، وَهُوَ الْقُطْبُ عَنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرَة مِنْ الْحَقِّ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَرَى عَالِمًا جَاهِلًا أَبْلَهَ فَطِنًا تَارِكًا آخِذًا قَرِيبًا بَعِيدًا سَهْلًا عَسِرًا آمِنًا حَذِرًا .

وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا حَصَلَ لَهُ اعْتِقَادٌ فِي شَيْخٍ بِعَيْنِهِ نَقَّصَ غَيْرَهُ ، أَوْ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَنَآنٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِمْ وَمَنْ يَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَرْجِعُونَ أَحْزَابًا وَيَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِعَدَمِ تَسْلِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْفُقَرَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُ ، وَهُوَ يُعَظِّمَ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ هَذَا الْفَقِيرُ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ مَا هَذَا إلَّا رَجُلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ يُعَظِّمُهُ قَالَ : فَمَضَيْتُ يَوْمًا إلَيْهِ حَتَّى أَرَاهُ فَدَخَلْتُ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ عِبَارَتَهُ دُونَ عِبَارَةِ سَيِّدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَبِي مُحَمَّدٍ

الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَعَجَّبْتُ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي أَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ فَاسْتَبْعَدْتُ ذَلِكَ فَرَدَّ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ رَأْسَهُ إلَيَّ وَنَظَرَ لِي ، ثُمَّ رَجَعَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ يَنْبَغِي لِلْفَقِيرِ إذَا دَخَلَ عَلَى الشُّيُوخِ أَنْ لَا يُفَضِّلَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْخًا عَلَى غَيْرِهِ يَا مِسْكِينُ هَذَا الَّذِي تُفَضِّلُهُ لَوْ سَأَلْتَهُ عَمَّنْ فَضَّلْتَهُ عَلَيْهِ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ : هُوَ بَرَكَتِي ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا أَرْجُو مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَرُبَّ سَاكِتٍ أَفْضَلُ مِنْ نَاطِقٍ فَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ يُفَضِّلُ مَنْ يَخْطِرُ لَهُ بِمَا يَخْطِرُ لَهُ أَجَاءَ لَكَ أَحَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَخْبَرَكَ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَالِاحْتِرَامِ فَتُبْ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَارْجِعْ إلَيْهِ مَا كَفَى أَنَّ أَحَدَكُمْ يُحْرَمُ الْعَمَلُ حَتَّى يُحْرَمَ الِاعْتِقَادُ مَا هَذَا الْحَالُ .

قَالَ فَبَقِيتُ أَتُوبُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَعَلَّهُ يَسْكُتُ فَمَا سَكَتَ إلَّا بَعْدَ حِينٍ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ .

بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْ الْآخِرِ .

أَوْ يَكُونَ الَّذِي يُفَضِّلُ أَعْلَى مَقَامًا مِنْهُمَا فَيَكْشِفُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي مَقَامٍ يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَلَا يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ عَلَى مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَكْشِفْ عَلَى مَقَامِهِ الْخَاصِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ .

وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْمُرِيدِ يُعَظِّمُ شَيْخَهُ وَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ لَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ قَسَمَ لَهُ عَلَى يَدَيْهِ

رِزْقًا حَسَنًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ رُزِقَ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ } وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { : جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِمَا يَبْقَى هُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنْ الْإِحْسَانِ بِمَا يَفْنَى وَحَقِيقَةُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ أَنَّ الشَّيْخَ وَجَدَهُ غَرِيقًا فِي بَحْرِ التَّلَفِ فَأَنْقَذَهُ وَخَلَّصَهُ مِنْهُ وَأَوْقَفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا إحْسَانَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْإِحْسَانِ .

وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ مَحَبَّةُ الْمُرِيدِ لِطَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا أَنْ رَأَى عِنْدَ شَيْخِهِ مَا يُحِبُّهُ الْتَزَمَهُ لِمَحْبُوبِهِ الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَهُ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَخْدُمُ بَعْضَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَيُحِبُّهُ يُؤْثِرُ بِالْخِدْمَةِ لَهُ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْتِزَامِ خِدْمَتِهِ لَهُ ، وَهُوَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ : مَحْبُوبِي عِنْدَهُ .

وَقِيلَ لِآخَرَ أَيْضًا وَقَدْ رَأَوْهُ وَاقِفًا بِبَابِ عَدُوِّهِ فَعَذَلُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ مَحْبُوبَهُ عِنْدَهُ ، وَالْمُرِيدُ بِنِيَّتِهِ وَخَاطِرِهِ وَكُلِّيَّتِهِ رَاغِبٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مُتَسَبِّبٌ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْ أَحْكَمَ الطَّرِيقَ وَعَرَفَهَا أَحَبَّهُ ، وَالْتَزَمَهُ وَأَنِسَ بِهِ لِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ الْجَمِيلَةِ .

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُعَظِّمُهُ لِمَا خَلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَعِ السَّنِيَّةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ فَيَغْتَرُّ بِهَا فَيَتْلَفُ حَالُهُ بِسَبَبِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ بِوَاسِطَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُرِيدِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً فِي زَاوِيَةٍ خَارِجَ الْبَلَدِ فَطَلَعَ عَلَى سَطْحِ الزَّاوِيَةِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَأَعْجَبَهُ ضَوْءُ

الْقَمَرِ فَخَطَرَ لَهُ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الطَّيَرَانِ هَلْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَجَرَّبَ نَفْسَهُ فَطَارَ فِي الْهَوَاءِ فَدَخَلَ الْبَلَدَ مِنْ أَعْلَى سُورِهَا ، وَهُوَ طَائِرٌ فَقَالَ : أَيُّ مَوْضِعٍ أَقْصِدُهُ فَوَقَعَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى زِيَارَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي وَقْتِهِ فَأَتَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَنَزَلَ وَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : فُلَانٌ .

فَقَالَ لَهُ : مَا وَجَدْتُ شَيْئًا تَأْتِينِي بِهِ إلَّا بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ؟ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ بَعْدَهَا أَبَدًا فَأَدَّبَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَلَامَتِهِ ، أَوْ كَمَا جَرَى .

وَمِثْلُ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُرِيدِينَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ شَيْخِهِ ، ثُمَّ انْقَطَعَ فَسَأَلَ الشَّيْخُ عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ : هُوَ فِي عَافِيَةٍ فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَحَضَرَ فَسَأَلَهُ مَا الْمُوجِبُ لِانْقِطَاعِكَ فَقَالَ : يَا سَيِّدِي كُنْتُ أَجِيءُ لِكَيْ أَصِلَ ، وَالْآنَ قَدْ وَصَلْتُ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْحُضُورِ فَسَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي وِرْدَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْتُهَا أَبَدًا فَلَعَلَّكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيَّ فَتَأْخُذَنِي مَعَكَ لِعَلِّي أَنْ أَدْخُلَهَا كَمَا دَخَلْتَهَا أَنْتَ قَالَ : نَعَمْ فَبَاتَ الشَّيْخُ عِنْدَ الْمُرِيدِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ جَاءَ طَائِرٌ فَنَزَلَ عِنْدَ الْبَابِ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ هَذَا الطَّائِرُ الَّذِي يَحْمِلُنِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَلَى ظَهْرِهِ إلَى الْجَنَّةِ فَرَكِبَ الشَّيْخُ وَالْمُرِيدُ عَلَى ظَهْرِ الطَّائِرِ فَطَارَ بِهِمَا سَاعَةً ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمَا فِي مَوْضِعٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ فَقَامَ الْمُرِيدُ لِيُصَلِّيَ وَقَعَدَ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ الْمُرِيدُ : يَا سَيِّدِي أَمَا تَقُومُ اللَّيْلَةَ فَقَالَ الشَّيْخُ : يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ هَذِهِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ صَلَاةٌ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يُصَلِّي وَالشَّيْخُ قَاعِدٌ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ

الْفَجْرُ جَاءَ الطَّائِرُ وَنَزَلَ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ قُمْ بِنَا نَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ اجْلِسْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَجَعَلَ الطَّائِرُ يَضْرِبُ بِأَجْنِحَتِهِ وَيَصِيحُ حَتَّى أَرَاهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ تَتَحَرَّكُ بِهِمْ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يَقُولُ لِلشَّيْخِ : قُمْ بِنَا لِئَلَّا يَجْرِيَ عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ هَذَا يَضْحَكُ عَلَيْكَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَاسْتَفْتَحَ الشَّيْخُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَذَهَبَ الطَّائِرُ وَبَقِيَا كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَبَيَّنَ الضَّوْءُ ، وَإِذَا هُمَا عَلَى مَزْبَلَةٍ ، وَالْعُذْرَةُ وَالنَّجَاسَاتُ حَوْلَهُمَا فَصَفَعَ الشَّيْخُ الْمُرِيدَ وَقَالَ لَهُ هَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي أَوْصَلَكَ الشَّيْطَانُ إلَيْهَا قُمْ فَاحْضُرْ مَعَ إخْوَانِكَ ، أَوْ كَمَا جَرَى .

وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ ، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا وَلَا يَيْأَسُ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُ عَلَيْهِ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ وَيَسْتَعْمِلُ حِيَلَهُ كُلَّهَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ حَالًا وَلَا مَقَامًا خِيفَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مُنَّ بِهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً ، أَوْ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ ابْتِدَاءً وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُسُوخٌ فِي الطَّرِيقِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ مَغْمُوسٌ فِي الْجَهْلِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُوصِلِينَ إلَى اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَوْقٌ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ عَكْسُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا فِي مُطَالَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَقِيَامِ الْمُسْتَغْفِرِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ زَمَنًا طَوِيلًا وَرُبَّمَا كَانَ مُعْتَلَّ الدِّمَاغِ فَتَأْخُذُهُ نَزْلَةٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ ، وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ ، أَوْ إلَى أَمْرَاضٍ

خَطِرَةٍ قَدْ تَطُولُ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ بِالْعِلَلِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ النَّاسِ عَامَّةً ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ مُطَالَبَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُسْتَتِرِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَا قِيلَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ وَمَحْرَمُهُمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَعْنِي مِنْ أَصْحَابِ الْخِرْقَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ .

وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ حَمْلَ الْأَقْدَامِ وَيَقِفُ طَوِيلًا بِهَا يَنْتَظِرُ إقْبَالَهُمْ عَلَيْهِ .

وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَأْمُرُ بِكَشْفِ رَأْسِ الْجَانِي عَلَى زَعْمِهِ وَضَرْبِهِ بِالْجَمَاجِمِ ، وَالْجَرِيدِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا قُبْحٌ وَشَنَاعَةٌ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا لِمَنْ يَدَّعِي الطَّرِيقَ ، وَطَرِيقُ الْقَوْمِ غَيْرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إذْ إنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَيَكْفِي فِيهِ الْهِجْرَانُ لَا غَيْرُ وَفِيهِ مُقْنَعٌ لِلْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَغَيْرُ هَذَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ .

وَطَرِيقُهُمْ أَنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مُخَالَفَةٍ يُطَالِبُونَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ .

ثُمَّ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُهُ لِلصَّادِقِ مِنْهُمْ مَعَ إخْوَانِهِ إذَا اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ ، وَأَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي إنْقَاذِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لِلشَّيْخِ آكَدُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُرِيدِ ؛ لِأَنَّ بِغَفْلَةِ الشَّيْخِ عَنْهُ جَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى فَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ يَلْحَظُهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ -

تَعَالَى - أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَاءَ إلَيْهِ وَطَلَبَ مِنْهُ إذْنًا أَنْ يَتَزَوَّجَ فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَهُ ثَانِيًا فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ ثَالِثًا كَذَلِكَ فَقَالَ : أَزْنِي ؟ قَالَ : اذْهَبْ .

فَذَهَبَ الْمُرِيدُ فَأَخَذَ امْرَأَةً وَجَاءَ بِهَا إلَى بَيْتِهِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ ، وَإِذَا بِالْحَائِطِ قَدْ انْشَقَّ وَدَخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَخَرَجَ هَارِبًا يَسِيحُ فِي الْبَرِّيَّةِ بِحَالٍ أَخَذَهُ لَا يَعْرِفُ أَيْنَ يَذْهَبُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ أَصَابَنِي الْمَرَضُ ؟ مِنْ هُنَاكَ أَتَدَاوَى فَرَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الشَّيْخِ فَدَخَلَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَقَدَرْتَ عَلَى شَيْءٍ تَفْعَلُهُ ؟ أَتَظُنُّ أَنَّكَ لِنَفْسِكَ ؟ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَتَحَمَّلُونَ أَنْ يَرَوْا مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِمْ فِي ذَرَّةٍ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .

أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ : مَا لِي أَرَاك هَاهُنَا فَقَالَ لَهُ لِأَجْلِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلِلْقُرْبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَقَالَ لَهُ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبُعْدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْقُرْبِ مِنْهُمْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمُشَاهَدَةِ مَا الشَّرْعُ يَأْمُرُ بِتَغْيِيرِهِ عَلَيْهِ .

أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يَرَى شَيْئًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ حَتَّى يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ إذْ إنَّ أَصْعَبَ مَا فِي التَّغْيِيرِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْقَلْبِ تَدْنِيسُهُ بِمَا يُشَاهِدُ وَيَرَى وَيَسْمَعُ فَقَلَّ أَنْ يَتَأَثَّرَ مَعَ مُدَاوَمَةِ هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ فَالتَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمَرْتَبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ فَهُوَ أَصْعَبُ مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَتَأَمَّلْهُ .

وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَأْنِيسِ الْقُلُوبِ غَالِبًا بِالْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّلُ بِدْعَةٍ رَأَيْتُ بُلْتُ الدَّمَ ، وَقَدْ

تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ { : وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ } وَكَذَلِكَ وَرَدَ { : مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ عَنْهُ } فَكَيْفَ يُقْبِلُ الْمُكَلَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ يُصْغِي إلَيْهِ وَأَمَّا إنْ فَاجَأَهُ ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ التَّغْيِيرِ فَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ .

لِمَا وَرَدَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّغْيِيرِ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ ثَلَاثًا .

ثُمَّ لِيَمْضِ لِسَبِيلِهِ وَيُعْرِضُ عَنْهُ .

فَصْلٌ فِي مُكَاتَبَةِ الْفَقِيرِ لِأَخِيهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَالْكَذِبِ وَالتَّنْمِيقِ ، وَالْقَوَافِي وَالسَّجْعِ ، وَالْعِبَارَاتِ الْقَلِقَةِ وَالتَّكَلُّفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

أَلَا تَرَى أَنَّ كُتُبَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى مِنْهَاجٍ غَيْرِ هَذَا .

فَمِنْ ذَلِكَ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى مَنْ يُكَاتِبُهُ مِنْ وُلَاتِهِ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكُتُبُهُمْ لَهُ .

مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَصَفُوهُ بِالصِّفَةِ الْمُلَازِمَةِ لَهُ .

فَإِنْ قِيلَ : قَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِرَقْلَ : مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ .

فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى .

كَتْبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ أَيْ الَّذِي يُعَظِّمُهُ الرُّومُ وَتَعْظِيمُ الرُّومِ لَهُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَعْظِيمُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْقُلُوبِ لَا بِاللَّقْلَقَةِ مِنْ الْأَلْسُنِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَهَذِهِ بَعْضُ نُبَذٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا .

وَأَمَّا طَرِيقُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُسَافِرِينَ أَعْنِي غَيْرَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ فَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ وَعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ تَجِدَ لِلِاتِّبَاعِ فِيهَا سَبِيلًا ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانُوا يُوجِبُونَهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُونَ أَخْذَ ثِيَابِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُتَطَلَّبَاتٍ كَثِيرَةٍ يُسَمُّونَهَا شُغْلَ الْفُقَرَاءِ

وَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ خَاصًّا بِهِمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } وَهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيُكَلِّفُونَ مَنْ كَانَ فَقِيرًا إلَى الْمَسْأَلَةِ بِالْإِلْحَاحِ وَتَكْلِيفِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الضِّيَافَاتِ وَالْإِجَازَاتِ ، وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ ، وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي صَرْفِ هِمَمِ الْمُرِيدِ كُلِّهَا إلَى الْآخِرَةِ وَأُمُورِهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ عَلَيْهِ وَآكَدُهَا عِنْدَهُ أُمُورَ الْآخِرَةِ إذْ إنَّهُ مَصِيرُهُ إلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إيثَارُهَا وَلَا يَعْبَأُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِامْتِثَالِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ أَمْرِ الْآخِرَةِ مُنْقَطِعٌ زَائِلٌ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَأَمْرُهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ مِنْ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ .

أَلَا تَرَى إلَى حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيْفَ كَانَ عَلَى مَا وَصَفَ الْوَاصِفُ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ ؟ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُ يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ .

وَكَانَ يَقُولُ : أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْلَأُ فَاهُ بِالضَّحِكِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ دِيوَانٍ اسْمُهُ هَلْ فِي الْجَنَّةِ ، أَوْ فِي النَّارِ .

وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك بِالرِّزْقِ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَالْحُزْنُ لِمَاذَا ؟ .

وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ رَأَتْهُ مَهْمُومًا : إنْ كَانَ هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : لَا تَجْزَعَنَّ إذَا مَا الْأَمْرُ ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا وَنَمْ وَتَوَسَّدْ خَالِيَ الْبَالِ مَا بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا يُغَيِّرُ

اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ .

( فَصْلٌ ) : هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَدَبِ الْمُرِيدِ وَيَنْبَغِي أَنْ نَخْتِمَهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ آثَارِهِ وَأَحْوَالِهِ وَلِكَيْ يَكُونَ سُلَّمًا لِلْمُرِيدِ فِي اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ .

فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا جَالِسَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ قَرِيبٌ مِنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيِّينَ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ ، وَلِأَتْبَاعِهِمْ نُورٌ نُورٌ ، قَالَ : وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ إلَّا وَفِيهَا نُورَانِ ، وَرَأَيْتُ أَتْبَاعَهُ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ : اتَّقِ اللَّهَ وَانْظُرْ مَاذَا تُحَدِّثُ بِهِ فَقَالَ : إنَّمَا هِيَ رُؤْيَا رَأَيْتُهَا فَقَالَ كَعْبٌ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ لَكَمَا ذَكَرْتَ .

وَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُمِعَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ، وَهُوَ يَبْكِي : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ كَانَ لَكَ جِذْعٌ تَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَثُرُوا اتَّخَذْت مِنْبَرًا لِتُسْمِعَهُمْ فَحَنَّ الْجِذْعُ لِفِرَاقِكَ حَتَّى جَعَلْتَ يَدَكَ عَلَيْهِ فَسَكَنَ فَأُمَّتُكَ أَوْلَى بِالْحَنِينِ عَلَيْكَ حِينَ فَارَقْتَهُمْ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ فَقَالَ - تَعَالَى - { : مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَكَ فِي أَوَّلِهِمْ فَقَالَ -

تَعَالَى - { : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يُعَذَّبُونَ { يَقُولُونَ : يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ أَعْطَاهُ اللَّهُ حَجَرًا تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ أَصَابِعِكَ حِينَ نَبَعَ مِنْهَا الْمَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَعْطَاهُ اللَّهُ رِيحًا غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الْبُرَاقِ حِينَ سَرَيْتَ عَلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثُمَّ صَلَّيْتَ الصُّبْحَ مِنْ لَيْلَتِكَ بِالْأَبْطَحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ .

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَعْطَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - إحْيَاءَ الْمَوْتَى فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ حِينَ كَلَّمَتْكَ ، وَهِيَ مَسْمُومَةٌ فَقَالَتْ : لَا تَأْكُلْنِي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ .

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ { : رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } .

وَلَوْ دَعَوْتَ مِثْلَهَا عَلَيْنَا لَهَلَكْنَا عَنْ آخِرِنَا فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلَّا خَيْرًا فَقُلْتَ { : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ اتَّبَعَكَ فِي إحْدَاثِ سِنِّكَ وَقِصَرِ عُمُرِكَ مَا لَمْ يَتْبَعْ نُوحًا فِي كِبَرِ سِنِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ فَلَقَدْ آمَنَ بِكَ الْكَثِيرُ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ .

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ لَمْ تُجَالِسْ إلَّا كُفُؤًا لَكَ مَا جَالَسْتَنَا .

وَلَوْ لَمْ تَنْكِحْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا

نَكَحَتْ إلَيْنَا ، وَلَوْ لَمْ تُؤَاكِلْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا آكَلْتنَا .

وَلَبِسَتْ الصُّوفَ وَرَكِبَتْ الْحِمَارَ وَوَضَعْتَ طَعَامَكَ بِالْأَرْضِ وَلَعَقْتَ أَصَابِعَكَ تَوَاضُعًا مِنْكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ .

وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَنْتَعِلُ الْمَخْصُوفَ وَلَا يَتَأَنَّفُ مِنْ مَلْبَسٍ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ مَرَّةً شَمْلَةً وَمَرَّةً بُرْدَةً حَبِرَةً وَمَرَّةً جُبَّةَ صُوفٍ .

وَكَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةِ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَكَانَ لِنَعْلَيْهِ قِبَالَانِ وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا وَاحِدًا عُثْمَانُ وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْحَبِرَةَ ، وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ فِيهَا حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ .

وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْقَمِيصُ وَكَانَ إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً كَانَ ، أَوْ قَمِيصًا وَرِدَاءً وَيَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا أَلْبَسْتَنِيهِ أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ .

وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثِّيَابُ الْخُضْرُ .

وَكَانَ يَلْبَسُ الْكِسَاءَ الصُّوفَ وَحْدَهُ فَيُصَلِّي فِيهِ وَرُبَّمَا لَبِسَ الْإِزَارَ الْوَاحِدَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَعْقِدُ طَرَفَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيُصَلِّي فِيهِ .

وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُهَا دُونَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ الْعَمَائِمَ دُونَهَا وَيَلْبَسُ الْقَلَانِسَ ذَاتَ الْآذَانِ فِي الْحَرْبِ وَرُبَّمَا نَزَعَ قَلَنْسُوَتَهُ وَجَعَلَهَا سُتْرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَلَّى إلَيْهَا ، وَرُبَّمَا مَشَى بِلَا قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا رِدَاءٍ رَاجِلًا يَعُودُ الْمَرْضَى كَذَلِكَ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَعْتَمُّ وَيُسْدِلُ طَرَفَ عِمَامَتِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِمَامَةٍ وَسَدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيَّ ، وَقَالَ { : إنَّ الْعِمَامَةَ حَاجِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ } وَكَانَ يَلْبَسُ

يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ وَيَعْتَمُّ .

وَكَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي خِنْصَرِهِ الْأَيْمَنِ وَرُبَّمَا لَبِسَهُ فِي الْأَيْسَرِ وَيَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ .

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الطِّيبَ وَيَكْرَهُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ وَكَانَ يَقُولُ { : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَذَّتِي فِي الدُّنْيَا لِلنِّسَاءِ وَالطِّيبِ ، وَقُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } وَكَانَ يَتَطَيَّبُ بِالْغَالِيَةِ وَبِالْمِسْكِ حَتَّى يُرَى وَبِيصَهُ فِي مَفَارِقِهِ وَيَتَبَخَّرُ بِالْعُودِ وَيَطْرَحُ فِيهِ الْكَافُورَ .

وَكَانَ يُعْرَفُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ بِطِيبِ رِيحِهِ .

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ ثَلَاثًا فِي الْيُمْنَى وَاثْنَتَيْنِ فِي الْيُسْرَى وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ ، وَهُوَ صَائِمٌ .

وَكَانَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ .

وَكَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ .

وَكَانَ يَتَرَجَّلُ غِبًّا .

وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَرُبَّمَا نَظَرَ فِي الْمَاءِ فِي رَكْوَةٍ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَسَوَّى جُمَّتَهُ .

وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ قَارُورَةُ الدُّهْنِ فِي سَفَرِهِ ، وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمِرْآةُ وَالْمُشْطُ ، وَالْمِقْرَاضُ وَالسِّوَاكُ ، وَالْخُيُوطُ ، وَالْإِبْرَةُ فَيَخِيطُ ثِيَابَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ .

وَكَانَ يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ وَكَانَ إذَا قَامَ مِنْ النَّوْمِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ وَيَسْتَاكُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ النَّوْمِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ ، وَلِوِرْدِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَكَّةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ .

وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وَتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا .

دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أُمِّ

سُلَيْمٍ ، وَقَدْ مَاتَ نَغْرُ ابْنِهَا مِنْ بَنِي أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ، وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ : أَحْمِلُكِ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي مَرِيضٌ فَقَالَ لَعَلَّ زَوْجَكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَرَجَعَتْ الْمَرْأَةُ وَفَتَحَتْ عَيْنَيْ زَوْجِهَا لِتَنْظُرَ إلَيْهِمَا فَقَالَ مَا لَكِ ؟ فَقَالَتْ : أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي عَيْنَيْكَ بَيَاضًا فَقَالَ وَيْحَكِ وَهَلْ أَحَدٌ إلَّا وَفِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ .

{ وَجَاءَتْ أُخْرَى فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ فَوَلَّتْ الْمَرْأَةُ ، وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا ، وَهِيَ عَجُوزٌ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ { إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا } } .

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَابَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمِي سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي ، ثُمَّ ضَرَبَ كَتِفِي وَقَالَ : هَذِهِ بِتِلْكَ .

{ وَجَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السُّوقِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِ رَجُلٍ اسْمُهُ زَاهِرٌ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ : مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ إذَنْ وَاَللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّكَ عِنْدَ رَبِّكَ لَسْتَ كَاسِدًا } .

{ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسَيْنًا مَعَ صِبْيَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَ

الْقَوْمِ وَطَفِقَ الْحُسَيْنُ يَفِرُّ هَارِبًا هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ فَجَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ ، وَالْأُخْرَى فَوْقَ رَأْسِهِ } .

وَكَانَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ ، وَالْجَوَارِي يَلْعَبْنَ عِنْدَهَا فَإِذَا رَأَيْنَهُ تَفَرَّقْنَ فَيُسِيرَهُنَّ إلَيْهَا .

وَقَالَ لَهَا يَوْمًا ، وَهِيَ تَلْعَبُ بِلُعْبَتِهَا مَا هَذِهِ يَا عَائِشَةُ ؟ فَقَالَتْ : خَيْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد فَضَحِكَ وَطَلَبَ الْبَابَ فَابْتَدَرَتْهُ وَاعْتَنَقَتْهُ فَقَالَ : مَا لَكِ يَا حُمَيْرَاءُ فَقَالَتْ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لَا تُغَادِرُ ذَنْبًا وَلَا تَكْسِبُ بَعْدَهَا خَطِيئَةً وَلَا إثْمًا .

ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَرِحْتِ يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ : إي وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ : أَمَّا وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا خَصَصْتُكِ بِهَا مِنْ بَيْنِ أُمَّتِي ، وَإِنَّهَا لَصَلَاتِي لِأُمَّتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيمَنْ مَضَى مِنْهُمْ ، وَمَنْ بَقِيَ ، وَمَنْ هُوَ آتٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَدْعُو لَهُمْ ، وَالْمَلَائِكَةُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِي } .

وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُكْرِمُ ضَيْفَهُ وَيَبْسُطُ رِدَاءَهُ لَهُ كَرَامَةً .

{ وَجَاءَتْهُ ظِئْرُهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ يَوْمًا فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَقَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّي وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ } .

وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَحْسَنَهُمْ بِشْرًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَا يَمْضِي لَهُ وَقْتٌ فِي غَيْرِ عَمَلِ اللَّهِ ، أَوْ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ ، أَوْ لِأَهْلِهِ ، أَوْ لِأُمَّتِهِ مِنْهُ وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَطِيعَةُ رَحِمٍ فَيَكُونَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ .

وَكَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْدُمُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ وَيَقْطَعُ اللَّحْمَ مَعَهُنَّ وَيَرْكَبُ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ وَالْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ عَبْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَيَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِطَرَفِ كُمِّهِ ، أَوْ بِطَرَفِ رِدَائِهِ .

وَكَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَصَا ، وَقَالَ { : التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ } .

وَرَعَى الْغَنَمَ وَقَالَ { : مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا ، وَقَدْ رَعَاهَا وَعَقَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ } .

وَكَانَ لَا يَدَعُ الْعَقِيقَةَ عَنْ الْمَوْلُودِ مِنْ أَهْلِهِ وَيَأْمُرُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ يَوْمَ السَّابِعِ وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ وَيَقُولُ : مَا مِنَّا إلَّا مَنْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ .

{ وَكَانَ إذَا جَاءَهُ مَا يُحِبُّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَإِذَا جَاءَهُ مَا يَكْرَهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ } { ، وَإِذَا رُفِعَ الطَّعَامُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ } وَرُوِيَ فِيهِ { : الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرُ مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا } { ، وَإِذَا عَطَسَ خَفَضَ صَوْتَهُ وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ ، أَوْ بِثَوْبِهِ وَحَمِدَ اللَّهَ } .

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ جُلُوسِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ .

وَإِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ .

وَكَانَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَيَسْتَغْفِرُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَكَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ السَّحَرِ ، ثُمَّ يُوتِرُ ثُمَّ يَأْتِي فِرَاشَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْآذَانَ وَثَبَ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ .

وَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَائِمًا وَرُبَّمَا صَلَّى قَاعِدًا .

قَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ

يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ جَالِسًا .

وَكَانَ يُسْمَعُ لِجَوْفِهِ أَزِيزًا كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ .

وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَعَاشُورَاءَ وَقَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَكْثَرُ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ .

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ ، وَإِذَا نَامَ نَفَخَ وَلَا يَغُطُّ غَطِيطًا .

{ وَكَانَ إذَا رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَرُوعُهُ قَالَ : هُوَ اللَّهُ رَبِّي لَا شَرِيكَ لَهُ } ، وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَقَالَ { : رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ } .

وَكَانَ يَقُولُ { : اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا } ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ { : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ يُبَيِّنُ كَلَامَهُ حَتَّى يَحْفَظَهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ وَيُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتَعْقِلَ عَنْهُ .

وَيَخْزُنُ لِسَانَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَصْلًا لَا فُضُولًا وَلَا تَقْصِيرًا وَكَانَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّعْرِ وَكَانَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ : وَيَأْتِيَكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ وَرُبَّمَا ضَحِكَ مِنْ شَيْءٍ مُعْجِبٍ حَتَّى تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةٍ .

{ وَمَا عَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِيهِ تَرَكَهُ } وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَا عَلَى خُوَانٍ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَأْنَفُ فِي مَأْكَلٍ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ إنْ وَجَدَ تَمْرًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ وَجَدَ خُبْزًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ وَجَدَ لَبَنًا اكْتَفَى بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَشْبَعُ بِخُبْزِ الشَّعِيرِ وَكَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ لَا تُوقَدُ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ ، وَكَانَ قُوتُهُمْ التَّمْرَ وَالْمَاءَ وَكَانَ يَعْصِبُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ } .

هَذَا وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُبْزَ بِالْخَلِّ ، وَقَالَ { : نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } وَأَكَلَ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَكَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ وَيَأْكُلُهُ وَيُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ مِنْ الشَّاةِ وَقَالَ : إنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ وَقَالَ { : كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ يَعْنِي مَا بَقِيَ مِنْ الطَّعَامِ وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ هَذَا أَدَمُ هَذَا وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ ، وَالْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرَ بِالزُّبْدِ وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَاعِدًا وَرُبَّمَا شَرِبَ قَائِمًا وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا ، وَإِذَا فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهَا بَدَأَ بِمَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشَرِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَنًا ، وَقَالَ { : مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ } .

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِي مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ } زَادَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَكَانَ أَحَلَمَ النَّاسِ وَأَعْدَلَ وَأَعَفَّ النَّاسِ لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ قَطُّ

امْرَأَةً إلَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا أَوْ عِصْمَةِ نِكَاحِهَا ، أَوْ تَكُونُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ .

أَسْخَى النَّاسِ لَا يَبِيتُ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ فَضَلَ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيهِ وَفَاجَأَهُ اللَّيْلُ لَمْ يَأْوِ إلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ .

لَا يَأْخُذُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ إلَّا قُوتَ عَامِهِ فَقَطْ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَجِدُ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَيَضَعُ سَائِرَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى قُوتِ عَامِهِ فَيُؤْثِرُ مِنْهُ حَتَّى يَحْتَاجَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَامِ .

أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ .

يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَوْ أَنَّهَا جَرْعَةُ لَبَنٍ .

وَتَسْتَتْبِعُهُ الْأَمَةُ وَالْمِسْكِينُ فَيَتْبَعُهُمَا حَيْثُ دَعْوَاهُ .

لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِرَبِّهِ .

مِنْدِيلُهُ بَاطِنُ قَدَمِهِ .

يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ .

أَشَدُّ النَّاسِ تَوَاضُعًا وَأَسْكَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَأَبْلَغُهُمْ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ .

لَا يَهُولُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا .

يُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَيُؤَاكِلُ الْمَسَاكِينَ وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَيَتَأَلَّفُ أَهْلَ الشَّرَفِ بِالْبِرِّ لَهُمْ .

يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْثِرَهُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ لَا يَجْفُو عَلَى أَحَدٍ .

يَقْبَلُ مَعْذِرَةَ الْمُعْتَذِرِ .

يَخْرُجُ إلَى بَسَاتِينِ أَصْحَابِهِ لَا يُحَقِّرُ مِسْكِينًا لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ .

وَلَا يَهَابُ مَلِكًا لِمُلْكِهِ .

يَدْعُو هَذَا وَهَذَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - دُعَاءً مُسْتَوِيًا .

وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ السِّيرَةَ الْفَاضِلَةَ وَالسِّيَاسَةَ التَّامَّةَ ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ نَشَأَ فِي بِلَادِ الْجَهْلِ وَالصَّحَارَى فَعَلَّمَهُ اللَّهُ جَمِيعَ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالطُّرُقِ الْحَمِيدَةِ وَأَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ وَمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْغِبْطَةُ وَالْخَلَاصُ فِي الدُّنْيَا .

قَالَ الْبَاجِيُّ

رَحِمَهُ اللَّهُ : وَذَكَرَ الْعُتْبِىُّ قَالَ { : كُنْتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ { : وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } .

وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي ، ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ : يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي الْأَرْضِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ .

قَالَ الْعُتْبِيُّ : فَغَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي : يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ } .

وَمِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يَأْخُذْ عَنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ وَيُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا فَقَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ } .

وَمِنْهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ } وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ

مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي }

( فَصْلٌ ) : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّبْعَةِ الَّذِينَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الدِّينِ ، وَنَرْجِعُ الْآنَ إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَهُوَ تَصَرُّفُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ النِّيَّةِ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ ، وَمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرٌ .

فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى ، وَالْآكَدُ فَالْآكَدُ .

فَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ : غُسْلُ الْمَيِّتِ وَحَفْرُ الْقَبْرِ وَغَيْرُهُمَا وَمَا يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ إذْ إنَّهُ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَآكَدِهَا .

لَكِنْ نُقَدِّمُ أَوَّلًا ذِكْرَ حَالِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْآدَابِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَوَرَدَ أَيْضًا { : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَبَهُ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ وَلَا صَغِيرٌ يَعْبَثُ لَا يَرْجِعُ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ يُنْهَى عَنْهُ .

وَيَنْبَغِي أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثَوْبُهُ طَاهِرًا وَبَدَنُهُ طَاهِرًا ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ يَكُونُ كَذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحْتَضَرِ إذْ ذَاكَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الطِّيبِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَهُ إذْ ذَاكَ أَحْسَنُ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ هَدْيًا وَخُلُقًا وَدِينًا وَسَمْتًا وَوَقَارًا فَيُلَقِّنُهُ كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ بِرِفْقٍ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَهْرًا ، ثُمَّ يَسْكُتُ سَاعَةً ، ثُمَّ يُعِيدُهَا ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يُقْضَى .

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ : قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَوْ يُلِحَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ : قُلْ لَا إلَهَ إلَّا

اللَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ الْمُحْتَضَرُ إذْ ذَاكَ ، وَقَدْ يَكُونُ أَخَذَتْهُ غَشْيَةٌ فَيَتَوَهَّمُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ ، وَإِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وُصِفَ قَبْلُ سَلِمَ مِنْ هَذَا .

وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ وَلِلْحَاضِرِينَ لَكِنْ بِخَفْضِ صَوْتٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَحْضُرُونَ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي .

وَهَذَا الْمَوْطِنُ مِنْ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِرَاءَةَ عِنْدَهُ بِسُورَةِ يس وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ ، وَأَجَازَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مِنْ الْوَقَارِ وَالتُّؤَدَةِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي تَوْجِيهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ ، وَكَرِهَ أَنْ يُعْمَلَ ذَلِكَ اسْتِنَانًا .

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي كَانَ يُعَظِّمُهَا فِي حَيَاتِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ حَتَّى يُعَايِنَ ، وَهُوَ أَنْ يَشْخَصَ بِبَصَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ قَدْ يُوهِمُهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ أَوْ لِلْغَشَيَانِ عَلَيْهِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُلَقِّنُهُ أَنْ لَا يَضْجَرَ وَلَا يَقْلَقَ إنْ طَالَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَوَجَدَ مَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْخُذَ رَاحَةً لِنَفْسِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَلَا يُلَقِّنُونَهُ بِجَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْرِجُهُ وَيُقْلِقُهُ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْجَرَ أَيْضًا مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الْمُحْتَضَرِ لِمَا يُلْقِيهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ يُرَى مِنْ بَعْضِهِمْ عَدَمُ الْقَبُولِ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ إذَا اُحْتُضِرَ يَأْتِيهِ شَيْطَانَانِ : أَحَدُهُمَا عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ ، وَالْآخَرُ

عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ ، فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ يَمِينِهِ عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ : يَا بُنَيَّ أَنَا قَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ عَرَفْتُ الْحَقَّ فِيهِ وَالدِّينَ الْأَقْوَمَ الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ ، وَهُوَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَمُتْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ ، وَيَقُولُ الَّذِي عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ : يَا بُنَيَّ قَدْ كَانَ بَطْنِي لَك وِعَاءً وَثَدْيِي لَك سِقَاءً وَحِجْرِي لَك وِطَاءً ، وَأَنَا أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ، وَقَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا الْمَوْطِنِ وَعَرَفْتُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فَمُتْ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْأَدْيَانَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ ، وَالْأَمْرُ أَمْرٌ خَطِرٌ عَظِيمٌ فِي الْخَطَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرُوا لَهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَجْتَنِبُوا اللَّغَطَ وَالْقِيلَ وَالْقَالَ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّ بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ جَاءُوا إلَى الْبِلَادِ بِنِيَّةِ الْحِجَازِ فَمَرِضَ بَعْضُهُمْ وَاحْتُضِرَ فَجَلَسَ إلَيْهِ رُفَقَاؤُهُ يُلَقِّنُونَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَكَانَ إذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَعَّرَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَسَارِ ، وَإِذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ ذَلِكَ مَعَّرَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ النَّوْمُ فَنَامُوا ، وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُلَقِّنُهُ ، فَإِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ دَار إلَيْهِ ، وَإِذَا حَوَّلَهُ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ دَارَ إلَيْهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَيْضًا كَأَصْحَابِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي النَّوْمِ إذْ رَأَى النَّاسَ يَتَجَارَوْنَ قَالَ : فَقُلْت : فَمَا بَالُ النَّاسِ ؟ فَقَالُوا : هُمْ مَاشُونَ إلَى فُلَانٍ " اسْمِ الْمُحْتَضَرِ " يُهَنِّؤُنَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْت : هَذَا صَاحِبِي فَأَسْرَعْت مَعَهُمْ لِأُهَنِّيَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُهَنِّيهِ

فَجِئْنَا إلَى بَابٍ كَبِيرٍ فَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، فَدَخَلْت مَعَهُمْ ، فَإِذَا بِصَاحِبِي وَاقِفٌ ، وَالنَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَزَاحَمْت مَعَهُمْ حَتَّى اجْتَمَعْت بِهِ فَهَنَّيْتُهُ كَمَا فَعَلَ غَيْرِي ، فَأَمْسَكَ بِيَدِي وَقَالَ : آهٍ يَا فُلَانُ مَا هَذَا الْحَالُ الَّذِي فَعَلْتُمْ مَعِي تَرَكْتُمُونِي وَحِيدًا لِلشَّيَاطِينِ يَتَسَلَّمُونِي ، فَقُلْت لَهُ : كُنَّا نُلَقِّنُك وَأَنْتَ تُمَعِّرُ وَجْهَك وَتُعْرِضُ عَنَّا يَمِينًا وَيَسَارًا فَقَالَ لِي : مَا عَنْكُمْ كُنْت أُعْرِضُ ، وَإِنَّمَا كُنْت أُعْرِضُ عَنْ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمَا أَتَيَانِي عَلَى صِفَةِ أَبِي مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَعَلَى صِفَةِ أُمِّي مِنْ جِهَةِ الْيَسَارِ ؛ فَهَذَا يَدْعُونِي إلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَهَذِهِ تَدْعُونِي إلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ ، وَكَانَ كَلَامُكُمْ يُؤْنِسُنِي وَأَسْتَوْثِقُ بِهِ ، فَلَمَّا نِمْتُمْ تَسَلَّمَانِي لَكِنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنِي ، فَإِنَّنِي لَمَّا أَنْ بَقِيت وَحِيدًا نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَهَزَّهَا عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ لَهُمَا : إلَيْكُمَا عَنْ وَلِيِّ اللَّهِ فَوَلَّيَا هَارِبَيْنِ ، ثُمَّ لَقَّنَنِي الشَّهَادَةَ فَقُلْتهَا فَمُتُّ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَهَؤُلَاءِ يُهَنُّونَنِي بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ فَقَامَ إلَى صَاحِبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْمَوْتُ وَلُقِّنَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ : لَا .

فَرُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ : كُنَّا نَقُولُ لَك : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : لَا ، فَقَالَ : كَانَ إبْلِيسُ تَعَرَّضَ لِي وَقَالَ لِي : سَلِمْت مِنِّي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت لَهُ : مَا دَامَتْ الرُّوحُ فِي الْحُلْقُومِ لَا أَسْلَمُ مِنْك ، وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ لَا لَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ

بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ : اُنْظُرْ مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ ، فَإِنْ هُوَ إذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ لِعَبْدِي عَلَيَّ إنْ تَوَفَّيْته أُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْته أَنْ أُبْدِلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصِيبُ الْعَبْدَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ قَالَ وَقَرَأَ } { : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } الْآيَةَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ أَحَدًا يَبْكِي حَوْلَهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ ، وَمَنْ كَانَ بَاكِيًا مِنْ جَمَاعَتِهِ فَلْيَعْتَزِلْ عَنْهُ بِمَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُهُ الْمُحْتَضَرُ وَلَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ بِالدُّمُوعِ حِينَئِذٍ ، وَحُسْنُ التَّعَزِّي وَالتَّصَبُّرِ أَوْلَى وَأَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ السَّخَطِ وَالضَّجَرِ وَلْيَكُنْ مُوقِنًا بِالْعِوَضِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ حَلٌّ وَلَا رَبْطٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَاَلَّذِي أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ يُقِيمُهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا يُحْوِجُهُ إلَيْهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ ، وَيَتَعَلَّقَ بِهَا حِينَ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ ، فَيَقُولُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ : { مَا مِنْ امْرِئٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاعْقُبْنِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَبْدَلَهُ خَيْرًا مِنْهَا } قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَلَمَّا أَنْ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ جَعَلْت أَقُولُهَا وَقُلْت : وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ، ثُمَّ قُلْت : أَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فَأَقُولُهَا فَقُلْتهَا ؛

===================

ج11. كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ{{أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَمَا قَالَتْ .

وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ إذْ ذَاكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِنَّ مِنْ الرِّقَّةِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ قِلَّتِهِمَا وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضَرِ فَيُتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَخَرَقَ وَدَلَقَ وَسَلَقَ } ، وَمَعْنَى حَلَقَ : حَلَقَ الشُّعُورَ وَخَرَقَ : خَرَقَ الْبَابَ وَدَلَقَ هُوَ تَخْمِيشُ الْوُجُوهِ وَالضَّرْبُ عَلَى الْخُدُودِ ، وَسَلَقَ هُوَ الْكَلَامُ الرَّدِيءُ الْقَبِيحُ وَمِنْهُ { : سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ : وَاجَبَلَاهُ وَاسَنَدَاهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ : أَهَكَذَا كُنْت } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي ، وَتَقُولُ : وَاجَبَلَاه وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ : مَا قُلْتِ شَيْئًا إلَّا قِيلَ : لِي أَنْتَ كَذَا ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ مِنْ الرِّجَالِ أَنْ لَا يُظْهِرَ الْجَزَعَ إذْ ذَاكَ ، فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِلنِّسَاءِ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْهُنَّ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جُهْدَهُ مَعَ وُجُودِ الرِّفْقِ

وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَعَ أَهْلِ الْمَيِّتِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَقَامَ سَطْوَةَ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ مَا فِيهِ مَا قَرَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فَإِذَا وَجَبَتْ أَيْ مَاتَ فَلَا تَبْكِي بَاكِيَةٌ } فَلَا يَتَعَدَّى مَا حَدَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْضُرَ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَتَغْيِيرُهُ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ ، فَإِذَا لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَدَمُ حُضُورِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ عَنْهُ } ، لَكِنَّهُ إنْ كَانَ قُدْوَةً فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حُضُورِهِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَكَشْفِ وُجُوهِهِنَّ وَتَسْوِيدِهَا وَتَسْوِيدِ بَعْضِ أَجْسَادِهِنَّ وَنَشْرِ الشُّعُورِ ، وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، وَهُوَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَلِبَاسِ الْأَزْرَقِ وَالسَّوَادِ ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ خَرْقِ قُعُورِ الْقُدُورِ السُّودِ وَجَعْلِهَا فِي حُلُوقِهِمْ وَسَكْبِ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ وَتَلْطِيخِ الْبُيُوتِ بِالسَّوَادِ ، وَمَا يَجْعَلُونَهُ فِي الْأَعْنَاقِ مِنْ السَّلَاسِلِ .

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا التَّفَاؤُلُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تَوَعَّدَ بِهَا أَهْلَ النَّارِ .

أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ .

وَتَحْفِيَتِهِمْ لِلْأَقْدَامِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ، وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُ لُبْسَ السَّوَادِ وَيُعَوِّضُ عَنْهُ الْبَيَاضَ ، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ الْبَيَاضِ مُبَاحًا أَوْ مَأْمُورًا بِهِ فِي

بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنَانِ بِهِ بِدْعَةٌ .

وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ مَوْتِ مَيِّتِهِمْ وَلَا يَرْجِعُونَ لَهَا إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِيهَا : فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ ، فَيَحْرِمُهُمْ اللَّعِينُ ثَوَابَ مُصَابِهِمْ وَثَوَابَ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُهُمْ فِي الْإِثْمِ فِي تَرْكِهَا بِعَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَالْإِحْدَادُ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَاعَ مِنْ خَمْسٍ : لِبَاسِ الْمُصَبَّغَاتِ كُلِّهَا إلَّا السَّوَادَ ، وَالْحُلِيِّ ، وَالْكُحْلِ ، وَالطِّيبِ ، وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ؟ وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ أَيْضًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ حُضُورُ الطَّارَاتِ وَالضَّرْبُ بِهَا سِيَّمَا مَعَ النَّائِحَةِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : كُلُّ نَائِحَةٍ فِي النَّارِ إلَّا نَائِحَةَ حَمْزَةَ } وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَسِيد بْنِ أَبِي أَسِيدٍ عَنْ { امْرَأَةٍ مِنْ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ : كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَعْصِيَهُ فِيهِ أَنْ لَا نَخْمُشَ وَجْهًا وَلَا نَدْعُوَ وَيْلًا وَلَا نَشُقَّ جَيْبًا وَلَا نَنْشُرَ شَعْرًا } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ { : أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ عَلَى مَيِّتٍ } .

وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ

أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ إنَّ نِسَاءً سَاعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَنُسَاعِدُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ } .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ فَقَالَ : إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ فَإِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ النَّعْيِ الْأَذَانُ عَلَى الْمَيِّتِ .

ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا .

وَلَوْ أَخَذْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ رَاحَةً وَخَفَضْنَ مِنْ أَصْوَاتِهِنَّ حِينَ نَعْيِهِنَّ ، ثُمَّ اعْتَدْنَ مَعَ ذَلِكَ عَادَةً جَاهِلِيَّةً ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَاءَتْ لِتُعَزِّيَ تَدْخُلُ ، وَهِيَ تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَاللَّطْمِ عَلَى الْخُدُودِ وَتَخْمِيشِ الْوُجُوهِ ، وَتَتَلَقَّاهَا النَّوَائِحُ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ فِعْلِهِنَّ الذَّمِيمِ وَيَتَكَلَّفْنَ إذْ ذَاكَ رَفْعَ أَصْوَاتِهِنَّ ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ قُمْنَ إلَى لِقَائِهِنَّ ، وَفَعَلْنَ مَعَهُنَّ كَفِعْلِهِنَّ وَيَعْمَلْنَ كَذَلِكَ سَاعَةً ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ مَعَ كُلِّ مَنْ أَتَى إلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ لِلتَّعْزِيَةِ ، وَيَبْقَيْنَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً عَلَى قَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ مَعَارِفُهُنَّ ، وَيَفْعَلْنَ مَعَ ذَلِكَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً شَنِيعَةً تُنَزَّهُ الْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا ، وَالْأَلْسُنُ عَنْ النُّطْقِ بِهَا فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِهَا ، وَكُلُّهَا مُصَادِمَةٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَهِيَ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَوَائِدِ الْبِلَادِ ، وَالْأَقَالِيمِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جُهْدَهُ ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَا يَحْضُرُ مَوْضِعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ حَضَرَ لَكَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَعْنِي فِي حُصُولِ الْإِثْمِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ

اعْتِقَادُهُ لَيْسَ كَاعْتِقَادِهِمْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَ بِمَنِّهِ .

فَإِذَا قَضَى الْمَيِّتُ فَلْيَشْتَغِلْ مَنْ حَضَرَهُ بِحَقِّهِ وَيَأْخُذْ فِي إصْلَاحِ شَأْنِهِ .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا تَبْقَى مَفْتُوحَتَيْنِ ، وَذَلِكَ شَوَهٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِصَابَةً أَوْ طَرَفَ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرَهُمَا وَيَجْعَلَهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَيَشُدَّهَا عَلَى رَأْسِهِ لِئَلَّا تَسْتَرْخِيَ ذَقَنُهُ فَيَبْقَى فَاهُ مَفْتُوحًا ، وَذَلِكَ شَوَهٌ ، وَقَدْ يَنْزِلُ الْمَاءُ فِي جَوْفِهِ حِينَ غُسْلِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ تَكْفِينِهِ فَيُلَوِّثُهُ ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْهَوَامُّ مِنْهُ لِجَوْفِهِ إذَا كَانَ مَفْتُوحًا ، ثُمَّ يُلِينُ مَفَاصِلَهُ وَيَمُدُّ يَدَيْهِ مَدًّا ، وَكَذَلِكَ رُكْبَتَيْهِ حِينَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَذَّرَ مَدُّهَا .

ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ حَدِيدَةً أَوْ سِكِّينًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَطِينًا مَبْلُولًا طَاهِرًا ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ فُؤَادُهُ فَيُخْشَى أَنْ يَتَفَجَّرَ قَبْلَ حُلُولِهِ فِي قَبْرِهِ ، ثُمَّ يُزِيلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا عَدَا الْقَمِيصَ ، ثُمَّ يُجْعَلَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَدَكَّةٍ وَنَحْوِهَا لِئَلَّا يَتَسَارَعَ إلَيْهِ الْهَوَامُّ وَالتَّغْيِيرُ وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ .

ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَجْهِيزِهِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ مِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ الِاسْتِعْجَالَ بِدَفْنِهِ وَمُوَارَاتِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ فَجْأَةً ، أَوْ بِصَعْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ سَبْتَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَلَا يُسْتَعْجَلْ عَلَيْهِ وَيُمْهَلْ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ ، وَلَوْ أَتَى عَلَيْهِ الْيَوْمَانِ وَالثَّلَاثَةُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَغْيِيرُهُ فَيَحْصُلُ التَّيَقُّنُ بِمَوْتِهِ ؛ لِئَلَّا يُدْفَنَ حَيًّا فَيُحْتَاطَ لَهُ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِكَثِيرٍ فَيُتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا .

وَإِذَا فَعَلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ وَغَيْرِهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِتُؤَدَةٍ وَوَقَارٍ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ كَحُرْمَةِ الْحَيِّ .

وَيُسَمِّي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الْأَخْذِ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ أَوْقَدُوا عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَمْعَةً حَتَّى يُصْبِحَ ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الشَّمْعِ أَوْقَدُوا سِرَاجًا عَلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ وَيُيَسِّرُ قَبْلَ غُسْلِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْكَفَنِ ، وَالْحُنُوطِ وَيُبَخِّرُ الْكَفَنَ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي غُسْلِهِ فَيَشُدُّ عَلَى وَسَطِ الْمَيِّتِ مِئْزَرًا غَلِيظًا ، ثُمَّ يُعَرِّيهِ مِنْ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُغَسِّلُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنْ يُغْسَلَ فِي قَمِيصٍ وَلَا يُعَرَّى وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَرَادُوا أَنْ يُعَرُّوهُ كَمَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ فَسَمِعُوا الْهَاتِفَ يَقُولُ : غَسِّلُوهُ فِي الْقَمِيصِ } وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَعْرِيَةِ الْمَيِّتِ مِنْ الْقَمِيصِ ؛ لِأَنَّهُمْ { أَرَادُوا أَنْ يُغَسِّلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَجَرِّدًا مِنْ الْقَمِيصِ كَمَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ حَتَّى سَمِعُوا الْهَاتِفَ فَتَرَكُوهُ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ تَعْرِيَةَ الْمَيِّتِ أَبْلَغُ فِي تَنْظِيفِهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً غَلِيظَةً فَوْقَ الْمِئْزَرِ حَتَّى لَا تُوصَفَ الْعَوْرَةُ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ إلَّا الْغَاسِلُ وَحْدَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُعِينُهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ لَهَا أَحْكَامٌ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ وَمَنْ يُعِينُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ ، وَالْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ فَقَدْ

يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَقَاوَتِهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إنْ رَأَى خَيْرًا فَإِنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ، وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ سَكَتَ عَنْهُ وَلَا يَبُوحُ بِهِ لِأَحَدٍ .

وَغُسْلُ الْمَيِّتِ مِنْ أَحَدِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْحَيِّ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَرْبَعًا : غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ ، وَالْغُسْلُ أَوَّلُهَا ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَيْفِيَّةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ إلَّا أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ يَتَوَلَّاهُ الْحَيُّ بِنَفْسِهِ غَالِبًا وَهَذَا يُغَسِّلُهُ غَيْرُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَرَائِضُهَا وَسُنَنُهَا وَفَضَائِلُهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِغُسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ فَيُبَاشِرُ مَحَلَّ النَّجْوِ بِخِرْقَةٍ غَلِيظَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصُّوفِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَيَعْرُكُ بِهَا الْمَوْضِعَ ، وَمَنْ يُعِينُهُ يَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْخِرْقَةَ غَسْلًا جَيِّدًا حَتَّى تَطْهُرَ ، ثُمَّ يُعِيدُ غَسْلَ الْمَحَلِّ ، وَهُوَ يَعْرُكُ بِهَا حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ وَتَنَظَّفَ فَحِينَئِذٍ يُفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ مِنْ فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي بَدَنِهِ فَمَهْمَا شَعَرَ بِنَجَاسَةٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْهُ غَسَلَهَا عَنْهُ ، وَالْبَخُورُ إذْ ذَاكَ حَاضِرٌ يُبَخَّرُ بِهِ لِئَلَّا تُشَمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ ، وَالْمَيِّتُ يَكْرَهُ أَنْ يُشَمَّ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ الْحَيِّ ، ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ عَصْرًا رَفِيقًا ، وَمَنْ يُعِينُهُ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ حِينَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ وَيُزَادُ فِي الْبَخُورِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِمَّا قَبْلَهُ حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَنْقَى جَسَدَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَأَعَادَ غَسْلَ الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ بِخِرْقَةٍ أُخْرَى أَوْ بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا وَتَطْهِيرِهَا وَتَنْظِيفِهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِالْيَدِ هَلْ يُبَاشِرُهَا بِيَدِهِ لِلضَّرُورَةِ أَوْ يَتْرُكُهَا كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا وَلَا

يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَيِّتِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ حَلْقِ عَانَةٍ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْشِفُونَ الْعَوْرَةَ لِحَلْقِهَا فَيُشَاهِدُهَا مَنْ يُزِيلُهَا ، وَمَنْ يُعِينُهُ فِي غُسْلِهِ وَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا غُسِّلَ يَحْضُرُ غُسْلَهُ أَقَارِبُهُ وَأَصْحَابُهُ ، وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ لَوْ سَلِمَ مِنْ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَلْقَ عَانَتِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ ، وَاطِّلَاعُ غَيْرِهِ مُحَرَّمٌ .

، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي النَّجَاسَةِ إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهَا إلَّا بِالْيَدِ فَمَا بَالُك بِإِزَالَةِ شَيْءٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إزَالَتُهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لِمَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ فَبَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : افْعَلُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَفْعَلُوا بِعَرُوسِكُمْ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا يَتَوَلَّاهُ الْعَرُوسُ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ .

وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْأَحْيَاءِ فَضْلًا عَنْ الْمَوْتَى فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَدْخُلُونَ إلَى الْحَمَّامِ فَيَأْمُرُونَ الْبَلَّانَ أَنْ يَحْلِقَ لَهُمْ عَانَتَهُمْ فَيَكْشِفُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَيْتَهُ لَوْ كَانَ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لَكِنْ يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ فِي

الْحَمَّامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَلْيَأْخُذْ رَأْسَ الْمَيِّتِ فَيُحَوِّلُهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ الدَّكَّةِ قَلِيلًا وَيَجْعَلُ فَمَه وَأَنْفَهُ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَيَعْصِرُ أَنْفَهُ بِرِفْقٍ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ فَضْلَةٌ خَرَجَتْ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَى الدَّكَّةِ حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ تَنَظَّفَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَطَهُرَ ، ثُمَّ يُزِيلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْمِئْزَرِ ، ثُمَّ يَسْتُرُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ بِهِ بَعْدَ غَسْلِهِ ، وَيَتَحَفَّظُ عَلَى عَوْرَتِهِ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ .

فَإِذَا فَرَغَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى ، وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فَيَبْدَأُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَغْسِلُهَا وَيُمَضْمِضُ فَمَه بِرِفْقٍ بَعْدَ أَنْ يُحَوِّلَ رَأْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ مَضْمَضَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِهِ لِئَلَّا يَنْزِلَ الْمَاءُ جَوْفَهُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غُسْلِهِ وَيُسَوِّكُهُ بِخِرْقَةٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّهُ إلَى الدَّكَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ تَخْلِيلِ شَعْرِهِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ ، وَالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى مِنْ جَسَدِهِ ، وَيُقَلِّبُهُ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ يَمِينًا وَيَسَارًا وَظَهْرًا وَبَطْنًا حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ عَمَّهُ بِالْغُسْلِ ، فَهَذِهِ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْفَرْضُ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْنُ الْمَيِّتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إلَّا بِهَا .

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي تَنْظِيفِهِ مِنْ الْأَوْسَاخِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ كَمَا يُنَظَّفُ الْحَيُّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ فَجَعَلَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَيُذِيبُهُ فِيهِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْمَيِّتَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بَعْدَ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ ،

وَالْمِئْزَرِ وَالدَّكَّةِ مِنْ أَثَرِ السِّدْرِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ أَزَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ السُّتْرَةِ الْكَثِيفَةِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ خِرْقَةً لَطِيفَةً مِنْ شَمَخْتَانِيَّةٍ وَنَحْوِهَا ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ فَتَبْقَى الْعَوْرَةُ كَأَنَّهَا مَكْشُوفَةٌ إذَا ابْتَلَّتْ الْخِرْقَةُ بِالْمَاءِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بَلْ يَسْتُرُهُ بِمِثْلِ الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ أَوْ بِهَا بَعْدَ تَنْظِيفِهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَفَّظُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْمُحَاوَلَةِ وَيَغُضُّ طَرْفَهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جُهْدَهُ مَعَ التَّوْفِيَةِ بِغُسْلِهِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ الْمَيِّتَ يَجْعَلُهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّكَّةِ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، بَلْ يَكُونُ الْغَاسِلُ وَاقِفًا بِالْأَرْضِ وَيُقَلِّبُهُ عِنْدَ غَسْلِهِ لَهُ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ إذَا بَدَأَ فِي غُسْلِهِ أَخَذَ يَذْكُرُ لِكُلِّ عُضْوٍ يَغْسِلُهُ ذِكْرًا مِنْ الْأَذْكَارِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهَا ، وَهَذَا الْمَحَلُّ مَحَلُّ تَفَكُّرٍ وَاعْتِبَارٍ وَخَشْيَةٍ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَهُوَ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرُهُ بِدْعَةٌ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ تَمَّ غَسْلُهُ عَلَى الْكَمَالِ ، ثُمَّ يَتَفَقَّدُ فَمَه وَأَنْفَهُ مِنْ الْمَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْهُ : فَيُمِيلُ رَأْسَهُ خَارِجًا عَنْ الدَّكَّةِ ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِيهِمَا شَيْءٌ خَرَجَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى الدَّكَّةِ ، ثُمَّ يُنَظِّفُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يُقَلِّمُهَا ، وَتَقْلِيمُهَا

عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ إذْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ ، ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ .

وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِرَأْسِهِ وَيَتَرَفَّقُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ خَرَجَ فِي الْمُشْطِ شَعْرٌ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الْكَفَنِ يُدْفَنُ مَعَهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ فُوطَةً أَوْ غَيْرَهَا فَيُنَشِّفُ بِهَا جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ نَشَّفَ بِهَا الدَّكَّةَ حَتَّى لَا يَبْتَلَّ بِهَا مَا يَجْعَلُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ قَمِيصٍ وَغَيْرِهِ .

ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَجْهِيزِهِ ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ : أَنْ يَأْخُذَ قُطْنَةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ ، وَالْكَافُورُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ يُرْدِعُ الْمَوَادَّ فَيَجْعَلُهَا عَلَى فَمِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ قُطْنَةً أُخْرَى فَيَفْعَلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ وَيَسُدُّ بِهَا أَنْفَهُ ، ثُمَّ أُخْرَى مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى وَيُرْسِلُهَا فِي أَنْفِهِ قَلِيلًا ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً فَيَشُدُّهَا عَلَى الْفَمِ ، وَالْأَنْفِ ، ثُمَّ يَعْقِدُهَا مِنْ خَلْفِ عُنُقِهِ عَقْدًا وَثِيقًا فَتَبْقَى كَأَنَّهَا اللِّثَامُ ، ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ خِرْقَةً ثَانِيَةً بَعْدَ وَضْعِ الْقُطْنِ مَعَ الْكَافُورِ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَيَعْقِدُهَا عَقْدًا جَيِّدًا فَتَصِيرُ كَالْعِصَابَةِ .

ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً ثَالِثَةً فَيَشُدُّ بِهَا وَسَطَهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً رَابِعَةً فَيَعْقِدُهَا عَلَى هَذِهِ الْخِرْقَةِ الْمَشْدُودِ بِهَا وَسَطُهُ أَوْ يَخِيطُهَا فِيهَا ، ثُمَّ يَلْحُمُهَا بِهَا بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ قُطْنَةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ وَالْكَافُورِ ، وَهُوَ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْعُضْوَ وَيَسُدُّهُ ، وَيَجْعَلَهَا عَلَى بَابِ الدُّبُرِ وَيُرْسِلَ ذَلِكَ قَلِيلًا بِرِفْقٍ ، وَيَزِيدُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقُبُلِ قُطْنَةً أُخْرَى وَيَفْعَلُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الدُّبْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، ثُمَّ يَلْحُمُهُ عَلَيْهِ بِالْخِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ ، ثُمَّ يَرْبِطُهَا رَبْطًا وَثِيقًا .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، بَلْ الْمُحَرَّمُ الَّذِي

يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَخْرِقُونَ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ وَيُرْسِلُونَ فِي دُبُرِهِ قُطْنًا وَكَذَلِكَ فِي حَلْقِهِ وَأَنْفِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَإِخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ .

، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَكْفِينِهِ فَيَشُدُّ عَلَى وَسَطِهِ مِئْزَرًا أَوْ يُلْبِسُهُ سَرَاوِيلَ وَهُوَ أَسْتَرُ لَهُ .

ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ .

قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُقَمَّصُ وَيُعَمَّمُ .

ثُمَّ يُعَمِّمُهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْعِمَامَةِ ذُؤَابَةً وَتَحْنِيكًا كَمَا هِيَ الْعِمَامَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي حَقِّ الْحَيِّ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَيَّ يُرْخِي التَّحْنِيكَ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَشُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقُ فِي عَقْدِهِ لِئَلَّا يَسْتَرْخِيَ ذَقَنُهُ وَيَنْفَتِحَ فَمُهُ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ يُلَوِّثُ الْكَفَنَ ثُمَّ يُعَمِّمُهُ بِبَاقِي الْعِمَامَةِ وَيَشُدُّهَا شَدًّا وَثِيقًا بِخِلَافِ عِمَامَةِ الْحَيِّ ثُمَّ يَبْسُطُ الذُّؤَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَسْتُرُ وَجْهَهُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِمَا يَفْضُلُ مِنْ الْمَنَعَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَسْتُرُ بِهَا وَجْهَهَا .

ثُمَّ يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ الْكَفَنِ فَيَجْعَلُهُ عَلَيْهِ وَيُحَنِّطُهُ .

وَمَوَاضِعُ الْحُنُوطِ خَمْسٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى ظَاهِرِ جَسَدِ الْمَيِّتِ .

الثَّانِي : يُجْعَلُ فِيمَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَلَا يُجْعَلُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَفَنِ .

الثَّالِثُ : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاجِدِ السَّبْعَةِ وَهِيَ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْكَفَّانِ مَعَ الْأَصَابِعِ وَالرُّكْبَتَانِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ .

الرَّابِعُ : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى مَنَافِذِ الْوَجْهِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

الْخَامِسُ : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْأَرْفَاغِ وَهِيَ مَغَابِنُ الْجَسَدِ خَلْفَ أُذُنَيْهِ وَتَحْتَ حَلْقِهِ وَتَحْتَ إبْطَيْهِ وَفِي سُرَّتِهِ وَمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَأَسَافِلِ رُكْبَتَيْهِ وَقَعْرِ قَدَمَيْهِ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ الطِّيبِ ، فَإِنْ قَلَّ عَنْ اسْتِيعَابِ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى الْأَرْفَاغِ وَالْمَسَاجِدِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي وِتْرٍ .

ثُمَّ يَأْخُذُ طَرَفَ أَحَدِ كُمَّيْهِ فَيَرْبِطُهُ بِطَرَفِ الْكُمِّ الْآخَرِ رَبْطًا وَثِيقًا .

ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً

طَوِيلَةً فَيَرْبِطُهَا مَوْضِعَ رَبْطِ الْكُمَّيْنِ ثُمَّ يَمُدُّهَا إلَى إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ فَيَرْبِطُهَا فِيهِمَا رَبْطًا جَيِّدًا وَثِيقًا لِئَلَّا تَتَحَرَّكَ أَطْرَافُهُ وَتَتَفَرَّقَ .

فَإِذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ أَمِنَ مِنْ حَرَكَتِهَا .

وَهَذِهِ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ إنَّمَا هِيَ إذَا أَلْبَسَ الْمَيِّتَ الْقَمِيصَ .

وَأَمَّا إذَا أَدْرَجَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى فِعْلِ ذَلِكَ لِعَدَمِ حَرَكَةِ أَطْرَافِهِ .

فَإِذَا جَاءَ إلَى لَحْدِهِ أَزَالَ الرِّبَاطَ عَنْهُ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْقُطْنَ الْكَثِيرَ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَعْلُوَ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَتَحْتَ حَنَكِهِ وَتَحْتَ رَقَبَتِهِ حَتَّى تَصِيرَ رَأْسُهُ وَكَتِفَاهُ بِالسَّوَاءِ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَاقَيْهِ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا حَتَّى يَصِيرَ بَطْنُهُ وَرَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ بِالسَّوَاءِ .

وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ مُحَرَّمَيْنِ وَبِدْعَةٍ : فَالْمُحَرَّمُ الْأَوَّلُ إضَاعَةُ الْمَالِ فِي كَثْرَةِ الْقُطْنِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .

وَالْمُحَرَّمُ الثَّانِي أَخْذُ ثَمَنِ الْقُطْنِ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا قَدْرُ ضَرُورَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ غَصْبٌ لِحَقِّ الْوَارِثِ سِيَّمَا إذَا كَانَ صَغِيرًا ، وَلَوْ فَرَضَ وَرَضِيَ الْوَرَثَةُ لَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِدْعَةِ .

وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَكَوْنُهُمْ اعْتَادُوا أَنْ يُخْرِجُوهُ فِي كَفَنِهِ بِالسَّوَاءِ عِنْدَ النَّاظِرِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، وَالْمَيِّتُ يَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْحَيُّ فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ الْقُطْنِ عَلَى وَجْهِ الْحَيِّ لَكَانَ فِيهِ شَوْهٌ وَخَرْقٌ لِحُرْمَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { : كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْعَظْمِ وَغَيْرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، فَكُلُّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ إلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَمَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّرْعُ فِيهِ فَيُمْنَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .

وَالسُّنَّةُ فِي إدْرَاجِ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ رَأْسُهُ وَكَتِفَاهُ وَرِجْلَاهُ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَهُوَ فِي ثِيَابِهِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَيْبٌ عَظِيمٌ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ : إنَّ مَنْ غَسَلَ الْمَيِّتَ وَكَفَّنَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا أَنِسَ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ ، وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ .

وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { : كَيْفَ بِكَ يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } وَهَا هُوَ ذَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَرْءُ مَنْ اتَّصَفَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ الصَّالِحُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ بِمَنْ يَحْضُرُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَنْ يُغَسِّلُهُمْ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَمَنْ يَلْحَدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ هَذَا وَهُمْ كَمَا قِيلَ عُيُونٌ فِي الْعُيُونِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ فِي زَمَانِهِمْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَمَا بَالُك بِهَذَا الزَّمَانِ ؟ فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ لَعَلَّ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْخَلَاصُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ .

ثُمَّ إنَّ الْمُخَالَفَةَ هَاهُنَا صَعْبَةٌ ؛

لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْغَاسِلَ تَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَعَ عَنْ عَوَائِدِهِ الرَّدِيئَةِ لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ مَنْ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَنْظُرُ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آكَدِ وَصِيَّتِهِ أَنْ يُوصِيَ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَوْتَهُ أَوْ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَمَنْ يَلْحَدُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا ، إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الْمُبَاشَرَةِ لِذَلِكَ ، وَبَعْضُهُمْ يَهَابُ الْمَيِّتَ فَلَا يَتَوَلَّى غُسْلَهُ وَلَا تَجْهِيزَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الصَّلَاحِ غَالِبًا قَلَّ أَنْ يَعْرِفَ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَزِيزًا لِقِلَّةِ وُجُودِ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فِقْهًا وَعَمَلًا .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَيُلْقِيَ إلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَيُوصِي بِهِ إلَى شَخْصٍ يَقُومُ بِذَلِكَ عَارِفٍ بِالْأَحْكَامِ يَحْضُرُ حِينَ غُسْلِهِ ، وَيَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ، وَيَنْهَى عَنْ ضِدِّهَا مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَيَمْشِي عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمَوْصُوفِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَسِّلَهُ وَلَا يُكَفِّنَهُ إلَّا مَنْ يُرْجَى بَرَكَتُهُ وَخَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ آخِرُ عَهْدِهِ مِنْ الدُّنْيَا هَذَا الْمَوْطِنُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْتَمَ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبِهَا النَّفْعُ حَالًا وَمَآلًا .

وَمَا زَالَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِاعْتِنَائِهِمْ بِهِ .

وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ غُفِرَ لَهُ بِبَرَكَةِ مَنْ تَوَلَّى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْعَوَارِفِ لَهُ : أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ مَاتَ فَسُئِلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ " سَمَّاهُ " أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَرُئِيَ الْمَيِّتُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَقِيلَ لَهُ : مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك قَالَ : غَفَرَ لِي قِيلَ لَهُ : بِمَاذَا ؟ قَالَ : بِإِعْرَاضِ فُلَانٍ عَنِّي حَيْثُ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَؤُلَاءِ إقْبَالُهُمْ رَحْمَةٌ وَإِعْرَاضُهُمْ رَحْمَةٌ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ رُحِمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَامْتُثِلَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ فَرُحِمَ لِامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِيهِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُعْرِضًا فِي طُولِ عُمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْخِتَامَ إذَا كَانَ حَسَنًا لَعَلَّهُ يُحْسِنُ الْجَمِيعَ .

نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَوْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ .

وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ امْرَأَةٌ مُسْرِفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا فَمَاتَتْ عَلَى شَرِّ حَالٍ فَرَآهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي النَّوْمِ وَهِيَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ فُلَانَةُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَقَالَ : كَيْفَ حَالُك ؟ فَقَالَتْ : غُفِرَ لِي فَقَالَ لَهَا : بِمَاذَا ؟ وَقَدْ كُنْت وَكُنْت فَقَالَتْ : لَمَّا أَنْ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِي مُرَّ بِهَا عَلَى رَجُلٍ خَيَّاطٍ ، وَفِي كُمِّهِ ثَوْبٌ لِسَيِّدِي فُلَانٍ فَصَلَّى عَلَيَّ فَغُفِرَ لِي كَرَامَةً لِذَلِكَ الثَّوْبِ .

وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَوْلَادِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ

وَالِدَتَهُ أَتَتْ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا قَدْ تُوُفِّيَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ قَمِيصًا تُكَفِّنُهَا فِيهِ فَأَعْطَاهَا فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ أَخْبَرَهَا بِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ جَاءَاهَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : اذْهَبْ بِنَا فَإِنَّ ثَوْبَ الْمَرْجَانِيِّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا .

وَكُنْت أَعْهَدُ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ الْغَسَّالِينَ لِلْمَوْتَى عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرْتَضَى دِينُهُ غَسَلَهُ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ وَلَا عِوَضٍ ، بَلْ لِابْتِغَاءِ الثَّوَابِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي يُغَسِّلُونَ بِالْأُجْرَةِ وَهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ غُسْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْغُسْلِ بَالَغَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَنْظِيفِهِ ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَغْتَسِلُونَ فَيَدَعُونَ ذَلِكَ تَحَفُّظًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، فَإِذَا تَحَفَّظُوا فَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ يَأْخُذُهُ الْغَاسِلُ الَّذِي يُغَسِّلُهُ فَهَذِهِ بِدْعَةٌ جَرَّتْ إلَى الْمُحَرَّمِ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ إذَا عَلِمُوا بِأَنَّ الْغَاسِلَ يَأْخُذُ مَا عَلَى مَيِّتِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا عَلَيْهِ شَيْئًا إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَدْ يُتْرَكُ بَعْضُهُمْ مَوْصُوفَ الْعَوْرَةِ .

وَقَدْ مَاتَ بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ الْمَعَارِفِ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُغْسَلُ وَعَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ مِنْ عِمَامَةٍ شَمَخْتَانِيَّةٍ مَلْبُوسَةٍ وَقَدْ ابْتَلَّتْ بِالْمَاءِ فَبَقِيَتْ الْعَوْرَةُ مَوْصُوفَةً فَأَنْكَرْت عَلَيْهِمْ وَأَمَرْتُهُمْ بِسَتْرِهِ فَقَالَ الْغَاسِلُ : هَذَا الَّذِي وَجَدْنَاهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ فَأَخَذْت فُوطَةً جَدِيدَةً كَانَتْ عَلَيَّ إذْ ذَاكَ وَدَفَعْتهَا لَهُمْ لِيَسْتُرُوهُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى أَخُو الْمَيِّتِ ذَلِكَ أَسْرَعَ فَجَاءَ بِفُوطَتَيْنِ غَلِيظَتَيْنِ جِيَادٍ فَسَتَرُوهُ بِإِحْدَاهُمَا وَعَمِلُوا الْأُخْرَى مِنْ فَوْقِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلُ ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي ، بَلْ يَتَعَيَّنُ تَعْيِينُ أُجْرَةِ الْغَاسِلِ وَأَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا يَجِدُهُ عَلَى الْمَيِّتِ كَائِنًا مَا كَانَ فَتَنْسَدُّ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَ بِسَبَبِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِحَلْقِ الْعَانَةِ ،

وَالنَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِالْيَدِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ هَذَا .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهِيَ أَنَّهُمْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ نَادَوْا عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا اُحْتُضِرَ : إذْ أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ ، فَإِذَا مِتُّ فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسُلُّونِي إلَى رَبِّي سَلًّا } .

لَكِنْ قَدْ تَسَامَحَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ بِأَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَقُولَ : أَخُوكُمْ فُلَانٌ قَدْ مَاتَ بِصَوْتٍ يَجْهَرُ بِهِ عَلَى سُنَّةِ الْجَهْرِ لَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ وَعَوَائِدِهِمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَجْهَرُ بِصَوْتِهِ كَمَا ذُكِرَ .

وَأَمَّا عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فَيُمْنَعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ثُمَّ يَرْبِطُ الْكَفَنَ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَمِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ رَبْطًا وَثِيقًا .

ثُمَّ يَأْخُذُ فِي نَقْلِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْبَيْتِ إلَى النَّعْشِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِرِفْقٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ .

وَلْيَحْذَرْ عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُمْ عِنْدَ إخْرَاجِ الْمَيِّتِ يُقِيمُونَ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ نِسَاءً وَرِجَالًا ، وَقَدْ يَخْتَلِطُونَ وَهُوَ الْغَالِبُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ وَدَاعًا لِلْمَيِّتِ وَقِيَامًا بِحَقِّهِ ، وَذَلِكَ كَذِبٌ مِنْهُمْ وَافْتِرَاءٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لَطْمُ الْخُدُودِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ

فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ الْبُكَاءِ الْجَائِزِ فِي الشَّرْعِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَفْعُ صَوْتٍ ، أَوْ لَطْمٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا .

وَالتَّصَبُّرُ عَنْ الْبُكَاءِ أَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ إذَا دَخَلَ لِيُغَسِّلَ الْمَيِّتَ يُقِيمُونَ إذْ ذَاكَ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ وَيَفْعَلُونَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ ، بَلْ يَزِيدُ النِّسَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَةَ إذَا دَخَلَتْ لِتُغَسِّلَ الْمَيِّتَةَ قَامَ النِّسَاءُ إلَيْهَا بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَهِيَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَتَأْخُذُ حِذْرَهَا وَتَتَخَبَّأُ مِنْهُنَّ وَيَقُلْنَ لَهَا : يَا وَجْهَ الشُّؤْمِ فَتَقُولُ هِيَ لَهُنَّ جَوَابًا : إنَّمَا رَأَيْت الشُّؤْمَ عِنْدَكُنَّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الرَّدِيئَةِ ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يُمَكِّنَّهَا مِنْ تَغْسِيلِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ أَنْ تَعِظَهُنَّ وَتُذَكِّرَهُنَّ بِأَنَّ هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَلْيُحْذَرْ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

وَكَذَلِكَ يُحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذْ أَخَذُوا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ وَرُجُوعٍ وَسُكُونٍ يَفْعَلُونَ إذْ ذَاكَ ضِدَّ الْمُرَادِ وَيُكْثِرُونَ اللَّغَطَ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْحَمَّالِينَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أُجْرَةِ الْغُسْلِ وَالْمُشَاحَّةِ فِيهَا ، وَتَقَعُ ضَجَّةٌ عَظِيمَةٌ إذْ ذَاكَ وَهُوَ ضِدُّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْتَاجُ وَكِيلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَحْتَاطَ لَهُ بِمَا يَقْطَعُ مَادَّةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَمْنُوعَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِأَنْ يَتَّفِقَ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْحَمَّالِينَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ بَعْدَ

ذَلِكَ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُمْ غَاسِلٌ وَلَا حَمَّالٌ بِأُجْرَةٍ ، بَلْ كَانُوا يُغَسِّلُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَزَاحَمُونَ عَلَى النَّعْشِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَيَحْمِلُونَهُ بِالنَّوْبَةِ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ إلَى الْيَوْمِ بِبِلَادِ الْحِجَازِ غَالِبًا ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ عَجَزَ عَنْهُ فَيُزِيلُ مَا يَتَوَقَّعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ أَوْ الْغَاسِلَةَ إذَا فَرَغَا مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ يَأْتُونَ بِهِ إلَى حَضْرَةِ الرِّجَالِ إنْ كَانَ رَجُلًا أَوْ إلَى النِّسَاءِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً حَتَّى يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا مِنْ الْحَاضِرِينَ ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْرَامُ الْمَيِّتِ بِتَعْجِيلِ دَفْنِهِ .

وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } وَهَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ تَجْهِيزِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ مِنْهُمْ فِعْلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لِيَرُدَّ بِهِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدْعَةِ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ الْمَيِّتُ يَجْتَمِعُ تَحْتَ دَكَّةِ الْغُسْلِ فَيَعْمَلُونَ تُرَابًا حَوْلَهَا لِيَرُدَّ الْمَاءَ أَنْ يَسِيلَ مِنْ نَوَاحِيهَا الْأَرْبَعِ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْغُسْلِ رَفَعُوا الدَّكَّةَ وَنَزَحُوا مِنْ

الْمَاءِ مَا أَمْكَنَهُمْ ، ثُمَّ يَخْلِطُونَ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ التُّرَابِ ، ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ وَيَرْمُونَهُ خَارِجَ الْبَيْتِ فَتَتَنَجَّسُ أَيْدِيهِمْ وَأَجْسَادُهُمْ وَثِيَابُهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُونَ الْمَيِّتَ وَيَحْمِلُونَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ وَيَضَعُونَهُ عَلَى النَّعْشِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْسِلُوا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَاءِ النَّجَسِ فَيُنَجِّسُونَ الْكَفَنَ ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِطَهَارَتِهِ ، وَهَذَا عَكْسُ الْحَالِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .

فَإِذَا أَخَذُوا فِي إخْرَاجِهِ إلَى النَّعْشِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهِيَ حُضُورُ شَخْصٍ يُسَمُّونَهُ بِالْمُدِيرِ فَيُزَكِّي الْمَيِّتَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ : السَّعِيدُ الشَّهِيدُ الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الْخَاشِعُ الْوَرِعُ كَهْفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَلِلْمَرْأَةِ : السَّعِيدَةُ الشَّهِيدَةُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ الصُّرَاحِ ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَرُجُوعٍ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَابَلُوهُ بِضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهُمْ ، وَالْمَيِّتُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُضْطَرٌّ إلَى الدُّعَاءِ لَهُ وَإِظْهَارِ فَقْرِهِ وَمَسْكَنَتِهِ وَاضْطِرَارِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ فِي نَقِيضِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

ثُمَّ إنَّ الْمُدِيرَ لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّزْكِيَةِ لِلْمَيِّتِ وَالْكَذِبِ فِي حَقِّهِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِنَحْوِ قَوْلِهِ : لِيَتَقَدَّمَ سَيِّدُنَا الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : فُلَانُ الدِّينِ يَنْعَتُهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ الشَّرْعِيِّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النُّعُوتِ مِنْ الْمَنْعِ وَتَعْظِيمِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى

قَدْرِ مَا يَرْجُوهُ مِنْهُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَرُجُوعٍ وَتَوْبَةٍ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ حُضُورِ الْمُدِيرِ ، وَمَا يَرْضَوْنَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ نَقِيضُ وَعَكْسُ حَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَحَلِّ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ بِمَوْضِعٍ ، وَكَانَ بِقُرْبِهِ مَسْجِدٌ ، فَإِذَا أَتَى النَّاسُ جَلَسُوا فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الْجِنَازَةِ ، وَالْمَسْجِدُ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا لِلْجُلُوسِ فِيهِ لِانْتِظَارِ الْمَوْتَى فَيُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ الْجُلُوسِ فِيهِ لِغَيْرِ مَا بُنِيَ لَهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَدْخُلُ وَلَا يُصَلِّي التَّحِيَّةَ .

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَاهُ : إنَّهَا تُغْلَقُ وَلَا تُفْتَحُ إلَّا أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فِيهِ أَوْ انْتِظَارَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ حُضُورِ الْقُرَّاءِ إذْ ذَاكَ وَيُبْسَطُ لَهُمْ حَصِيرٌ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ بِسَاطٌ أَوْ هُمَا مَعًا فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَيَقْرَؤُنَّ الْقُرْآنَ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَشْيَاءُ .

فَمِنْهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يُقْرَأَ فِي الطُّرُقِ وَفِي الْأَسْوَاقِ فِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ إذْ الْغَالِبُ عَلَى الطُّرُقِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ كَثْرَةِ بَوْلِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا وَمِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ .

وَمِنْهَا : أَنَّ الطَّرَقَاتِ مَحَلٌّ لِلْمُرُورِ فِيهَا لَا لِلْجُلُوسِ .

وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ } فَمَنْ جَلَسَ فِيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ غَاصِبٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ ،

وَمَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ ، وَهُمْ غَاصِبُونَ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي جَلَسُوا فِيهَا لِلْقِرَاءَةِ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْصَرِفُوا .

وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِمْ مِنْ شِبْهِ الْهُنُوكِ وَالتَّرْجِيعَاتِ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ حَتَّى إنَّك إذَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَتَسْمَعُهُمْ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغَانِي غَالِبًا ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ مَرْئِيٌّ مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِحِ لَوْ سَلِمَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ عَمْدًا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْقُرَّاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُمْ بِحَضْرَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إذَا قُرِئَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ لَعَلَّ أَنْ تَعُمَّ الْمَيِّتَ وَتَعُمَّهُمْ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ فَيَتْرُكُونَهُمْ يَقْرَءُونَ فِي الطُّرُقِ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لَلْعَجَبِ أَيْنَ ذَهَبَتْ الْعُقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ لَكَانَ فِعْلُهُ قَبِيحًا شَنِيعًا فَكَيْفَ وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنْهُ ؟ وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَ الشَّرْعِ وَدَلَالَةَ الْعَقْلِ ، وَفَعَلُوا مَا زَيَّنَ لَهُمْ اللَّعِينُ .

وَقَدْ نَقَلَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ : أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ يَقُولُ : الْعَجَبُ لِبَنِي آدَمَ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيَعْصُونَهُ وَيُبْغِضُونِي وَيُطِيعُونَنِي .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ يُسَمُّونَهُمْ بِالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ يَذْكُرُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ جَمَاعَةً عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَتَصَنَّعُونَ فِي ذِكْرِهِمْ وَيَتَكَلَّفُونَ بِهِ عَلَى طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا

طَرِيقٌ فِي الذِّكْرِ وَعَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ، فَيَقُولُونَ : هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُسَلَّمِيَّةِ مَثَلًا ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَذَا ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَذَا كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَحْزَابِ الَّتِي يَقْرَءُونَهَا فَيَقُولُونَ : هَذَا حِزْبُ الزَّاوِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ ، وَهَذَا حِزْبُ الزَّاوِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ ، وَهَذَا حِزْبُ الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ ، وَهَذَا حِزْبُ الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ ، كُلُّ وَاحِدٍ لَا يُشْبِهُ الْآخَرَ غَالِبًا .

ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِالْفُقَرَاءِ لِلذِّكْرِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ بِمَعْزِلٍ ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ لَفْظَ الذِّكْرِ بِكَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَ مَوْضِعَ الْهَمْزَةِ يَاءً ، وَبَعْضُهُمْ يَنْقَطِعُ نَفَسُهُ عِنْدَ آخِرِ قَوْلِهِ : لَا إلَهَ ، ثُمَّ يَجِدُ أَصْحَابَهُ قَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِيجَابِ فَيُعِيدُ النَّفْيَ مَعَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِذِكْرٍ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ وَيُزْجَرُ لِقُبْحِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ التَّغْيِيرِ لِلذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَيْنَ الْبَرَكَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بِحُضُورِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَتَوْا بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِهِ لَمُنِعَ فِعْلُهُ لِلْحَدَثِ فِي الدِّينِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ وَالْحُدُوثِ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا وَالٍ كَانَ بِمِصْرَ وَهِيَ تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ مَعَ الْجِنَازَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِهِمْ مَعَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُرِيدِينَ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ فِي فِعْلِهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ فَيَبْقَى فِي الْجِنَازَةِ غَوْغَاءُ وَتَخْلِيطٌ وَتَخْبِيطٌ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ امْتِثَالِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي زَعَقَاتِ الْجَمِيعِ بِمَا لَا يَنْبَغِي .

وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ زَعَقَاتِ النِّسَاءِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَكَشْفِ الْوُجُوهِ وَاللَّطْمِ عَلَى الْخُدُودِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ .

وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ضِدُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ جَنَائِزُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ؛ لِأَنَّ جَنَائِزَهُمْ كَانَتْ عَلَى الْتِزَامِ الْأَدَبِ وَالسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّضَرُّعِ حَتَّى إنَّ صَاحِبَ الْمُصِيبَةِ كَانَ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِهِمْ لِكَثْرَةِ حُزْنِ الْجَمِيعِ وَمَا أَخَذَهُمْ مِنْ الْقَلِقِ وَالِانْزِعَاجِ بِسَبَبِ الْفِكْرَةِ فِيمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ وَعَلَيْهِ قَادِمُونَ حَتَّى لَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَلْقَى صَاحِبَهُ لِضَرُورَاتٍ تَقَعُ لَهُ عِنْدَهُ فَيَلْقَاهُ فِي الْجِنَازَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى السَّلَامِ الشَّرْعِيِّ شَيْئًا لِشُغْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْخُذَ الْغِذَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِشِدَّةِ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجَزَعِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَيِّتُ غَدٍّ يُشَيِّعُ مَيِّتَ الْيَوْمِ .

وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ قَالَ فِي الْجِنَازَةِ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ فَقَالَ لَهُ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك .

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ فِي

تَحَفُّظِهِمْ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ ، فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى أَفْعَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْوَقْتِ ، وَلَا لِعَوَائِدِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ السَّلَفِ وَأَحْوَالِهِمْ ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ ، فَهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ مَنْ جَالَسَهُمْ وَلَا مَنْ أَحَبَّهُمْ ، إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الدُّخُولِ بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .

لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَعْتَنُونَ بِهِ مِنْ الْمَوْتَى يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَقِفُونَ عِنْدَهُ يَدْعُونَ وَيُطَوِّلُونَ الدُّعَاءَ ، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ إذْ ذَاكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ ، وَيُطَوِّلُونَ فِي ذَلِكَ ، وَالسُّنَّةُ التَّعْجِيلُ بِالْمَيِّتِ إلَى دَفْنِهِ وَمُوَارَاتِهِ ، وَفِعْلُهُمْ بِضِدٍّ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ الْبِدْعَةُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَفَضَائِلِهَا ، لَكِنْ بَقِيَتْ شُرُوطُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ، وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا .

فَشُرُوطُهَا سَبْعَةٌ وَهِيَ : طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَتَرْكُ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَالنِّيَّةُ .

وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ : أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَالدُّعَاءُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْقِيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ .

وَسُنَنُهَا سِتَّةٌ : الْأُولَى : رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةُ : الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالثَّالِثَةُ : الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَالرَّابِعَةُ : التَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ وَإِخْفَاؤُهُ وَالْخَامِسَةُ : أَنْ تَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَالسَّادِسَةُ : أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، وَرَأْسُهُ إلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ ، وَمَوْضِعُ قِيَامِ الْمُصَلِّي فِي وَسَطِ الرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ إنْ قَامَ فِي وَسَطِهَا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِذَلِكَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، أَوْ مَا تُنَزَّهُ الصَّلَاةُ عَنْهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يُغْسَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ .

وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمَوْتَى لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ : أَوَّلُهُمْ : الشَّهِيدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي نُصْرَةِ التَّوْحِيدِ .

وَالثَّانِي : السِّقْطُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا ، وَلَا حُكْمَ لِحَرَكَتِهِ .

وَالثَّالِثُ : الْكَافِرُ إذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ جُمْلَةً ، وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ

أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ غَالِبَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي رِسَالَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالثَّنَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ .

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ اللَّهُمَّ قِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ ) .

تَقُولُ هَذَا بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ، وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَحَاضِرِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُتَقَلَّبَنَا وَمَثْوَانَا وَلِوَالِدِينَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ مَغْفِرَةً عَزْمًا وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ،

اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَسْعِدْنَا بِلِقَائِك وَطَيِّبْنَا لِلْمَوْتِ وَطَيِّبْهُ لَنَا وَاجْعَلْ فِيهِ رَاحَتَنَا وَمَسَرَّتَنَا ) ثُمَّ تُسَلِّمُ ، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً قُلْت : ( اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُك ) ثُمَّ تَتَمَادَى بِذِكْرِهَا عَلَى التَّأْنِيثِ غَيْرَ أَنَّك لَا تَقُولُ : وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ زَوْجًا فِي الْجَنَّةِ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْغِينَ بِهِمْ بَدَلًا ، وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ أَزْوَاجٌ ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا فَتُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَتُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ تَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا وَذُخْرًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَإِيَّاهُمَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمَا بَعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ) تَقُولُ ذَلِكَ بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ) ثُمَّ تُسَلِّمُ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُجْمَعَ الْجَنَائِزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَلِيَ الْإِمَامَ الرِّجَالُ إنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ ، وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا جُعِلَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ

، وَجُعِلَ مِنْ دُونِهِ الصِّبْيَانُ ، وَالنِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إلَى الْقِبْلَةِ .

فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا وَلَا يَعْرِفُ مَا هُوَ الْمَيِّتُ أَوَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، فَإِنَّهُ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ إمَامُهُ ، ثُمَّ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا أُخْرِجَ الْمَيِّتُ مِنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِهِ عَلَى السُّنَّةِ ، وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ غَيْرِهَا ، وَهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَصِلُوا بِهَا إلَى مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنْ الْأَسْوَاقِ يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ ، فَإِذَا وَصَلُوا إلَيْهِ قَطَعُوا كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ ، ثُمَّ يَفْعَلُونَ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا أَفْعَالًا مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .

فَمِنْهَا : أَنَّهُمْ يَضَعُونَ النَّعْشَ هُنَاكَ ، وَيَقِفُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ بِمَوْضِعٍ ، وَالْمُدِيرُ يُنَادِي أَمَامَهُ فِي النَّاسِ أَنْ يَأْتُوا إلَى التَّعْزِيَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مُحْتَوِيَةٍ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَأْتُونَهُ لِلتَّعْزِيَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَالْمُدِيرُ يُزَكِّي وَيُثْنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَالتَّعْزِيَةُ جَائِزَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبِهَا تَأْخِيرٌ عَنْ مُوَارَاتِهِ ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ فَتُمْنَعُ ، .

وَالْأَدَبُ فِي التَّعْزِيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ؛ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ رُجُوعِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ إلَى بَيْتِهِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ صِفَتِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

ثُمَّ إنَّ مَنْ عَزَّى مِنْهُمْ أَكْثَرُهُمْ يَرْجِعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْمُشَيِّعُونَ لِلْجِنَازَةِ إنَّمَا يُشَيِّعُهَا مَنْ يُشَيِّعُهَا مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، وَهُمَا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا ، أَوْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا لَيْسَ إلَّا .

فَمَنْ خَرَجَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَانْصِرَافُهُ مِنْ حَيْثُ صَلَّى عَلَيْهَا ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُمَا مَعًا فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ مُوَارَاتِهَا .

وَكَذَلِكَ مَنْ يَخْرُجُ لِلدَّفْنِ فَقَطْ لِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُمْ يَرْجِعُونَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْ الذِّكْرِ وَيَرْتَكِبُونَ فِيهِ مَحْذُورًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ : أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي عَمَلِ قُرْبَةٍ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ ، وَهُمْ قَدْ شَرَعُوا فِي التَّشْيِيعِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِّيَ فِيهِ عَلَى الْجِنَازَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الْمُسَمَّى بِدَرْبِ الْوَدَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا عَمَلُ قُرْبَةٍ قَدْ شَرَعُوا فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إتْمَامُهُ ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعُوهُ إلَى أَنْ يُوَارَى بِالتُّرَابِ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ النِّسَاءِ يُصَلِّينَ صَلَاةَ الْعِيدِ قِيلَ لَهُ : أَيَنْصَرِفْنَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؟ فَقَالَ : لَا مَنْ دَخَلَ فِي عَمَلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ فَلَا يَنْصَرِفْنَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ ، وَإِنْ كُنَّ لَا يَسْمَعْنَهَا ، أَوْ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِنَّ ، فَلَمَّا أَنْ شَرَعْنَ فِيهَا لَزِمَهُنَّ إتْمَامُهَا عَلَى سُنَّتِهَا ، وَذَلِكَ

بِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَمَنْ تَبِعَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا ، فَقَدْ شَرَعَ فِي قُرْبَةٍ فَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا ، وَالْإِتْمَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُوَارَاتِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَبَعْضُهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَنُونَ بِهِ يَتْرُكُونَهُ عِنْدَ دَرْبِ الْوَدَاعِ سَاعَةً يَقْرَءُونَ وَيَذْكُرُونَ وَيُكَبِّرُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى ، وَيُسَمُّونَهُ وَدَاعًا ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْرَامُ الْمَيِّتِ بِالتَّعْجِيلِ بِدَفْنِهِ ، ثُمَّ إنَّ الْقُرَّاءَ وَالذَّاكِرِينَ وَالْمُكَبِّرِينَ فِي الْغَالِبِ يَرْجِعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ لِلتَّبَرُّكِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى مَا زَعَمُوا أَنْ يَصْحَبُوا الْمَيِّتَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَنْ يُوَارَى فِي قَبْرِهِ ، فَلَمَّا أَنْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا فَعَلُوا فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ دُونَ غَيْرِهَا ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ النَّاسِ .

ثُمَّ إنَّ السُّنَّةَ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ أَنَّ مَنْ يُشَيِّعُهَا يَمْشِي مَعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ غَيْرَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا عَلَيْهَا وَيَمْشُوا مَعَهَا إلَى دَرْبِ الْوَدَاعِ ، فَإِذَا أَتَوْا إلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ ، وَكُلٌّ يَسْلُكُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطُّرُقِ فَيَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ إلَى الْقَبْرِ ، وَتَبْقَى الْجِنَازَةُ تَجْرِي بِهَا الْحَمَّالُونَ وَلَا يُشَيِّعُهَا إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ وَمِنْ شِدَّةِ جَرْيِ الْحَمَّالِينَ بِهَا تَرَى الْمَيِّتَ يَهْتَزُّ عَلَى النَّعْشِ ، وَرَأْسُهُ يَخْفِقُ ، وَبَدَنُهُ يَضْطَرِبُ ، وَيَتَمَخَّضُ فُؤَادُهُ ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ الْفَضَلَاتِ مِنْ جَوْفِهِ إلَى فَمِهِ أَوْ دُبُرِهِ فَيَذْهَبُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرْنَا بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ شَنِيعٌ مِنْ الْفِعْلِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا وَالتَّبَرُّكِ بِمَرَاسِمِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي شَيْءٍ إلَّا حَلَّتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ ، وَذَهَبَ كُلُّ مَا يُتَخَوَّفُ مِنْهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ مَعَهَا لِاسْتِعْجَالِ الْحَمَّالِينَ بِهَا .

فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِعْجَالَ هُنَا مَكْرُوهٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلِمَا يُخْشَى أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ الْعَجَلَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمَيِّتِ وَبِمَنْ يَمْشِي مَعَهُ .

وَهَذَا عَكْسُ مَا يَمْشُونَ بِهِ حِينَ الْخُرُوجِ بِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمِنْهُ إلَى دَرْبِ الْوَدَاعِ ، فَإِنَّهُمْ يَمْشُونَ بِهِ الْهُوَيْنَا .

وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِمَا وَرَدَ { : وَلَا تَدِبُّوا بِهَا كَدَبِيبِ الْيَهُودِ } ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ

السُّنَّةَ فِي الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ كَالشَّابِّ الْمُسْرِعِ فِي حَاجَتِهِ ، وَهَذَا الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ وَسَطٌ بَيْن مَا يَفْعَلُونَهُ : أَوَّلًا مِنْ الدَّبِيبِ بِهَا ، وَآخِرًا مِنْ الِاسْتِعْجَالِ الَّذِي يَضُرُّ بِهَا { : وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، فَكَانَتْ السُّنَّةُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا يَعْرِفُونَهَا إذْ إنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوهَا مَا تَرَكُوهَا ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا يَتْرُكُهَا أَحَدٌ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى تَرْكِهَا ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَيَكُونُ الْمَاشُونَ أَمَامَهَا وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا إلَى قَبْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَفْضَلُ مِنْ الرَّاكِبِ فَيُقَدَّمُ رَجَاءَ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ حَالُ تَوَاضُعٍ وَافْتِقَارٍ ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِذَلِكَ .

ثُمَّ إذَا مَشَى الْمُشَاةُ أَمَامَهَا وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا ، فَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُمْ ذَاهِبُونَ لِلشَّفَاعَةِ يَرْجُونَ قَبُولَهَا ، فَيَشْتَغِلُونَ بِمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشْتَغِلًا فِي نَفْسِهِ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حُضُورِ جَنَائِزِهِمْ يَتَنَاكَرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا رَجَعُوا لِلْبَلَدِ تَعَارَفُوا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي وُدِّهِمْ الشَّرْعِيِّ .

ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ يَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ وَيَجْلِسُونَ يَنْتَظِرُونَهَا وَيَتَحَدَّثُونَ إذْ ذَاكَ فِي التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ وَفِي مُحَاوَلَةِ أُمُورِ الدُّنْيَا .

وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَيْفَ يُرْجَى قَبُولُ شَفَاعَتِهِ ؟ بَلْ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَيِّتُ يُقْبَرُ فِي الْغَالِبِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَتَضَاحَكُونَ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ وَآخَرُونَ يَتَبَسَّمُونَ وَآخَرُونَ يَسْتَمِعُونَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ

مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ .

وَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يَحْفِرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ إلَى الْيَوْمِ ، وَلَا بَأْسَ بِإِجَارَةِ مَنْ يَحْفِرُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَفْرُ فِي الْمَقْبَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِيهَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ دُفِنَ فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ النَّبْشِ عَلَيْهِ أَوْ وُصُولِ النَّجَاسَاتِ إلَيْهِ ، أَوْ يُدْفَنُ فِي أَرْضٍ مُسْتَعَارَةٍ أَعْنِي لَا أَصْلَ لَهَا كَالْكِيمَانِ وَمَا شَابَهَهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْبَشُ وَيُبْنَى عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا حِرْزُهُ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ .

وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يَخْتَارَ لَهُ الدَّفْنَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ لِمَا وَرَدَ { هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } وَلِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } فَلَعَلَّ بَرَكَةَ الْجِوَارِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ تَعُودَ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ وَنَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا الدَّفْنَ عِنْدَ قُبُورِ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فَيَا حَبَّذَا .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَحْفِرُ الْقَبْرَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ يَجِدُ فِي الْمَوْضِعِ أَثَرَ مَيِّتٍ فَيُزِيلُهُ أَوْ يَكْسِرُهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَى مَنْ دُفِنَ فِيهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ لِمَوْضِعِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ،

وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَحْفِرُونَ وَيَرْمُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى بَعْدَ تَكْسِيرِهَا بِمَوْضِعٍ آخَرَ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا يَحْفِرُ فِيهِ بِسَبَبِ آثَارِ الْمَوْتَى الَّتِي هُنَاكَ فَلْيَخْرُجْ عَنْ الْمَقْبَرَةِ إلَى الْبَرِّيَّةِ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ ، وَيُرَاعَى مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الطَّرِيقِ دُونَ شَيْءٍ يَسْتُرُهُ عَنْ الْمَارِّينَ مِثْلَ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَعَلَّ أَنْ يَنَالَهُ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَعَلَّ مَنْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ .

وَحِكْمَةُ دَفْنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّحْرَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا .

وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ رِيَاسَةٌ وَمَالٌ عُمِلَ لَهُ تُرْبَةٌ فِي الْبَلَدِ وَدُفِنَ فِيهَا فَتُصِيبُهُ النَّجَاسَاتُ وَتَمُرُّ عَلَيْهِ السَّرَابَاتُ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ يَبْنُونَ فِيهَا الْبُيُوتَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا السَّرَابَاتِ ، وَبَعْضُهُمْ يَبْنُونَ الْآبَارَ وَالْحَمَّامَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَبْعُدَ بِالْحَفْرِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَصِلَ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ ، وَإِذَا حُفِرَ الْقَبْرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يَحْفِرُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْقِبْلَةَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً ، وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْمَحَارِيبِ فِي الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَضَعُهَا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ فَيَقَعُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ وَالْخَلَلُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْقَبْرُ

إلَى الْقِبْلَةِ بِالسَّوَاءِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفِرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى طُولِهِ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا حَتَّى إذَا دَخَلَ فِي قَبْرِهِ يَكُونُ دُخُولُهُ فِيهِ بِالسَّوَاءِ ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى السَّلَفُ وَالْخَلْفُ .

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي صِفَةِ حَفْرِ الْقَبْرِ فَيَحْفِرُونَهُ مِنْ أَعْلَاهُ ضَيِّقًا وَمِنْ أَسْفَلِهِ بِطُولِ الْمَيِّتِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَوْتَى أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ أَعْنِي مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَى دُخُولِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ بِاحْتِرَامِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ .

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مِنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ ، وَلَكِنْ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ وَيَقُومُ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَحَرَّكُ لِوُجُودِ التَّلَطُّفِ بِهِ فِي إدْخَالِهِ فِي قَبْرِهِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ أَنْ يَأْخُذَ قِيَاسَهُ وَيَحْفِرَ لَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالسَّوَاءِ مِنْ أَعْلَى الْقَبْرِ إلَى اللَّحْدِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَكُونُ مَنْ يُدْخِلُهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا وَأَوَّلُ مَنْزِلٍ يَحِلُّ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْحَفَّارِينَ بِالْأُجْرَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ غَالِبًا ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ فَيَكُونُ الْمُتَنَاوِلُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَسُلُّونَ الْمَيِّتَ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ ، وَيَتَنَاوَلُونَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا بِرِفْقٍ ، وَأَكْثَرُ

النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَفَّارَ يَتَنَاوَلُهُ حَتَّى إذَا نَزَلَ أَكْثَرُهُ جَعَلَهُ الْحَفَّارُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَرْمِيهِ بِشِدَّةٍ فَيَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَهُوَ يَضْطَرِبُ وَفِي ذَلِكَ إخْرَاقٌ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْفَضَلَاتِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ .

ثُمَّ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ الْقَبْرَ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ ، ذَلِكَ يُمْنَعُ لِثَلَاثِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ مَضَتْ أَنْ يُدْخَلَ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .

الْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا أُدْخِلَ عَلَى رَأْسِهِ فَقَدْ تَنْزِلُ الْمَوَادُّ إلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ فَتَخْرُجُ كَمَا تَقَدَّمَ .

الْمَعْنَى الثَّالِثُ : مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي أَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ يُدْخِلُونَهُ فِيهِ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ ضَيِّقًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ فَلَا يَسَعُهُ فَيَحْتَاجُونَ إلَى مُعَالَجَةِ ذَلِكَ ، وَلَا تَقَعُ الْمُعَالَجَةُ بَعْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ إلَّا بِإِخْرَاقِ حُرْمَتِهِ .

فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ أَطْوَلَ مِنْ الْمَيِّتِ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ دُونَ مُعَالَجَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ يَأْخُذُ فِي لَحْدِهِ فَيُزِيلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبَاطِ مِنْ نَاحِيَةِ رَأْسِهِ وَمِنْ نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ يُزِيلُ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ ، وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرٌ .

وَكَذَلِكَ الْخِرَقُ الَّتِي حَلَّهَا قَبْلُ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهَا ذَلِكَ .

ثُمَّ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ .

وَكَذَلِكَ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي كُمَّيْهِ وَيُسَرِّحُ يَدَيْهِ .

ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَيَكُونُ فِي الْكَفَنِ كَأَنَّهُ فِي

فِرَاشِهِ بَعْضُهُ تَحْتَهُ وَبَاقِيهِ مُغَطًّى بِهِ .

ثُمَّ يُلْصِقُهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَلَا يَجْعَلْ تَحْتَ رَأْسِهِ شَيْئًا ، وَيَكُونُ بِالسَّوَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِجَسَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ ، وَلَيْسَ بِمَوْضِعِ رَفْعِ رَأْسٍ وَلَا غَيْرِهِ .

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْسَهُ فَرَفَعَهَا عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا أَنْ اسْتَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ قَالَ : ضَعْ رَأْسِي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : أَفْضُوا بِلِحْيَتِي إلَى الْأَرْضِ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْمَآثِرِ الْعَظِيمَةِ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَجْدَرُ بِمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ دُونَ حَائِلٍ وَارْتِفَاعٍ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مَا ، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْئًا يَقِيهِ مِنْ التُّرَابِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ طَرَّاحَةً وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا إلَى لَحْدِهِ أَزَالُوا تِلْكَ الْخِرَقَ الْمَذْكُورَةَ وَأَخْرَجُوا الْقُطْنَ الَّذِي أَرْسَلُوهُ مَعَهُ فِي فَمِهِ وَأَنْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ عَنْهُمْ فَيُخْرِجُونَهُ مِنْ حَلْقِهِ وَتَخْرُجُ الْمَوَادُّ مَعَ ذَلِكَ وَيَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوْهِ مَا فِيهِ مَعَ إخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي الْقَبْرِ وَذَهَابِ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لَهُ .

وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ التُّرَابَ فِي عَيْنَيْهِ وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَلِكَ : لَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ ، وَلَا فَرْقَ فِي الشَّرْعِ فِي إثْمِ فَاعِلِ ذَلِكَ كَمَا

لَوْ كَانَ حَيًّا بَلْ هَذَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْمَيِّتِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

بَلْ يَحِلُّ الرِّبَاطَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ مَهْمَا قَدَرَ .

فَإِذَا أَضْجَعَهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَلْتَكُنْ الْيَدُ الْيُمْنَى مِنْ الْمَيِّتِ أَمَامَهُ وَالْيُسْرَى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيُرَكِّزُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُسْنِدُ الْمَيِّتَ بِهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إسْنَادِ الْمَيِّتِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ بِالتُّرَابِ وَحْدَهُ دُونَ هَذَا الْحَجَرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْنَدَهُ بِالتُّرَابِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَتْ الْفَضَلَاتُ فَيَتَحَلَّلُ التُّرَابُ بِنَدَاوَتِهَا فَيُسْتَلْقَى الْمَيِّتُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَمِيلُ وَجْهُهُ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَالْمَقْصُودُ دَوَامُهُ مُسْتَقْبِلَهَا حَتَّى يَفْنَى أَوْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ .

ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ إسْنَادِهِ بِالْحَجَرِ جَعَلَ خَلْفَ الْحَجَرِ تُرَابًا يُسْنِدُهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَيِّتِ إلَى قَدَمِهِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا .

فَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ حَجَرًا صُلْبًا لَيْسَ فِيهِ تُرَابٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤْتَى بِالرَّمَلِ فَيَفْرِشَ تَحْتَ الْمَيِّتِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ دُونَهُ انْمَاعَ فِي قَبْرِهِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّمْلِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا .

وَهَذَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَبْرُ سَبِخًا أَوْ تُرَابًا ، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالرَّمْلِ بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِهِ فَيَفْرِشُوهُ تَحْتَهُ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي لَحْدِ الْمَيِّتِ فَلْيَتَرَبَّصْ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي سَدِّ اللَّحْدِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَتَذَكَّرَ حِينَئِذٍ هَلْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ ،

فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى ، فَمَنْ نَسِيَ مِنْهُمَا لَعَلَّ الْآخَرَ يَذْكُرُهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي سَدِّ اللَّحْدِ ، وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ يَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ يَقُولُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ ( اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إلَيْك الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إنْ عَاقَبْته فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْت عَنْهُ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى رَحْمَتِك اللَّهُمَّ اُشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِك الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِك وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ فَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ) وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا سَوَّى عَلَيْهِ اللَّبِنَ ( اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَخَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَافْتَقَرَ إلَى مَا عِنْدَك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ ) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ، وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِذَا لَمْ يَرِدْ فَهُوَ بِدْعَةٌ .

ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَيُخْرِجُونَ الْقُطْنَ مِنْ فَمِهِ وَأَنْفِهِ وَتَخْرُجُ

الْمَوَادُّ إذْ ذَاكَ وَتُشَمُّ مِنْهُ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ ، وَيَتَنَجَّسُ الْمَحَلُّ بِإِحْدَاثِهِمْ النَّجَاسَةَ فِي الْقَبْرِ بِرَشِّهِمْ مَاءَ الْوَرْدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا ، وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُبَخَّرَ الْقَبْرُ وَلَا أَنْ يُفْرَشَ فِيهِ رَيْحَانٌ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَيَكْفِيهِ مِنْ الطِّيبِ مَا قَدْ عُمِلَ لَهُ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُونَ فَحَيْثُ وَقَفَ سَلَفُنَا وَقَفْنَا .

ثُمَّ يَسُدُّ عَلَيْهِ اللَّحْدَ ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُدَّ بِالْأَلْوَاحِ وَلَهُمْ فِي اللَّبِنِ اتِّسَاعٌ إنْ كَانَ طَاهِرًا ، وَطَهَارَتُهُ الْيَوْمَ مَعْدُومَةٌ فِي الْغَالِبِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْحَجَرُ يَقُومُ مَقَامَهُ .

ثُمَّ يليس مَا بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ الْمَعْجُونِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُغْنِي عَنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَكِنْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِهِ فَتُتَّبَعُ وَيُسَدُّ الْخَلَلُ حَيْثُ كَانَ .

إذَا فَرَغَ مِنْهُ فَقَدْ تَمَّ لَحْدُهُ فَيَصْعَدُ إذْ ذَاكَ وَيُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ أَنْ يَحْثُوَ فِيهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ .

وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا سَمِعْت مِنْ أَمْرٍ بِهِ وَلَا أَعْرِفُهُ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَأَ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ الْقُرْآنَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ فِكْرَةٍ وَاعْتِبَارٍ وَنَظَرٍ فِي الْمَآلِ ، وَذَلِكَ يُشْغِلُ عَنْ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } ، وَالْإِنْصَاتُ مُتَعَذَّرٌ لِشُغْلِ الْقَلْبِ بِالْفِكْرِ فِيمَا هُوَ إلَيْهِ صَائِرٌ وَعَلَيْهِ قَادِمٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى وَهُمْ السَّابِقُونَ وَالْقُدْوَةُ الْمُتَّبَعُونَ ، وَنَحْنُ التَّابِعُونَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ ، فَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي اتِّبَاعِهِمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ كَذَلِكَ بِمَنِّهِ .

فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ فَلْيَرْفَعُوا الْقَبْرَ قَلِيلًا عَنْ الْأَرْضِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤْتَى بِتُرَابٍ آخَرَ حَتَّى يَكْثُرَ وَيَرْتَفِعَ الْقَبْرُ بِهِ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لَاطِئًا مَعَ الْأَرْضِ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْ الْأَرْضِ قَلِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُسَطَّحُ الْقَبْرُ أَوْ يُسَنَّمُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَأَيُّمَا فَعَلَ مِنْهُمَا كَانَ حَسَنًا .

وَلَا يُجَصَّصُ الْقَبْرُ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُرَصَّ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحَجَرِ وَالطِّينِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِطُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ } .

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَأَنْ تُوطَأَ } .

قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ ، وَهُوَ تَفْصِيصُهَا } .

وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا .

وَمِنْ الْقُرْطُبِيِّ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ الْأَسَدِيِّ قَالَ : { قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته .

} وَفِي رِوَايَةٍ { وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا } وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ظَاهِرُهُ مَنْعُ تَسْنِيمِ الْقُبُورِ وَرَفْعِهَا وَأَنْ تَكُونَ لَاطِئَةً .

وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ هَذَا

الِارْتِفَاعَ الْمَأْمُورَ بِإِزَالَتِهِ هُوَ مَا زَادَ عَلَى التَّسْنِيمِ وَيَبْقَى لِلْقَبْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيُحْتَرَمُ وَذَلِكَ صِفَةُ قَبْرِ نَبِيِّنَا سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَأَمَّا تَعْلِيَةُ الْبِنَاءِ الْكَثِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا ، فَذَلِكَ يُهْدَمُ وَيُزَالُ ، فَإِنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ زِينَةِ الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَتَشْبِيهًا بِمَنْ كَانَ يُعَظِّمُ الْقُبُورَ وَيَعْبُدُهَا ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَظَاهِرِ النَّهْيِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : هُوَ حَرَامٌ وَالتَّسْنِيمُ فِي الْقَبْرِ ارْتِفَاعُهُ قَدْرَ شِبْرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ وَيَرُشُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِئَلَّا يَنْتَثِرَ بِالرِّيحِ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجَصَّصُ الْقَبْرُ وَلَا يُطَيَّنُ وَلَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ بِنَاءٌ ، وَالدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ جَائِزٌ لَا سِيَّمَا فِي الْأَرْضِ الرَّخْوَةِ .

وَلَا يُجْعَلُ الْقَبْرُ مُرَبَّعًا .

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِهِ بِحَجَرٍ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ حَمَلَهُ فَوَضَعَهُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ أُعَلِّمُ بِهِ قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي } .

فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْرَأَ شَيْءٌ مِنْ الْقَصَائِدِ وَلَا مَا شَابَهَهَا لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْ الذِّكْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إذْ ذَاكَ ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ فِي الِانْصِرَافِ وَمَوْضِعُ التَّعْزِيَةِ عَلَى تَمَامِ الْأَدَبِ إذَا رَجَعَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ إلَى بَيْتِهِ ، وَيَجُوزُ قَبْلَهُ أَعْنِي قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْهُ .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } ، وَرَوَى رَزِينٌ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ : ( اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُك نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَاغْفِرْ لَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ ) ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلِيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ فَتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقَبْرِ فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .

وَيَكُونُ التَّلْقِينُ بِصَوْتٍ فَوْقَ السِّرِّ وَدُونَ الْجَهْرِ فَيَقُولُ : ( يَا فُلَانُ لَا تَنْسَ مَا كُنْت عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا جَاءَك الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَسَأَلَاك فَقُلْ لَهُمَا : اللَّهُ رَبِّي ، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّ ، وَالْقُرْآنُ إمَامِي ،

وَالْكَعْبَةُ قِبْلَتِي ) ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَفِيفٌ ، وَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّلْقِينِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ لِحُضُورِ النَّاسِ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ .

وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُوهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا .

وَقَدْ سَأَلْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقُلْت لَهُ : أَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْفَظَ هَذَا التَّلْقِينَ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مُتَيَسِّرًا عَلَى لِسَانِهِ إذْ ذَاكَ فَانْزَعَجَ وَقَالَ : أَنْتَ تُجَاوِبُ إنَّمَا يُجَاوِبُ عَمَلُك إنْ كَانَ صَالِحًا فَصَالِحًا ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئًا فَسَيِّئًا فَحَصِّلْ الْعَمَلَ فَهُوَ يَكْفِيك ، فَإِنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي تَنْجُو بِهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اللَّقْلَقَةُ بِاللِّسَانِ أَوْ كَمَا قَالَ .

وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالتَّعْزِيَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ } ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمَّتِهِ وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ ، أَمَّا الْأَمْرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي ، وَأَمَّا التَّسْلِيَةُ فَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ مَا أُصِيبَ بِهِ مِنْ فَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَانَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَصَائِبِ وَاضْمَحَلَّتْ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا خَطَرٌ وَلَا بَالٌ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّعْزِيَةِ أَلْفَاظٌ مُتَعَدِّدَةٌ .

قَالَ بَعْضُهُمْ : وَأَحْسَنُ التَّعْزِيَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { آجَرَكُمْ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِكُمْ وَأَعْقَبَكُمْ خَيْرًا مِنْهَا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي صَدِيقِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ ، وَكَذَلِكَ يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ الصَّالِحَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَصَائِبِ .

وَقَدْ ذَكَرَ

الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ أَلْفَاظَ التَّعْزِيَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا ، وَمَنْ يُعَزِّي ، وَمَنْ يُعَزَّى فِيهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا فَقَالَ لَهَا : اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَقَالَتْ : وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي فَلَمَّا ذَهَبَ قِيلَ لَهَا : إنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ فَأَتَتْ بَابَهُ فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَعْرِفْك فَقَالَ : { إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ : دَفَنْت ابْنِي سِنَانًا ، وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ ، فَلَمَّا فَرَغْت قَالَ : أَلَا أُبَشِّرُك قُلْت : بَلَى قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ : أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ : حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةُ } وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ أَنْ يُرَاعُوا التَّعْزِيَةَ فِي الدِّينِ أَكْثَرَ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فَعَزَّانِي فِيهَا فُلَانٌ وَلَمْ يُعَزِّنِي غَيْرُهُ وَلَوْ مَاتَ لِي وَلَدٌ لَعَزَّانِي فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ مُصِيبَةَ الدِّينِ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ أَعْظَمُ

مِنْ مُصِيبَةِ الدُّنْيَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ مَعَ الْحَامِلِينَ فِي الْأَقْفَاصِ الْخِرْفَانَ وَالْخُبْزَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِعَشَاءِ الْقَبْرِ ، فَإِذَا أَتَوْا إلَى الْقَبْرِ ذَبَحُوا مَا أَتَوْا بِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَفَرَّقُوهُ مَعَ الْخُبْزِ ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُزَاحَمَةٌ وَضَرْبٌ وَيَأْخُذُ ذَلِكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَيُحْرَمُهُ الْمُسْتَحِقُّ فِي الْغَالِبِ .

وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ ) ، وَالْعَقْرُ هُوَ الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا تَقَدَّمَ .

الثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ الْإِسْرَارُ بِهَا دُونَ الْجَهْرِ ، فَهُوَ أَسْلَمُ ، وَالْمَشْيُ بِذَلِكَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ جَمْعٌ بَيْنَ إظْهَارِ الصَّدَقَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ فِي الْبَيْتِ سِرًّا لَكَانَ عَمَلًا صَالِحًا لَوْ سَلِمَ مِنْ الْبِدْعَةِ أَعْنِي أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ سُنَّةً أَوْ عَادَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُ مَنْ لَا يَعْتَنِي بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِشَارَاتِهِ ، وَهِيَ إدْخَالُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَهِيَ بِدْعَةٌ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ بِمَا يُفْعَلُ فِيهَا .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْرِشُونَ فِيهَا تَحْتَ الْمَيِّتِ طَرَّاحَةً أَوْ قَطِيفَةً أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَيَضَعُونَ تَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً وَيُغَطُّونَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُضْطَجِعٌ فِي بَيْتِهِ وَيَجْعَلُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَشْمُومِ مَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ الْيَاسَمِينِ وَالرَّيْحَانِ وَغَيْرِهِمَا ، وَيُبَيِّتُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِيهَا

وَمَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ ظُلْمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَدْخُلُ مِنْهُ الضَّوْءُ إلَّا مِنْ مَوْضِعِ بَابِهَا ، وَهُوَ ضَيِّقٌ ، فَيَحْتَاجُونَ فِي غَالِبٍ إلَى دُخُولِ الضَّوْءِ مَعَهُمْ .

وَذَلِكَ فِيهِ تَفَاؤُلٌ بِدُخُولِ النَّارِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ يُوقِدُ الشَّمْعَ وَيَتْرُكُهُ مَوْقُودًا عِنْدَهُ ؛ لِئَلَّا يَبْقَى فِي الظَّلَامِ ، وَيَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الْفَسْقِيَّةِ ، فَهَذَا فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّفَاؤُلِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْلَ أَنْ يُطْفَأَ فَيَحْرِقُهُ ، أَوْ يَحْرِقَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَحْرِقَ غَيْرَهُ إنْ كَانَ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوَقُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُومُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ ؛ لِأَنَّ الْفَسْقِيَّةَ إذَا سُدَّ بَابُهَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْهَوَاءِ إلَيْهَا ، وَالنَّارُ لَا تَتَّقِدُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الْهَوَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَمَدَتْ فِي الْغَالِبِ لَكِنْ قَدْ لَا تَخْمَدُ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ الْمَوْتَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَرِيقِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ خَشَاشٍ وَهَوَامَّ .

وَقَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكَلَّفَ أَنْ يُطْفِئَ الْمِصْبَاحَ قَبْلَ نَوْمِهِ } ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ نَارًا وَالنَّوْمُ هُوَ الْوَفَاةُ الصُّغْرَى ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مَعَهُ فَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْكُبْرَى مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَجَعْلُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي تَرْكِ الدَّفْنِ وَكَفَى بِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ غَيْرُ مَدْفُونٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ جَعْلِهِ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ فِي بَيْتٍ وَيُغْلَقُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدْفُونٌ فَقَدْ تَرَكُوا الدَّفْنَ وَهُوَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ

الْعَزِيزِ عَلَيْنَا بِالدَّفْنِ فَقَالَ : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فِي خَلْوَتِهِ مِمَّا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ بِهِ وَالسَّتْرُ فِي الْمَمَاتِ سَتْرُ جِيَفِ الْأَبَدَانِ ، وَلَوْلَا نِعْمَةُ الْقُبُورِ لَكَانَ شَنَاعَةً بَيْنَ الْأَشْكَالِ ، وَيُقَالُ مَا فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ جِيفَةِ الْآدَمِيِّ فَسَتَرَهُ اللَّهُ بِالدَّفْنِ إكْرَامًا لَهُ وَتَعْظِيمًا .

وَمَنْ وَضَعَ فِي الْفَسْقِيَّةِ فَقَدْ تَرَكَ مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ الدَّفْنِ .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي لَأَرَى أَبَا طَلْحَةَ حَدَثَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَإِذَا تُوُفِّيَ عَجِّلُوا بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ } ، وَمَنْ جُعِلَ فِي الْفَسْقِيَّةِ ، فَأَهْلُهُ يَكْشِفُونَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ ، فَقَدْ يَعْرِفُونَ مَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِ مَنْ كَشَفُوا عَلَيْهِ مِنْ مَوْتَاهُمْ وَيَشُمُّونَ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ مِنْهُ ، وَهُوَ يَكْرَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَنْ يُشَمَّ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ فَيُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْقِ حُرْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ بِمَيِّتٍ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِمَّنْ قَبْلَهُ كَشَفُوا وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّتْنِ وَالدُّودِ وَغَيْرِهِمَا ، حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَزَلَتْ فَسْقِيَّةً لِوَضْعِ مَيِّتٍ لَهَا فِيهَا فَوَجَدَتْ ابْنَةً لَهَا كَانَتْ قَدْ دُفِنَتْ مِنْ مُدَّةٍ فَرَأَتْ رَأْسَهَا وَوَجْهَهَا يَغْلِيَانِ دُودًا فَذَهَبَ عَقْلُهَا ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ بَابَ الْفَسْقِيَّةِ ضَيِّقٌ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ

مَرْئِيٌّ وَتُحْبَسُ فِيهِ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ ، فَإِذَا فُتِحَ لِجَعْلِ مَيِّتٍ آخَرَ ، وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِمَّنْ قَبْلَهُ خَرَجَتْ تِلْكَ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ طَرِيًّا فَآذَتْ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ .

وَأَمَّا مَنْ يَنْزِلُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ النِّهَايَةَ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَرَضِهِ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ هُمَا مَعًا .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ حِينَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ ، فَهُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ بَابَهَا أَضْيَقُ مِنْ الشِّقِّ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْقَبْرِ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا وَسَقَطَتْ مِنْهُ فِي الْقَبْرِ نَفَقَةٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ أَوْ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ أُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ أَوْ بَعْضُهُ هَلْ يَكْشِفُ مَا أُهِيلُ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ وَيَأْخُذُ مَا سَقَطَ مِنْهُ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ، وَتَرْكُهُ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَشْفًا عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مُوَارَاتِهِ بِالتُّرَابِ ، وَذَلِكَ خَرْقٌ لِحُرْمَتِهِ وَلِمَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى أَمْرٍ مُغَيَّبٍ عَنَّا فَيَكْشِفُ عَلَيْهِ وَيَنْتَهِكُ سِتْرَهُ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فَمَا بَالُك بِمَنْ يُكْشَفُ عَنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، فَهَذَا أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ بِهَتْكِ السِّتْرِ عَمَّنْ فِيهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْفَسْقِيَّةِ قَدْ يَتَغَيَّرُونَ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَهُوَ الْغَالِبُ ، وَيَنْكَشِفُونَ فَيَبْقَوْنَ عُرَاةً بِمَرْأًى مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ كَشْفَةٌ لَهُمْ وَهَتْكٌ

لِحُرْمَتِهِمْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ .

حَتَّى لَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ أَهْلِ الْفَسَاقِيِ ، وَحِمَارٌ مَيِّتٌ قَدْ طُرِحَ عَلَيْهِمْ .

فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ مَا أَشْنَعَ هَذَا وَأَقْبَحَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ ، فَكَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ نَهَتْ عَنْهُ وَذَمَّتْهُ ، فَلَا هُمْ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ لِمُقْتَضَى الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَأْبَى ذَلِكَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

الْوَجْهُ السَّابِعُ : مَا حَرَمَهُمْ الشَّيْطَانُ مِنْ بَرَكَةِ الدَّفْنِ وَمَا فِيهِ مِنْ السَّتْرِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْفُونَ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ شَرِبَتْهَا الْأَرْضُ فَيَبْقَى نَظِيفًا فِي قَبْرِهِ ، وَمَنْ وُضِعَ فِي الْفَسْقِيَّةِ يَنْمَاعُ فِي النَّجَاسَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتَحَلَّلُ مِنْ جَسَدِهِ .

الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ إدْخَالَهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْفَخْرِ وَالْكِبْرِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْمُتَكَبِّرُونَ ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ وَاضْطِرَارٍ وَإِظْهَارِ مَسْكَنَةٍ وَاحْتِيَاجٍ لَا إظْهَارِ الْعِزِّ وَالْكِبْرِ .

الْوَجْهُ التَّاسِعُ : مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْلِيطِ الْفَسْقِيَّةِ ، وَذَلِكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَنْبَغِي فَمَا بَالُك بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ إذْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَبْنِ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ } ، فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَمْتَثِلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : مَا زَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْيِيضِ دَاخِلِ الْفَسْقِيَّةِ حَتَّى تَبْقَى كَالْبُيُوتِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا أَبْنَاءُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ .

وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّبْلِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بَلْ هَذَا أَشَدُّ .

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ سَبَبٌ لِانْبِعَاثِ الْحَشَرَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْمَاعُ فِي قَبْرِهِ فَتَكْثُرُ الرَّوَائِحُ لِعَدَمِ التُّرَابِ ، وَالْحَشَرَاتُ تَتْبَعُ

الرَّوَائِحَ حَيْثُ كَانَتْ ، وَكَذَلِكَ الْكِلَابُ وَالسِّبَاعُ وَالذِّئَابُ ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَبْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْمَيِّتِ .

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَرَادَهَا ، وَالسَّرِقَةُ مَعْصِيَةٌ كُبْرَى إذَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهَا فِي حَقِّ الْمَوْتَى ، فَوَضْعُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ تَيْسِيرٌ عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِنَبْشِ الْقُبُورِ إذْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى كَبِيرِ كُلْفَةٍ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَفْتَحُ الْبَابَ لَيْسَ إلَّا وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا يُرِيدُهُ ، وَفَاعِلُ الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ يُيَسِّرُهَا عَلَيْهِ شَرِيكَانِ فِي الْإِثْمِ .

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشْرَ : أَنَّ مَنْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَى النَّبَّاشِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْبِنَاءِ الْحَصِينِ وَالْأَبْوَابِ الْمَانِعَةِ وَالْحُرَّاسِ وَمَنْ يَسْكُنُ فِيهَا أَوْ إلَى جَانِبِهَا وَيَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ ، وَالسَّرَابُ سَرِيعٌ سَرَيَانُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَئُولُ ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمَوْتَى بِنَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ مِنْ تَحْصِيلِ دُنْيَا لِأَجْلِ الْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالْخَادِمِ وَمَنْ يَحْرُسُ وَجَعْلِ صِهْرِيجٍ لَهُمْ فَتَزِيدُ النَّدَاوَةُ بِذَلِكَ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ ، وَقَدْ حَكَمَتْ السُّنَّةُ بِالدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ لِلسَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : مَا فِي فِعْلِهَا مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ } وَمَا كَانَ ابْتِدَاءُ فِعْلِهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِارْتِكَابِ هَذَا النَّهْيِ الصَّرِيحِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ

مَنْ دُفِنَ فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ لَهُ حُرْمَةٌ لِكَوْنِ قَبْرِهِ ظَاهِرًا فَلَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ حَفْرُهُ وَلَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ سَرَابًا بِخِلَافِ الْفَسْقِيَّةِ ، فَإِنَّهَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ غَيْرَ مُرْتَفِعَةٍ كَالْقَبْرِ فِي الْغَالِبِ ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ أَثَرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الْبِنَاءِ عَلَيْهَا حَيْثُ دَثَرُوهَا أَوْ غَيْرُهُ مِنْ إرْسَالِ سَرَابٍ أَوْ جَعْلِ مِرْحَاضٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّهَا قَدْ تَنْخَسِفُ وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَتَضَرَّرُ بِهَا مَنْ تَنْخَسِفُ بِهِ ، وَقَدْ يَهْلَكُ ثُمَّ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَعْبَرَةً لِمَنْ يَمُرُّ بِهَا وَشُنْعَةً عَلَى مَنْ فِيهَا حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ لَيُطِيلُ النَّظَرَ فِيهَا حَتَّى يَعْرِفَ الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سِيَّمَا إنْ وَقَعَ السَّيْلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْكَشَفَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ وَذَهَابِ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ .

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ : مَنْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي فَسْقِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بَيْتٌ فَقَالَ : لَا وَلَا كَرَامَةَ .

فَالْمَنْعُ هُنَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى .

الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّهَا تَبْقَى مَأْوَى اللُّصُوصِ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَخْتَبِئُونَ فِيهَا وَيَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَخْتَارُونَ مِنْ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَتَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ وَكَانَتْ سَبَبًا لِلسَّتْرِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ .

الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ : أَنَّ الْفَسْقِيَّةَ تُمْسِكُ مَوَاضِعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَوْتَى ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَقْفًا فَيَكُونُ غَاصِبًا لِمَا عَدَا مَوْضِعَ جَسَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْغَيْرِ مِمَّنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا إلَّا قَدْرَ ضَرُورَتِهِ ، وَهُوَ مَا يُوَارِيهِ مِنْهَا إذَا مَاتَ .

وَأَشَدُّ مَنْعًا مِنْ

الْفَسْقِيَّةِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى كُلْفَةِ النَّفَقَةِ فِي الْفَسْقِيَّةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ أَنْزَلُوهُ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيُوصِي بِذَلِكَ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَشْفَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مُوَارَاتِهِ مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَهُ فِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ أَوْ السَّبْخَةِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَيِّتَ الْأَوَّلَ قَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَنْ مِثْلَ الْمُعَلَّا بِمَكَّةَ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ وَالْبَقِيعِ بِالْمَدِينَةِ لِشِدَّةِ سَبْخَتِهِ فَيَبْلَى الْمَيِّتُ فِيهِمَا سَرِيعًا حَتَّى إنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا التُّرَابُ .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْرُثُ الْبَقِيعَ بَعْدَ سِنِينَ وَيَدْفِنُ فِيهِ أَعْنِي قُبُورَ مَنْ تَحَقَّقَ خُلُوُّ الْقَبْرِ مِنْهُمْ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيلِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ جَعْلُ الرُّخَامِ عَلَى الْقُبُورِ ، وَهِيَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَفَخْرٌ وَخُيَلَاءُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا حَوَالَيْهِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ أَلْوَاحًا مِنْ خَشَبٍ عِوَضًا عَنْ الرُّخَامِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ دَرَابْزِينَ إذْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ ، فَكُلُّ مَا خَالَفَهَا فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَفَخْرٌ وَخُيَلَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَقْشِ اسْمِ الْمَيِّتِ وَتَارِيخِ مَوْتِهِ عَلَى الْقَبْرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ فِي الْحَجَرِ الْمُعَلَّمِ بِهِ قَبْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ كَانَ النَّقْشُ عَلَى الْبِنَاءِ الَّذِي اعْتَادُوهُ عَلَى الْقَبْرِ مَعَ كَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ مَمْنُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ كَانَ فِي بَلَاطَةٍ مَنْقُوشَةٍ أَوْ فِي لَوْحٍ مِنْ خَشَبٍ .

وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عَمُودٍ كَانَ رُخَامًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَالرُّخَامُ أَشَدُّ كَرَاهَةً .

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَمُودُ مِنْ خَشَبٍ فَيُمْنَعُ أَيْضًا .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا أَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةَ النَّقْشِ ، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَاحْتَوَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ثُمَّ تَنْدَثِرُ تِلْكَ التُّرْبَةُ وَيَنْدَثِرُ أَهْلُهَا وَمَعَارِفُهَا فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ إنْ سَلِمَ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَقَدْ يَبِيعُهُ السَّارِقُ لِمَنْ يَجْعَلُهُ فِي مَوَاضِعَ لَا تَلِيقُ بِهِ مِثْلُ عَتَبَةِ بَابٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ مِرْحَاضٍ وَيَجْعَلُ نَاحِيَةَ الْكِتَابَةِ إلَى الْأَرْضِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَلَا يَشْعُرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ فِيهِ ، وَأَمَّا إنْ بَاعَهُ لِنَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ فَذَلِكَ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ امْتِهَانَ مَا تُعَظِّمُهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ السَّرِقَةِ فَيَبْقَى مَوْطُوءًا بِالْأَقْدَامِ مُمْتَهَنًا حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ .

وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عَمُودٌ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَشْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رُخَامٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ

بَابِ الْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَمَا بَالُك بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ .

وَفِيهِ مِنْ الْقُبْحِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرِيدُ الظُّهُورَ وَبَقَاءَ اسْمِهِ وَأَثَرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ إنْ كَانَ وَصَّى بِذَلِكَ ، أَوْ كَانَ يُحِبُّهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَعَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَبِدْعَةُ ذَلِكَ مُخْتَصَّةٌ بِفَاعِلِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .

وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَآثِرِ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُوشًا عَلَى الْقَبْرِ أَوْ عَلَى جِدَارٍ أَوْ فِي وَرَقَةٍ مَلْصُوقَةٍ هُنَاكَ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا فَمَا بَالُك بِالشَّمَعِ الْغَلِيظِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَتْ بِهِ حَاجَةٌ لِلْوَقُودِ لَوْ كَانَ سَائِغًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إضَاعَةَ مَالٍ .

وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ قِنْدِيلٍ عَلَى قَبْرِ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْخَيْرِ ، وَالنَّاسُ يَعْتَقِدُونَهُ لِيَأْتِيَ النَّاسُ إلَى مَكَانِ الضَّوْءِ فَيَزُورُونَهُ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَّا أَنْ يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا كَإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَمَا يُشْبِهُهُ ، فَإِنَّ الْفَرْضَ سَاقِطٌ عَنْهُ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْفَرْضِ فَمَا بَالُك بِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فَكَيْفَ تُفْعَلُ مَعَ وُجُودِ مَفَاسِدَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَقَعُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِاللَّيْلِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَقَالِيمِ وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِيهَا فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ نُقِشَ عَلَى قَبْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا عُلِّقَ عَلَيْهِ قِنْدِيلٌ وَلَا عُمِلَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ .

وَيَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا

يُعْرَفُ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا الْفَذُّ النَّادِرُ ، وَهُمْ الْقُدْوَةُ وَنَحْنُ الْأَتْبَاعُ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ لَبَادَرَتْ الْأُمَّةُ إلَى فِعْلِهِ وَلَاشْتُهِرَ الْحُكْمُ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَخِّرِي هَذِهِ الْأُمَّةِ .

وَأَيْضًا فَفِي النَّقْشِ عَلَى الْقَبْرِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُرِيدُونَ الشُّهْرَةَ لِقُبُورِ أَوْلِيَائِهِمْ فَيَنْقُشُونَ عَلَيْهَا اسْمَ مَنْ مَضَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَيْ يَهْرَعَ النَّاسُ إلَى زِيَارَتِهِمْ ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ بِدِينِهِمْ وَالْفَسَقَةِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى الْقَبْرِ سَقْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَيَجْعَلُونَ هُنَاكَ تَصَاوِيرَ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ الَّذِي فِيهِ الذَّهَبُ هَلْ يَجُوزُ لِلْأَحْيَاءِ أَنْ يَدْخُلُوا تَحْتَهُ أَمْ لَا ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْتَى إذْ إنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى إظْهَارِ الْفَقْرِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَحْيَاءِ ، وَفِي فِعْلِ السَّقْفِ الْمُذْهَبِ مِنْ ظُهُورِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْتَى لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَأَمَّا الصُّوَرُ فَهِيَ نَقِيضُ الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا فِيهِ صُورَةٌ ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَطْلُبُونَ حُضُورَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ مَيِّتِهِمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِمْ لِيُغْفَرَ لَهُ ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْحُضُورِ حَصَلَ ضِدُّ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبِدْعَةُ إذَا عُمِلَتْ فِي شَيْءٍ كَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ فِيهِ وَقَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ بِضِدِّ مَا هِيَ السُّنَّةُ ، فَإِنَّهَا إذَا اُمْتُثِلَتْ فِي شَيْءٍ أَنَارَ وَاسْتَنَارَ

وَتَجَمَّلَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ

( فَصْلٌ ) وَيُسْتَحَبُّ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَكُنْ الِاجْتِمَاعُ لِلنِّيَاحَةِ وَشِبْهِهَا لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْبِرِّ لَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا .

وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : يَنْبَغِي لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ قَالُوا : وَأَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّلْبِينَةُ مِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحُزْنَ .

وَصِفَتُهَا أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةً كَأَنَّهَا الْمَاءُ إلَّا أَنَّهَا بَيْضَاءُ لِأَجْلِ الدَّقِيقِ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهَا ، وَيُجْعَلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمِلْحِ قَدْرَ قِوَامِهَا .

وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الزَّيْتِ أَوْ الشَّيْرَجِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ ، ثُمَّ يُوقَدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْضَجَ ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْخَنَ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ الْحَرِيرَةُ لَا التَّلْبِينَةُ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمُوا شُرْبَهَا عَلَى الطَّعَامِ لِمَا تَقَدَّمَ .

فَلَوْ جَاءَهُمْ الطَّعَامُ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِمَا فَضَلَ عَنْهُمْ أَوْ يُهْدُوهُ لِمَنْ يَخْتَارُونَ .

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْعَقِيقَةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تُشْبِهُ الْوَلَائِمَ وَلَكِنْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيُطْعِمُونَ وَيُهْدُونَ إلَى الْجِيرَانِ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي الْعَقِيقَةِ ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي اعْتَادَ بَعْضُهُمْ عَمَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ

سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لَهُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إذَا دُعِيَ إلَى الْعُرْسِ أَجَابَ وَإِذَا دُعِيَ إلَى الْخِتَانِ انْتَهَرَ الَّذِي دَعَاهُ أَوْ رَمَاهُ بِالْحَصَى ، وَقَالَ : لَا يُجِيبُكُمْ إلَّا أَهْلُ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ .

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : الْوَلِيمَةُ أَوَّلُ يَوْمٍ حَقٌّ وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ وَالثَّالِثُ سُمْعَةٌ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ .

وَقَالَ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ صَنَعَ طَعَامًا لِرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ لَمْ يَسْتَجِبْ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ ، وَلَمْ يُخْلِفْ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ مَا أَنْفَقَ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ ، فَمَا بَالُك بِمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَعْمَلُونَ الطَّعَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ عَكْسَ مَا حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلْيَحْذَرْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، وَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ لِلصَّدَقَةِ عَنْ الْمَيِّتِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ لَا لِلْجَمْعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ شِعَارًا يُسْتَنُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْقُرْبِ أَفْضَلُهَا مَا كَانَ سِرًّا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُوقِدُونَ السِّرَاجَ أَوْ الْقِنْدِيلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِهَا ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ حَجَرًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ ، وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ سِرَاجًا يُوقَدُ إلَى الصُّبْحِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ ثِيَابَ الْمَيِّتِ لَا تُغْسَلُ إلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَيَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ عَنْهُ عَذَابَ

الْقَبْرِ ، وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ يَعْمَلُ الْعِشَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَائِدَةَ الطَّعَامِ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ إلَّا الَّذِي وَضَعَهَا .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ يُوضَعُ فِيهِ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ بَعْدَ مَوْتِهِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ لَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ دَفْنِهِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الْبَيْتِ مِنْ الدَّفْنِ لَا يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ حَتَّى يَغْسِلُوا أَطْرَافَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْمَيِّتِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ الْبُكَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً حِينَ الْغَدَاةِ وَالْعِشَاءِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ لَا يَعْمَلُ شُغْلًا حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا عَطَسَ عَلَى الطَّعَامِ يَقُولُونَ لَهُ : كَلِّمْ فُلَانًا أَوْ فُلَانَةَ مِمَّنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِاسْمِهِ ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالْمَيِّتِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمَاءِ فِي الْبَيْتِ فِي زِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَطْرَحُونَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ نَجَسٌ ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ إذَا طَلَعَتْ غَطَسَتْ فِيهِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ مَا دَامَ حَزِينًا عَلَى مَيِّتِهِ لَا يَأْكُلُ مَعَ جَمَاعَتِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ حُزْنُهُ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ حَزِنُوا عَلَيْهِ سَنَةً كَامِلَةً ، لَا

يَخْتَضِبُ النِّسَاءُ فِيهَا بِالْحِنَّاءِ وَلَا يَلْبَسْنَ الثِّيَابَ الْحِسَانَ ، وَلَا يَتَحَلَّيْنَ ، وَلَا يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ ، وَإِنْ حَصَلَ الِاضْطِرَارُ إلَى دُخُولِهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ فَيُمْنَعْنَ مِنْ ذَلِكَ هُنَّ وَمَعَارِفُهُنَّ ، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ عَمِلْنَ مَا يُعْهَدُ مِنْهُنَّ مِنْ النَّقْشِ وَالْكِتَابَةِ وَالْغِشِّ الْمَمْنُوعِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُبَادِرْنَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ هُنَّ وَمَنْ الْتَزَمَ الْحُزْنَ مَعَهُنَّ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِفَكِّ الْحُزْنِ ، وَيَقَعُ لَهُنَّ اجْتِمَاعٌ حَتَّى كَأَنَّهُ فَرَحٌ مُتَجَدِّدٌ عِنْدَ جَمِيعِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى زِيَارَتِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَقِيَ خَاطِرُهُ مَكْسُورًا بَيْنَ الْمَوْتَى ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَرَاهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ سُورِ الْبَلَدِ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَتَفَاخَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ بِالْأَكْفَانِ وَحُسْنِهَا ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمَوْتَى فِي كَفَنِهِ دَنَاءَةٌ يُعَايِرُونَهُ بِذَلِكَ ، وَيَحْكُونَ عَلَى ذَلِكَ مَنَامَاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ تَتَبُّعُهَا مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ يَعِزُّ عَلَيْهَا الْمَيِّتُ تَخْرُجُ فِي جِنَازَتِهِ مَكْشُوفَةً بِغَيْرِ رِدَاءٍ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ صُبْحَةِ الْقَبْرِ ، وَهُوَ تَبْكِيرُهُمْ إلَى قَبْرِ مَيِّتِهِمْ الَّذِي دَفَنُوهُ بِالْأَمْسِ هُمْ وَأَقَارِبُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ وَأَيُّ مَنْ غَابَ مِنْهُمْ عَنْهَا وَجَدُّوا عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ جَعْلِ بَعْضِهِمْ ثَوْبًا مَنْشُورًا عَلَى الْقَبْرِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا فِي التُّرْبَةِ لِمَنْ يَأْتِي إلَى الصُّبْحَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى

ذَلِكَ وَمَنْعِهِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصْبِ الْخَيْمَةِ عَلَى الْقَبْرِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمَعِ وَغَيْرِهِ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْقَبْرِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرُبَ الْمَيِّتَ بِشَيْءٍ مِنْ أَثَرِ النَّارِ أَصْلًا ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ إتْبَاعِ الْمَيِّتِ بِالنَّارِ فَمَا بَالُك بِهَا تُوقَدُ عِنْدَ الْقَبْرِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا دَفَنُوا الْمَيِّتَ سَكَنُوا عِنْدَهُ مُدَّةً فِي بَيْتٍ فِي التُّرْبَةِ أَوْ قُرْبِهَا ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُوقِدُونَ الْأَحْطَابَ الْكَثِيرَةَ لِضَرُورَاتِهِمْ فَيَتَفَاءَلُونَ عَلَيْهِ بِوُقُودِهَا عِنْدَهُ وَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ هُنَاكَ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْعُدُ لِتَمَامِ الشَّهْرِ وَيَتَعَاهَدُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُ الْأَشْيَاءَ الْمَعْهُودَةَ مِنْهُمْ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا مَوْضِعُ النَّهْيِ ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ .

وَقَدْ حَمَلَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ النَّهْيَ عَلَى جُلُوسِ الْإِنْسَانِ لِحَاجَتِهِ عَلَى الْقَبْرِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَنْهِيًّا عَنْهُ ، وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ وَتُنَشِّفُهُ الشَّمْسُ وَتُنَشِّفُهُ الرِّيَاحُ وَيَشْرَبُهُ التُّرَابُ وَيُزِيلُهُ مَنْ رَآهُ غَالِبًا فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ إقَامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ الْكَثِيرِ فِي الْكَنِيفِ الَّذِي هُنَاكَ فَتَسْرِي الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ إلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُسْرِعُ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ ، وَعَلَيْهِ فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ الثَّالِثِ لِلْمَيِّتِ وَعَمَلِهِمْ الْأَطْعِمَةَ فِيهِ حَتَّى صَارَ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ وَيُشِيعُونَهُ كَأَنَّهُ وَلِيمَةُ عُرْسٍ

وَيَجْمَعُونَ لِأَجْلِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ ، فَإِنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْتِ وَجَدُوا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الْعَظِيمَ .

ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْرَءُوا هُنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى عَوَائِدِهِمْ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّطْرِيبِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ الْمَشْرُوعَةِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا ، وَيَأْتُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ يَذْكُرُونَ وَيُحَرِّفُونَ الذِّكْرَ عَنْ مَوَاضِعِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْتِي بِالْمُؤَذِّنِينَ يُكَبِّرُونَ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَادَتِهِمْ .

وَقَدْ صَارَ هَذَا الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَكَثُرَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ ، فَكَيْفَ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ .

ثُمَّ انْضَمَّ إلَيْهِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِيهِ التَّكْلِيفَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظِ إلَى الرِّجَالِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظَةِ إلَى النِّسَاءِ وَيَزِيدُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَيَنْقُصُونَ وَيُحَرِّفُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَيَفْهَمُونَ غَيْرَ الْمُرَادِ وَيَتَفَوَّهُونَ بِإِطْلَاقِ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الِاجْتِمَاعِ لِلسَّمَاعِ وَمَا فِي السَّمَاعِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَتِلْكَ الْقَبَائِحُ وَالْمَفَاسِدُ مَوْجُودَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ الثَّالِثِ وَالسَّابِعِ وَتَمَامِ الشَّهْرِ وَتَمَامِ السَّنَةِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ فُعِلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ يُمْنَعُ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ التَّهْلِيلَاتِ لِمَوْتَاهُمْ وَجَمْعِهِمْ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ جَهْرًا وَجَمَاعَةً وَمَا فِيهِ .

وَيَحْتَجُّونَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بِمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ الْمَوْتَى فِي عَذَابٍ فَذَكَرَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ ثُمَّ أَهْدَاهَا لَهُ ، فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ بِإِهْدَائِهِ لَهُ ثَوَابَ السَّبْعِينَ أَلْفًا .

وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَنَامٌ ، وَالْمَنَامُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَأَهْدَى لَهُ ثَوَابَهَا وَلَمْ يَجْمَعْ لِذَلِكَ النَّاسَ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الشُّهْرَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ ، أَمَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِمَنْ شَاءَ فَلَا يُمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الْفُرُشِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ لِجُلُوسِ مَنْ يَأْتِي إلَى التَّعْزِيَةِ فَيَتْرُكُونَهَا كَذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُزِيلُونَهَا .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ زَرْعِ شَجَرَةٍ أَوْ صَبَّارَةٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ مَوْضِعَ الْخُضْرَةِ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى .

وَالثَّانِي { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ ، وَهُمَا يُعَذَّبَانِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهَا عَلَى أَحَدِ الْقَبْرَيْنِ وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ عَلَى الْآخَرِ ، وَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا } .

وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ .

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ نَظِيفًا لِعَطَشِ الْأَرْضِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا

الْمَيِّتُ ، فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ شَرِبَهَا التُّرَابُ ، وَالْغَرْسُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَسْتَدْعِي ضِدَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ بِالْمَاءِ ، وَذَلِكَ يُزِيلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْرَ يَبْقَى مَبْلُولًا مِنْ دَاخِلِهِ فَلَا يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ إذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْنِهِ فِي الْأَرْضِ التُّرْبَةِ أَوْ يُنْقَرُ لَهُ فِي الْحَجَرِ الصُّلْبِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ .

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا } رَاجِعٌ إلَى بَرَكَةِ مَا وَقَعَ مِنْ لَمْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتِلْكَ الْجَرِيدَةِ .

وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ عَقِبَهُ : وَذَلِكَ لِبَرَكَةِ يَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَمَا نُقِلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلُ بَاقِيهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إذْ لَوْ فَهِمُوا ذَلِكَ لَبَادَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ ، وَلَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الْبَسَاتِينِ مُسْتَحَبًّا .

وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَمَّا { غَرْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّ الْعَسِيبِ عَلَى الْقَبْرِ } ، وَقَوْلُهُ : { لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا } ، فَإِنَّهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا ، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مُدَّةَ بَقَاءِ النَّدَارَةِ فِيهِمَا حَدًّا لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ فِي الْجَرِيدِ الرَّطْبِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْيَابِسِ ، وَالْعَامَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ

تَغْرِسُ الْخُوصَ فِي قُبُورِ مَوْتَاهُمْ وَأَرَاهُمْ ذَهَبُوا إلَى هَذَا ، وَلَيْسَ لِمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ " ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُلُوخِيَّةَ مَا دَامُوا فِي الْحُزْنِ عَلَى مَيِّتِهِمْ ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا مُجَمِّعَةُ الْأَحْبَابِ ، فَإِذَا أَكَلُوهَا تَذَّكَّرُوا بِهَا مَيِّتَهُمْ فَيَتَجَدَّدُ عَلَيْهِمْ الْحُزْنُ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ السَّمَكَ مُدَّةَ حُزْنِهِمْ عَلَى مَيِّتِهِمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْبِدَعِ فِي الدِّينِ وَتَرْكِ الْوُقُوفِ مَعَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .

وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ هَذَا وَلَا يُعَرَّجَ عَلَيْهِ لِظُهُورِ بَاطِلِهِ وَسَمَاجَتِهِ وَقُبْحِهِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا مَرْجُوَّ إلَّا إيَّاهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ النِّفَاسِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَصْلُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمَوْتَ بَعْدَهُ .

لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَتْ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ تَأَخَّرَ ذِكْرُهَا .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَخِّرُوهُنَّ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ } ، فَظُهُورُ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ هُوَ أَوَّلُ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ .

فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فِي حَقِّهِ لِتَعُودَ بَرَكَتُهَا عَلَى الْمَوْلُودِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَبَعْدَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْخِتَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مِثْلَهُ حِينَ بُرُوزِهِ إلَى الدُّنْيَا .

يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْحَفَظَةَ إذَا صَعِدُوا بِعَمَلِ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ أَوَّلُهَا مُبَيَّضًا وَآخِرُهَا مُبَيَّضًا بِالْحَسَنَاتِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ كَمَا وَرَدَ .

وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَفِيهِ { : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْمَوْلُودِ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ بِأَنْ تُمْتَثَلَ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّهُ فَلَعَلَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ إلَى الدُّنْيَا وَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ قُوَّةُ الرَّجَاءِ فِي الْعَفْوِ عَمَّا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَاشِيًا

فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ الْمَوْلُودِ عَلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَلَا يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَوَائِدِ أَكْثَرِ أَهْلِ وَقْتِهِ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي التَّخَلُّصِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ مَوْتِ الْمُحْتَضَرِ وَفِي دَفْنِهِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ ، هَذَا وَالْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ الرِّجَالُ غَالِبًا ، وَمُبَاشَرَةُ الرِّجَالِ لِلْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهُنَّ مُحْتَجِبَاتٌ وَتَرَبَّيْنَ فِي الْجَهْلِ غَالِبًا بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلِأَجْلِ بُعْدِهِنَّ عَنْ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ غَالِبًا اتَّخَذْنَ عَوَائِدَ رَدِيئَةً مُتَعَدِّدَةً قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ خَالَفْنَ فِيهَا الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ .

فَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَيْهِنَّ وَلَا إلَى رَأْيِهِنَّ وَلَا إلَى عَوَائِدِهِنَّ ، وَإِنْ غَضِبْنَ أَوْ تَشَوَّشْنَ أَوْ آلَ أَمْرُهُ مَعَهُنَّ إلَى هَجْرِهِنَّ أَوْ فِرَاقِهِنَّ ؛ لِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ إنَّمَا هِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِالِاتِّبَاعِ وَالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ ، بَلْ الِابْتِدَاعُ إذَا فُعِلَ كَانَ قَطْعًا لِلرَّحِمِ ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ بِهِ السُّرُورُ فِي الْوَقْتِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَطْعٌ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَوْلُودِ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ وَعَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْلُودِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَلْيَسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، } فَبِالسُّؤَالِ تَتَبَيَّنُ لَهُ السُّنَّةُ فَيَتَّبِعُهَا وَتَظْهَرُ لَهُ الْبِدْعَةُ فَيَتَجَنَّبُهَا فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } فَتَحْصُلُ لَهُ الْمَعِيَّةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَكْبَرُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا كَانَ مَعَهُ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَسَلِمَ دِينًا وَدُنْيَا .

فَعَلَى هَذَا

يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِصِلَةِ رَحِمِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلُودِ أَوَّلًا حِينَ خِطْبَةِ أُمِّهِ إنْ كَانَ وَالِدًا ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { اخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ كَمَا تَخْتَارُونَ لِصَدَقَاتِكُمْ } هَذَا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي كَيْفِيَّةِ صِلَةِ رَحِمِهِ لِوَلَدِهِ .

الْمَقَامُ الثَّانِي حِينَ الْوَطْءِ أَعْنِي فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِتْيَانِ بِالْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

الْمَقَامُ الثَّالِثُ حِينَ الْوِلَادَةِ ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُبَارَكِينَ وَلَهُ وَلَدٌ فِيهِ بَعْضُ أَعْرَاضٍ فَكَلَّمْت وَالِدَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَا أُبَالِي بِهِ فَإِنِّي امْتَثَلْت السُّنَّةَ حِينَ قَرُبْت أُمَّهُ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا خَيْرٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَ لَمَّا أَنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَكَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ بِنْتُ عَمِّهِ فَجَاءَ إلَى الْبَيْتِ فَطَلَبَ قُوتَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَأَبَى فَسَأَلَهُ وَالِدُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي قَدْ احْتَلَمْت الْبَارِحَةَ فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَدْخُلَ وَبِنْتُ عَمِّي فِي الْبَيْتِ ، فَهَذِهِ ثَمَرَةُ الِامْتِثَالِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنْ الْغَرَرِ وَالْغِشِّ فَهَاهُنَا أَوْجَبُ لِيَقَعَ الِامْتِثَالُ فِي حَقِّ الْمَوْلُودِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالتَّفَاؤُلُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْقَابِلَةُ أُجْرَتُهَا مَعْلُومَةٌ يَتَّفِقُ مَعَهَا عَلَيْهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ زَادَهَا شَيْئًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْهِبَةِ لَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُوَفِّيَهَا ذَاكَ وَإِلَّا تَرَكَهُ ، وَكَذَلِكَ هِيَ إنْ رَأَتْ قَبُولَهُ مِنْهُ وَإِلَّا تَرَكَتْهُ .

هَذَا إنْ كَانَ وَالِدًا .

وَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ وَالِدٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ إنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْتِي عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ غَالِبًا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَالْمُغَابَنَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَالْكَلَامِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي تَرْكِ الْأُجْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، بَلْ بَعْضُهُنَّ يَرَيْنَ أَنَّ تَعْيِينَ الْأُجْرَةِ عَيْبٌ وَقِلَّةُ حِشْمَةٍ وَتَرْكُ رِيَاسَةٍ ، وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ مَا قَالُوهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ إذَا تُرِكَتْ لَا يَخْلُفُهَا إلَّا ضِدُّهَا ، فَالرِّيَاسَةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ضِدِّهَا جَهْدَهُ لِتَعُودَ بَرَكَةُ اتِّبَاعِهَا عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ الْمَوْلُودِ وَالْوَلِيِّ وَالْقَابِلَةِ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ بَلْ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَسْأَلَ الْقَابِلَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مُبَاشَرَتِهَا لِلْمَوْلُودِ ؛ لِأَنَّ الْقَوَابِلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلَّ أَنْ يَتَحَفَّظْنَ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَتُبَاشِرُ الْقَابِلَةُ دَمَ النِّفَاسِ وَغَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَتَلْمِسُ الْمَوْلُودَ وَمَا يُجْعَلُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ

، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَلْ بَعْضُ الْقَوَابِلِ يَلْعَقْنَ الْمَوْلُودَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَصَابِعِهِنَّ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَيُعَلِّلْنَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ لِكَذَا وَكَذَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ { أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ بَعْدَ أَنْ لَاكَهَا فِي فَمِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ثُمَّ مَضَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ لَهُمْ مَوْلُودٌ أَتَوْا بِهِ إلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ بَرَكَتَهُ وَخَيْرَهُ فَيُحَنِّكُهُ لَهُمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ فِعْلِ الْقَابِلَةِ ضِدُّ هَذَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَعَسَّرَتْ الْوِلَادَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَخَذْنَ لُبَابَ الْخُبْزِ وَيَجْعَلْنَ فِي قَلْبِهِ زِبْلَ الْفَأْرَةِ وَيُطْعِمْنَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ بِهِ وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهَا الْوِلَادَةَ ، وَهَذَا بَاطِلٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } ، فَإِذَا كَانَ فَطَرَ الصَّبِيَّ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْحَرَامِ فَقَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقَلْبِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَفَاؤُلٌ رَدِيءٌ فِي كَوْنِهِ أَفْطَرَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ عَلَيْهِ .

فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ يَسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ انْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ الْفَاسِدَةُ .

ثُمَّ يُعَلِّمُهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ الْمَوْلُودِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهَا عِلْمٌ بِذَلِكَ فَيَا حَبَّذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا عِلْمٌ مِنْهُ فَتَتَعَلَّمُ الْحُكْمَ فِيهِ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ لَهَا

عَنْهُ سِيَّمَا وَقَدْ نَشَأَ أَكْثَرُهُنَّ عَلَى عَوَائِدَ رَدِيئَةٍ اتَّخَذْنَهَا ، وَقَدْ جَرَّتْ إلَى مُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةً كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِمَّا اتَّخَذُوهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، وَهِيَ أَنَّ غَاسِلَ الْمَيِّتِ يَأْخُذُ مَا يَجِدُ عَلَيْهِ فَجَرَّ ذَلِكَ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَيِّتِ يَتْرُكُونَ مَيِّتَهُمْ مَكْشُوفًا بِلَا سُتْرَةٍ أَوْ بِشَيْءٍ يَصِفُ الْعَوْرَةَ أَوْ يَحْكِيهَا ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ قَدْ جَرَتْ عَوَائِدُهُنَّ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ مَا نَزَلَ فِيهِ الْمَوْلُودُ ، وَذَلِكَ يَجُرُّ إلَى الضَّرَرِ بِالْمَوْلُودِ إنْ كَانَ أَهْلُهُ فُقَرَاءَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ ذَلِكَ لَا يَعْتَنُونَ بِهِ ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِأَثَرِ الْأَكَابِرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ أَوْ هُمَا مَعًا ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْلُودُ فِي ثَوْبِ أَحَدِهِمْ أَوْ فِي خِرْقَةٍ مِنْ أَثَرِهِمْ ، فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ غُنْمٌ وَبَرَكَةٌ ، فَإِذَا عَلِمَ أَهْلُ الْمَوْلُودِ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ ذَلِكَ أَمْسَكُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لِلتَّبَرُّكِ فَحُرِمَ الْمَوْلُودُ بَرَكَةَ مُبَاشَرَةِ تِلْكَ الْخِرْقَةِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ إلَى الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كَمَا حُرِمَ الْمَيِّتُ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي أَنَّ الْغَاسِلَ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ عَلَى الْمَيِّتِ كَمَا سَبَقَ .

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَفَاخَرُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْمَوْلُودُ حَتَّى إنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَهُ مِنْ خِرْقَةِ حَرِيرٍ غَالِبًا .

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ، وَقَالَ : هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } فَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ

لُبْسَهُ حَرَامٌ عَلَى الذَّكَرِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّ الْمَوْلُودِ ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ الْخِرْقَةَ وَلَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ الْمَوْلُودُ أَذَكَرًا أَمْ أُنْثَى .

وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ : قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلذَّكَرِ الصَّغِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْمَنْعِ ، وَأَيْضًا لَوْ قُلْنَا بِحِلِّهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّهِ فَيُجَنِّبُهُ الْمَوْلُودَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالتَّفَاؤُلُ الْحَسَنُ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ الْخِلَافِ ، وَفِي ذَلِكَ عَظِيمُ الثَّوَابِ لِوَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْقَوَابِلِ إذَا اسْتَحْسَنَ الْخِرْقَةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَأَنْ يَنْزِلَ فِيهَا الْمَوْلُودُ أَخَذْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ ، وَلَمْ يُبَاشِرْنَ الْمَوْلُودَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُسْنُهَا أَوْ يَنْقُصَ ثَمَنُهَا .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَدُخُولُ الْقَابِلَةِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَا اعْتَادَتْهُ مِمَّا هُوَ مَجْهُولٌ يُمْنَعُ ، وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَحْصُرُهُ فَذَلِكَ سَائِغٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نَقْدًا كَانَ أَوْ عَرَضًا .

فَوَقَعَ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ الْبِدْعَةِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ حُرِمُوا بَرَكَةَ أَثَرِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْأَغْنِيَاءُ وَقَعُوا فِي الْمُفَاخَرَةِ بِحُطَامِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ مَا تَذْكُرُهُ الْقَابِلَةُ لِلنَّاسِ مِنْ الْخِرْقَةِ الْحَرِيرِ وَصِفَتِهَا الَّتِي اعْتَادُوهَا لِنُزُولِ الْمَوْلُودِ فِيهَا فَحَصَلَ الضَّرَرُ لِلْفَرِيقَيْنِ .

فَإِذَا كَانَتْ الْقَابِلَةُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ انْزَاحَ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ .

وَيَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ الْمَوْلُودَ يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ كَالْقَابِلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي لَهُ قَدْرُ وَبَالٍ .

فَإِذَا خَرَجَ الْمَوْلُودُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ إلَى ضَوْءِ الدُّنْيَا وَجَبَ

الشُّكْرُ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ مَالِهَا إلَّا الثُّلُثُ لِمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَسَلَامَتُهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ شَامِلَةٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الشُّكْرُ ، وَشُكْرُهَا امْتِثَالُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاجْتِنَابُ نِعَمِهِ وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَأَنَّهَا وُهِبَتْ عُمْرًا جَدِيدًا .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا خَرَجَ صَحِيحًا سَوِيًّا غَيْرَ نَاقِصٍ فَهَذِهِ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَبِ وَأَقَارِبِهِ وَمِنْ الْأُمِّ وَأَقَارِبِهَا عَلَى سَلَامَتِهِمْ مِنْ النَّقْصِ فِي وَلَدِهِمْ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : الشُّكْرُ عَلَى تَكْثِيرِ عَدَدِهِمْ .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : النِّكَاحُ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ : أَوَّلُهَا : أَنَّهُ يَغُضُّ الطَّرْفَ .

وَالثَّانِي : يُحْصِنُ الْفَرْجَ .

وَالثَّالِثُ : يُكْثِرُ النَّسْلَ .

وَالرَّابِعُ : يُبْقِي الذِّكْرَ .

وَالْخَامِسُ : يُبْقِي الْأَثَرَ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمَوْلُودُ فَقَدْ كَثُرَ بِهِ الْعَدَدُ وَرُفِعَ بِهِ الذِّكْرُ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَالْأَثَرُ إنْ كَانَتْ أُنْثَى فَيَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ .

وَقَدْ وَرَدَ : { أَكْثِرُوا مِنْ الْعَائِلَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ بِأَيِّهِمْ تُرْزَقُونَ } فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ لِلْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الرِّزْقِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ حِسًّا ؛ لِأَنَّا نُشَاهِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَكُونُ فَقِيرًا ضَعِيفًا تَعِبًا مِنْ التَّكَسُّبِ بَعِيدًا مِنْ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ النَّاقِصَةِ ، فَإِذَا حَدَثَ لَهُ مَوْلُودٌ ظَهَرَ أَمْرُهُ وَكَثُرَ خَيْرُهُ وَبَاشَرَ الْعُلَمَاءَ وَسَمِعَ فَوَائِدَهُمْ بِوَاسِطَةِ وَلَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ الْمُتَرَادِفَةِ .

وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ رُئِيَ وَهُوَ يَمْشِي فِي رِكَابِ وَلَدِهِ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : مَا عُرِفَ حَبِيبٌ إلَّا بِوَلَدِهِ ، وَهَذَا

مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ .

فَقَابَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ بِضِدِّهَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُحْدَثَةِ إذْ أَنَّهُمْ إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ النِّعَمُ أَقْبَلَ النِّسَاءُ عَلَى الزَّغْرَدَةِ وَيَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الدُّفِّ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِهْتَارِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مَعَ التَّفَاخُرِ بِمَا يَصْنَعْنَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الْكَثِيرَةِ وَاجْتِمَاعِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَحِرْمَانِ الْفُقَرَاءِ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ مَعَ تَشَوُّفِهِمْ وَطَلَبِهِمْ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ ، وَأَكْثَرُهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى هَذَا الْحَالِ مُدَّةَ السَّبْعَةِ أَيَّامٍ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَتْ تُهَنِّئُ جَدَدْنَ لَهَا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَالرَّقْصَ وَالِاسْتِهْتَارَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ الرَّدِيئَةِ .

ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الشَّنِيعَةِ الْمَزَامِيرُ وَالْأَبْوَاقُ عَلَى الْبَابِ تُعْمَلُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْهَرْجِ وَالشُّهْرَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ تُتَّبَعُ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِمْ فَكَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اُضْطُرَّتْ إلَى التَّصْفِيقِ فِي صَلَاتِهَا صَفَّقَتْ بِأُصْبُعَيْنِ مِنْ يَدِهَا عَلَى ظَهْرِ يَدِهَا الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ فَمُنِعَتْ مِنْ الْكَلَامِ وَعُوِّضَتْ عَنْهُ التَّصْفِيقَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا بَالُك بِمَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ سِيَّمَا عِنْدَ إحْدَاثِ هَذِهِ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ .

وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَرَاهُمْ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ لَا يُغَيِّرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ وَلَا تَشْمَئِزُّ نَفْسُهُ ، بَلْ يُسَرُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ .

وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَعْظَمُهُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً أَنَّ بَعْضَ مَنْ

يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ إلَى الْخِرْقَةِ أَوْ إلَى الْمَشْيَخَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ بَلْ يَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَيَذُمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْجَهْلِ بِالْجَهْلِ .

وَلَيْسَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَاصًّا بِأَمْرِ النِّفَاسِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ حَدَثَ بِهِ سُرُورٌ حَتَّى فِي الْحَاجِّ إذَا قَدِمَ فَعَلُوا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَأَمَّا فِي أَمْرِ النِّكَاحِ فَلَا تَسْأَلْ عَمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ ، بَلْ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّفَاسِ نُقْطَةً مِنْ بَحْرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ قَلَّ أَنْ يَنْحَصِرَ أَوْ يَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ لِاخْتِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَالْعَوَائِدِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ النِّفَاسِ فِيهِ غَنِيَّةٌ عَنْ الْكَلَامِ عَلَى تَفْصِيلِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّكَاحِ .

وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِوَلِيمَةِ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الشَّرْعِ ، وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ الصَّرَاصِرِ وَالسِّلْسِلَةِ الْحَدِيدِ اللَّتَيْنِ أُحْدِثَتَا فِيهِ ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ أَحَدَ شَخْصَيْنِ إمَّا جَارِيَةٌ مِنْ الْوَخْشِ مِمَّنْ لَا يُلْتَفَتُ إلَى صُورَتِهَا وَلَا إلَى سَمَاعِ صَوْتِهَا غَالِبًا ، أَوْ حُرَّةٌ مُتَجَالَّةٌ لَا تُشْتَهَى وَلَا يُلْتَذُّ بِكَلَامِهَا بِخِلَافِ مَنْ تُشْتَهَى وَيُلْتَذُّ بِكَلَامِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ .

فَهَذَا هُوَ إعْلَانُ النِّكَاحِ وَإِفْشَاؤُهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ مَا تُسَوِّلُهُ الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

دَخَلَ إلَى بَلَدٍ فَوَجَدَ فِيهَا بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَصَابَهُمْ حُزْنٌ فَضَجُّوا وَأَظْهَرُوا الْمُخَالَفَةَ لِمَا أَصَابَهُمْ ، وَوَجَدَ آخَرِينَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَفَرِحُوا وَسُرُّوا وَخَرَجُوا بِذَلِكَ إلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَقَالَ : اُبْتُلِيَ هَؤُلَاءِ فَمَا صَبَرُوا ، وَأُنْعِمَ عَلَى هَؤُلَاءِ فَمَا شَكَرُوا ، فَلَا يُمَكِّنُنِي الْمُقَامُ مَعَ قَوْمٍ هَذَا حَالُهُمْ ، أَوْ كَمَا قَالَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ .

وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ إلَّا وَيَجِدُ فِيهِ مَا هُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَنْهُ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَلَا فَائِدَةَ إذَنْ فِي خُرُوجِهِ إلَّا حُصُولُ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالِاسْتِشَارَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُبَدِّدُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ جَمْعِ خَاطِرِهِ وَالدَّأْبِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّظَرِ فِي خَلَاصِ مُهْجَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْعَزْمُ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ يُوجِبُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُهُ .

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الِانْتِقَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُعَوَّضُ عَنْ ذَلِكَ رُسُومُ بَيْتِهِ وَتَرْكُ الْخَوْضِ فِيمَا هُمْ بِصَدَدِهِ غَيْرَ مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي } ، فَإِذَا امْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا وَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْهُمْ فَلَمْ يَضُرَّهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْءٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ ، بَلْ يَكْثُرُ أَجْرُهُ وَيَعْلُو أَمْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ بِحَسَبِ مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقَلِقِ وَالِانْزِعَاجِ عِنْدَ رُؤْيَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ سَمَاعِهِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُلَازِمٌ لِطَاعَةِ رَبِّهِ مُمْتَثِلٌ سُنَّةَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُزَعْزِعْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ،

بَلْ يَرَى ذَلِكَ غَنِيمَةً بَارِدَةً سِيقَتْ لَهُ فَيَغْتَنِمُهَا وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى مَا حَبَاهُ مِنْهَا .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : الشُّكْرُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِشَارَةِ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ يَكُونُ أَنَّ عَمَلَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ وَإِنْ مَاتَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُمَا مِنْ سَعْيِهِمَا وَآثَارِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ حَصَلَ الثَّوَابُ لِوَالِدَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ، وَمَا فَعَلَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي وَلَدِ الْوَلَدِ إلَى مُنْتَهَى انْقِرَاضِهِمْ .

وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ وَنِعْمَةٌ شَامِلَةٌ يَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ } ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا أَكْمَلَهَا وَأَعْظَمَهَا إلَى ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا فَقَابَلُوهَا بِضِدِّهَا كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا أَحْدَثْنَهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا جَاءُوا إلَى قَطْعِ سُرَّتِهِ جَمَعُوا عِنْدَهُ كُلَّ مَوْلُودٍ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ ذَلِكَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ سُرَّةُ الْمَوْلُودِ ، فَحِينَئِذٍ تَقْطَعُ الْقَابِلَةُ سُرَّةَ الْمَوْلُودِ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْ الصِّغَارِ عِنْدَ قَطْعِهَا وَدَخَلَ بَعْدَهُ تَحْوَلُّ عَيْنَاهُ أَوْ يَبْقَى يَبْكِي كَثِيرًا ، وَذَلِكَ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ يَتَعَيَّنُ طَرْحُهُ وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقَوَابِلِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا دَخَلَتْ إلَى بَيْتٍ وَقَبِلَتْ فِيهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهَا

فِيهِ ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّ دَمَ الْمَوْلُودِ وَدَمَ أُمِّهِ قَدْ وَقَعَ عَلَى يَدِ الْقَابِلَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا فِيهِ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَابِلَةِ الْأُولَى وَأَهْلِ الْبَيْتِ شَنَآنٌ وَخِصَامٌ كَثِيرٌ ، وَيَعْتَقِدْنَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَرَامٌ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِنْهُنَّ فِي الشَّرْعِ وَافْتِرَاءٌ بَيِّنٌ .

فَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ لَا يَقْرُبَ مَنْ هَذَا حَالُهَا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهَا حُكْمَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ قَبْلَ إتْيَانِهَا ، فَإِنْ رَضِيَتْ وَإِلَّا تَرَكَهَا وَأَخَذَ سِوَاهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَالطَّرِيقِ الْأَسْلَمِ .

فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالتَّأَلُّفِ وَتَرْكِ التَّشْوِيشِ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا .

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَوْلُودِ الْخِتْمَةُ وَاللَّوْحُ وَالدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ وَرَغِيفٌ مِنْ الْخُبْزِ وَقِطْعَةٌ مِنْ السُّكَّرِ إنْ كَانَ مُقِلًّا ، وَمَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ عَمِلَ رَغِيفًا كَبِيرًا مِنْ الْكَمَاجِ وَأُبْلُوجَةً مِنْ السُّكَّرِ وَطَبَقًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَقُفَّةً مِنْ النَّقْلِ وَشَمَعًا ، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا ، فَإِذَا كَانَتْ صَبِيحَةُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَرَّقْنَ كُلَّ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ بَرَكَةٌ لِمَنْ أَخَذَهُ ، وَأَنَّهُ يَنْفَعُهُ مِنْ الصُّدَاعِ ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ مَا يَجْرِي عَلَى الْمَوْلُودِ فِي عُمْرِهِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ وَافْتِرَاءٌ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ كَتْبِ عِصَابَةِ الْمَوْلُودِ بِالزَّعْفَرَانِ يَكْتُبُونَ فِيهَا سُورَةَ يس أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَعْصِبْنَهُ بِهَا فِي يَوْمِ سَابِعِهِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ جَعْلِ السِّكِّينِ الَّتِي قُطِعَتْ

بِهَا سُرَّةُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ رَأْسِهِ مَا دَامَتْ أُمُّهُ جَالِسَةً عِنْدَهُ ، فَإِذَا قَامَتْ حَمَلَتْهَا مَعَهَا تَفْعَلُ هَذَا مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُصِيبَهَا شَيْءٌ مِنْ الْجَانِّ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا غَابَتْ عَنْهُ أُمُّهُ لِضَرُورَةٍ فِي الْبَيْتِ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يَقْعُدُ عِنْدَ الْمَوْلُودِ تَجْعَلُ عِنْدَهُ كُوزًا مَمْلُوءًا مَاءً وَشَيْئًا مِنْ الْحَدِيدِ .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَخْذِهِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِلْحِ ، وَيَصْبُغْنَ بَعْضَهُ بِالزَّعْفَرَانِ ، وَبَعْضَهُ بِالزِّنْجَارِ غَالِبًا ، وَيَخْلُطْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْكَمُّونِ الْأَسْوَدِ وَيُوقِدُونَ الشَّمَعَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَتَلْبَسُ أُمُّ الْمَوْلُودِ ثِيَابًا حِسَانًا ، وَيَدُرْنَ بِهَا بِوَلَدِهَا الْبَيْتَ كُلَّهُ ، وَالْقَابِلَةُ أَمَامَهَا حَامِلَةً لِلْمَوْلُودِ ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى أَمَامَ الْقَابِلَةِ مَعَهَا طَبَقٌ فِيهِ الْمِلْحُ الْمَذْكُورُ وَيَنْثُرْنَهُ فِي الْبَيْتِ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَفِي الطَّبَقِ شَيْءٌ مِنْ الْبَخُورِ بَخُورٌ مَخْصُوصٌ بِالْوِلَادَةِ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْكَسَلِ وَالْعَيْنِ وَالْجَانِّ وَالشَّرِّ كُلِّهِ ، وَهَذَا مِنْهُنَّ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَبِدَعٌ لَيْسَتْ مِنْ الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ فِي شَيْءٍ .

فَاللَّبِيبُ مَنْ سَلَّمَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ إلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَتَرَكَ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُعَلِّلُهُ بِتَعَالِيلَ لَا يَقُومُ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ بَاطِلُهَا إلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَالتَّمْيِيزِ غَالِبًا ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ ، وَحَيْثُ كَانَتْ فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِابْتِدَاعِ .

أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ إنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ فِي سَابِعِهِ ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ فِي السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ .

وَقَدْ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَمَّا يُتَّقَى فِي الضَّحَايَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ، وَقَالَ : أَرْبَعٌ : الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا ، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقَى وَوَقْتُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ السَّابِعِ ، فَإِنْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ ، طُرِحَ ذَلِكَ ، وَلَا يُحْسَبُ ، وَيَتَحَفَّظُ فِيهَا كَمَا يَتَحَفَّظُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، فَلَا يُعْطِي الْجَزَّارَ أُجْرَتَهُ مِنْ لَحْمِهَا وَلَا جِلْدِهَا ، وَكَذَلِكَ الْقَابِلَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِوَضٌ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِيَاعَاتِ ، وَلَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَذْبَحُهُ فِي الْعَقِيقَةِ إلَى الْمَسْمَطِ ، فَيُعْطِي جِلْدَهَا وَرَأْسَهَا وَأَطْرَافَهَا لِلصَّانِعِ الَّذِي يَعْمَلُهَا ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ .

هَذَا إنْ عَمِلَهَا سَلِيخًا ، وَأَمَّا إنْ عَمِلَهَا سَمِيطًا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا وَلِيمَةً وَيَدْعُوَ النَّاسَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيُصْنَعُ مِنْهَا طَعَامٌ وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ الْإِخْوَانُ ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تَشَبُّهٌ بِالْوَلَائِمِ ، وَقَالَ إنَّمَا تُطْبَخُ وَتُؤْكَلُ وَيُطْعَمُ الْجِيرَانُ .

وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يَعُقُّ عَنْهُ أَنْ لَا يُوقِعَ عَلَيْهِ الِاسْمَ إلَّا حِينَ يَذْبَحُ الْعَقِيقَةَ ، وَيَتَخَيَّرُ لَهُ فِي الِاسْمِ مُدَّةَ السَّابِعِ ، فَإِذَا ذَبَحَ الْعَقِيقَةَ أَوْقَع عَلَيْهِ الِاسْمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ لَا يَعُقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ ، فَيُسَمُّونَهُ

فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءُوا .

ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ مِنْهُمْ ، وَيَعْتَلُّ بِهِ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ الْعَقِيقَةِ ، وَيَتَكَلَّفُ لِبَعْضِ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَمَنِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ .

فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ عَمَلِ الزَّلَابِيَةِ ، أَوْ شِرَائِهَا وَشِرَاءِ مَا تُؤْكَلُ بِهِ مَا ثَمَنُهُ أَضْعَافُ مَا يَفْعَلُ بِهِ الْعَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ .

هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ وَالظُّهُورِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ .

وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ الْوِلَادَةِ .

وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْوِلَادَةِ .

وَبَعْضُهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيَعْتَلُّونَ فِي ذَلِكَ بِكَوْنِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَقِيقَةِ ، وَالْعَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ ثَمَنُهَا أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى تَرْكِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الْعَصِيدَةِ مِنْ الْبِدْعَةِ لَكَانَ فِيهِ ثَمَنُ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَزِيَادَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيدَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا إلَّا النُّفَسَاءُ وَحْدَهَا ، فَزُبْدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ دُونَهَا تَكْفِيهَا ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الْعَصِيدَةَ ، وَيَشْتَرُونَ مَا تُؤْكَلُ بِهِ وَيُفَرِّقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَعَارِفِ ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْدُبْهُمْ الشَّرْعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ إطْعَامُ الطَّعَامِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لَكِنْ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ تَرْكُ سُنَّةٍ ، وَهُمْ لَوْ اشْتَرَوْا بِثَمَنِ الْعَصِيدَةِ وَمَا تُؤْكَلُ بِهِ مَا يَعُقُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَكَانَ فِيهِ الْكِفَايَةُ وَزِيَادَةٌ .

ثُمَّ يَزِيدُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ النَّقْلِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَيُفَرِّقُونَهُ فِي يَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَهَذَا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ

عَنْ النَّقْلِ الْمَذْكُورِ حَلَاوَةً عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ تُشْبِهُ النَّقْلَ يُسَمُّونَهَا بِالْمُغَزْدِرَاتِ وَبَعْضُهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالنَّثُورِ ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْبِدْعَةِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالْخُيَلَاءِ وَتَرْكِ السُّنَنِ وَالِاهْتِبَالِ بِأَمْرِهَا وَاغْتِنَامِ بَرَكَتِهَا .

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ زَادُوا عَادَةً ذَمِيمَةً ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُجَدِّدُوا كِسْوَةً لِأَهْلِ الْبَيْتِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَيْتُ حَتَّى الْحَصِيرُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ ، فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - إلَى صَرْفِ هَذِهِ النَّفَقَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَلُّونَ لِتَرْكِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا .

وَبَعْضُهُمْ يَتَدَايَنُ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَلِبَعْضِهَا ، وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّ الْعَقِيقَةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَشْغَلُونَ ذِمَّتَهُمْ بِالدَّيْنِ لِأَجْلِهَا وَيَشْغَلُونَ ذِمَّتَهُمْ بِالدَّيْنِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ عَكْسُ مَا يُنْدَبُونَ إلَيْهِ ، وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

ثُمَّ إنَّ التَّدَايُنَ لِأَجْلِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ يَخْلُفُ عَلَى الْمُنْفِقِ عَلَيْهَا وَيُيَسِّرُ عَلَيْهِ وَفَاءَ دَيْنِهَا كَالْأُضْحِيَّةِ لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فَبِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْأَمْثَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ اللَّعِينَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْرِمَهُمْ بَرَكَةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ فِعْلَهَا بَرَكَةٌ وَخَيْرٌ وَغَنِيمَةٌ ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُكَلِّفُهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ يَسِيرَةُ النَّفَقَةِ ، وَفِيهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ ، وَفِي الْعَوَائِدِ ضِدُّ ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهَا لَا تَخْلُفُ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا مَعَ تَعَبِهِ لِأَجْلِهَا ، فَفِيهَا التَّعَبُ دُنْيَا وَأُخْرَى .

وَفِي فِعْلِ الْعَقِيقَةِ مِنْ الْفَوَائِدِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا : امْتِثَالُ السُّنَّةِ ، وَإِخْمَادُ

الْبِدْعَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ إلَّا أَنَّهَا حِرْزٌ لِلْمَوْلُودِ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ كَمَا وَرَدَ ، فَالسُّنَّةُ مَهْمَا فُعِلَتْ كَانَتْ سَبَبًا لِكُلِّ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ ، وَالْبِدْعَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَوَجَدُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مَنْثُورَيْنِ فِي بَيْتِهِ ، وَأَوْلَادُهُ ذَاهِبُونَ وَرَاجِعُونَ عَلَيْهَا ، فَقَالُوا لَهُ : يَا سَيِّدَنَا ، أَمَا هَذَا إضَاعَةُ مَالٍ ، قَالَ : بَلْ هِيَ فِي حِرْزٍ قَالُوا لَهُ : وَأَيْنَ الْحِرْزُ ، قَالَ لَهُمْ : هِيَ مُزَكَّاةٌ ، وَذَلِكَ حِرْزُهَا ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَنْ عُقَّ عَنْهُ ، فَهُوَ فِي حِرْزٍ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ ، وَأَقَلُّ آفَةٍ تَقَعُ بِالْمَوْلُودِ يَحْتَاجُ وَلِيُّهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَدْرَ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَمَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ فَلْيَبْذُلْ جَهْدَهُ عَلَى فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ حِرْزِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ ، أَمَّا الْبَدَنُ فَسَلَامَةُ الْمَوْلُودِ سِيَّمَا مِنْ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا كَوْنُهَا حِرْزًا لِلْمَالِ ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِي الْعَقِيقَةِ نَزْرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَغَيْرُهَا مِنْ النَّفَقَاتِ فِيمَا يَتَوَقَّعُ عَلَى الْمَوْلُودِ مِنْ تَوَقُّعِ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ ، وَفِيهَا كَثْرَةُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي فِعْلِهَا وَتَفْرِيقِهَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنَّ فِيهَا الْأَجْرَ الْكَثِيرَ لِقِلَّةِ فَاعِلِهَا .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ السُّنَنِ إذَا أُمِيتَتْ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ .

وَالْعَقِيقَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلَّ أَنْ تُعْرَفَ ، وَإِنْ عُرِفَتْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَبِالِاسْمِ

لَيْسَ إلَّا فِي الْغَالِبِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهَا أَفْعَالًا تُخْرِجُهَا عَنْ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا .

فَمِنْهَا مُخَالَفَةُ وَقْتِهَا الشَّرْعِيِّ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤَخِّرُهَا عَنْهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ تُجْزِي عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَكِنْ فَوَّتَ نَفْسَهُ فَضِيلَةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الْوَقْتِ الْمَوْضُوعِ لَهَا ، مِنْهَا عَدَمُ التَّوْفِيَةِ بِشُرُوطِهَا إذْ أَنَّهُمْ يُعْطُونَ مِنْ لَحْمِهَا وَجِلْدِهَا لِلصَّانِعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : فِيمَنْ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَا فَضْلَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ حَتَّى يُضَحِّيَ ، فَكَذَلِكَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا : إنَّهُ يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ ، فَكَذَلِكَ يَتَدَايَنُ لِلْعَقِيقَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَإِذَا اخْتَارُوا لَهُ الِاسْمَ مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِ إلَى سَابِعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارُوا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا كَانَ سَالِمًا مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكُنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَلَهُ فِي التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَقْنَعٌ وَبَرَكَةٌ وَخَيْرٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ .

وَقَدْ وَقَعَ لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ ازْدَادَ لَهُ مَوْلُودٌ طَالَبُوهُ بِبَعْضِ عَوَائِدِهِمْ الْجَارِيَةِ فَأَبِي عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : السُّنَّةُ أَوْلَى قَالَ : وَكُنْت مَرِيضًا لَا أَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ ، فَلَمَّا أَنْ عَزَمْت عَلَى الْعَقِيقَةِ وَجَزَمْت بِهَا رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي مَاشٍ عَلَى طَرِيقٍ وَمَعِي شَخْصٌ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَإِذَا بِجِيفَةٍ قَدْ عَرَضَتْ لَنَا فِي وَسَطِهَا ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي كَانَ مَعِي : عَسَى أَنَّك تُعِينُنِي عَلَى زَوَالِ هَذِهِ الْجِيفَةِ عَنْ

الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْبُرُ مِنْ هَاهُنَا السَّاعَةَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : نَعَمْ فَأَزَلْنَا الْجِيفَةَ عَنْ الطَّرِيقِ وَنَظَّفْنَاهُ ، وَإِذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي : وَعَلَيْك السَّلَامُ يَا فَقِيهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَانْتَبَهْت مِنْ نَوْمِي ، فَوَجَدْت الْعَافِيَةَ فِي الْوَقْتِ ، فَأَصْبَحْت وَخَرَجْت وَاشْتَرَيْت الذَّبِيحَةَ لِلْعَقِيقَةِ بِنَفْسِي ، فَلَمَّا أَنْ عَمِلْتهَا جَمَعْت بَعْضَ الْإِخْوَانِ وَحَدَّثْتهمْ بِمَا جَرَى فَاشْتُهِرَ الْأَمْرُ ، وَكَانَتْ الْعَقِيقَةُ إذْ ذَاكَ قَدْ دُثِرَتْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ فَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ .

وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ حَيْثُ قَالَ { : مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَأَوَّلْتُ الْجِيفَةَ عَلَى الْعَوَائِدِ وَأُوِّلَتْ إزَالَتُهَا وَتَنْظِيفُ الطَّرِيقِ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ .

وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

الْخِتَانُ ( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْخِتَانُ فَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتِنُونَ أَوْلَادَهُمْ حِينَ يُرَاهِقُونَ الْبُلُوغَ ، لَكِنْ قَدْ وَرَدَ ؛ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَوْمَ السَّابِعِ أَوْ نَحْوَهُ } ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ ، فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ كَانَ مُمْتَثِلًا ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ ، وَالْقَطْعُ مِنْهُ قَبْلَ تَكْلِيفِهِ فِيهِ إيلَامٌ لَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْوَقْتِ ، وَأَمَّا خِتَانُهُ حِينَ الْمُرَاهَقَةِ ، فَهُوَ مُتَعَيَّنٌ ؛ لِأَنَّ كَشْفَ عَوْرَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُحَرَّمٌ ، لَكِنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ وَالْبُطْءُ فِي الْبُرْءِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّ أَلَمَهُ خَفِيفٌ وَبُرْأَهُ قَرِيبٌ .

وَاخْتُلِفَ إنْ وُلِدَ مَخْتُونًا هَلْ يُخْتَنُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذِهِ مُؤْنَةٌ كَفَانَا اللَّهُ إيَّاهَا فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى فِعْلِهَا وَلِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ لَا يُبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَالضَّرُورَةُ مَعْدُومَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا بُدَّ مِنْ إجْرَاءِ الْمُوسَى عَلَيْهِ لِيَقَعَ الِامْتِثَالُ .

وَالسُّنَّةُ فِي خِتَانِ الذَّكَرِ إظْهَارُهُ ، وَفِي خِتَانِ النِّسَاءِ إخْفَاؤُهُ .

وَاخْتُلِفَ فِي حَقِّهِنَّ هَلْ يَخْفِضْنَ مُطْلَقًا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَهْلِ الْمَغْرِبِ ، فَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يُؤْمَرُونَ بِهِ لِوُجُودِ الْفَضْلَةِ عِنْدَهُنَّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ لَا يُؤْمَرُونَ بِهِ لِعَدَمِهَا عِنْدَهُنَّ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ فِيمَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا فَكَذَلِكَ هُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْفِلَاحَةِ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّنَائِعِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْغَالِبِ لَكِنَّ بَعْضَهُمَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَوَقَعَتْ الْبُدَاءَةَ بِمَا الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالْحَفْرُ لَهُ وَدَفْنُهُ وَالنُّفَسَاءُ وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُبَاشَرَةٍ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِيهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِنِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ ؛ لِيَسْقُطَ عَنْهُمْ فَيَدْخُلَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ثُمَّ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ لَهُ ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْأُجْرَةِ عَلَى مَا هُوَ يَفْعَلُهُ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ .

وَالرِّزْقُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ جِهَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنْ قُسِمَ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ فَيَذْهَبُ عَنْهُ الِاسْتِشْرَافُ وَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ تَمَحَّضَ الْفِعْلُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى لَهُ ذَخِيرَةً يَجِدُهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إلَيْهِ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ فِي الْأَزَلِ لَا يَفُوتُهُ ، إذْ إنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُك أَكْثَرَ مَا تَطْلُبُهُ أَنْتَ وَبَقِيَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَالْحِرْصُ وَالتَّعَبُ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ أُرِيدُ بِهِ السَّعَادَةَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَمَنْ أُرِيدَ بِهِ ضِدَّ ذَلِكَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ الْحِرْصُ وَالتَّعَبُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ حِينَ أَخَذَهُ الْجَامِكِيَّة أَوْ تَعَذَّرَهَا فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ

الْمُسْلِمِينَ فَيَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي كُلِّ مَا هُوَ فِيهِ إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَدْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَبَقِيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُتَقَلِّبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَهَذَا أَفْضَلُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْعُ مُتَعَدٍّ وَذَلِكَ أَرْجَحُ فِي الْوَزْنِ وَأَعْظَمُ عِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَآكَدُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ الزِّرَاعَةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَقُوتُ النُّفُوسِ فَلِذَلِكَ بُدِئَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ ، وَيَعْقُبُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ عَلَى مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى صَنْعَةِ الْحِيَاكَةِ وَهِيَ الْقَزَازَةُ ، ثُمَّ الْآكَدُ فَالْآكَدُ وَالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالزِّرَاعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا إذْ إنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ لِلزَّارِعِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ كُلُّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِزِرَاعَتِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيُقَالُ : إنَّهُ الزَّارِعُ لَوْ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ نَأْكُلُ مِنْهُ حِينَ زِرَاعَتِهِ لَمْ يَزْرَعْ شَيْئًا لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ : نَأْكُلُ مِنْهُ فَمَا فِي الصَّنَائِعِ كُلِّهَا أَبْرَكُ مِنْهَا وَلَا أَنْجَحُ إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْكُنُوزِ الْمُخَبَّأَةِ فِي الْأَرْضِ .

لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِالْفِقْهِ وَحُسْنِ مُحَاوِلَةٍ فِي الصِّنَاعَةِ مَعَ النُّصْحِ التَّامِّ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا ؛ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْبَرَكَاتُ وَتَأْتِي الْخَيْرَاتُ .

قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إلَّا كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ

إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَيْضًا { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلزَّارِعِ أَوْ لِلْغَارِسِ مَا دَامَ زَرْعُهُ أَخْضَرَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي حِرْفَتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ فَلْيَسْأَلْ الْعُلَمَاءَ عَنْ فِقْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي زِرَاعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحِرَفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهٍ كَثِيرٍ .

وَاَلَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا حَصَلَ لَا يُقْدِمُ الْمَرْءُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُحَاوِلُهُ حَتَّى يَعْرِفَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِيهِ وَبِالسُّؤَالِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ .

وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ بَعْضَ الشُّبَّانِ أَصَابَهُ جُذَامٌ وَكَانَ مِمَّنْ يَسْكُنُ خَارِجَهَا فَجَاءَ بِهِ أَهْلُهُ إلَى طَبِيبٍ بِهَا وَكَانَ عَارِفًا حَاذِقًا مَشْهُورًا بِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ قَالَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَيْأَسَهُمْ مِنْ بُرْئِهِ فَرَجَعُوا فَبَيْنَمَا هُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إذْ مَرُّوا بِرَجُلٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَهُوَ يَزْرَعُ فِي أَرْضٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامَ وَقَالَ لَهُمْ : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتُمْ ؟ قَالُوا : مِنْ مَدِينَةِ فَاسَ ، قَالَ : وَمَا فَعَلْتُمْ فِيهَا ؟ قَالُوا : ذَهَبْنَا إلَيْهَا بِسَبَبِ وَلَدِ فُلَانٍ وَأَخْبَرُوهُ بِالْخَبَرِ فَقَالَ لَهُمْ : وَمَا قَالَ لَكُمْ الطَّبِيبُ ؟ قَالُوا لَهُ : قَالَ : لَا يُبْرِئُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَأَيْنَ حَوَارِيُّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ الشَّابِّ أَيْنَ هُوَ ؟ فَقَالُوا لَهُ : هَا هُوَ ذَا حَاضِرٌ فَأَمَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَشَّى يَدَهُ عَلَيْهِ وَنَفَثَ وَإِذَا بِالشَّابِّ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ بِهِ وَقَامَ صَحِيحًا سَوِيًّا ،

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : ارْجِعُوا بِهِ إلَى الطَّبِيبِ ، وَقُولُوا لَهُ : هَذَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ حَوَارِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الزَّارِعُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ بِصَلَاحٍ مَسْتُورَ الْحَالِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْكِسْرَةَ إنْ كَانَتْ طَيِّبَةً جَرَى هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِبَرَكَتِهَا .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : اعْلَمُوا أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ تَقَاصَرَتْ عَنْ الْعِبَادَاتِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْكُمْ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ الْأُجُورَ الْكَثِيرَةَ أَرَادَهَا الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا .

وَمَا قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ، حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرَاعِي هَذِهِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ تَقَعُ لَهُ الْبَرَكَاتُ حَتَّى يُقَالَ عَنْهُ : إنَّهُ وَجَدَ كَنْزًا وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَا أَرَادَهُ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْكَنْزِ وَمَنْفَعَتَهُ إنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْيُسْرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَهُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ حَاوَلَ الزِّرَاعَةَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ مُحَاوَلَتِهَا شَرْعًا .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ انْقَسَمُوا فِي تَسَبُّبِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْحَوَائِطِ وَهِيَ الْبَسَاتِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَسَبَّبُ فِي الْأَسْوَاقِ وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ وَلَكِنَّ الزِّرَاعَةَ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْلَى وَأَفْضَلُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالنَّفْعَ الْكَثِيرَ الْمُتَعَدِّيَّ .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِي كَانَ يَزْرَعُ فِي أَرْضِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ كَوْنِهِ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِأَجْلِ زِرَاعَةِ أَرْضِهِ إذْ ذَاكَ لِأَجْلِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ فِي زِرَاعَتِهَا .

وَإِذَا كَانَتْ الزِّرَاعَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَنْبَغِي بَلْ تَتَعَيَّنُ الْمَعْرِفَةُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي مُحَاوَلَتِهَا لِتَأَكُّدِهَا سِيَّمَا الْقُوتَ الَّذِي هُوَ صَلَاحُ

الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَبِهِ يَصْفُو الْبَاطِنُ وَيَكْثُرُ الْخُشُوعُ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ الْمَاضُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الْقُوتِ الَّذِي يَدْخُلُ أَجْوَافَهُمْ التَّحَفُّظَ الْكُلِّيَّ وَفِيهِ كَانَ تَوَرُّعُهُمْ وَالْوَسَاوِسُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ يَدْفَعُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِهِ .

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ الْمُؤْمِنُ الَّذِي إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ وَإِذَا أَمْسَى سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ ؟ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلِّفُوا عِلْمَ ذَلِكَ لَتَكَلَّفُوهُ قَالَ : عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ غَشَمُوا الْمَعِيشَةَ غَشْمًا } .

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ } أَيْ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ .

وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نَوَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَجْرَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ } وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ } وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَحَلُّ مَا أَكَلَ الرِّجَالُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ : لَا تَسْأَلْ أَحَدًا شَيْئًا } وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ بَاتَ كَالًّا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ وَأَصْبَحَ وَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ } ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا جَرَى مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَرْبَةِ اللَّبَنِ الَّتِي شَرِبَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ جِهَتِهَا فَذُكِّرَ بِذَلِكَ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِشَيْءٍ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِجِهَتِهِ فَتَقَايَأَهَا وَقَاسَى مِنْ ذَلِكَ مُعَالَجَةً شَدِيدَةً فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلَّا بِرُوحِي لَأَخْرَجْتهَا ؛ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ جِرَابٌ فِيهِ قُوتُهُ وَعَلَيْهِ قُفْلٌ مِنْ حَدِيدٍ وَالْمِفْتَاحُ عِنْدَهُ لَا يُمَكِّنُ مِنْهُ غَيْرَهُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بِذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ فَهَذَا كَانَ حَالَهُمْ فِي تَحَفُّظِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَمْرِ الْمَطْعُومِ .

وَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ

حَوْضَك السِّبَاعُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا .

وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأَجِدُهُ يَتَحَدَّرُ مِنِّي مِثْلَ الْخُرَيْزَةِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَلَا أَقْطَعُ صَلَاتِي " يَعْنِي الْمَذْيَ " .

هَذَا وَقَدْ كَانَ إمَامًا يَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَمَا بَالُك بِغَيْرِ هَذَا الْإِمَامِ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ حُفَاةً ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ إلَّا إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ .

وَكَانَتْ الْكِلَابُ تَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ السَّنِيَّةِ الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ عَكْسَ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْوَقْتِ إذْ إنَّهُمْ يَتَوَرَّعُونَ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَيُضَيِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ أَوْقَاتِهِمْ بِسَبَبِهَا ، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي أَمْرِ الْقُوتِ وَيَرْكَنُونَ فِيهِ إلَى قَوْلِ قَائِلٍ أَوْ زَلَّةِ عَالِمٍ قَالَ بِالْحِلِّ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَيَجْعَلُونَهُ حُجَّةً فِي أَخْذِ الْحُطَامِ عُكِسَ الْحَالُ ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَوْ دَخَلَهُمْ الْوِسْوَاسُ فِي أَمْرِ الْقُوتِ دُونَ الطَّهَارَةِ لَكَانَ أَنْجَحَ وَأَوْلَى بَلْ أَوْجَبَ ؛ لِأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَانُونِ الِاتِّبَاعِ أَوْ كَمَا كَانَ يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لِلزَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ مِنْ الزَّكَاةِ لِقَوْلِ أَحَدٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ امْتَحَقَتْ الْبَرَكَاتُ وَذَهَبَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْخَرَاجَ وَيُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَعَمَّا فَضَلَ فَبِذَلِكَ تَكْثُرُ الْبَرَكَةُ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَتَحْصُلُ الْإِعَانَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى السُّنَّةِ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ - أَنَّهُ تَجُوزُ إجَارَتُهَا بِكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ مِلْكُهُ وَبَيْعُهُ كَانَ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ أَوْ مِمَّا لَا تُنْبِتُهُ .

الْقَوْلُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِشَيْءٍ مِمَّا تُنْبِتُهُ كَانَ طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ .

الْقَوْلُ الثَّالِثُ - أَنَّهُ يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِمَا تُنْبِتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا مِثْلَ الْخَشَبِ وَالصَّنْدَلِ .

الْقَوْلُ الرَّابِعُ - أَنَّهُ إنْ زَرَعَ فِيهَا الْحِنْطَةَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ فِي إجَارَتِهَا الْعَدَسَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْقَطَّانِيِّ .

وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ جُهْدَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ وَنَجَاحِ السَّعْيِ سِيَّمَا فِي الْقُوتِ ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَفَى بِهَا مِنَّةٌ وَيَسْقُطُ كِرَاءُ الْأَرْضِ عَنْهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا - عَدَمُ رَيِّهَا .

وَالثَّانِي - اسْتِئْجَارُهَا حِينَ يَفْرُغُ أَوَانُ الزِّرَاعَةِ .

فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَعَمِّهَا نَفْعًا فَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إلَيْهَا قَبْلَ غَيْرِهَا لِيَحُوزَ الْمَرْءُ فَضِيلَتَهَا وَيَغْتَنِمَ بَرَكَتَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَقَعُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ كُلُّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ .

وَأَمَّا مَعَ تَوَقُّعِ ضِدِّ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ إذَنْ مُتَعَيَّنٌ وَلَهُ فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ سَعَةٌ ؛ لِأَنَّ آفَةَ الزِّرَاعَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَدْ عَظُمَتْ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ ، حَتَّى إنَّ الزَّرَّاع كَأَنَّهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَسِيرٌ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ وَكَأَنَّهُ لَا بَالَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَلَا رُوحَ ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الذُّلِّ كَافٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِيَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا فِيهَا

مِنْ الْخَطَرِ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُتَسَبِّبًا بِصِنَاعَةِ الْفِلَاحَةِ وَالْغِرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ ، فَلَمَّا أَنْ وَرَدَ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ فَلَمَّا أَنْ رَأَى أَكْثَرَ حَالِ الْمُزَارِعِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الشَّظَفِ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ هَاهُنَا ثُمَّ وَقَعَ لَهُ أَنَّ التَّسَبُّبَ فِي حَقِّهِ مُتَأَكَّدٌ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ بِغَيْرِ الْفِلَاحَةِ ثُمَّ قَالَ : إذَا اضْطَرَرْت إلَى التَّسَبُّبِ تَسَبَّبْت لَهُمْ فِي غَيْرِهَا فَانْقَطَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرَكَ الْأَسْبَابَ وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَإِلْقَاءِ الْعِلْمِ فَفَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ فَأَغْنَاهُ الْغِنَى الْكُلِّيَّ عَنْ النَّاسِ وَعَنْ الْأَسْبَابِ بِسَبَبِ عِزِّ الطَّاعَةِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ الصِّنَاعَةِ إذَا كَانَتْ تَئُولُ إلَى بَعْضِ مَا يَجْرِي عَلَى الْفَلَّاحِ وَغَيْرِهِ يَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا فَكَيْفَ بِالْفَلَّاحِ الْمِسْكِينَةِ نَفْسُهُ ؟ ، وَتَحْصِيلُ الْفَضَائِلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الْفِلَاحَةِ إنَّمَا هِيَ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَّاحِينَ .

وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَفْتِيه فِي التَّسَبُّبِ مَعَ شَخْصٍ لَا يُرْضَى حَالُهُ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ : لِي بَنَاتٌ وَعَائِلَةٌ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَ بِهِ ؛ فَقَالَ لَهُ : لَا يَلْزَمُك أَنْ تَتَسَبَّبَ لَهُمْ إلَّا فِي الشَّيْءِ الْحَلَالِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُك فِيهِمْ شَيْءٌ هُمْ عَائِلَةُ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ أَطْعَمَهُمْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَنَعَهُمْ وَلَا عُذْرَ لَك فِي الدُّخُولِ فِي الْحَرَامِ

بِسَبَبِهِمْ أَوْ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَفَعَنَا بِهِ .

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الطِّينَ لِجُنْدِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَزَرَعَهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ إذَا عَلِمُوا مِنْهُ عَدَمَ الْجُرْأَةِ وَالظُّلْمَ نَهَبُوهُ نَهْبًا حَتَّى إنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ لَهُ مِمَّا زَرَعَهُ إلَّا بَعْضُ خَرَاجِ الْأَرْضِ فَأَلْجَأَهُ ذَلِكَ إلَى عَدَمِ الزَّرْعِ بِسَبَبِ سُوءِ تَصَرُّفِهِمْ .

حَتَّى كَأَنَّ مَالَهُ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ يَصْرِفُونَ فِيهِ ، وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي الْأَذِيَّةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَقْتُلُونَ الْبَهَائِمَ الَّتِي لَهُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ لِأَخْذِهِمْ مَا أَرُصِدَ لَهَا مِنْ الْعَلَفِ فَوَقَعَ الْفَسَادُ .

مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْغِرَاسَةُ فَهِيَ أَخَفُّ مِنْ الْفِلَاحَةِ غَالِبًا أَعْنِي فِي سَلَامَةِ مَنْ يَتَعَاطَاهَا مِنْ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَهِيَ أَنْجَحُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُهَا .

لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ بِهَا وَعِلْمٍ فِيهَا .

فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا فَهُوَ الْعِلْمُ بِصِنَاعَةِ الْغِرَاسَةِ وَمَا يُصْلِحُهَا وَمَا يُفْسِدُهَا .

وَأَمَّا الْعِلْمُ فِيهَا فَهُوَ تَعَلُّمُ لِسَانِ الْعِلْمِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُبَاحُ سِيَّمَا فِي الْمُسَاقَاةِ إذْ إنَّ لَهَا أَرْكَانًا وَشُرُوطًا لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَقَدْ كَثُرَتْ الْمُفَاسَدَةُ فِيهَا لِأَجْلِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا .

وَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ بَلْ يَمْشِي عَلَى جَادَّةِ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَتْرُكُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الرُّكُونِ إلَى الْخِلَافِ الضَّعِيفِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْقَنَاطِرِ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ حَتَّى آلَ أَمْرُهُمْ فِيهَا إلَى أَنْ يَبِيعُوا الثَّمَرَةَ إلَى سِنِينَ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّهَا مُسَاقَاةٌ ، وَالْمُسَاقَاةُ فِي الشَّرْعِ لَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا مَوْجُودٌ إلَّا بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ لَيْسَ إلَّا ، وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ إذْ إنَّهُمْ إنَّمَا دَخَلُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقِي الثَّمَرَةَ كُلَّهَا فِي تِلْكَ السِّنِينَ .

وَصِفَةُ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُسَاقَاةٌ جَائِزَةٌ أَنْ يُسَاقِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مِائَةِ جُزْءٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْهَا لِلْمُسَاقِي وَجُزْءٌ وَاحِدٌ لِلْمُسَاقَاةِ ثُمَّ يَهَبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ جُزْءًا .

فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لِلْمُسَاقِي وَهَذَا بَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَكِنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ أَشَدُّ فِي التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي يَهَبُهُ لِلْمُسَاقِي عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ وَهَذِهِ الْقَنَاطِرُ وَمَا أَشْبَهَهَا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ

تَبِعَهُ لَا عِبْرَةَ بِهَا إذْ إنَّ قَاعِدَةَ مَذْهَبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ وَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ لَا إلَى اللَّفْظِ الظَّاهِرِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُ الِاحْتِرَافِ بِهَا كَمَا تَعَيَّنَ تَرْكُ الزَّارِعَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَهَكَذَا كُلَّمَا وَجَدَ عِلَّةً فِي سَبَبِ تَرْكِهِ وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ سَبَبًا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَيَحْتَرِفُ بِهِ فَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ بِخِلَافِ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تُمْحَقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ لَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَالْفَرْضُ أَعْلَى فِي الْفَضْلِ مِنْ السُّنَنِ فَيُنْظَرُ أَوَّلًا فِي النِّيَّاتِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْعَالِمُ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى إلْقَاءِ الدُّرُوسِ وَإِلَى السُّوقِ فَيَنْوِي مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْهَا فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِ صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ فِي أَمْرِ صِنَاعَتِهَا عَلَى نِيَّةِ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِرَفْعِ الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَالنُّصْحِ لَهُمْ فِيهِ وَأَمْرُ الرِّزْقِ تَابِعٌ لِذَلِكَ لَا مَتْبُوعٌ إذْ إنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَرْءِ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا بِصِنَاعَتِهِ وَلَا بِحِيلَتِهِ وَلَا عَلَى أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا بِكَسَلِهِ وَتَرْكِهِ لِمُعَانَاتِهِ بَلْ يَكُونُ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا وَلَا عِوَضًا .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّصِيحَةُ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ مِنْ صِنَاعَتِهِ فَيَنْصَحُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرُ وَقَدْ قِيلَ : كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ، فَإِذَا كَانَ الْغَزْلُ فِيهِ عَفَنٌ أَوْ أَصَابَتْهُ مِنْ قِلَّةِ التَّبْيِيضِ عِلَّةٌ تُضْعِفُ شَيْئًا مِنْ قُوَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ الْبَيَانَ الشَّرْعِيَّ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي صَنْعَتِهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْبَيَانِ لَهُمْ .

وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْخُذُ غَزْلَ الْحَرِيرِ فَيَغْلِيه نِصْفَ غَلْيٍ ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى حَالِهِ مِنْ عَدَمِ كَمَالِ التَّبْيِيضِ ثُمَّ يَصْبُغُهُ ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُ غَزْلًا لِمَنْ يُطَرِّزُ بِهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسِجُهُ وَيَبِيعُهُ خِرْقَةً .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ مِنْهُ حَاشِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْزِجُهُ مَعَ الْغَزْلِ كَثَوْبِ الطُّرَحِ ، كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

أَمَّا تَرْكُهُمْ كَمَالَ بَيَاضِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى لِلِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ الَّذِي يُكَمِّلُ بَيَاضَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَقْوَى .

وَأَمَّا بَيْعُهُ غَزْلًا فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا وَالْخَدِيعَةِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْكُثُ إلَّا قَلِيلًا وَيَتَغَيَّرُ إنْ لَمْ يُغْسَلْ فَإِذَا غُسِلَ ذَهَبَ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْغَسْلِ يَتَصَوَّفُ وَيَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ شَعْرًا .

وَأَمَّا نَسْجُهُ خِرْقَةً وَبَيْعُهَا فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْغِشِّ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهَا إنَّمَا يَأْخُذُهَا عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَيَّنَ لَهُ الْبَائِعُ مَا يَتَأَتَّى فِي الْخِرْقَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِي غَزْلِهَا لَامْتَنَعَ مِنْ شِرَائِهَا .

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْبَائِعَ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَمَنْ ارْتَكَبَ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ آثِمٌ .

وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ ؛ لَأَنْ يَبِيعَهَا فَتَتَعَدَّى الْمَفْسَدَةُ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هَذَا لَا يُبَيِّنُ الْآخَرَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إضَاعَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِيمْيَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ .

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ بَيَّنَ فَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ لَا يُبَيِّنُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي التَّحْرِيمِ .

وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا إلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْلًا مِثْلُ الصَّبِيِّ فِي الْمَهْدِ يَرِثُ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ

مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ كَالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَحْسِمُ الْكِتَابَةَ وَلَا تُفْهَمُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَيَجِبُ قَطْعُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى يَسْلَمَ الْمَرْءُ مِنْ آفَتِهَا .

وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَتَمْتَحِقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَمِنْ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ صُنْعِ الْغَزْلِ بِالْحُرْبُثِ وَهُوَ يُحْرِقُ الْغَزْلَ وَيُذْهِبُ بِقُوَّتِهِ وَيَتْرُكُ الصُّنْعَ بِالنِّيلَةِ وَهِيَ نَافِعَةٌ لِلْغَزْلِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْفَسَادُ بِتَرْكِ مُلَاحَظَةِ اجْتِنَابِ مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَوْلَا مَحَبَّتُهُ لِلدُّنْيَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ الْعَظِيمَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُرْبُثَ عِنْدَهُمْ أَرْخَصُ مِنْ النِّيلَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَهُ لَعَلَّ أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ ثَمَنِ الصِّبْغَيْنِ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِعَكْسٍ ، فَلَوْ اسْتَعْمَلُوا النِّيلَةَ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَكَانَ أَبَرْكَ وَأَنْجَحَ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْلَمُونَ مِنْ غِشِّ النَّاسِ وَعَدَمِ نُصْحِهِمْ وَعَدَمِ الْإِثْمِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْقِصُ قُوَّةَ الْغَزْلِ أَوْ فِيهِ تَدْلِيسٌ مَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَكَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْخِرْقَةِ شَمْعًا وَلَا يُدَلِّكُهَا بِشَيْءٍ حَتَّى تَحْسُنَ وَتَبْرُقَ أَوْ يَظْهَرَ أَنَّهَا صَفِيقَةٌ وَهِيَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ

مِنَّا } فَلْيُعْمِلْ جَهْدَهُ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَيُعَوِّضْ عَنْهُ النَّصِيحَةَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْخِرْقَةِ أَرْشٌ أَوْ خَلَلٌ مَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْخِرْقَةِ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ لَهُ الْبَيَانَ التَّامَّ ، إذْ إنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَعُمْدَتَهَا إنَّمَا هُوَ بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَالْحَلَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى ، وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى .

، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ عَمَلِهِ لِلصِّنَاعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لَهُ وَلِمَنْ يَسْتَعْمِلُ تِلْكَ الْخِرْقَةَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِشُغْلِ بَالِهِ بِتَدْبِيرِ صَنْعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ الذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنْ شُغْلِهِ بِأَمْرِ الصِّنَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَفَاعِلُهَا يَتَصَرَّفُ فِي فَرْضٍ وَاجِبٍ وَفِعْلُهُ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ حُسْنُ النِّيَّةِ وَتَعَدُّدُهَا وَاحْتِسَابُهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُرُهُ إلَّا مَنْ مُنَّ بِهِ فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شُغْلِهِ فِي الصِّنَاعَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَرْءِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي مِنْ الْخَيْرِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُبَالِي صَاحِبُ هَذَا الْحَالِ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَهُ إنَّمَا يَجِدُهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي إذْ إنَّ أَحْوَالَهُ كُلَّهَا قَدْ صَارَتْ جَمِيعُهَا عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ

بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ فِي صِنَاعَتِهِ كُلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِنِيَّتِهِ أَوْ مُنْقِصٌ لَهَا وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى عِلْمِ الصَّنْعَةِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَرَى أَهْلُ الصَّنْعَةِ أَنَّهُ غِشٌّ أَوْ مَكْرُوهٌ فِيهَا فَيَجْتَنِبُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ أَنْ يَمَسَّ الْخِرْقَةَ أَوْ الْغَزْلَ إذْ ذَاكَ حَتَّى يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ .

وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهَا بِقَدَمِهِ وَفِيهَا النَّجَاسَةُ .

وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ أَوْ يَنْشُرَ الْغَزْلَ عَلَى حَائِطٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ حَبْلٍ نَجِسٍ .

وَكَمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ مَنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الصَّانِعِ وَالصَّبِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّنَائِعِ وَأَعْظَمِهَا ؛ لِأَنَّ بِهَا تَقَعُ السُّتْرَةُ غَالِبًا وَالسُّتْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي الشَّرْعِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ .

وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَاعِي حَقَّ أَهْلِهَا وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ يَحْتَرِفُونَ بِهَا .

وَهَذَا بِضِدِّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَيُجَاسِرُ بِالنُّطْقِ بِضِدِّ مَا يُخَالِفُهُ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي كِتَابِهِ عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ { أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الْأَرْذَلُونَ } قَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ الْقَزَّازُونَ فَهُمْ الْأَرْذَلُونَ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْخَوَاصُّ عِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَصَّهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَصْحَابِهِ { لَوْ أَنْفَقَ

أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } يَعْنِي أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَازَ بِالسَّبْقِ فَلَا يَقْدِرُ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ أَنْ يَصِلَ إلَى فَضِيلَتِهِ ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةَ مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَانْظُرْ إلَى قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } وَ قَوْله تَعَالَى { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } فَلَا يَخْطِرُ بِقَلْبِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَنْ نَجَا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ هُمْ الْأَرْذَلُونَ ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ السُّفَهَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَانِ الْحَرِّ تَعَرَّوْا مِنْ السُّتْرَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَتَبْقَى عَوْرَاتُهُمْ بَادِيَةً وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ .

وَقَدْ سَلِمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ قَدْ بَقِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ سَرَاوِيلَ بِحَيْثُ إنَّهُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ يَصِفُ الْعَوْرَةَ وَيَبْقَى بَعْضُ الْفَخِذِ مَكْشُوفًا وَلَيْسَ الثَّوْبُ الَّذِي يَصِفُ الْعَوْرَةَ مَمْنُوعًا وَإِظْهَارُ بَعْضِ الْفَخِذِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ : حَرَامٌ ، وَمَنْ تَعَرَّى مِنْ السُّتْرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْبَهَائِمِ إذْ إنَّ وَجْهَ الْبَهِيمَةِ وَفَرْجَهَا مَكْشُوفَانِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْبَهِيمَةِ إذْ إنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ وَهَذَا الْمِسْكِينُ مُخَاطَبٌ فَهُوَ عَاصٍ فِي فِعْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ وَصِيَانَةُ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مِنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَإِنَّهَا شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ .

وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ

بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ يَعْمَلُ عَلَى نَوْلِهِ حَصِيرًا يَسْتُرُهُ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ .

وَهَذَا هُوَ لِلَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مِنْ قَوْمٍ رَاجِعِينَ إلَيْهِ مُمْتَثِلِينَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُمْ .

وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْغَزْلَ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَيَخْلِطُونَ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَرْفَعَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ فَيَنْسِجُونَ الْجَمِيعَ وَيُعْطُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ غَزْلِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْغَزْلَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ .

وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَلْبَسُ إلَّا الْحَلَالَ الْبَيِّنَ .

وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ بِالْعَكْسِ وَمَا بَيْنُهُمَا .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْغَزْلَ الرَّفِيعَ لِنَفْسِهِ وَيُبَدِّلُهُ بِأَغْلَظَ مِنْهُ ، أَوْ بِغَزْلٍ عَفِنٍ ضَعِيفِ الْقُوَّةِ مِثْلِهِ فِي الرُّفْعِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ الْبَيِّنِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ صَانِعًا يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ .

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ .

وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالْغَزْلِ يَنْسِجُهُ لَهُمْ وَهَذَا يُسَمُّونَهُ بِالْقِبَالَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَ الْغَزْلَ وَيَنْسِجَهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعَهُ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَحْتَاجُ الصَّانِعُ فِيهِ إلَى النُّصْحِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ لِمُعَلِّمِهِ وَيَتَّبِعُ غَرَضَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ

الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقْتَضِي التَّدْلِيسَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَا يَرْجِعُ لِمُعَلِّمِهِ فِيهِ فَإِنْ أَبَى الْمُعَلِّمُ ؛ تَرَكَهُ وَمَرَّ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يُخْلِصُ ذِمَّتَهُ عِنْدَهُ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَعْمَلَ لِلنَّاسِ لِلْقِبَالَةِ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى النُّصْحِ أَيْضًا فِي عَمَلِهِ وَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَلَى الْخُيُوطِ الَّتِي تَفْضُلُ فَلَا يَرْمِي مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِنْ قَلَّ .

وَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَخَافُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا شَيْئًا مِنْ الْغَزْلِ أَوْ يَرْمُوهُ أَنْ يُبَاشِرُوا غَزْلَ النَّاسِ فَيَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ فَإِنْ فَضَلَ .

بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْخُيُوطِ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي بَاطِنِ الْخِرْقَةِ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْتَرِي الْغَزْلَ وَيَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُهُ فِي السُّوقِ فَهُوَ أَسْلَمُ فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْصَحَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُدَلِّسَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الشَّمَعِ أَوْ الدَّلْكِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَيَحْتَرِزُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْغَزْلِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَاضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُضْعِفُهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَامِحُ نَفْسَهُ إذَا كَانَ يَبِيعُ فِي السُّوقِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَتْ الْخِرْقَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا لِلْقِبَالَةِ يُكْمِلُهَا بِغَزْلٍ سُوقِيٍّ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَيَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ عِوَضَهُ أَوْ يُكَمِّلُهَا بِغَزْلٍ آخَرَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ عِوَضَهُ وَيُعْطِيه لِلْأَوَّلِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَمَا شَابَهَهَا وَمَنْ يُبَاشِرُ الْأَمْرَ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَتَلْزَمُهُ الْمَصَالِحُ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَفَاسِدُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

فَصْلٌ فِي الْقِصَارَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْقَزَازَةِ مَا يَنْوِيه فِيهَا مِنْ النِّيَّاتِ وَمَا يَجْتَنِبُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَارَةِ .

فَمِمَّا يُجْتَنَبُ فِيهَا أَنْ لَا يُقَصِّرَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَلَا يَبْسُطَ الْقُمَاشَ عَلَى شَيْءٍ نَجِسٍ وَلَا يَمْشِي عَلَيْهِ بِأَقْدَامِهِ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْيُ لَا يَصِلُ إلَى رَشِّ الْقُمَاشِ كُلِّهِ إلَّا بِهِ فَيَجُوزُ .

وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَرْوَاثَ الْبَقَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقَصَّارِينَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْخِرْقَةَ سَرِيعًا بِسَبَبِ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ .

وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْجِيرِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُمَا عَاجِلًا .

وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِرَهَا عَصْرًا شَدِيدًا خَارِجًا عَنْ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهَا .

وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ ضَرْبِ الْخِرَقِ عَلَى الْحِجَارَةِ حِينَ الْقَصَارَةِ وَذَلِكَ يَذْهَبُ بِقُوَّةِ الْخِرْقَةِ وَيُضْعِفُهَا .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى صَاحِبِ الْخِرْقَةِ ، وَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ .

وَالْقِصَارَةُ الْمُبَاحَةُ إنَّمَا هِيَ بَلُّ الْقُمَاشِ وَنَشْرُهُ فَإِذَا نَشَفَ أَعَادَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْيَضَّ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِصَارَةِ الْمُبَاحَةِ وَبَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا فَيَسْتَعْجِلُونَ فِي قَصْرِ الزَّمَانِ الَّذِي يُقَصَّرُ فِيهِ حَتَّى يَبْيَضَّ فِيهِ سَرِيعًا وَذَلِكَ سَبَبٌ فِي قِصَرِ عُمْرِ الثَّوْبِ حِينَ اسْتِعْمَالِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَصْبِرْ مُدَّةً تَبْيَضُّ فِيهَا الْخِرْقَةُ دُونَ مُعَالَجَةٍ لَهَا بِمَا يَضُرُّ بِهَا .

ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْخِرْقَةَ فِي بَيْتِهِ وَيَتَّخِذَهَا سُفْرَةً أَوْ سِمَاطًا .

وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيرَهَا لِغَيْرِهِ يَفْعَلُ

ذَلِكَ بِهَا مُدَّةً وَيَتَعَلَّلُ لِصَاحِبِهَا كُلَّمَا طَالَبَهُ بِهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَفْرُغْ قِصَارَتُهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ يَسْتَعْمِلُهَا وَيَتَمَنْدَلُ بِهَا حَتَّى إذَا أَعْيَا صَاحِبُهَا حِينَئِذٍ يَخْرُجُ بِهَا لَيُقَصِّرَهَا وَيَفْعَلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَتَبْيَضُّ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ وَلِذَلِكَ يَكُونُ تَقْطِيعُهَا فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ بَعْدَ لُبْسِهَا لِمَا صَنَعَ فِيهَا مِنْ الْجِيرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الصَّنْعَةَ تَقْتَضِي أَنْ يُحَاوِلَهَا بِالْجِيرِ وَالرَّوْثِ وَمَا يُشْبِهُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِرْقَةَ لَا تَبْيَضُّ إلَّا بِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِصَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هِيَ بِالْمَاءِ وَالشَّمْسِ لَا بِغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا مُشَاهَدَةٌ مَرْئِيَّةٌ مِنْهُمْ فَتَجِدُ فِي الْخِرْقَةِ بِسَبَبِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أُرُوشًا كَثِيرَةً وَبَعْضُهُمْ يُرْفِيهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَيَسْتُرُ ذَلِكَ بِالصَّقْلِ مَعَ الصَّابُونِ وَيُدَلِّسُ بِذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهَا .

وَبَعْضُهُمْ لَا يَنْصَحُ فِي قِصَارَتِهَا بَلْ يُحَسِّنُهَا بِأَشْيَاءَ فَإِذَا لُبِسَتْ ثُمَّ غُسِلَتْ ظَهَرَتْ سُمْرَتُهَا وَقَدْ سَرَى غِشُّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي الذَّارِعَ مَثَلًا أَوْ أَكْثَرَ بِدِرْهَمَيْنِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ وَغُسِلَتْ تَخْرُجُ فِي أَوَّلِ غَسْلِهِ وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ .

وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْقَصَّارِينَ يَسْتَحِلُّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَيَتَعَلَّلُ بِأَنَّ الْقُمَاشَ إنْ لَمْ يُلْبَسْ لَمْ تَحْسُنْ قِصَارَتُهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبه .

وَبَعْضُ النَّاسِ يَسْتَعْمِلُ الْخِرْقَةَ حَتَّى إذَا تَدَنَّسَتْ دَفَعَهَا إلَى الْقَصَّارِ فَتَارَةً يُسْرِعُ الْقَصَّارُ فِي قِصَارَتِهَا وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْآخَرُ ثُمَّ يُقَصِّرُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا فَرَغَتْ قِصَارَتُهَا خَرَجَتْ كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ لِمَا يَفْعَلُ فِيهَا مِمَّا

يُحَسِّنُهَا ظَاهِرًا فَإِذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي وَلَبِسَهَا تَقَطَّعَتْ سَرِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَسَبَبُ هَذَا الْغِشِّ عَدَمُ الْبَيَانِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَقَدْ وَرَدَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَتْرُكْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ وَآخَرُ يَدْخُلُ النَّارَ بِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ سُوَيْدَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ وَضِدِّهَا وَمِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ أَوْ ضِدِّهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي عِلِّيِّينَ يَرْجِعُ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ .

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِشِّ مِنْ الْمَهَالِكِ إلَّا أَنَّ الْبَرَكَةَ تُنْزَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ضَرَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ فِي حَقِّهِمْ وَعَدَمِ نُصْحِهِ لَهُمْ ، وَمَنْ نَصَحَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ فَقَدْ فَازَ بِالرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِكَرَمِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْخِيَاطَةِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ أَيْضًا مِنْ آكَدِ الصَّنَائِعِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ غَالِبًا وَذَلِكَ فَرْضٌ سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ .

وَأَمَّا الرَّجُلُ فَمِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَسَتْرُ بَاقِي بَدَنِهِ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّجَمُّلُ الْمَطْلُوبُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْحَرِّ عَلَى الْبَرْدِ إذْ أَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ يَقِي الْبَرْدَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْخِيَاطَةُ خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشِينُهَا أَوْ يَذْهَبُ بِثَوَابِهَا أَوْ يُنْقِصُهَا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ .

فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النُّصْحُ فِي صَنْعَتِهِ جَهْدَهُ لِتَحْصِيلِ هَذَا الثَّوَابِ ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ فِي صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا مُتَعَدٍّ كَمَا أَنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ إذْ إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْصَحْ فِيهَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَيَاعٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ .

وَمَفَاسِدُهَا عَدِيدَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا كَلَّفَ الصَّانِعَ الَّذِي عِنْدَهُ أَنْ يَخِيطَ بِالْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتِلَهُ فَلَا يَفْعَلُ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَيْطَ إذَا لَمْ يُفْتَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ

قُوَّةٌ تُقِيمُ الْخِيَاطَةَ مَعَهَا .

وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُلَّ وَيُوَسِّعَ بَيْنَ الْغُرْزَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ .

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ أَوْ يُكْرَهُ فَيَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَخِيطُهُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِأُجْرَتِهِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَ حَرِيرٍ لِلرِّجَالِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ سَابِلًا لِأَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أَوْ يَكُونَ فِي الثَّوْبِ لِلرِّجَالِ وُسْعٌ خَارِقٌ يَصِلُ إلَى حَدِّ السَّرَفِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ .

وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالثَّوْبُ الْوَاسِعُ وَالسَّابِلُ فِي حَقِّهِنَّ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ .

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَفْصِيلِهِ ثِيَابَ النِّسَاءِ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ لُبْسِ الضَّيِّقِ وَالْقَصِيرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِي ثِيَابِ الرِّجَالِ أَنْ تَكُونَ قَصِيرَةً دُونَ وُسْعٍ خَارِقٍ .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ ، قَالَ لَهُ بِلَالٌ : مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَاسِعٍ : أَنْتُمْ شَهَرْتُمُونَا هَكَذَا كَانَ لِبَاسُ مَنْ مَضَى وَإِنَّمَا أَنْتُمْ طَوَّلْتُمْ ذُيُولَكُمْ فَصَارَتْ السُّنَّةُ بَيْنَكُمْ بِدْعَةً وَشُهْرَةً وَالْوَاسِعُ الطَّوِيلُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ هُوَ السُّنَّةُ فَعَكَسُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ ثَوْبًا لِجِنْدَارٍ أَوْ ظَالِمٍ وَمَا أَشْبَهَهَا وَلَا يَخِيطُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْإِعَانَةِ لَهُمْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَبِهِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ إذَا بَاشَرَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْهِجْرَانِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا سُحْتٌ وَهُوَ يَتْعَبُ فِي صَنْعَتِهِ لِيَأْكُلَ الْحَلَالَ فَكَيْفَ يَأْخُذُ الْحَرَامَ الْبَيِّنَ فِي أُجْرَتِهِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَأَكْلُ الْحَرَامِ .

وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَلَالَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ وَهُوَ يَعْمَلُهَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنْ اضْطَرَّ إلَى الْخِيَاطَةِ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غُصِبَ عَلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ الْحِيلَةَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَتَدَايَنُوا وَيَدْفَعُوا لَهُ أُجْرَتَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُحِيلُوهُ بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا بِيَدِهِ .

وَهَذَا إذَا كَانَ مَالُ الظَّالِمِ كُلُّهُ حَرَامًا فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَيَّلَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَسْتُورَةِ بِالْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَبْرَكُ وَأَنْجَحُ لِعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخِيطَ لِمُقَدِّمٍ وَمَنْ فَوْقَهُ وَمَنْ دُونَهُ مِمَّنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثْرَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ

وَمِنْ آكَدِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِامْرَأَةٍ يَتَّهِمُهَا بِالْبِغَاءِ أَوْ مَنْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهَا عَلَى الزِّنَا لِكَوْنِهَا تَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ ذَلِكَ لِغَيْرِ زَوْجِهَا .

أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ لِنُطْفَةٍ وَقَعَتْ فِي حَرَامٍ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .

وَكَذَلِكَ لَا يَخِيطُ لِمَنْ كَانَتْ مُتَبَرِّجَةً مِنْ النِّسَاءِ مُظْهِرَةً لِلزِّينَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّجَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ وَيَجُرُّ ذَلِكَ إلَى إدْخَالِ التَّشْوِيشِ وَالْفَسَادِ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْفِتْنَةِ فَهُوَ كَفَاعِلِهَا .

أَلَا تَرَى أَنَّ فِتْنَةَ شَارِبِ الْخَمْرِ قَدْ تَعَدَّتْ إلَى لَعْنِ نَحْوِ الْعَشَرَةِ وَهُمْ عَاصِرُهَا وَشَارِبُهَا وَبَائِعُهَا وَمُشْتَرِيهَا وَالْمَحْمُولَةُ لَهُ وَمُقْتَنِيهَا وَحَاضِرُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

فَكَذَلِكَ كُلُّ مُخَالَفَةٍ فِي الْغَالِبِ تَجِدُ فِتْنَتَهَا مُتَعَدِّيَةً فَيَقَعُ الْإِثْمُ عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَعَانَهُ بِشَيْءٍ مَا بِحَسَبِ حَالِهِ فَلْيَحْذَرْ مَنْ يَحْذَرُ وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ .

وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِمَكَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ شَابَهَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَتَرْكُ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ أَيْضًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ الْوَاسِعِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُتَلَبِّسًا بِالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُ الْعِلْمُ بِهِ وَالْعِلْمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ .

وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ثَوْبِهِ مِنْ السِّجَافِ الْوَاسِعِ فِي ذَيْلِهِ وَأَكْمَامِهِ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ جَهْدَهُ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ قُصَاصَةَ كُلِّ مَا خَيَّطَهُ وَمَا فَضَلَ فَيَحْفَظُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُلْقِيه فِي الثَّوْبِ حِينَ طَيِّهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ فَتَعْمُرُ بِهِ ذِمَّتُهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَيَشْغَلَ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْمُضِيِّ إلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ فَضِيلَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خُسْرَانٌ بَيِّنٌ وَحِرْمَانٌ ظَاهِرٌ وَمُذْهِبٌ لِلْبَرَكَاتِ وَسَائِقٌ إلَى الْمُخَالَفَاتِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ كَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ فَيَخَافُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَئُولَ أَمْرُهُ إلَى تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا وَشُغْلُهُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَالْأَخْذُ فِي شَأْنِهَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيُذْهِبُ بِالتَّعَبِ وَتَقَعُ بِهِ الْبَرَكَةُ .

وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا كُلَّ شُغْلٍ وَبَادَرُوا إلَيْهَا وَرَأَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَهْلَ السُّوقِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى

بِقَوْلِهِ { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وَمَا يَفْعَلُهُ هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ فَإِنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ { وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْخَيَّاطِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ مِنْ الْخَيَّاطِينَ وَغَيْرِهِمْ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا إلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا إلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُمْ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْمُزَاحِ بِالْكَذِبِ وَأَخْبَارِ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ وَمِنْهُ مَا يَجُرُّ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّبَّانِ فَتَكْثُرُ الْمَفَاسِدُ وَقَدْ يَئُولُ إلَى ارْتِكَابِ أُمُورٍ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ : يَفْرُغُ ثَوْبُك بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَيْلٌ لِلصَّانِعِ مِنْ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ وَوَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ } ثُمَّ لِيَحْذَرْ أَيْضًا مِنْ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَلَيْسَتْ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ وَلَا مِنْ عَادَتِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَحْتَرِمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَذْكُرُوهُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهَا بِسَبَبِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ تَوَقِّي نَجَاسَةٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حَصِيرٍ أَوْ مِنْ الْقُمَاشِ الْغَلِيظِ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ .

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مَا لَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مَكْرُوهَةٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُك بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّجَّادَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ النَّصَافِي وَشَبَهِهَا وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَالْإِعَانَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ يَكُونُ مَكْرُوهًا فَلَا يُعِينُ بِخِيَاطَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ مَخِيطَةً عَلَى تَرْتِيبِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ جَعْلِ الْقِبْلَةِ وَتَضْرِيبِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ وَذِلَّةٍ وَمَسْكَنَةٍ لَا حَالَ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ وَتَنَعُّمٍ ، حَتَّى إنَّهُ لَيُعْطِي بَعْضُهُمْ فِي خِيَاطَةِ السَّجَّادَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ خِرْقَتِهَا .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ خِيَاطَةَ دُلُوقِ الشُّهْرَةِ وَالْمُرَقَّعَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النَّاسِ كَأَنَّهَا دَكَاكِينُ فَتَجِدُ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ خِرَقًا جُمْلَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَأَحْمَرَ

==================================

ج12. كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ{{{{ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

وَلِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ السُّؤَالِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ مُوجِبِ تَرْكِ شِرَاءِ الدَّقِيقِ وَغَيْرِهِ وَتَرْكِ طَحْنِ الْقُوتِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَإِذَا سَأَلَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَخْبَرَا بِمُوجِبِهِ فَيَشِيعُ الْأَمْرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ فَبَعْضُ النَّاسِ يَقْتَدِي وَيَهْتَدِي وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ فِعْلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ خَيْرٌ عَظِيمٌ .

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ لَا يُغَيِّرَانِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ مَعَهَا عَلَى التَّغْيِيرِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا يَقُولُ كَمَقَالَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى عَدَمِ التَّغْيِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَقَعُ الْعَذَابُ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلُ .

نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الصُّنَّاعَ يَفْعَلُونَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ حُفَاةً عَلَى بَوْلِ الْخَيْلِ وَدُخُولِهِمْ بَيْتَ الْخَلَاءِ حُفَاةً أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ ثُمَّ يَدُوسُونَ الْقَمْحَ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ النَّجِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلُوهَا فَيَصِيرُ مَا أَصَابَتْهُ أَقْدَامُهُمْ مِنْ الْقَمْحِ قَبْلَ غَسْلِهَا مُتَنَجِّسًا وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ فِي ذِمَّةِ مَنْ اسْتَأْجَرَهُمْ ، وَكَذَلِكَ مَنْ رَآهُمْ وَعَلِمَ بِهِمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ

( فَصْلٌ ) وَقَدْ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْخُلُونَ الدَّقِيقَ وَنَخْلُهُ مِنْ إحْدَى الْبِدَعِ الثَّلَاثِ الْمُحْدَثَةِ أَوَّلًا .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الصَّانِعِ الَّذِي يُبَاشِرُ الْقَمْحَ وَيَتَوَلَّى طَحْنَهُ وَيَقِفُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ التَّحَفُّظَ الْكُلِّيَّ عَلَى الدَّقِيقِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا فَيَتَنَجَّسُ بِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَنْخُلُهُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُتَنَجِّسٌ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ صَاحِبَ الدَّقِيقِ حِينَ أَخَذَهُ لَهُ لِيَعْمَلَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فِيهِ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِالدَّابَّةِ الَّتِي يَطْحَنُ عَلَيْهَا لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا - الْإِحْسَانُ إلَيْهَا بِرَاحَتِهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْعَمَلِ قَلِيلًا .

وَالثَّانِي - لِئَلَّا يَجِيءَ فِي الطَّحْنِ خُشُونَةٌ فَيَصِيرُ كَالدَّشِيشِ سِيَّمَا إذَا طَحَنَ فِي وَقْتِ الْحَرِّ .

وَالثَّالِثُ - أَنَّ الدَّقِيقَ لَا يَزْكُو كَثِيرًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي الْقَادُوسِ قَلِيلٌ مِمَّا يُطْحَنُ أَخَذَ طَحِينًا لِشَخْصٍ آخَرَ فَيَسْكُبُهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَتَخْتَلِطُ أَقْوَاتُ النَّاسِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ يُحَصِّلُ قُوتَهُ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَآخَرُ يُحَصِّلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ وَمَرَاتِبُهُ مُتَفَاوِتَةٌ وَآخَرُ مَكَّاسٌ أَوْ ظَالِمٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يُرْتَضَى حَالُهُ فِي أَمْرِ دِينِهِ فَتَفْسُدُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَقْوَاتُ النَّاسِ وَمَقَاصِدُهُمْ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ فِيهِ الْحَلَالُ لِكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ فَيَتْعَبُ الْمُكَلَّفُ فِي تَحْصِيلِهِ ثُمَّ يَفْسُدُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى } وَفِي الْحَدِيثِ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ } فَأَمَّا لِسَانُ الْعِلْمِ فَاَلَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْمُكَلَّفُ التَّحَفُّظُ عَلَى قُوتِهِ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْحَرَامِ الْبَيِّنِ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الطَّحِينُ الَّذِي قَبْلَهُ لِمَكَّاسٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا طُحِنَ قَبْلَ طَحِينِهِ تَحْتَ الْحَجَرِ فَيَخْتَلِطَ بِطَحِينِهِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْحَرَامِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَالرِّزْقِ .

وَأَمَّا الْوَرَعُ فَلَا يَأْتِي إلَى الطَّاحُونِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ طَرِيقَهُ مُنَافِيَةٌ لِحَالِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا إذْ أَنَّ أَدْنَى

الْوَرَعِ أَنْ يَعْرِفَ أَصْلَ اكْتِسَابِ الْقُوتِ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الطَّاحُونِ بِسَبَبِ مَا يَبْقَى تَحْتَ الْحَجَرِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا جَرَى لِلْحَجَّاجِ لَمَّا أَنْ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَكَانَ أَهْلُهُ لَا يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَيُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ إلَّا هَلَكَ سَرِيعًا بِدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ ؛ فَأَمَرَهُمْ الْحَجَّاجُ أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَيْضَةِ دَجَاجَةٍ وَيَضَعَهَا فِي صَحْنِ الْجَامِعِ وَأَرَاهُمْ أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ ضَرُورَةً فَاسْتَخَفُّوا ذَلِكَ مِنْهُ فَفَعَلُوا ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَيْنَ بَيْضَتِهِ وَأَرَاهُمْ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَرَادَهُ فَلَمَّا أَنْ أَخَذُوا ذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَيْنَ بَيْضَتِهِ فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْحَجَّاجُ أَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ مَدَّ يَدَهُ إلَيْهِمْ فَدَعَوْا عَلَيْهِ عَلَى عَادَتِهِمْ فَمُنِعُوا الْإِجَابَةَ .

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ الْمَظَالِمُ الْيَوْمَ وَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَى فَاعِلِهَا وَقَلَّتْ الْإِجَابَةُ أَوْ عُدِمَتْ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ الْحَرَامَ وَيَلْبَسُ الْحَرَامَ وَيَقُولُ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ أَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟ ، } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَلَوْ سَلِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَدَعَا لَاسْتُجِيبَ لَهُ عَاجِلًا } وَقَدْ وَقَعَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ أَنَّ بَلَدًا بِبِلَادِ السُّودَانِ كَانَ السُّلْطَانُ لَا يُوَلِّي عَلَيْهِمْ أَحَدًا وَيَظْلِمُهُمْ إلَّا هَلَكَ بِدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ فَتَحَيَّرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِمْ فَطَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ : أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّرْطَ فَقَبِلَهُ فَوَلَّاهُ فَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ فَغَصَبَ مِلْحًا وَبِلَادُ السُّودَانِ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٌ وَتَرَكَهُ فِي الْبَلَدِ وَمَضَى لِسَفَرِهِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ تَرَكَ النُّزُولَ فِي مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ وَجَلَسَ فِي الْجَامِعِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْخَيْرَ

وَالصَّلَاحَ فَقَالُوا لَهُ : أَلَا تَطْلُعُ إلَى مَوْضِعِك ؟ فَقَالَ : لَا ، مَا جِئْت إلَّا عَلَى أَنِّي وَاحِدٌ مِنْكُمْ وَفِي الْجَامِعِ يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَاشِرَكُمْ ، وَلَا أَصْدُرُ إلَّا عَنْ رَأْيِكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ .

فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً فَاعْتَقَدُوهُ وَحَسَّنُوا بِهِ الظَّنَّ فَلَمَّا أَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَمَارَضَ فَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَسَأَلُوهُ عَنْ مُوجِبِ مَرَضِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمِلْحِ فَقَالُوا لَهُ : نَأْتِي لَك بِالْمِلْحِ فَقَالَ : إنِّي لَا أَعْرِفُ أَصْلَهُ وَإِنَّ لِي مِلْحًا بِالْبِلَادِ أَعْرِفُ جِهَتَهُ وَأَصْلَهُ فَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الشِّفَاءُ فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ أُرْسِلَ مَنْ يَأْتِي بِهِ فَعَلْت وَإِلَّا فَلَا ، فَأَذَنُوا لَهُ فَأَرْسَلَ مَنْ يَأْتِي بِهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ فَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ فَجَاءَ شَخْصٌ مِنْهُمْ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ : مَا فَعَلْت بِالْمِلْحِ الَّذِي أَخَذْته ؟ فَقَالَ : هُوَ ذَا لَمْ أَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدُ ، فَقَالَ لَهُ : لَا تَسْتَعْمِلْهُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَالِي أَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا الْمِلْحَ طَلَعَ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ وَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهِمْ فَجَاءَ الشَّخْصُ الْمَذْكُورُ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ أَقُلْ لَك : إنَّ تَحْتَ هَذَا شَيْئًا فَقَامَا مَعًا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْحَهُ مَعَهُ وَجَاءَا إلَى الْوَالِي فَوَضَعَا الْمِلْحَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَا لَهُ : إنَّا لَمْ نَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا فَخَافَ مِنْهُمَا وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْ حِينِهِ أَوْ كَمَا جَرَى .

وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا أَكَلَ الْحَلَالَ لَمْ تُرَدَّ دَعْوَتُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي وَقَعَ بِسَبَبِ بَيْضَةٍ وَمِلْحٍ فَمَا بَالُك بِخَلْطِ الْقُوتِ فِي كُلِّ طَحْنَةٍ .

وَلَعَلَّ الصَّانِعَ يَقُولُ : إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنِي غَيْرُهُ ؛ لِأَنِّي إنْ صَبَرْت حَتَّى يَفْرُغَ طَحِينُ الْأَوَّلِ

بِالْكُلِّيَّةِ أَخَافُ أَنْ يَنْكَسِرَ حَجَرُ الطَّاحُونِ أَوْ يَفْسُدُ .

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ حَتَّى تَقِفَ الدَّابَّةُ وَيُبَدِّلَهَا بِغَيْرِهَا لَكِنَّهُمْ شَحُّوا بِبَطَالَةِ الْوَقْتِ الَّذِي تُوقَفُ فِيهِ الدَّابَّةُ حَتَّى يَفْرُغَ مَا فِي الْقَادُوسِ .

فَإِنْ قَالَ الصَّانِعُ مَثَلًا : لَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَاطِ الطَّحِينَيْنِ وَإِنْ فَرَغَ مَا فِي الْقَادُوسِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ مَا تَحْتَ الْحَجَرِ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ فَاغْتُفِرَ لِيَسَارَةِ أَمْرِهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَلِكَوْنِ نُفُوسِ النَّاسِ تَسْمَحُ بِهِ بِخِلَافِ مَا يَبْقَى فِي الْقَادُوسِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ النَّاسِ عَدَمُ الْمُسَامَحَةِ بِهِ لَكِنْ يَحْتَاجُ أَنْ يُرَاعَى حَالُ الشَّخْصَيْنِ فَيُسْكَبُ طَحِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقِيبَ مَنْ يُجَانِسُهُ فِي الدِّينِ وَالتَّسَبُّبِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَلَا يُسَامِحُ صَاحِبُهُ فِي الِاخْتِلَاطِ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ عَقِيبَ مَنْ يُجَانِسُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْوَرَعِ مُتَفَاوِتَةٌ بَلْ طَرِيقُ الْوَرَعِ أَنْ يَطْحَنَ فِي بَيْتِهِ ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَا مِنْ تَحْتِ نَظَرِهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُقْفِلُ عَلَى قُوتِهِ بِقُفْلِ حَدِيدٍ حَتَّى يُوقِنَ بِسَلَامَتِهِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ .

وَقَدْ سَمِعْتُ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي أَبَا الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ إذَا خَلَا بِهِ يَقُولُ لَهُ : أَتَعْرِفُ كَمْ قَرَأْت حِزْبًا عَلَى الطَّحِينِ الَّذِي طَحَنْته الْبَارِحَةَ ؟ فَأَقُولُ : لَا فَيَقُولُ : قَرَأْت عَلَيْهِ رُبْعَ الْخِتْمَةِ وَمَرَّةً يَقُولُ أَكْثَرَ وَمَرَّةً يَقُولُ أَقَلَّ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَيْ يُنَبِّهَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ .

وَالْوَرَعُ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَشْخَاصِ فَلَيْسَ وَرَعُ الْغَرِيبِ كَوَرَعِ أَهْلِ الْبَلَدِ فَوَرَعُ الْغَرِيبِ سُوقُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أُصُولَ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا فَيَعْرِفُونَ الْمَوَاضِعَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ غَيْرِهَا وَأَهْلُ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ ، وَكَذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى دِينِهِ وَالْغَرِيبُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ بِذَلِكَ فَقَدْ يَتَحَفَّظُ مِنْ جِهَةٍ وَهِيَ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهَا وَقَدْ يَقْصِدُ إلَى جِهَةٍ وَهِيَ مِمَّا يَرْغَبُ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَقَدْ كَانَ بِالْمَغْرِبِ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ وَهِيَ مِنْ أَكْثَرِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ سَمَكًا وَكَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ قَدْ اشْتَهَى السَّمَكَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْلِهِ لِوَرَعِهِ فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَانَ مَاشِيًا عَلَى السَّاحِلِ وَإِذَا بِسَمَكَةٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ وَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي الْبَرِّ فَفَرِحَ صَاحِبُهُ إذْ ذَاكَ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الْيَوْمَ يَأْكُلُ سَيِّدِي الشَّيْخُ السَّمَكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ النَّظَرِ فِي الشَّبَكَةِ الَّتِي يُصَادُ بِهَا أَوْ السِّنَّارَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَخَذَهَا فِي مِحْفَظَتِهِ وَأَتَى بِهَا إلَى الشَّيْخِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى وَقَالَ لَهُ مَا لَك عُذْرٌ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلْهَا أَنْتَ ، فَقَالَ لَهُ : أَبَقِيَ لَك بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : تِلْكَ الْمِحْفَظَةُ الَّتِي جِئْت بِهَا فِيهَا مِنْ أَيْنَ جِهَتُهَا وَمَا كَيْفِيَّةُ دِبَاغِهَا وَمَنْ صَنَعَهَا وَعَدَّدَ لَهُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ .

فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُنْبِئُك أَنَّ الْوَرَعَ لَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ مَنْ يَتَعَانَاهُ لَا يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ الطَّاحُونِ فَضْلًا عَنْ الطَّحْنِ فِيهَا .

وَيَخْتَلِفُ الْوَرَعُ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَزْمَانِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ حِكَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ الْخُبْزِ مُنْذُ نُهِبَتْ دَارُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ : خَالَطَ أَمْوَالَ النَّاسِ الْحَرَامُ ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ لَهُ : فَإِنْ قُلْت فَكَأَنَّ الْوَرَعَ يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَحُكْمَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } وَالْوَرَعُ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ كَمَا قِيلَ : الْأَمْرُ عَلَى الْمُتَّقِي أَضْيَقُ مِنْ عُقْدَةِ التِّسْعِينَ ، ثُمَّ الْوَرَعُ مِنْ الشَّرْعِ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ لَكِنْ لِلشَّرْعِ حُكْمَانِ حُكْمُ الْجَوَازِ وَحُكْمُ الْأَفْضَلِ الْأَحْوَطِ فَالْجَائِزُ نَقُولُ لَهُ : حُكْمُ الشَّرْعِ ، وَالْأَفْضَلُ الْأَحْوَطُ نَقُولُ لَهُ : حُكْمُ الْوَرَعِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَانْظُرْ إلَى الْحَرَامِ الْيَوْمَ وَكَثْرَتِهِ وَكَثْرَةِ التَّسَامُحِ فِيهِ وَعَدَمِ نَظَرِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ غَالِبًا .

فَجَاءَ مِنْ هَذَا مَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا خَلَّصَ الْفَقِيرُ قُوتَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فِي وَقْتِهِ .

وَكَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا كُلُّهَا حَرَامًا لَكَانَ قُوتُ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا حَلَالًا ، إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحُوجُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ لِأَكْلِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْرَجَ لَهُ قُوتَهُ حِينَ كَانَ فِي الْمَهْدِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَهُ وَيَعْبُدَهُ مِنْ بَيْنِ ثَلَاثِ مُحَرَّمَاتٍ : الدَّمِ ، وَالْفَرْثِ ، وَالْأُمِّ ، فَبَعْدَ أَنْ عَرَفَهُ وَعَبَدَهُ يُطْعِمُهُ الْحَرَامَ مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ يُخْرِجُ لَهُ رِزْقَهُ مِنْ وَسَطِ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالًا طَيِّبًا كَمَا أَخْرَجَهُ لَهُ أَوَّلًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ : إنَّ الْحَرَامَ لَمَّا أَنْ عَمَّ أَمْرُهُ اُضْطُرَّ

الْمُؤْمِنُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ كَالْمَيْتَةِ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا .

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَوْضَحُ وَأَظْهَرُ وَأَبْيَنُ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَلْهَجُ بِهِ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هُوَ حَدِيثًا إنَّمَا هُوَ كَلَامُ هَذَا الْعَالِمِ الْفَاضِلِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَزَنَ طَحِينَ إنْسَانٍ فَنَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ وَزْنِهِ الْأَوَّلِ أَنْ يُكْمِلَهُ لَهُ مِنْ دَقِيقِ نَفْسِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْلِطَهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا نَقَصَ طَحِينُ شَخْصٍ كَمَّلَهُ لَهُ مِنْ طَحِينِ شَخْصٍ آخَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ ، وَالْعَجَبُ مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الطَّحِينِ الَّذِي نَقَصَ طَحِينُهُ يَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ ، وَلَا يَزْجُرُهُمْ بَلْ يَأْخُذُهُ إذَا كَمَّلُوا لَهُ مِنْهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْغَصْبِ وَلُحُوقِ الْإِثْمِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِحْلَالُ مِمَّنْ أَخَذُوا لَهُ مِنْ طَحِينِهِ أَوْ غَرَامَتُهُ لَهُ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا انْتَحَلَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقَمْحَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ، وَلَا يُعْطِيَهُمْ ثَمَنَهُ إلَّا دَقِيقًا مُقَسَّطًا .

وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى مَا حَصَلَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يَعْتَبِرُ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقُوتَ أَوْلَى مَا يُحْتَاطُ لَهُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ } وَالْمُتَشَابِهُ مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ أَكْمَلُ لَكِنْ فِي الْقُوتِ آكَدُ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا تَقَدَّمَ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى بَائِعِ الدَّقِيقِ إذَا اشْتَرَى قَمْحًا قَدِيمًا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُشْتَرِي الدَّقِيقِ مِنْهُ .

وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ إنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدِيمًا وَبَعْضُهُ جَدِيدًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُخْتَلِطًا بِالشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَقَعَ فِي الْغِشِّ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِحْلَالُ مِمَّنْ بَايَعَهُ أَوْ شَارَاه فَمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إلَّا بِأَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَتْ الدَّوَابُّ لِلرَّبِيعِ زَادُوا سِعْرَ الدَّقِيقِ إذْ ذَاكَ وَقَلَّ أَنْ يُظْهِرُوهُ لِلنَّاسِ لِيَجِدُوا بِذَلِكَ السَّبِيلَ إلَى الزِّيَادَةِ فِي السِّعْرِ وَالْقَمْحُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُعْدَمْ وَلَمْ يَقِلَّ وَأَكْثَرُ التُّجَّارِ يُحِبُّونَ نِفَاقَ سِلَعِهِمْ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ مَنْ يَتَّجِرُ فِي الْأَقْوَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ غُلُوَّ الْأَشْيَاءِ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ فِي حَقِّ بَائِعِ الدَّقِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةٍ ، بَلْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى التَّحْرِيمِ ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ التَّاجِرِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِي الْأَقْوَاتِ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : يُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطٌ : مِنْهَا أَنْ لَا يُزَاحِمَ النَّاسَ حِينَ شِرَائِهِ بَلْ يَأْتِي إلَى الشِّرَاءِ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اشْتَرَاهُ وَإِلَّا فَلَا وَتَكُونُ نِيَّتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ غَلَا السِّعْرُ أَوْ رَخُصَ فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِنِيَّةِ أَنَّهُ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَغْلُوَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَعَ تَحْرِيمِهِ تَمْحَقُ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَيَنْبَغِي مِنْ بَابِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَّجِرَ فِي الْقَمْحِ ، وَلَا فِي الدَّقِيقِ ، وَلَا فِي الْحُبُوبِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ غَالِبًا تُحِبُّ الزِّيَادَةَ وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ بِك إذَا كُنْت بَيْنَ قَوْمٍ يُحَصِّلُونَ قُوتَ سَنَتِهِمْ هَذَا وَهُوَ الْقُوتُ وَحْدَهُ فَمَا بَالُك بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهِ وَشِرَاءِ الْكَثِيرِ مِنْهُ وَخَزْنِهِ لِيَنْتَظِرَ بِهِ السِّعْرَ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ إذَا بَقِيَ الْقَمْحُ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يَزِدْ سِعْرُهُ أَوْ زَادَ قَلِيلًا قَلَّ أَنْ يَبِيعَهُ بِذَلِكَ بَلْ يُؤَخِّرَهُ وَإِنْ كَانَ إلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا مَا لَمْ يَخْشَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ السُّوسُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ

مِنْ الْخَطَرِ وَكَسْبِ السَّيِّئَاتِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ بِجَوَارِحِهِ .

وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا وَقَعَتْ لَهُمْ سَنَةُ غَلَاءٍ وَكَانَ عِنْدَهُ قَمْحٌ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَهُ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ قُوتَهُ لِيُشَارِكَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الشِّدَّةِ وَهَذَا هُوَ حَالُ النَّاسِ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ الدَّقِيقَ مِنْ طَوَاحِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَلَا يَطْحَنُ عِنْدَهُمْ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا - مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يُعِينُ أَهْلَ الْكُفْرِ بِذَلِكَ .

الثَّانِي - أَنَّهُ يَتْرُكُ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

الثَّالِثُ - أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَسْتَعْمِلُونَ الصُّنَّاعَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي ذَلِكَ ذِلَّةٌ لِلْمُسْلِمِ وَعِزَّةٌ لِلْكَافِرِ فَيُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ أَنْ لَا يَعْمَلَ عِنْدَهُمْ وَلَا يُعِينَهُمْ .

الرَّابِعُ - أَنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

الْخَامِسُ - أَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِغِشِّ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا .

السَّادِسُ - أَنَّهُمْ إذَا شَكَرُوا سِلَعَهُمْ بِالْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى صِدْقِهِمْ بَلْ الْغَالِبُ عَكْسُهُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَازِعٌ وَلِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ مَجَالٌ .

السَّابِعُ - مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الصَّلِيبِ عَلَى بَابِ الطَّاحُونِ وَفِي أَرْكَانِهَا .

فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُنَزِّهَ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَأَشْكَالِهَا وَقَدْ اسْتَحْكَمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَصَارَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُفَضِّلُ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مُعَامَلَةِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَذْكُرُونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ وُجُوهًا مِنْ الْحُجَجِ لَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى سَاقٍ ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ لِقِيَامِ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ بِرَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ الَّذِي يَأْخُذُ الْقَمْحَ مِنْ الْبُيُوتِ وَيَأْتِي بِهِ لِلطَّحْنِ وَيَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ أَمِينًا دِينًا وَإِلَّا فَمَسْتُورُ الْحَالِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ وَتَقِفُ لَهُ الْجَارِيَةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْحَرَائِرِ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ يَجِيءُ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ إلَّا النِّسَاءُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ غَضَّ بَصَرَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ إذْ ذَاكَ إلَّا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ فَتَحْصُلُ الْخَلْوَةُ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ غَضَّ طَرْفَهُ .

بَلْ يَضَعُ الدَّقِيقَ عَلَى الْبَابِ وَيُعْلِمُ مَنْ فِي الْبَيْتِ بِذَلِكَ وَيَتَوَارَى قَلِيلًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ وَيَمُرُّ لِسَبِيلِهِ ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي أَخْذِهِ الْقَمْحَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ إلَّا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ .

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ الَّذِي يُبَاشِرُ مَا ذُكِرَ لَا يُعْهَدُ مِنْهُ الدِّينُ ، وَلَا يُعْرَفُ حَالُهُ بَلْ يَطَّلِعُ بَعْضُهُمْ عَلَى سُوءِ حَالِهِ ثُمَّ يَبْعَثُهُ فَيَدْخُلُ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَالِبُ وُقُوعُ الْفِتَنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْ تَوَقُّعُهَا وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَّخِذُ الصَّبِيَّ الَّذِي يُبَاشِرُ ذَلِكَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَحَّالِ الْيَهُودِيِّ وَمَا جَرَى لَهُ مَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ هُنَا

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ تَبْدِيدِ الْقَمْحِ حِينَ إتْيَانِ الْحَمَّالِينَ بِهِ إلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّيْلِ وَالْحَطِّ وَحِينَ إعْطَائِهِ لِلصُّنَّاعِ وَمُحَاوَلَتِهِمْ لَهُ قَبْلَ الطَّحْنِ فَرُبَّمَا كَانَ فِي الْوِعَاءِ خَرْقٌ فَيَزِيدُ تَبْدِيدُ الْقَمْحِ بِسَبَبِهِ وَيَبْقَى بَيْنَ الْأَرْجُلِ يَمْشِي عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ بَابِ الطَّاحُونِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَأْتُونَ بِهِ إلَيْهَا .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْقُوتَ إذَا اُمْتُهِنَ يَسْتَغِيثُ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكْرِمَهُ .

وَإِذَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَفَعَ سِعْرَهُ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا جَهْدُهُ وَيَتْرُكُ مَنْ يَكْنُسُ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ وَيَلْتَقِطُ مَا يَبْقَى بَعْدَهُ ، وَلَوْ بَقِيَتْ حَبَّةٌ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مِنْ شَأْنِ النَّاسِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِمْ وَلِأَنَّ فِعْلَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْبَرَكَةِ وَإِبْقَاءِ النِّعْمَةِ عَلَى مَنْ هِيَ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ فِي مَوْضِعِ وَزْنِ الدَّقِيقِ وَشَيْلِهِ وَحَطِّهِ وَالْخُرُوجِ بِهِ .

وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ عَلَى الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَرْقٌ أَوْ قَطْعٌ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ ، وَلَا يَكِلُ أَمْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَى الصُّنَّاعِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمْ يَتَهَاوَنُونَ بِهَا فِي الْعَادَةِ وَالْعَوَائِدُ يَقِلُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا إلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَأْيِيدٍ .

وَالتَّحَفُّظُ عَلَى الدَّقِيقِ آكَدُ مِنْ التَّحَفُّظِ عَلَى الْقَمْحِ وَإِنْ كَانَا مَعًا مُحْتَرَمَيْنِ لَكِنَّ الدَّقِيقَ إذَا وَقَعَ وَمَشَى عَلَيْهِ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ النَّاظِرِ إلَيْهِ غَالِبًا فَيُمْتَهَنُ بِالدَّوْسِ عَلَيْهِ وَقَلَّ أَنْ يَأْتِيَ إنْسَانٌ فَيُزِيلَهُ أَوْ يَحْتَرِمَهُ فَلَا يَدُوسَ عَلَيْهِ لِجَهَالَتِهِ بِهِ بَعْدُ بِخِلَافِ الْقَمْحِ فَإِنَّهُ يُرَى فِي الْغَالِبِ فَلَوْ تَرَكَهُ بَعْضُ مَنْ يَمُرُّ بِهِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَتَحَفَّظُ لَهُ آخَرُ مِمَّنْ

يَعْرِفُ قَدْرَ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْصِيَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى سِيَّمَا فِي مَوْضِعِ السَّاحِلِ وَالْشُّوَنِ فَإِنَّ الْمَارَّ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ يُعَايِنُ الْقَمْحَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْحُبُوبِ يُدَاسُ بِالْأَقْدَامِ وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ تَأَكُّدًا كَبِيرًا أَنْ لَا يَمُرَّ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إلَى الْمَشْيِ فِيهَا فَلَا يَمُرُّ بِهَا رَاكِبًا أَوْ مُنْتَعِلًا بَلْ يَحْتَفِي ثُمَّ يَمْشِي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَإِنْ تَنَجَّسَتْ قَدَمُهُ بِمَا هُنَاكَ غَسَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ وَضَرَرُهَا مُتَعَدٍّ ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ مَنْ يُكْرِمُ النِّعْمَةَ يُدِيمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَبِسَبَبِ مَنْ يُهِينُهَا يَعُمُّ غُلُوُّ السِّعْرِ جَمِيعَهُمْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُحْوِجَ أَهْلَهُ ، وَلَا أَحَدًا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ إلَى الْوُقُوفِ لِصَبِيِّ الطَّاحُونِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ الطَّوَّافِينَ ، وَلَا يُسَامِحُهُمْ فِي ذَلِكَ بَلْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَلِّيهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ مَحَارِمِ أَهْلِهِ أَوْ عَبْدِهَا أَوْ عَبْدِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ حُصُولِ الْخَلْوَةِ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ فَإِنَّ التَّهَاوُنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُسَامِحَ فِي الْوَسِيلَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَدْوَاءَ إذَا وَقَعَتْ يَسْهُلُ فِي ابْتِدَائِهَا مُدَاوَاتُهَا وَيَصْعُبُ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِحْكَامِهَا ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الشِّفَاءَ حَصَلَ بَعْدُ فَمَا فَاتَ لَا يُسْتَدْرَكُ ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْقُلُوبِ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ الْمَيْلِ إلَى الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ فِي الْغَالِبِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ لِسَانِ الْعِلْمِ أَوَّلًا وَهَذَا التَّنْبِيهُ كَافٍ لِمَنْ فِيهِ عُرُوبِيَّةٌ وَغَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْفَرَّانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ فَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ حُسْنِ النِّيَّاتِ فَمِثْلُهُ هُنَا .

لَكِنْ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَحْمُونَ الْفُرْنَ بِالنَّجَاسَةِ كَأَرْوَاثِ الْحَمِيرِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَتَنَجَّسُ الْفُرْنُ فَلَا يَطْهُرُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا أَحْمَى الْفُرْنَ رَدَّ النَّارَ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ ، ثُمَّ إنَّهُ يَأْخُذُ الْمِمْسَحَةَ الَّتِي يَمْسَحُ بِهَا وَهِيَ مَبْلُولَةٌ بِالْمَاءِ الْمُعَدِّ لِبَلِّهَا فِيهِ فَيَمْسَحُ أَرْضَ الْفُرْنِ بِهَا فَيَزِيدُ الْفُرْنَ بِهَا تَنْجِيسًا ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُهُ وَهَذَا إنْ كَانَ الْمَاءُ أَوَّلًا طَهُورًا ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَبَتَّلَ يَدُهُ بِمَسِّهِ لِلْمِمْسَحَةِ وَبِذَلِكَ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُ الْعَجِينَ بِيَدِهِ قَبْلَ غَسْلِهَا مِمَّا أَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَغْسِلُ يَدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَمَسُّ بِهَا الْعَجِينَ حِينَ تَنَاوُلِهِ لِرَمْيِهِ فِي الْفُرْنِ فَيَزِيدُهُ تَنْجِيسًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْفُرْنِ فَيُطْعِمُ النَّاسَ الْخُبْزَ الْمُتَنَجِّسَ .

وَطَرِيقُ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِيَ الْفُرْنَ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ مِثْلَ الْحَلْفَاءِ وَالْقَشِّ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاهِرَاتِ .

وَيَجُوزُ حَمْوُهُ بِأَرْوَاثِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

وَيَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ فِي أَرْوَاثِ الْخَيْلِ وَأَبْوَالِهَا وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَكْلِ لُحُومِهَا وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ بِالْجَوَازِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْخَبْزُ بِأَرْوَاثِهَا ، وَقَوْلٌ ثَانٍ بِالْمَنْعِ وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالْكَرَاهَةِ وَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَأَرْوَاثُهَا نَجِسَةٌ مُطْلَقًا .

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ .

وَيَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا أَحْمَى الْفُرْنَ بِالطَّاهِرَاتِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَاءٌ مُطْلَقٌ مُصَانٌ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ فَإِذَا أَرَادَ تَنَاوُلَ الْعَجِينَ فَلْيَنْظُرْ أَوَّلًا إنْ كَانَتْ أَصَابَتْ يَدَهُ نَجَاسَةٌ أَمْ لَا فَإِنْ أَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ غَسْلُ يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ طَاهِرَةً وَتَعَلَّقَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْعَرَقِ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَسْلُهَا أَيْضًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْذَارِ وَصَاحِبُ الْعَجِينِ لَوْ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْعَجِينَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى أَنَّهُ يَغُشُّ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ وَيَأْكُلُ الْحَرَامَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ تِلْكَ النِّيَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْلِعَ صَاحِبَ الْخُبْزِ عَلَى مَا جَرَى فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُغَرِّمَهُ لَهُ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي يَبُلُّ فِيهِ الْمِمْسَحَةَ طَاهِرًا نَظِيفًا أَوَّلًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا ثُمَّ لَا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ بِإِضَافَتِهِ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الْمِمْسَحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْذَرًا وَيَحْذَرُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ وَمُسْتَقْذَرٌ بِالسَّوَادِ الَّذِي فِيهِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ وَغَسَلَهَا مِنْهُ لَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ الْمَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبُلَّ الْمِمْسَحَةَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَلَى الْخُبْزِ إذَا حَصَلَ فِي الْفُرْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : : أَحَدُهَا - أَنْ يَحْتَرِقَ .

الثَّانِي - أَنْ تَقْوَى عَلَيْهِ النَّارُ وَلَمْ تُحْرِقْهُ كَالْأَوَّلِ .

الثَّالِثُ - أَنْ لَا يُخْرِجَهُ وَهُوَ عَجِينٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَضُرُّ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

فَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ فَفِيهِمَا إضَاعَةُ مَالٍ ؛ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ زَادَتْ فِي جَفَافِهَا عَنْ الرُّطُوبَةِ الْمُعْتَدِلَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَالصَّبِيَّ الصَّغِيرَ وَالْمَرِيضَ وَمَنْ بِهِ وَجَعٌ فِي أَسْنَانِهِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ أَكْلُهُ .

وَفِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُمْسِكُ الطَّبْعَ وَقَدْ يَحْتَاجُ بَعْضُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ بِسَبَبِ أَكْلِهِ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا أَخْرَجَهُ وَفِيهِ بَعْضُ عُجُونَةٌ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَهُ يَتَوَلَّدُ فِي بَطْنِهِ دُودٌ لِعُفُونَتِهِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَمْرَاضٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدْوِيَةِ وَالطَّبِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ لِصَاحِبِ الْخُبْزِ خُبْزَهُ إذَا أَصَابَهُ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَيَرُدُّهُ إلَى الْفُرْنِ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْطِي الْأُجْرَةَ لِلصَّانِعِ إلَّا أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ .

وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْخُبْزِ إذَا وَقَعَ لَهُ فِي خُبْزِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ وَكَانَ ذَلِكَ نَادِرًا أَنْ يُسَامِحَ الصَّانِعَ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُغَرِّمَهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ شَأْنُهُ فَلَهُ اتِّسَاعٌ فِي تَغْرِيمِهِ وَتَرْكِهِ فَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْخُبْزِ الْمُحْتَرِقِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَئِذٍ إنْ لَوْ كَانَ سَالِمًا مِنْ حَرْقِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَلَوْ أَرَادَ الْفَرَّانُ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ الْخُبْزِ وَيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي تَحْصِيلِ أَقْوَاتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ

فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخْتَلِطَ خُبْزُ النَّاسِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ أَنْ لَا يَخْبِزَ إلَّا فِي فُرْنِ خُبْزِ الْعَلَّامَةِ فَلْيَفْعَلْ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُمْ لَا يُحْمُونَ الْفُرْنَ إلَّا بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ بِخِلَافِ الْفُرْنِ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ خُبْزُ الْبَيْتِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا لُبَابَ الرَّغِيفِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي يَدِ الْفَرَّانِ حِينَ يَرْمِيهِ فِي الْفُرْنِ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَدَمُ الِاحْتِرَازِ .

وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَخْبِزُونَ بِالْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ وَهِيَ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا ، وَلَا بَيْعُهَا وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا إلَّا بِالْعِوَضِ لِأَجْلِ أَنَّ عِوَضَهَا عِنْدَهُمْ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِثَمَنِ الطَّاهِرَاتِ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا بَعْضُهُمْ حُبُّ الدُّنْيَا ، إذْ إنَّهُمْ بِحُبِّهَا شَحُّوا بِثَمَنِ مَا يُوقِدُونَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا نَحَا نَحْوَهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَرَى مَا يَفْعَلُونَهُ أَوْ يَسْمَعُ بِهِ مَنْ هُوَ ثِقَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَفْعَلْ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَخْتَلِسُ مِنْ خُبْزِ بَعْضِ النَّاسِ الرَّغِيفَ وَالرَّغِيفَيْنِ .

فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ لِذَلِكَ لِجِدَّتِهِ وَيَسْتَقْبِحُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ضَعِيفَ الْحَالِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَيَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ مِنْ الطَّلَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ أَوْ بُخْلِهِ فَمَرَّةً يُعْطِيهِ الْفَرَّانُ ذَلِكَ وَيَعْتَلُّ لَهُ بِالْغَلَطِ أَوْ النِّسْيَانِ وَمَرَّةً يُكَابِرُهُ ، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي أُجْرَةِ الْخُبْزِ فَمَرَّةً يَرُدُّهَا عَلَيْهِ وَمَرَّةً يَرُدُّ بَعْضَهَا وَمَرَّةً لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْئًا

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ الَّذِي يَتَبَدَّدُ عَلَى الْمَسْطَبَةِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَيْهَا الْأَطْبَاقُ يَتْرُكُونَهُ عَلَى حَالِهِ ، وَلَا يَكْنُسُونَهُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ وَيَمْشُونَ عَلَيْهِ بِأَقْدَامِهِمْ وَنِعَالِهِمْ وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِنِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُخَافُ مِنْ عَاقِبَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ الدَّقِيقِ الَّذِي يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ مِمَّا يَفْضُلُ فِي الْأَطْبَاقِ بَعْدَ رَمْيِ الْخُبْزِ فِي الْفُرْنِ عَلَى عَجِينِ أَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي الِاكْتِسَابِ لِتَحْصِيلِ الْأَقْوَاتِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّقِيقُ قَدْ اخْتَلَطَ بِدَقِيقِ مَكَّاسٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَعْوَانِهِمْ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الْخُبْزِ فِي تَغْرِيمِ الْفَرَّانِ أَوْ تَرْكِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْفَرَّانِ أَنْ يُعْطِيَ الْخُبْزَ لِصَاحِبِهِ دُونَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا جَرَى فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَإِنْ عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ الدَّقِيقِ عَلَى خُبْزِ ظَالِمٍ أَوْ مَكَّاسٍ أَوْ أَعْوَانِهِمْ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .

وَيَنْبَغِي لِلْفَرَّانِ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى أَنْ لَا يَجْعَلَ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ عَلَى عَجِينِ أَحَدٍ فَلْيَفْعَلْ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ اخْتِلَاطِ أَقْوَاتِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُسَامِحَ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَهُ فِي الْفُرْنِ الْجَوَارِي وَالنِّسَاءُ وَالْبَنَاتُ الْأَبْكَارُ وَالشُّبَّانُ وَالرِّجَالُ وَالْعَبِيدُ وَيَتَحَدَّثُونَ هُنَاكَ بِأَشْيَاءَ سَقْطَةٍ رَذْلَةٍ مَمْنُوعَةٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ اتِّفَاقًا وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْخُبْزِ أَنْ لَا يُرْسِلَ إلَى الْفَرَّانِ أَحَدًا مِمَّنْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يُطِيعُونَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عُقُوقًا لِمَا وَرَدَ { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ تَئُولُ إلَى وُقُوعِ الْفَاحِشَة الْكُبْرَى نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ بَلَائِهِ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْبِزَ لِمَنْ سَبَقَ أَوَّلًا فَأَوَّلًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَجِينُ الْمُتَأَخِّرُ يُخَافُ عَلَيْهِ التَّلَفُ وَمَنْ سَبَقَ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيُقَدِّمُهُ وَإِلَّا كَانَ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ ، الْمَالِ هَذَا إذَا كَانَ نَادِرًا وُقُوعُهُ وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ خُبْزُ مُشَاهَرَةٍ وَخُبْزُ نَقْدٍ يُقَدِّمُونَ صَاحِبَ النَّقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا ، وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَلَفِ خُبْزِ الْمُشَاهَرَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ فَوَاتَ صَاحِبِ النَّقْدِ بِخِلَافِ الْمُشَاهَرَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَمَنْ فَعَلَهُ كَانَ آثِمًا فَإِنْ تَلِفَ خُبْزُ الْمُشَاهَرَةِ بِسَبَبِ تَأْخِيرِهِ خُبْزَ صَاحِبِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخُبْزِ الْمُحْتَرِقِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالْخُبْزِ وَالنَّاسُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَأَمَّا الْخَمْسُ فِي جَمَاعَةٍ فَقَلَّ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهَا غَالِبًا وَالدَّيِّنُ فِيهِمْ فِي الْغَالِبِ يُصَلِّيهَا قَضَاءً .

فَمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ هِجْرَانُهُمْ ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِمَّنْ عِنْدَهُ مِنْ خَبْزِهِ عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ وَلْيَمْضِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ وَيَخْبِزُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَازِعٌ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْأَلَ عَنْ أَخْبَارِهِمْ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُضْطَرُّ إلَى مُعَامَلَتِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ إذْ إنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الْأَصْلِ وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ضِدُّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَدُورُ عَلَى الْبُيُوتِ لِأَخْذِ الْعَجِينِ امْرَأَةً مُتَجَالَّةً لِأَجْلِ صِيَانَةِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مُنَاوَلَتِهِنَّ الْعَجِينَ لِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّخِذْ صَبِيًّا عَاقِلًا عَفِيفًا أَمِينًا قَدْ جُرِّبَ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ مَا تَقَدَّمَ فِي صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ حِينَ أَخْذِهِ لِلْقَمْحِ مِنْ الْبُيُوتِ وَرَدِّهِ إلَيْهَا دَقِيقًا

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْخَبَّازِ الَّذِي يَعْمَلُ الْخُبْزَ لِلسُّوقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَنْبَغِي لِلْخَبَّازِ الَّذِي يَعْمَلُ الْخُبْزَ لِلسُّوقِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَاحِبِ الطَّاحُونِ وَالْفُرْنِ لِيَكُونَ فِي عِبَادَةٍ وَخَيْرٍ وَتَقَرُّبٍ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عِنْدَ إتْيَانِهِ بِالدَّقِيقِ إلَى الْفَرَّانِ أَوْ إلَى بَيْتِهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَبَدَّدَ مِنْهُ شَيْءٌ مَا فَإِنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيُزِلْهُ سَرِيعًا بِيَدِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلْيَسْتَنِبْ عَنْهُ غَيْرَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ صُنَّاعِ الْفُرْنِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى حِفْظِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ تَبْدِيدِ الدَّقِيقِ آكَدُ مِنْهُ فِي الْقَمْحِ كَمَا تَقَدَّمَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دَقِيقًا رَدِيئًا أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ ، وَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْخُبْزَ مِنْ الدَّقِيقِ الرَّدِيءِ وَيَحْلِفُ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مِنْ الدَّقِيقِ الطَّيِّبِ وَذَلِكَ غِشٌّ وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ خَلَطَ الطَّيِّبَ بِالرَّدِيءِ مِنْهُ وَالْمُكَلَّفُ إنَّمَا يَتْعَبُ فِي السَّبَبِ وَيَدْأَبُ فِيهِ لِيَأْكُلَ حَلَالًا وَهُوَ يَرْجِعُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إلَى الْحَرَامِ الْبَيِّنِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدِ الصُّنَّاعِ وَيَزْجُرَهُمْ عَنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ فِي تَبْدِيدِهِمْ الدَّقِيقَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعْجِنُونَ فِيهَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَضَعُونَ فِيهَا الْعَجِينَ لِلتَّقْرِيصِ وَالْخَبْزِ .

وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْعَجِينِ مِنْ مَشْيِ الْخُشَاشِ وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ حِينَ يَنْتَظِرُونَ بِهِ التَّخْمِيرَ فَأَمَّا أَنْ يُغَطِّيَهُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ نَظِيفٍ أَوْ يَتْرُكَ مَنْ يَحْرُسُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ عَجَزَ عَمَّا يُغَطِّيهِ بِهِ فِي الْوَقْتِ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الصُّنَّاعَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي زَمَنِ الْحَرِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ وَالْعَرَقُ يَسْقُطُ مِنْهُمْ وَيَقَعُ فِي الْعَجِينِ الذُّبَابُ وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنُشُّهُ فَيَخْتَلِطَ بِالْعَجِينِ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَتَّقِي بِهِ الْعَرَقَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْعَجِينِ وَيَتْرُكَ مَنْ يَنُشُّ الذُّبَابَ وَمَا أَشْبَهَهُ حِينَئِذٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْغِشِّ وَلِأَجْلِ عَدَمِ احْتِرَازِهِمْ تَجِدُ فِي الْخُبْزِ أَشْيَاءَ مُسْتَقْذَرَةً كَبَنَاتِ وَرْدَانَ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّبِيبِ وَالْقَشِّ وَالْحَلْفَاءِ وَالشَّعْرِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُمْ يَعْجِنُونَ الْعَجِينَ بِمَاءِ الْآبَارِ الْمَالِحَةِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْمِلْحَ فَيَصِيرُ طَعْمُ الْخُبْزِ مُرًّا مَالِحًا فَالْمَرَارَةُ مِنْ مَاءِ الْآبَارِ وَالْمُلُوحَةُ مِنْ زِيَادَةِ الْمِلْحِ الْمُضَافِ إلَى مَاءِ تِلْكَ الْآبَارِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْلِطَ مَعَ الدَّقِيقِ غَيْرَهُ مِمَّا يُحَسِّنُهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي مِثْلَ الْكُرْكُمِ وَمَا أَشْبَهَهُ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ - أَنَّهُ يُحَسِّنُهُ فِي عَيْنِ مُشْتَرِيهِ إنْ كَانَ دَقِيقُهُ رَدِيئًا كُلَّهُ أَوْ مَخْلُوطًا بِرَدِيءٍ وَيَزِيدُهُ حُسْنًا فِي عَيْنِهِ إنْ كَانَ دَقِيقُهُ طَيِّبًا كُلَّهُ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْغِشِّ .

الثَّانِي - أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا لِآكِلِهِ دُونَ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ شَرْعًا .

الثَّالِثُ - أَنَّهُ إذَا بَاتَ أَوْ بَرَدَ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ وَنَفَرَتْ نُفُوسُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْهُ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِ ، وَلَا بَأْسَ بِمَا يَجْعَلُونَهُ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّيِّبَةِ ، وَلَا تَضُرُّ بِآكِلِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الزَّعْفَرَانِ عَلَى وَجْهِ الكماج وَمَا أَشْبَهَهُ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْمَاءِ الْعَذْبِ الَّذِي يَعْجِنُ بِهِ الدَّقِيقَ مِنْ الذُّبَابِ وَسَائِرِ الْحَشَرَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَجِينِ بَلْ هَذَا آكَدُ إذْ إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَسْتَتِرُ فِي الْمَاءِ بِخِلَافِ الْعَجِينِ لِظُهُورِهَا فِيهِ غَالِبًا .

وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يَعْجِنُ مِنْهُ وَعَلَى الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ وَآنِيَتِهِ وَمَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ وَمَا يُغَطَّى بِهِ مِنْ أَيْدِي الصُّنَّاعِ وَالْفَرَّانِ .

فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَرِزُونَ فِي الْغَالِبِ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ .

فَمِنْهَا أَنْ يُبَاشِرَ أَحَدُهُمْ النَّجَاسَةَ بِيَدِهِ ثُمَّ يُبَاشِرَ بِهَا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ غَسْلِهَا أَوْ يَغْسِلَهَا بِمَاءٍ مُضَافٍ لِطَاهِرٍ وَذَلِكَ لَا يُطَهِّرُهَا .

وَمِنْهَا أَنْ يَمَسَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسْتَقْذَرَةَ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْأَعْرَاقِ وَحَكِّ بَدَنِهِ وَمُرُورِ يَدِهِ فِي الْمَغَابِنِ وَمَسِّ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ أَوْ النَّجِسَةِ كَجِدَارِ مِرْحَاضٍ وَمَا أَشْبَهَهُ ثُمَّ يَمَسَّ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْسِلَهَا

( فَصْلٌ ) وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَنْهَى الصُّنَّاعَ عَمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ أَخَذُوا مِنْ الْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْعَجِينِ فَيَتَوَضَّئُونَ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا لِأَثَرِ الْعَجِينِ أَوْ الدَّقِيقِ أَوْ لِمَا يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ الْأَرْغِفَةِ وَهِيَ عَجِينٌ طَاهِرًا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دَوْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ قَدَمُهُ طَاهِرَةً ؛ لِأَنَّ لَهَا حُرْمَةً بِسَبَبِ مَا يَعْلَقُ بِهَا مِنْ أَثَرِ الدَّقِيقِ أَوْ الْعَجِينِ بَلْ تَكُونُ مُصَانَةً عَنْ كُلِّ ذَلِكَ وَعَمَّا يُصِيبُهَا مِنْ زُرْقِ طَائِرٍ أَوْ زِبْلِ فَأْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْحَشَرَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا بَسَطَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُبْسَطُ عَلَيْهِ طَاهِرًا ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَيْهَا أَرْغِفَةَ الْعَجِينِ ثُمَّ يُغَطِّيهَا بِمِثْلِ مَا بَسَطَهُ تَحْتَهَا أَعْنِي فِي الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْذَارِ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ الصُّنَّاعُ فِيهِ أَيْدِيَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْعَجِينِ ، وَكَذَلِكَ غَسَّالَةُ الْأَوَانِي الَّتِي يُعْجَنُ فِيهَا فَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ يُمْشَى عَلَيْهِ بِالْأَقْدَامِ ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ أَوْ مُسْتَقْذَرٍ بَلْ يُطْعِمُونَهُ لِلدَّجَاجِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلِغَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ أَوْ النَّهْرِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ حُفِرَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ غَيْرِ مُسْتَقْذَرٍ سَالِمٍ مِنْ الْمَشْيِ عَلَيْهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْمُرُ الْفَرَّانَ أَنْ يُخْرِجَ الْخُبْزَ لَهُ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَنْضَجْ ؛ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ فِي الْمِيزَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ غِشٌّ وَفِيهِ ضَرَرٌ لِآكِلِهِ كَمَا سَبَقَ ( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْفَرَّانِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ صَاحِبِ الْخُبْزِ إذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْإِثْمِ مَعًا

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْفَرَّانِ أَنْ لَا يُحْرِقَهُ ، وَلَا يُقَمِّرَهُ زِيَادَةً عَلَى نُضْجِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْخُبْزِ فِي الثَّمَنِ وَيَضُرُّ بِآكِلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَبِالْجُمْلَةِ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَمِيعِ مُرَاعَاةُ النُّضْجِ التَّامِّ فِي الصَّنْعَةِ كُلِّهَا وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ السَّقَّاءِ قَدْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّاتُ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا صَاحِبُ الطَّاحُونِ وَيَرْجِعُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ فَفِي السَّقَّاءِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَوْجَبِ إذْ إنَّ مَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ الْقُوتُ وَالْمَاءُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعَانٍ جُمْلَةً .

مِنْهَا الشُّرْبُ وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْأَكْلِ .

وَمِنْهَا إزَالَةُ النَّجَاسَاتِ .

وَمِنْهَا رَفْعُ الْحَدَثِ .

وَمِنْهَا إحْيَاءُ النَّفْسِ إذَا غَصَّ صَاحِبُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ فَلِلسَّقَّاءِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ فِي تَيْسِيرِ الْمَاءِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نِيَّتِهِ وَيُنَمِّيَهَا لِيَحُوزَ بِهَا ثَوَابَ ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا بَعْضَهُ وَيَكُونُ تَطَلُّعُهُ فِي الرِّزْقِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا إلَى أَحَدٍ سِوَاهُ كَمَا مَضَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ

لَكِنَّ آكَدَ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا فِيهَا مِمَّا يُضَادُّ نِيَّتَهُ أَوْ يُنْقِصُهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْعَمَلُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً خَالِصَةً مِنْ الشَّوَائِبِ وَالْمَفَاسِدِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْ الْمَوْرِدَةِ قَرِيبًا مِنْ الْبَرِّ وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ فَضَلَاتِ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ عَلَى دِينِهِ ، وَلَا يُرَاعِي حَقَّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَيَبُولُ قَرِيبًا مِنْ مَوْرِدَةِ الْبَحْرِ أَوْ فِيهَا وَهَذِهِ هِيَ إحْدَى الْمَلَاعِنِ الثَّلَاثِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ ( { اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ } ثُمَّ يَأْتِي السَّقَّاءُ فَيَمْلَأُ فَيَطْلُعُ مَا عَمِلَ هُنَاكَ فِي الْوِعَاءِ الَّذِي يَمْلَأُ بِهِ فِي الرَّاوِيَةِ أَوْ الْقِرْبَةِ فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْكُبُهُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَتَتَنَجَّسُ بِهِ ثِيَابُهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ وَقُوتُهُمْ الَّذِي يَعْجِنُونَهُ مِنْهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ تَطْهُرُ بِهِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى كُلْفَةٍ فِي غَسْلِ ثِيَابِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَإِعَادَةِ صَلَاتِهِمْ وَتَبْدِيدِ قُوتِهِمْ وَغَسْلِ الْأَوَانِي وَغَيْرِهَا مِمَّا أَصَابَهَا .

وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ كَثِيرًا وَأَخْبَرَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ احْتَاجُوا إلَى كُلْفَةٍ فِي تَطْهِيرِ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ .

ثُمَّ مَعَ مَا ذُكِرَ فَالْمَاءُ الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْبَرِّ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَكِرٌ بِالتُّرَابِ وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ الْفَضَلَاتِ فَتَارَةً تَكُونُ نَجِسَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُسْتَقْذَرَةً وَتَارَةً تَكُونُ طَاهِرَةً وَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُمْلَأُ مِنْهُ سَرَابُ حَمَّامٍ أَوْ وَرَّاقَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَفْنِيَةِ الْمُسَلَّطَةِ عَلَى الْبَحْرِ أَوْ

النَّهْرِ ؛ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ سَلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ حِينَئِذٍ يَغْرِفُ الْمَاءَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ فَإِنَّ الْكُلْفَةَ هَاهُنَا وَاجِبَةٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَكَلَ الْحَرَامَ لِإِهْمَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَنَاقَضَ فِعْلُهُ تِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُصَدِّقُ النِّيَّةَ أَوْ تُكَذِّبُهَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَكُونُ عَيْنُهُ نَاظِرَةً إلَى مَا يَحْصُلُ فِي الْوِعَاءِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ الْمَاءَ فَإِنْ دَخَلَهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ أَزَالَهُ وَطَهَّرَ الْوِعَاءَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ صَبَّهُ وَأَخَذَ غَيْرَهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْلَأَ بِاللَّيْلِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ فِيهِ فَإِنْ فَعَلَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ فِي الِاحْتِيَاطِ فَيَدْخُلُ فِي الْبَحْرِ بِحَيْثُ يَأْمَنُ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ أَوْ الْفَضَلَاتِ ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مَعَ وُجُودِ التَّحَفُّظِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَيَغْرَمُ لِمُشْتَرِيهَا مَا أَخَذَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ يَرْضَى مِنْهُ بِمِثْلِهَا

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّاوِيَةَ أَوْ الْقِرْبَةَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا نَاقِصَةً وَذَلِكَ غِشٌّ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الرَّاوِيَةُ أَوْ الْقِرْبَةُ سَالِمَةً مِنْ الْخَرْقِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْقُصُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ غِشٌّ أَيْضًا سِيَّمَا إنْ كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُبُ فِيهِ الْمَاءَ بَعِيدًا وَالْخَرْقُ مُتَّسِعٌ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ أَذِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ لِنَدَاوَتِهَا بِمَا يَنْصَبُّ فِيهَا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى مِنْ الطَّرِيقِ وَهَذَا ضِدُّهُ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ أَوْ الْقِرْبَةُ جَدِيدَةً أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُشْتَرِي الْمَاءِ الَّذِي عَمِلَ فِيهَا لِكَيْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ ، إذْ إنَّهُ مُضَافٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ طَاهِرٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَأَفْسَدَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَطَهَّرَ مِنْهُ أَوْ أَزَالَ بِهِ نَجَاسَةً ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الرَّاوِيَةُ قَدِيمَةً وَدَهَنَهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إنْ كَانَ فِيهَا قَطِرَانٌ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الرَّاوِيَةِ غِطَاءً طَاهِرًا كَثِيفًا سَاتِرًا لِجَمِيعِهَا لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ تَلْوِيثِ ثِيَابِهِمْ بِهَا ، إذْ إنَّ ذَلِكَ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ وَأَذَاهُمْ مُحَرَّمٌ .

وَيَنْبَغِي لِمُشْتَرِي الرَّاوِيَةِ أَوْ الْقِرْبَةِ أَنْ يَرْغَبَ عَمَّا مُلِئَ بِاللَّيْلِ خَشْيَةً مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَتْ قَدْ مُلِئَتْ بِالنَّهَارِ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِالنَّظَرِ فِي أَوْصَافِ الْمَاءِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ لِيَسْلَمَ مِنْ الْمُنَازَعَةِ فَإِذَا احْتَاطَ كَمَا وُصِفَ وَوَجَدَهُ سَالِمًا دَفَعَ لَهُ الثَّمَنَ وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا بِنَجَاسَةٍ لَزِمَهُ إرَاقَتُهُ إنْ اسْتَطَاعَ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ لِلرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ لِلْمَشَقَّةِ ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَنَجِّسَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِطَاهِرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إذَا بَاعَهُ ، وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ وَاسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ مَعَهُ مَعْرُوفًا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَيَبِيعَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، فَإِنْ أَبَى السَّقَّاءُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكِهَا وَأَخْذِ الْأَرْشِ وَبَيْنَ رَدِّهَا .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا وَمُحْتَاجًا إلَيْهَا أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عَادَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّغْيِيرُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِعُذْرٍ فَأَقَلَّ مَا يُمْكِنُ فِي الْهِجْرَانِ أَنْ يَتْرُكَ الشِّرَاءَ مِنْهُ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْشِيَ بِالْجَمَلِ مَشْيًا مُتَوَسِّطًا لَا يُسْرِعُ فِيهِ فَيَضُرُّ بِالْجَمَلِ ، وَلَا يُبْطِئُ فَيَضْرِبُهُ أَيْضًا لِطُولِ مُكْثِ الثِّقَلِ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الْبَحْرِ لِأَخْذِ الْمَاءِ فَيُسْرِعُونَ بِالْجَمَلِ الْإِسْرَاعَ الْكَثِيرَ ؛ فَيَرْتَكِبُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مَذْمُومَةً مِنْهَا أَنَّهُمْ يُتْعِبُونَ الْجَمَلَ لِسُرْعَتِهِمْ بِهِ إذْ إنَّ الْجَمَلَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الْجَرْيُ مَعَ الْحِمْلِ وَمِنْهَا إخَافَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِصَدْمِهِمْ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ وَمِنْهَا تَلْوِيثُ ثِيَابِهِمْ بِالرَّاوِيَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَهَا مَكْشُوفَةً مُتَدَلِّيَةً مِنْ جَانِبَيْ الْجَمَلِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ بَيْعِهِمْ الْقِرْبَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَهَبُ ذَلِكَ ثُمَّ يَبِيعُهَا بَعْدُ عَلَى أَنَّهَا كَامِلَةٌ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيعُ الرَّاوِيَةَ ثُمَّ يَبِيعُ مِنْهَا شَيْئًا يَخْتَلِسُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَلَأَ الْقِرْبَةَ مِنْ الرَّاوِيَةِ رَبَطَ فَمَ الرَّاوِيَةِ رَبْطًا خَفِيفًا فَيَقْطُرُ مِنْهَا مَاءٌ كَثِيرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا يَفْرُغُ مِنْ سَكْبِ الرَّاوِيَةِ إلَّا وَقَدْ نَقَصَ مِنْهَا مَا لَا يَرْضَى بِهِ بَعْضُ الْمُشْتَرِينَ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُنْقِصَهُ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِهِ أَوْ يَتْرُكَ وَيُنْهَى السَّقَّاءُ عَنْ وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا مِنْهُ إذْ إنَّهُ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ كَمَا مَرَّ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الْقِرْبَةِ الَّتِي يَمْلَئُونَهَا مِنْ الرَّاوِيَةِ إذْ إنَّهُمْ يَمْلَئُونَ بِهَا وَفِيهَا خَرْقٌ فَيُلَوِّثُونَ بِهَا الْجُدْرَانَ وَالْأَرْضَ وَالسُّلَّمَ وَيَنْقُصُ الْمَاءُ بِسَبَبِهَا وَالْغَالِبُ الْمُرُورُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي الْوَقْتِ فَيَتَلَوَّثُ بِهَا ثِيَابُ الْمَارِّينَ وَأَطْرَافُهُمْ فَيَحْتَاجُونَ إلَى كُلْفَةٍ فِي غَسْلِهَا وَيَدْخُلُ لِبَعْضِهِمْ الشَّكُّ فِي صَلَاتِهِ إذَا أَصَابَ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ شَيْءٌ مِنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْجِدَارُ جِدَارَ مِرْحَاضٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ ذَلِكَ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى السَّقَّاءِ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ لِسَكْبِ الْمَاءِ أَنْ يَطْرُقَ بِرَأْسِهِ إلَى الْأَرْضِ ، وَلَا يَنْظُرَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا فِي مَوْضِعِ قَدَمِهِ وَفِي مَوْضِعِ سَكْبِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ حَاضِرًا فَإِنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِغَضِّ الطَّرْفِ فِي الطُّرُقَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً فَمَا بَالُك بِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ مَحْجُورَةٌ ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ فِي الطُّرُقَاتِ مُسْتَتِرَاتٌ بِخِلَافِ حَالِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْحَرِّ وَإِذَا لَمْ يَغُضَّ طَرْفَهُ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى السَّقَّاءِ أَنْ يَتَوَلَّى دُخُولَ الْبَيْتِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَكِلُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ أَمَانَةٌ .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَةُ صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ مِنْ كَوْنِهِ أَمِينًا عَفِيفًا دَيِّنًا فَفِي السَّقَّاءِ مِثْلُهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْغَالِبُ عَدَمُ الِاطْمِئْنَانِ لِغَيْرِهِ مِنْ الصِّبْيَانِ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَغُضُّ طَرْفَهُ إلَّا بِكُلْفَةٍ وَشِدَّةٍ فِي الْغَالِبِ فَيُخَافُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَفْعَلُ كَفِعْلِهِ فَتُتَوَقَّعُ الْفِتْنَةُ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْكُبَ فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ إذْ إنَّ ذَلِكَ خَلْوَةٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَالْخَلْوَةُ بِهَا مُحَرَّمَةٌ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْكُبَ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَنْ يَتَبَرَّجُ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى فَسَادِ الْقُلُوبِ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ كُنَّ يَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ لَا يُخْشَى عَلَيْهِنَّ لِصِيَانَتِهِنَّ إذْ إنَّ خُرُوجَهُنَّ عَلَى غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ يَحْرُمُ وَيُذْهِبُ عَنْهُنَّ مَا يَزْعُمْنَهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّعَفُّفِ إذْ لَوْ كُنَّ كَذَلِكَ لَمَا ظَهَرْنَ عَلَى غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْوُقُوفَ مَعَ السَّقَّاءِ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَشْبَهَهُ أَوْ يَكِلُ ذَلِكَ إلَى ذِي رَحِمٍ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ عَبِيدِهِ أَوْ عَبِيدِ أَهْلِهِ الْمَأْمُونِينَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ وُقُوعِ الْخَلْوَةِ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا مَضَى فِي صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ مِنْ أَنَّهُ يَضَعُ الطَّحِينَ عَلَى الْبَابِ وَيَتَوَارَى حَتَّى تَأْخُذَهُ الْمَرْأَةُ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا خَلْوَةَ فِيهِ بِخِلَافِ السَّقَّاءِ ( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّقَّاءَ يَتَوَلَّى مَا ذُكِرَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَكَانَتْ لَهُ ضَرُورَةٌ فَلْيَتَّخِذْ صَبِيًّا مُتَّصِفًا بِمَا اتَّصَفَ هُوَ بِهِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ الصَّبِيُّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَبِيعُ الْقِرْبَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَهَبُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْجَمَلِ ، ثُمَّ يَبِيعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَامِلَةٌ وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيعُهَا ثُمَّ بَعْدَ بَيْعِهَا يَهَبُ أَوْ يَبِيعُ مِنْهَا وَذَلِكَ خِلْسَةٌ وَخِيَانَةٌ لِصَاحِبِ الْجَمَلِ وَلِمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْجَمَلِ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ فَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ مِنْ بَابٍ أَحْرَى

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِدْلَالِ عَلَى بَعْضِ الْبُيُوتِ حَتَّى يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ لِأَمْرِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فَمَا بَالُك بِدُخُولِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَجِبُ أَدَبُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَبِهِ فَلْيَهْجُرْهُ وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي الْهِجْرَانِ تَرْكُ مُعَامَلَتِهِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ ثَمَنَ عِدَّةٍ رَاوِيًا مُعَجَّلًا مِنْ شَخْصٍ وَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الْفَرَّانُ فِي خَبْزِ طَبَقِ الْمُشَاهَرَةِ مَعَ خَبْزِ طَبَقِ النَّقْدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ السَّقَّاءُ بِأَنَّهُ يَخْتَارُ لَهُ الْوَقْتَ الَّذِي يَكْسُدُ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَاءُ فَيَسْكُبُهُ لَهُ فِيهِ أَوْ يَأْتِي لَهُ بِهِ فِي وَقْتٍ يَرْغَبُ النَّاسُ عَنْ سَكْبِ الْمَاءِ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ الْحَرِّ فَيَسْكُبُ لَهُ فِي الْقَائِلَةِ أَوْ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَقَلَّ أَنْ يَبْرُدَ وَيَبِيعَ أَوَّلَ النَّهَارِ بِالنَّقْدِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ وَغِشٌّ فِي حَقِّ مَنْ عَجَّلَ لَهُ ثَمَنَ الْمَاءِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَاءِ أَنْ تَكُونَ يَدَاهُ سَالِمَتَيْنِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرَّانِ إذْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَهَاوَنُونَ بِأَمْرِ النَّجَاسَاتِ وَالْمُسْتَقْذِرَات فَيُبَاشِرُونَهَا ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنْهَا

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ مِنْ الرَّاوِيَةِ بَعْضَهَا أَوْ وَهَبَهُ كَمَا سَبَقَ فَإِذَا سَكَبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي جَعَلَ فِي كُلِّ قِرْبَةٍ يَمْلَؤُهَا مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا أَوْ نَحْوًا مِنْهُ وَيُمْسِكُهَا بِصَنْعَةٍ لَهُ فِيهَا حَتَّى يُظْهِرَ لِلْغَيْرِ أَنَّهَا مَلْآنَةُ ، وَذَلِكَ لَا يُظْهِرُ لِمُشْتَرِيهَا عَدَدَ قِرَبِ الرَّاوِيَةِ فِي الْعَادَةِ حَتَّى لَا يَتَّهِمَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الرَّاوِيَةُ كَامِلَةً فَإِنَّهُ يَمْلَأُ الْقِرْبَةَ بِكَمَالِهَا لِيَفْرُغَ مِنْ سَكْبِ الرَّاوِيَةِ سَرِيعًا

( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي اللَّيَالِي الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي السَّنَةِ فِي الْقَرَافَةِ مِثْلَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَغَيْرِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُهُمْ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي تَيْسِيرِ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ إعَانَةٌ لَهُمْ فَيَكُونُ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي لُحُوقِ الْإِثْمِ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُشَاتَمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الْخَبِيثَةِ .

وَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي إذَا عَرَفَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْهَاهُ وَيَزْجُرَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَجَرَهُ ، وَمِنْ الْهِجْرَانِ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِهِمْ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ ذُكِرَ قَبْلُ مِنْ الصُّنَّاعِ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ أَصْلًا وَبَعْضُهُمْ يُخْرِجُونَهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا ثُمَّ يَقْضُونَهَا مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يُفَارِقُونَ الْمَاءَ طُولَ يَوْمِهِمْ وَالْمَسَاجِدُ مِنْهُمْ قَرِيبَةٌ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى قِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَشْيِهِمْ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَاءِ لِيَبِيعُوهُ ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يُفْسَحَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ : صَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ وَالتَّقَرُّبِ .

وَمِنْ النَّوَادِرِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ سَحْنُونَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ مِنْ الشَّيْءِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَسَلَّمَ : إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِسَابِ وَرَجَاءِ الثَّوَابِ .

قَالَهُ فِي كِتَابِ الْمُحَارَبِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْقَصَّابِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْجَزَّارِ " قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَاحِبِ الطَّاحُونِ وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَالْجَزَّارُ مِثْلُهُ بَلْ أَمْرُهُ أَعَزُّ لِإِحْلَالِهِ الذَّبِيحَةَ وَهِيَ أَمَانَةٌ وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ صَحِيحُهُمْ وَضَعِيفُهُمْ فَيُحْسِنُ نِيَّتَهُ مَا أَمْكَنَهُ فَيَكُونُ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالرِّزْقُ عَلَى الْخَالِقِ لَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَمَا سَبَقَ فِي غَيْرِهِ فَيَبْقَى بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّي أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ وَشَغْلُهُ بِصَنْعَتِهِ خَيْرٌ مُتَعَدٍّ فَهُوَ فِي عِبَادَةٍ عَظِيمَةٍ إذَا حَسُنَتْ النِّيَّةُ فِيهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي مَوْسِمٍ مِثْلِ الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا فِي الْحَجِّ وَسُنَّةِ الْعَقِيقَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فِي إعَانَتِهِمْ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ إذْ إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يُحْسِنُونَ الذَّبْحَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحْسِنُهُ لَكِنْ قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ لِضَرُورَاتٍ تَقَعُ لَهُ وَكُلُّ مَنْ أَعَانَ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ فَاعِلِهِ .

ثُمَّ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مُهِمَّاتِهَا ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ أَمَانَةٌ فَلَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا إلَّا أَمِينٌ لَا يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ إذْ إنَّ لَهَا أَحْكَامًا تَخُصُّهَا مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ وَشُرُوطِ الْفَسَادِ وَمَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْ الذَّبِيحَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَذْبَحُهَا عَالِمًا بِأَحْكَامِهَا ثِقَةً أَمِينًا خِيفَةَ أَنْ يُطْعِمَ الْمُسْلِمِينَ الْحَرَامَ وَيَأْخُذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ لَا قِيمَةَ لَهُ شَرْعًا .

فَفَرَائِضُهَا خَمْسٌ : وَهِيَ النِّيَّةُ : وَمَعْنَاهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذَبْحِهِ لَهَا تَحْلِيلَهَا لِمَنْ يَأْكُلُهَا .

وَالْفَوْرُ : وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا مُهْلَةَ فِيهِ .

وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ .

فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ لَمْ تُؤْكَلْ .

وَاخْتُلِفَ فِي أَرْبَعٍ إذَا لَمْ يَقْطَعْ الْمَرِيءَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا قَطَعَ النِّصْفَ فَأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَتْ الْجَوْزَةُ إلَى الْبَدَنِ وَإِذَا بَعَّضَ الذَّبْحَ فَرَفَعَ يَدَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الْفَوْرِ .

وَسُنَنُهَا أَرْبَعٌ : إحْدَادُ الْآلَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ تَبْرُدَ ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا كُرِهَ أَكْلُهَا إلَّا التَّسْمِيَةُ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ .

وَفَضَائِلُهَا أَرْبَعٌ : سَوْقُهَا إلَى مَوْضِعِ الذَّبْحِ بِرِفْقٍ وَإِضْجَاعُهَا عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ بِرِفْقٍ وَأَنْ يَجْعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى عَلَى صَفْحَةِ خَدِّهَا الْأَيْمَنِ وَأَنْ لَا يَذْبَحَ بَهِيمَةً وَالْأُخْرَى تَنْظُرُ إلَيْهَا

وَتَصِحُّ ذَكَاةُ مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا عَارِفًا بِالذَّبْحِ قَاصِدًا لِلتَّذْكِيَةِ .

، وَلَا تَصِحُّ مِنْ خَمْسٍ : صَغِيرٌ لَا يُمَيِّزُ الْعِبَادَاتِ وَمَجْنُونٌ وَسَكْرَانُ لَا يُمَيِّزُ مَا يَفْعَلُ وَمَجُوسِيٌّ وَمُرْتَدٌّ .

وَاخْتُلِفَ فِي ذَكَاةِ أَرْبَعٍ : الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ وَالْمَرْأَةُ وَالْكِتَابِيُّ إذَا وَكَّلَهُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَذْبَحَ لَهُ وَالْمُضَيِّعُ لِصَلَوَاتِهِ هَلْ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ أَمْ لَا .

وَتَصِحُّ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا - أَنْ تَكُونَ التَّذْكِيَةُ لَهُمْ .

وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُمْ أَكْلُهُ .

وَالثَّالِثُ - إذَا لَمْ يُهِلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ

وَعَلَامَةُ الْحَيَاةِ خَمْسٌ : سَيَلَانُ الدَّمِ وَطَرْفُ الْعَيْنِ وَرَكْضُ الرِّجْلِ وَتَحْرِيكُ الذَّنَبِ وَإِفَاضَةُ النَّفْسِ فِي الْحَلْقِ .

وَالْمَقَاتِلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا خَمْسَةٌ : وَهِيَ قَطْعُ النُّخَاعِ وَهُوَ الْمُخُّ الَّذِي فِي عِظَامِ الرَّقَبَةِ وَالصُّلْبِ ، وَقَطْعُ الْأَوْدَاجِ وَكَسْرُ أَعْلَى الظَّهْرِ وَانْتِثَارُ الْحَشْوَةِ وَانْتِثَارُ الدِّمَاغِ .

وَاخْتُلِفَ فِي انْشِقَاقِ الْكَرِشِ وَالْأَوْدَاجِ .

وَاخْتُلِفَ فِي الذَّكَاةِ بِثَلَاثَةٍ : الْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ .

فَإِنْ اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ الْفُرُوضِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهَا لَكِنْ يُنْتَفَعُ مِنْهَا بِخَمْسٍ : وَهِيَ الْجِلْدُ إذَا دُبِغَ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ وَالرِّيشُ إذَا غُسِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ .

وَيُكْرَهُ مِنْهَا أَرْبَعٌ : الْقَرْنُ وَالْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالظِّلْفُ .

فَإِذَا كَانَ الْجَزَّارُ مِمَّنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا أَمِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَكْلِ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ كَرِهَهُ لَهُمْ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَيِّنَ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ يَرْضَاهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِمُبَاشَرَةِ ذَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَكِلُ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ فِي الْغَالِبِ لَا تَطْمَئِنُّ لِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهَا شَيْءٌ لَا تُؤْكَلُ مَعَهُ فَيَكْتُمُ صَاحِبُهَا مَا طَرَأَ عَلَيْهَا لِلْأَسْبَابِ الطَّارِئَةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ الشُّحِّ عَلَى ذَهَابِ ثَمَنِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الذَّابِحُ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الْبَهَائِمِ مِمَّنْ قَدْ ارْتَضَاهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أُمِنَ عَلَى ذَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ لَا يَقُومُ بِهِمْ عَيَّنَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِهِمْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ .

وَعَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كُنْت أَعْهَدُ الْأَمْرَ بِمَدِينَةِ فَاسَ لَا يَذْبَحُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْبَهَائِمِ بَلْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَأَعْنِي بِالتَّقَدُّمَةِ فِي نَفْسِ التَّذْكِيَةِ لَيْسَ إلَّا .

وَأَمَّا السَّلْخُ وَغَيْرُهُ فَصَاحِبُ الْبَهِيمَةِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ لَا يُنَجِّسَ اللَّحْمَ عِنْدَ سَلْخِهَا بِالدَّمِ الْمَسْفُوحِ بَلْ يَتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُطْعِمَ الْمُسْلِمِينَ اللَّحْمَ الْمُتَنَجِّسَ إنْ تَرَكُوا غَسْلَهُ وَأَمَّا لَوْ غَسَلُوهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ،

بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَعْدَ غَسْلِهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَى الذَّبِيحَةِ بَعْدَ سَلْخِهَا مَعَ وُجُودِ سَلَامَةِ لَحْمِهَا مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَيُثْقِلُونَ بِهِ اللَّحْمَ فِي الْمِيزَانِ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لَا يَطْبُخَ اللَّحْمَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ السُّوقِ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ لِوُصُولِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَحْكَامُ السَّمِيطِ وَالْحُكْمُ فِيمَنْ يَبِيعُ السَّمِيطَ وَالسَّلِيخَ مَعًا فِي دُكَّانٍ وَاحِدَةٍ .

وَمَا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ السَّلِيخَ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَبِيعُ السَّمِيطَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُ السَّلِيخِ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ يَدَ الْجَزَّارِ وَسِكِّينَهُ مُتَنَجِّسَتَانِ بِمَا نَالَهُمَا مِنْ السَّمِيطِ

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْبُطُونُ فَمَنْ اشْتَرَاهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهَا قَبْلَ طَبْخِهَا إذْ إنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ غَالِبًا وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْهَا فِي الْمَاءِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهُ عَلَى الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَدْخُلُهُ لِكَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَهَا فِي الْمَاءِ فَتَثْقُلُ فِي الْوَزْنِ فَمَا يُعْرَفُ كَمْ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ ، وَلَا كَمْ وَزْنُهَا فِي نَفْسِهَا ، وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَجْعَلُونَهَا فِيهِ مُتَغَيِّرٌ بِالدَّمِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا وَزْنًا بَلْ جُزَافًا ثُمَّ يُطَهِّرَهَا فِي بَيْتِهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَزَّارِ أَنْ لَا يَخْلِطَ لَحْمًا طَرِيًّا بِلَحْمٍ بَائِتٍ وَيَبِيعَهُ عَلَى أَنَّهُ طَرِيٌّ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غِشٌّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَلَا تَتَخَلَّصُ ذِمَّتُهُ بِمَا يَتَأَوَّلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ اللَّحْمَ إذَا بَاتَ نَقَصَ عَلَى بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ لَمْ يَرْضَ بِهِ فِي الْغَالِبِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ إذَا بَاتَ ؛ لِأَنَّ قُوَّتَهُ قَدْ نَقَصَتْ وَلِأَنَّ الْعِلَلَ وَالْأَمْرَاضَ تَحْدُثُ بِسَبَبِ أَكْلِهِ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الذَّبِيحَةُ قَلِيلَةَ الشَّحْمِ يَجْعَلُ مَعَهَا شَحْمَ غَيْرِهَا لِكَيْ يُرْغَبَ فِي شِرَاءِ اللَّحْمِ لِكَثْرَةِ دُهْنِهِ وَهَذَا غِشٌّ { وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ فِي مَوَاسِمِ النَّصَارَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُمْ وَفِيهِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ تَعْظِيمٌ لِمَوَاسِمِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ مُنَزَّهُونَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ فِي مَوْضِعٍ مُسْتَدِيرٍ فَلَا يُصَادِفُ الْقِبْلَةَ إلَّا بَعْضُهُمْ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِهَا سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ وَفِيمَنْ تَرَكَهَا خِلَافٌ هَلْ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَمْ لَا كَمَا تَقَدَّمَ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى تَأْتِيَ نَوْبَتُهُ لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَحِينَئِذٍ يَذْبَحُ إلَيْهَا .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاعْتِنَاءُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَوِيٌّ فِيمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ هَلْ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَمْ لَا .

لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّسْمِيَةِ أَقْوَى .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الذَّبِيحَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى تَحْلِيلَهَا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ لَهُ فِي الذَّبِيحَةِ شَيْءٌ مِنْ الْفُرُوضِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ غِشٌّ وَ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا }

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى الذَّبْحَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَفِّظًا عَلَى صَلَوَاتِهِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ مُخْتَلَفٌ فِي ذَبِيحَتِهِ هَلْ تُؤْكَلُ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ مَرَّ فَإِنْ ذَبَحَ وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّ وَتَابَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الشَّرَائِحِيِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَدْ مَرَّ فِي نِيَّةِ الْجَزَّارِ مَا مَرَّ ، فَالشَّرَائِحِيُّ مِثْلُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ .

أَعْنِي فِي التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفُوا مُحَاوَلَةَ ذَلِكَ ؛ لِأَنْفُسِهِمْ لِمَا وَرَدَ { وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } لَكِنَّ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ تُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْهَا أَنْ لَا يَخْلِطَ لَحْمًا لِشَخْصٍ بِلَحْمٍ لِغَيْرِهِ ، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَهُ .

وَكَذَلِكَ لَا يَخْلِطُ شَيْئًا مِمَّا يَطْبُخُهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ خَلْطِ الشَّيْرَجِ وَغَيْرِهِ وَخَلْطِ الْأَفَاوِيهِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا وَمُوَافِقًا وَالِاحْتِرَازُ فِي هَذَا أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي اخْتِلَاطِ الطَّحِينَيْنِ وَإِنْ كَانَا مَعًا وَاجِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي كَسْبِهِمْ وَفِيمَا يَشْتَرُونَ بِهِ آلَاتِ الْأَطْعِمَةِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الشَّرَائِحِيَّ يَطْبُخُ لِمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي كَسْبِهِ ، وَلَوْ كَانَ حَالُهُ مَرْضِيًّا لَمْ يَجُزْ وَأَكْثَرُ مَنْ يَتَعَاطَى هَذَا السَّبَبَ يَتَسَاهَلُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَ الْقِدْرَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَقْذَرِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلًا سَالِمًا بَلْ يَغْسِلُ كُلَّ وِعَاءٍ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ نَظِيفٌ يُبَاشِرُ بِهِ الْغَسْلَ وَالتَّنْظِيفَ كَاللِّيفَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فِي الْخُشُونَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ رَآهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ غِشًّا .

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْخِرَقِ الَّتِي يَغْسِلُونَ بِهَا آنِيَتَهُمْ وَيَمْسَحُونَهَا بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا خِرَقُ الْحَيْضِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ إذْ إنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِتَطْهِيرِهَا وَقَدْ يَبْقَى فِيهَا بَقِيَّةٌ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا ، وَلَوْ

غَسَلَهَا بَعْدَ شِرَائِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمَا شَاكَلَهَا فَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } فَإِذَا أَعْلَمَهُ وَلَمْ يَرْضَ بِأَخْذِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لَهُ .

وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ لَا يَطْبُخَ عِنْدَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنْ فَعَلَ مَعَ عِلْمِهِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا وَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الطَّعَامِ إنْ شَارَكَهُ أَحَدٌ فِيهِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا أَنْفَقَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَالْغِشُّ مُحَرَّمٌ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الْقُدُورِ أَوْ بَعْضِهَا مَكْشُوفَةً بِأَثَرِ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُسْرِعُ إلَيْهَا وَقَدْ يُلْقِي فِيهَا شَيْئًا مِنْ سُمِّهِ ثُمَّ يَغْسِلُهَا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِمَا جَرَى فِيهَا فَقَدْ لَا يُبَالِغُ فِي غَسْلِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى إتْلَافِ النُّفُوسِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ فَإِنْ تَرَكَ غَسْلَهَا نَاسِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ الَّذِي طُبِخَ لَهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَقَدْ غَشَّ { وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .

وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى طَعَامِ النَّاسِ مِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ فِي الدُّكَّانِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ فَإِنْ عَلِمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إعْلَامُ صَاحِبِهِ لِيَتَحَلَّلَ مِنْهُ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذِمَّتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا .

وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ نَظَافَةِ أَيْدِيهِمْ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا غَسَلَ الْقُدُورَ مِمَّا كَانَ فِيهَا أَنْ يُغَطِّيَهَا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ غَسَلَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ رَائِحَةِ مَا كَانَ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَجِيءِ الْحَيَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ وَيَنْبَغِي إذَا طَبَخَ فِي قُدُورٍ وَأَفْرَغَ مَا فِيهَا لِصَاحِبِهِ وَغَطَّاهَا وَلَمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ بَاتَتْ وَأَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ فِيهَا أَنْ يَغْسِلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَطْعِمَةِ إذَا بَقِيَ أَثَرُهَا يُخَافُ مِنْ ضَرَرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَعَافُهُ نَفْسُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا طَبَخَ فِيهَا ثُمَّ أَفْرَغَهُ مِنْهَا ثُمَّ طَبَخَ فِيهَا الْآخَرَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ صَاحِبَ الطَّعَامِ الثَّانِي لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فِي طَحِينِ شَخْصٍ بَعْدَ طَحِينِ شَخْصٍ آخَرَ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ أَنْ لَا يَطْبُخَ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ فَلْيَفْعَلْ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَمُرُّونَ عَلَى دُكَّانِهِ وَيَشُمُّونَ تِلْكَ الرَّوَائِحَ وَفِيهِمْ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ وَالصَّغِيرُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْحَامِلُ وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِ الطَّعَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَطْلُبُ وَهُوَ الْغَالِبُ ، وَمَنْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَإِنْ أُعْطِيَ فَالنَّزْرُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَرُدُّ شَهْوَتَهُ وَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا وَالْغَالِبُ عَدَمُ حُضُورِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَرَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَذِيَّةِ الْجَارِ بِرَائِحَةِ الْقِدْرِ هَذَا وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ جِدَارٌ فَمَا بَالُك بِمَا يُطْبَخُ فِي السُّوقِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ وَيَشُمُّونَ رَائِحَتَهُ فَالْغَالِبُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْخِلَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ } سِيَّمَا إنْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَمَعَهُمَا صَغِيرٌ أَوْ صِغَارٌ ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ .

وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَنْ يُكْثِرَ الْمَرْءُ الْمَرَقَةَ فِي طَعَامِهِ لِيُعْطِيَ الْجِيرَانَ مِنْهَا .

فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ احْتَاجَ إلَى الطَّبْخِ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الْمَرَقَةِ وَيُكْثِرَ مِنْ الْإِعْطَاءِ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهَذَا أَمْرٌ عَسِرٌ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْبُخَ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِرَائِحَةِ الْقِدْرِ فِي الْبَيْتِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي السُّوقِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُطْعِمَ الْجِيرَانَ مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعِلَّةَ فِي إطْعَامِ الْجَارِ وَهِيَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ

جَارَهُ بِرَائِحَةِ قِدْرِهِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ أَوْجَدُ فِيمَا طُبِخَ فِي السُّوقِ وَالْمُكَلَّفُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَتَشَرَّفُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْجِيرَانِ .

وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

( فَصْلٌ ) وَيُشْتَرَطُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ مَا اُشْتُرِطَ فِي صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ وَفِي السَّقَّاءِ وَصَبِيِّهِ .

وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الطَّعَامِ إذَا أَتَى لَهُ بِهِ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ حَامِلَهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ .

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَنْ يُبَاشِرُهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ } وَيَنْبَغِي لِلشَّرَائِحِيِّ إذَا أَرْسَلَ الْقِدْرَ مَعَ صَبِيِّهِ إلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُغَطِّيَهَا ؛ لِأَنَّ بِتَغْطِيَتِهَا تَقِلُّ أَذِيَّةُ النَّاسِ بِرَائِحَتِهَا وَمِنْ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ النَّظَرُ لِمَا فِيهَا فَتَكُونُ التَّغْطِيَةُ مُتَعَيِّنَةً لِمَا ذُكِرَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ هُوَ الْحَامِلُ لَهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ أَيْضًا بِتَغْطِيَتِهَا لَكِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّبَّاخِ الَّذِي يَبِيعُ فِي السُّوقِ فَيَنْوِيَ بِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الشَّرَائِحِيِّ .

لَكِنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ بِطَبْخِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ بِمَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُمْ فِي مُحَاوَلَتِهِ .

وَيُعْتَبَرُ فِي تَصَرُّفِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرَائِحِيِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرَائِحِيَّ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُغَطِّيَ مَا طَبَخَهُ إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَاحِبِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّشَوُّفِ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَكْشُوفًا وَالطَّبَّاخُ إذَا تَرَكَ طَعَامَهُ مَكْشُوفًا تَشَوَّفَتْ إلَيْهِ النُّفُوسُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي حَقِّ الطَّبَّاخِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ غَطَّى طَعَامَهُ تَعَذَّرَتْ رُؤْيَةُ الْمُشْتَرِي لَهُ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْ بَيْعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَنْوِي بِطَبْخِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فَيَنْبَغِي لَهُ إظْهَارُ طَعَامِهِ لِيَتِمَّ لَهُ قَصْدُهُ وَإِذَا كَشَفَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ خَاطِرُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَمَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا وَفِيهِ عُيُونُ أُولَئِكَ فَيَحْتَاجُ مَنْ يَشْتَرِيهِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُبَالِغُ فِي الْإِطْعَامِ مِنْهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ الطَّعَامِ قَلِيلًا فَيُعْطِي مِنْهُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ ، وَلَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ لِمَنْ يَرَى أَنَّ الدَّفْعَ لَهُ أَصْلَحُ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَإِذَا حَمَلَهُ إلَى بَيْتِهِ فَتَغْطِيَتُهُ مُتَعَيِّنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الطَّبَّاخِ أَنْ لَا يَطْبُخَ إلَّا لَحْمًا مُنْفَرِدًا لَا يَخْلِطُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ اللُّحُومِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ خَلْطِهِمْ اللَّحْمَ الضَّانِيَ مَعَ الْبَقَرِيِّ وَيَبِيعُونَهُ كُلَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ ضَأْنٍ وَهَذَا كُلُّهُ غِشٌّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ

أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ اللَّحْمَ الْبَقَرِيَّ الصَّغِيرَ وَيَطْبُخُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ ضَأْنٍ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيتُ عِنْدَهُمْ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ وَطَبَخُوا اللَّحْمَ الطَّرِيَّ خَلَطُوا مَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي طَبَخُوهُ بِالْأَمْسِ وَبَاعُوهُ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا طُبِخَ الْيَوْمَ وَذَلِكَ غِشٌّ وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا .

وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِيَ بِمَا فَعَلَهُ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ فَإِنْ فَاتَ الطَّعَامُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ كُلِّ مَنْ بَاعَهُ لَهُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَذِمَّتُهُ مَشْغُولَةٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ رَدُّ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمَا .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا طَبَخَ اللَّحْمَ صَلَقَهُ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى النُّضْجِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا - أَنْ يَثْقُلَ فِي الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَضِجَ خَفَّ فِي الْوَزْنِ .

وَالثَّانِي - خِيفَةَ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَدْخُلَهُ الرَّائِحَةُ لِنُضْجِهِ .

وَالثَّالِثُ - أَنَّ النَّاضِجَ مِنْ اللَّحْمِ إذَا بَاتَ يَظْهَرُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْغَالِبِ أَنَّهُ بَائِتٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ طَرِيًّا فَإِنَّهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَاتَ اللَّحْمُ عِنْدَهُمْ مَطْبُوخًا اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ شِرَاءِ اللَّحْمِ فِي يَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَطَبَخُوا الطَّعَامَ بِالدُّهْنِ فَقَطْ وَبَاعُوا اللَّحْمَ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَحْمٌ طَرِيٌّ طُبِخَ بِهِ هَذَا الطَّعَامُ الْيَوْمَ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطْبُخُونَ اللَّحْمَ السَّمِيطَ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُمْ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَحْمٌ طَرِيٌّ ، وَلَا يُبَيِّنُونَ ، وَلَوْ بَيَّنُوهُ لَمْ يَجُزْ لِمَا تَقَدَّمَ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلِطُ مَعَهُ لَحْمَ السَّلِيخِ وَيَطْبُخُونَهُمَا مَعًا وَهُوَ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمِثْلُهُمَا فِي الْمَنْعِ الدُّهْنُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ دُهْنَ الْبُدْنِ ؛ لِأَنَّهُ دُهْنُ السَّمِيطِ فِي الْغَالِبِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الطَّبْخِ فِي قُدُورِ الْبِرَامِ الْمَشْعُوبَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُشَعِّبُهَا يَطْلِي عَلَيْهَا بِالدَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى نَجَاسَتِهِ فَيَتَنَجَّسُ مَا طُبِخَ فِيهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُغْسَلَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَرَقَةُ الطَّعَامِ فَلَا يَشْتَرِيهَا وَزْنًا إلَّا أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهَا غَيْرُهَا فَإِنْ اخْتَلَطَ بِهَا غَيْرُهَا تَعَيَّنَ شِرَاؤُهَا جُزَافًا .

مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ الْمَرَقَةُ فِيهَا حِمَّصٌ أَوْ أَرُزٌّ أَوْ سِلْقٌ أَوْ قُلْقَاسٌ أَوْ بَاذِنْجَانٌ أَوْ دُبَّاءُ أَوْ جَزَرٌ أَوْ كُرُنْبٌ أَوْ لُفْتٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ مَرَقَتِهِ عَلَى الْوَزْنِ لِدُخُولِ الْجَهَالَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مُغَابَنَةٍ .

وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُرِيدُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَكْثَرَ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُ أَقَلَّ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَزْنًا وَيَجُوزُ جُزَافًا بَعْدَ أَنْ يُجْعَلَ فِي وِعَاءِ الْمُشْتَرِي وَيَطَّلِعَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْمَرَقَةِ وَغَيْرِهَا ، وَمِثْلُ هَذَا شِرَاءُ الْعَدَسِ وَالْبِسِلَّةِ الْمَطْبُوخَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَفِيهِمَا السِّلْقُ وَالْقُلْقَاسُ فَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ ذَلِكَ وَزْنًا كَمَا تَقَدَّمَ وَيَجُوزُ جُزَافًا بِشَرْطِ مُعَايَنَةِ الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ كَمَا سَبَقَ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ اللَّبَّانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ اللَّبَّانَ يَنْبَغِي لَهُ أَوَّلًا أَنْ يَنْوِيَ بِمُحَاوَلَةِ اللَّبَنِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ هُوَ الْقُوتُ وَالطَّعَامُ نَوْعٌ مِنْ إدَامِهِ وَاللَّبَنُ أَشْرَفُ ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ وَإِدَامٌ إذْ إنَّهُ قَدْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَيُحْضِرُ نِيَّتَهُ عِنْدَ مُحَاوَلَتِهِ لَهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالنِّيَّةُ لَا تَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِمُرَاعَاةِ إتْبَاعِ لِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ وَأَوْجَبُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا أُحْدِثَ فِيهِ .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللَّبَنَ إلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا بِمُعَايَنَةٍ لَهُ فَيَجُوزُ بِشُرُوطِ الْبَيْعِ ، وَإِمَّا أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ فَيَجُوزُ بِشُرُوطِ السَّلَمِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ ارْتِكَابِ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ خَالَفُوا فِيهَا الشَّرْعَ الشَّرِيفَ وَهُوَ أَنَّ اللَّبَّانَ يَأْخُذُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ اللَّبَنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ مَعَ صَاحِبِ اللَّبَنِ عَلَى ثَمَنٍ مَعْلُومٍ ، وَلَا مُعَاقَدَةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَقُولُ لَهُمْ كَبِيرُهُمْ مِنْ السِّعْرِ فِي آخِرِ الْجُمُعَةِ فَيَئُولُ أَمْرُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي آخِرِ الْجُمُعَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي سِعْرِ اللَّبَنِ فَإِنَّ صَاحِبَ اللَّبَنِ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ وَاللَّبَّانُ يُنَازِعُهُ فِيهَا ، وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ الْعَادَةُ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ شِرَائِهِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَرَى ذَلِكَ إلَى مَا يُطْبَخُ بِهِ مِنْ الْأَرُزِّ وَغَيْرِهِ وَسَبَبُ وُقُوعِهِمْ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى أَمْرِ الشَّرْعِ

الشَّرِيفِ وَنَهْيِهِ فَلَوْ سَأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْهُ لَبَيَّنُوا لَهُمْ الْحُكْمَ فِيهِ وَعَرَفُوهُ .

وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ ، وَلَا مَا عُمِلَ فِيهِ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّ مَنْعَهُ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْفَحَةَ الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا الْجُبْنُ نَجِسَةٌ .

لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَةِ الْإِنْفَحَةِ وَطَهَارَتِهَا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَبَوْلُهُ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي مَنْعِهِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ صَبْغِ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ حَتَّى يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْنُهُ يَمِيلُ إلَى الصُّفْرَةِ وَهَذَا غِشٌّ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ عَادَةٌ قَدْ عُلِمَتْ بِالْعُرْفِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الْمَذْمُومَةَ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لَا تُرَاعَى ، وَلَا يُرْجَعُ إلَيْهَا وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَلَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ .

وَهَذَا ضِدُّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِتَرْكِ الْغِشِّ لَهُمْ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُهْمِلُونَ تَغْطِيَةَ أَوَانِي اللَّبَنِ وَتَغْطِيَتُهَا مُتَعَيِّنَةٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا لَبَنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ يَتَتَبَّعُ الرَّائِحَةَ فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ فِيهِ لَبَنٌ أَلْقَى سُمَّهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فَارِغًا فَكَذَلِكَ فَيُخَافُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْهُ يُصِيبُهُ مَا يُكْرَهُ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى إتْلَافِ النُّفُوسِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَسْلُ أَوَانِي اللَّبَنِ وَتَنْظِيفُهَا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كُلَّ إنَاءٍ عَلَى حِدَتِهِ وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَغْسِلُ الْأَوْعِيَةَ بِالْمَاءِ الَّذِي غَسَلَ بِهِ الْوِعَاءَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَهَكَذَا وَذَلِكَ لَا يُزِيلُ الرَّائِحَةَ بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِقْذَارِ .

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ الْحَلِيبَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْأَوَانِي لَهُ ذَفِرَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْمَلْ فِيهَا .

وَقَدْ يَكُونُ بِظَاهِرِ الْوِعَاءِ مِنْ أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ وَهُمْ يَغْسِلُونَ ظَاهِرَ الْوِعَاءِ وَبَاطِنَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ فَإِذَا غَسَلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ نَجَّسَهُ وَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ كُلَّ إنَاءٍ وَحْدَهُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا تَقَدَّمَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَغْطِيَتُهَا بَعْدَ غَسْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا لَبَنَ فِيهَا لِمَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَلَوْ فُرِضَتْ السَّلَامَةُ مِنْ ذَلِكَ لَتَعَيَّنَتْ تَغْطِيَتُهَا لِمَا يُخْشَى مِنْ وُقُوعِ الذُّبَابِ وَالْغُبَارِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الصِّحَافِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا اللَّبَنُ لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يَغْسِلُونَهَا وَمَنْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ يَغْسِلُهَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ الْمَاءُ وَإِنْ كَانَ طَهُورًا فَقَدْ تَنَجَّسَ بِغَسْلِ الْوِعَاءِ الْأَوَّلِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُوقِدُونَ عَلَيْهَا بِالنَّجَاسَةِ هَذَا إنْ كَانَ طِينُ الصِّحَافِ طَاهِرًا فَيَحْتَاجُ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ أَنْ يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَسْلُ كُلِّ إنَاءٍ عَلَى حِدَتِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَنَجَّسَ اللَّبَنُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ ثَمَنَهُ لِمُشْتَرِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُطَهِّرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَبَعْضُهُمْ يَنْفُضُ مَا فِيهَا مِنْ الْغُبَارِ وَيَجْعَلُ فِيهَا اللَّبَنَ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ وَالْحُكْمُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ

اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ وَيَضْطَرُّونَ إلَيْهَا كَثِيرًا ؛ لِأَنَّهُ بِهَا يَسْتَتِرُ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي وَالْمُخْلِطُ وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } أَيْ سَتْرًا لِعَوْرَاتِكُمْ فِي حَالِ حَيَاتِكُمْ وَسَتْرًا لِجِيَفِ أَجْسَادِكُمْ بِالدَّفْنِ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نِيَّةِ الْخَبَّازِ وَالْفَرَّانِ وَالسَّقَّاءِ مَا تَقَدَّمَ فَمِثْلُهُ فِي الْبَنَّاءِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِيَامَ بِهَذَا الْفَرْضِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَى الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ شَأْنَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ فَمَنْ قَامَ بِهِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ وَمَعَ هَذَا فَمَنْ فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ قَائِمًا بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَيَرْجِعُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ كُلُّ عَمَلِهِ لِلْآخِرَةِ صَرْفًا وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بَعْدَ حُصُولِ حَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ دُنْيَاهُ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَاهُ إلَّا مَا قُسِمَ لَهُ وَمَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ نَالَ مِنْ آخِرَتِهِ مَا أَحَبَّ وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَا قُسِمَ لَهُ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ بِنَاءَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى صِفَةِ الْبُنْيَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُيُوتَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يُشْبِهُ بِنَاءَ السَّلَفِ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ بِخَشَبِ النَّخْلِ وَجَرِيدِهِ وَبِالْقَصَبِ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ بِنَاءِ السَّلَفِ ، ثُمَّ

مَعَ ذَلِكَ فَكَثِيرٌ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا صَغِيرَةٌ ضَيِّقَةٌ فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِبُنْيَانِ السَّلَفِ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ الْخَارِقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَنْبَغِي لِلْبَنَّاءِ أَنْ لَا يَعْمَلَ عِنْدَ صَاحِبِهِ شَيْئًا إلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَغْضَبَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَدْعُوَ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ صَاحِبِ الْبُنْيَانِ أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا مِمَّا اصْطَلَحَ عَلَى فِعْلِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ الزَّخْرَفَةِ وَالطِّلَاءِ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ عِنْدَهُ وَيَتَجَشَّمَ الْمَشَقَّةَ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَكُونَ مُعِينًا عَلَى إضَاعَةِ الْمَالِ وَالسَّرَفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنَ عَلَى الصَّانِعِ إذَا عَمِلَ أَنْ يَنْصَحَ صَاحِبَ الْعَمَلِ فِيمَا هُوَ يَعْمَلُ لَهُ وَأَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةَ فَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَ مَعَ وُجُودِ النَّصِيحَةِ فِي الْبُنْيَانِ حَتَّى لَا يَخْتَلَّ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْ الْمُؤْنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْبِنَاءِ .

وَكَثِيرٌ مِنْ الْبَنَّائِينَ مَنْ يَرْتَكِبُ هَذَا وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ } وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ } وَمِنْهُ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ }

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ كَثِيرَةٍ يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِهِ بَعْضَهَا أَوَّلًا وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ لَهُ ثُمَّ إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ طَلَبَ زِيَادَةَ الْمُؤْنَةِ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ أَضْعَافَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا وَهَذَا غِشٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ جُمْلَةَ ذَلِكَ أَوَّلًا لَأَخَّرَ أَمْرَهُ إلَى أَنْ يُيَسَّرَ عَلَيْهِ فَأَوْقَعَهُ بِسَبَبِ الْكَذِبِ فِي التَّكَلُّفِ بِأَخْذِ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ إلَى تَمَامِ الْبِنَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِ إذْ إنَّهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ فِي الْغَالِبِ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ فِي الْعَمَلِ لِكَيْ يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يَنْصَحُونَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يُسْرِعُ الْإِخْلَالُ بِالْعَمَلِ فَتَكُونُ طُوبَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّ الْجِدَارِ وَأُخْرَى دَاخِلَةٌ فِيهِ بِسَبَبِ الْإِسْرَاعِ وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْعَمَلِ وَنَقْصٌ فِي الصَّنْعَةِ وَبِسَبَبِهِ يَحْتَاجُ إلَى التَّرْمِيمِ عَنْ قُرْبٍ لِضَعْفِ الْجِدَارِ بِسَبَبِ الْخَلَلِ الَّذِي بَيْنَ الطُّوبِ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَكْسِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ الطُّوبَةَ فِي يَدِهِ وَيَنْظُرُهَا وَيُقَلِّبُهَا وَيَنْحِتُهَا ، وَلَا يَضَعُهَا فِي مَوْضِعِ الْعَمَلِ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ وَذَلِكَ مُضِرٌّ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ بِذَلِكَ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا الْقَلِيلَ وَالْمُتَعَيَّنُ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَسَطُ لَا الْإِسْرَاعُ الْمُخِلُّ بِالْعَمَلِ ، وَلَا الْبُطْءُ الْمُضِرُّ بِصَاحِبِهِ { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مِمَّا يُعْمَلُ بِالطِّينِ وَالْجِيرِ أَنْ يَتَحَرَّى اعْتِدَالَ قَدْرِهِمَا فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَكْثَرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَقَصَ مِنْ الْآخَرِ اخْتَلَّ الْعَمَلُ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَفَقَّدُ بِالسَّقْيِ عَلَى قَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْجِيرُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى السَّقْيِ بَعْدُ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعَمَلُ قُرْبَ مَوْضِعٍ يَكُونُ مَكْشُوفًا لِلشَّمْسِ فَيَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ كَثِيرًا وَآخَرُ يَكُونُ فِي الظِّلِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَقَلِّ مِنْ الْأَوَّلِ وَآخَرُ يَكُونُ فِي السِّبَاخِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَقَلِّ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ عُكِسَ فِي السَّقْيِ أَخَلَّ بِالْعَمَلِ وَأَضَرَّ بِصَاحِبِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِقَدْرِ السَّقْيِ لِكُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ فِي عَمَلِهِ فَلَا يَبْنِي بِالْجِبْسِ فِي مَوْضِعِ السِّبَاخِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْعَمَلِ وَغِشٌّ لِصَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَ بِالطِّينِ وَالْجِيرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَبْنِي كُلَّ وَاحِدٍ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ وَيَبْقَى مَعَهُ وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ بَذْلِ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ إلَّا مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالدِّينِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الدُّورِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تُوُقِّعَتْ الْمَفَاسِدُ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لِلْحَرِيمِ أَنْ يَخْرُجْنَ عَلَيْهِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْعَمَلِ حَاضِرًا نَصَحُوا فِي الْعَمَلِ وَلَمْ يَتَوَانَوْا وَإِذَا كَانَ غَائِبًا اشْتَغَلُوا فِي الْحَدِيثِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَأَبْطَئُوا فِي الْعَمَلِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا قَعَدُوا لِلْأَكْلِ أَبْطَئُوا كَثِيرًا وَذَلِكَ يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ بَلْ يَأْكُلُونَ مُسْرِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخِلُّوا بِالسُّنَّةِ فِي أَكْلِهِمْ مِثْلُ تَصْغِيرِ اللُّقْمَةِ وَتَطْوِيلِ الْمَضْغَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا

فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الصَّانِعِ وَمَنْ يَكُونُ مَعَهُ التَّحَفُّظُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَيُبَادِرُونَ إلَى إيقَاعِهَا فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ بِتَوَابِعِهَا وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أُدِّبَ الْأَدَبَ الشَّرْعِيَّ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الْعَمَلِ أَوْ مَنْ يَعْمَلُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تُوقَعُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَتَوَابِعُهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِجَارَةِ .

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ، وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }

فَصْلٌ فِي الصَّائِغِ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الصَّائِغَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ حَسَنَةً وَيُشْعِرَ نَفْسَهُ بِهَا حِينَ التَّلَبُّسِ بِمَا يُحَاوِلُهُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ صَنْعَتِهِ إنَّمَا هُوَ لِزَخْرَفَةِ الدُّنْيَا فَيُزِيلُ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ الْحَسَنَةِ ، وَكَيْفِيَّتُهَا أَنْ يَنْوِيَ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَالتَّفْرِيجِ عَنْهُمْ وَتَتْمِيمِ مَقَاصِدِهِمْ الْمَحْمُودَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ } وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ الزِّينَةُ وَأَعْظَمُهَا وَأَفْخَرُهَا لُبْسُ الْحُلِيِّ فَإِذَا نَوَى إعَانَتَهُمْ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِهِمْ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَيَبْقَى فِي عِبَادَةٍ وَخَيْرٍ دَائِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي صَنْعَتِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الرِّبَا وَيُوقِعُ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَشْتَرِي مِنْهُ فِيهِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ نِيَّتَهُ الَّتِي نَوَاهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُفْسِدُهَا مِثْلَ أَنْ يَعْمَلَ أَوْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ لِامْرَأَةٍ مُتَّهَمَةٍ بِالْبِغَاءِ أَوْ مُتَبَرِّجَةٍ وَإِنْ لَمْ تُتَّهَمْ بِذَلِكَ .

فَإِنَّ فِعْلَ هَذَا مِمَّا يُفْسِدُ بِهِ قُلُوبَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ مَعَ امْرَأَةٍ إلَّا فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِمَّا يُحَاوِلُهُ لَهَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ يَبِيعُ لَهَا أَوْ يَشْتَرِي مِنْهَا ، وَلَا يَتْرُكُهَا تَكْشِفُ شَيْئًا مِنْ مِعْصَمِهَا أَوْ سَاقِهَا أَوْ غَيْرِهِمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِأَنْ تَقِيسَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ بِخَيْطٍ وَتَأْتِي بِهِ مَعَهَا أَوْ تَأْتِي بِسِوَارٍ يَقِيسُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ تَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَائِلٍ عَلَى يَدِهَا وَتَقِيسُهُ لِنَفْسِهَا مِنْ تَحْتِ إزَارِهَا أَوْ تَصِفُ لَهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ .

وَمِثْلُ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا فِي الْخُفِّ ، وَلَا تَتَكَلَّمُ عِنْدَ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَجْعَلُ أُصْبُعَهَا فِي فَمِهَا حِينَ كَلَامِهَا لِتُخَشِّنَ كَلَامَهَا مَهْمَا اسْتَطَاعَتْ .

وَهَذَا كُلُّهُ إذَا عَدِمَتْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ فَإِنْ وَجَدَتْ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا فِتْنَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُفْتَتَنُ بِهَا فَيُكْرَهُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِكُلِّهِنَّ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْمُتَجَالَّةِ الَّتِي لَا إرَبَ لِلرِّجَالِ فِيهَا .

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } فَإِنْ لَمْ تَجِدْ الْمَرْأَةُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فَتُرْسِلُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَجَالَّاتِ اللَّاتِي لَا يُنْظَرُ إلَيْهِنَّ ، وَلَا يُعْبَأُ بِهِنَّ ، وَلَا فِتْنَةَ فِي صُوَرِهِنَّ ، وَلَا فِي كَلَامِهِنَّ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَلْتَسْتَغْنِ عَنْ الْحُلِيِّ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهَا عِنْدَ رَبِّهَا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا وَإِذَا وَجَدَتْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِمَّنْ ذُكِرَ فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْكَامِ الرِّبَا وَالصَّرْفِ وَكَيْفِيَّةِ تَخْلِيصِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ وَمَا شَاكَلَهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَعْلَمُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا إرْسَالُهُ .

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهَا إنْ تَوَلَّتْ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا ،

وَكَذَلِكَ فِي زَوْجِهَا وَذَوِي مَحَارِمِهَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ النِّسَاءَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُنَّ فِي الْغَالِبِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ، وَلَا يَجِدْنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُنَّ فِيهَا غَالِبًا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْرِفَ أَمْرَ دِينِهَا مِثْلَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَذَلِكَ فِي شِرَاءِ حَوَائِجِهَا وَكَمَا تَخْرُجُ لِقَضَاءِ مَا تُضْطَرُّ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالسُّؤَالِ تَمْضِي فِي قَضَاءِ حَاجَتِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَهَذَا أَمْرٌ سَهْلٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : مَعْنَاهُ مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَةَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ فَلَيْسَتْ بِطَاعَةٍ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الصَّائِغَ يَقْعُدُ فِي دُكَّانِهِ وَيَمْتَلِئُ عَلَيْهِ الدُّكَّانُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ بِالنِّسَاءِ مَعَ كَوْنِهِ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ وَيُبَاشِرُهُنَّ بِيَدِهِ حِينَ قِيَاسِ مَا صَاغَهُ لَهُنَّ فَيَتَعَيَّنُ الْحَذَرُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْقُلُوبَ وَيُخِلُّ بِالنِّيَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ فِي صِيَاغَتِهِ شَيْئًا مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ مِمَّا يَفْسُدُ عَلَيْهِ مَا جَلَسَ إلَيْهِ مِنْ نِيَّتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا الْمُتَّفَقِ عَلَى مَنْعِهِ شَرْعًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْخَلْخَالَ وَالسِّوَارَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا عُمِلَ مِنْ فِضَّةِ الْحَجَرِ الْخَالِصِ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ الْيَوْمَ وَذَلِكَ عَيْنُ الرِّبَا وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاعِلَهُ بِالْحَرْبِ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ فِضَّةَ الْحَجَرِ الْخَالِصَةِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الْيَوْمَ وَيَأْخُذُونَ مَعَ ذَلِكَ أُجْرَةَ صِيَاغَتِهِمْ لَهَا مُضَافَةً إلَى ثَمَنِهَا وَحُكْمُهَا الْمَنْعُ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .

وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ وَلَيْتَهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بَلْ يَفْعَلُونَهُ جِهَارًا فَيُنَادُونَ عَلَيْهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يَمُرُّ بِهِمْ وَيَرَى مَا هُمْ فِيهِ وَيَسْمَعُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الصَّيْرَفِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فَيَنْوِي بِسَبَبِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ مَعَهُ ذَهَبٌ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ كَثِيرًا مِنْ ضَرُورَاتِهِ سِيَّمَا الْمُحَقَّرَاتِ إلَّا بَعْدَ صَرْفِهِ فَإِذَا صَرَفَهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ قَضَاءُ بَاقِي حَوَائِجِهِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ فَتَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْإِعَانَةُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ إعَانَتِهِ لِأَخِيهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَا يُعَانِيهِ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ أَعْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ حِينَ خُرُوجِهِ مَعَ نِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ .

لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اُشْتُرِطَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّرْفِ وَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ الرِّبَا وَيَتَيَقَّظُ لِذَلِكَ ، وَلَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَابَ الصَّرْفِ بَابٌ ضَيِّقٌ لَيْسَ كَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُسِّعَ فِي بَعْضِ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِهِ لَمْ تُوَسَّعْ فِيهِ فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مَا مِنْ الرِّبَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوَعُّدِ بِالْحَرْبِ .

وَلِأَجْلِ كَثْرَةِ مَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مِنْ الرِّبَا كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ التَّسَبُّبَ فِي ذَلِكَ خِيفَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ وَالصَّيْرَفِيُّ إنْ عَرِيَ عَنْ الْعِلْمِ فِي سَبَبِهِ وَقَعَ فِي الرِّبَا وَأَوْقَعَ غَيْرَهُ فِيهِ وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّبَا .

كَانَ أَصْبَغُ يَكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِجِدَارِ صَيْرَفِيٍّ .

وَقَدْ تَرَكَ ابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكَانَ مَالًا كَثِيرًا جَزِيلًا فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ : إنَّ أَبِي كَانَ صَيْرَفِيًّا وَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّرْفِ لَمْ يَحْكُمْهُ

أَوْ كَمَا قَالَ .

وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْفَقِيهِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الدِّرْهَمُ الْحَلَالُ أَشَدُّ مِنْ لُقِيِّ الزَّحْفِ وَأَكْثَرُ أَكَلَةِ الرِّبَا أَهْلُ الصَّرْفِ .

وَكَانَ يَقُولُ : إذَا اسْتَسْقَيْت مَاءً فَسُقِيت مِنْ بَيْتِ صَرَّافٍ فَلَا تَشْرَبْهُ .

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا مَرَّ عَلَى الصَّيَارِفَةِ قَالَ لَهُمْ : أَبْشِرُوا ، قَالُوا : بَشَّرَك اللَّهُ بِالْجَنَّةِ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَبْشِرُوا بِالنَّارِ ، فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقِيلَ لَهُمْ : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قُلْنَا : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا غَالِبٌ عَلَى أَهْلِ الصَّرْفِ لَا يَنْجُونَ مِنْهُ فِي تِجَارَتِهِمْ .

وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مِثْلِ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَ الْحَسَنُ : إنَّ هَاهُنَا قَوْمًا أَكَلَةُ الرِّبَا لَوْ أَدْرَكَهُمْ مَنْ مَضَى لَنَصَبُوا لَهُمْ الْحَرْبَ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التِّجَارَةِ فِي الْقَمْحِ وَالصَّرْفِ } .

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : التِّجَارَةُ فِي الرَّقِيقِ تِجَارَةٌ مَمْحُوقَةٌ .

وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ الدَّلَالَةَ .

وَكَرِهَ قَتَادَةُ أُجْرَةَ الدَّلَّالِينَ .

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي لَا تُسَلِّمْ وَلَدَك فِي بَيْعَتَيْنِ ، وَلَا فِي صَنْعَتَيْنِ .

أَمَّا الْبَيْعَتَانِ فَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ وَبَيْعُ الْأَكْفَانِ .

وَأَمَّا الصَّنْعَتَانِ فَهُمَا الْجِزَارَةُ وَالصِّيَاغَةُ أَمَّا الْجَزَّارُ فَإِنَّهُ قَاسِي الْقَلْبِ وَأَمَّا الصَّوَّاغُ فَإِنَّهُ يُزَخْرِفُ الدُّنْيَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَا يَعْتَوِرُ الْحَاجَّ فِي حَجِّهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا أَنْ حَدَثَتْ فِيهِ أُمُورٌ مُتَشَعِّبَةٌ تَعَذَّرَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ بِسَبَبِ مَا يُخَالِطُهَا فِي الْغَالِبِ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا لِأَجْلِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُكَلَّفِ : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ إذَا خَرَجَ إلَى الْحَجِّ فَقَدْ سَقَطَ الْحَجُّ عَنْهُ .

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الَّذِي يَرْكَبُ الْبَحْرَ إلَى الْحَجِّ ، وَلَا يَجِدُ مَوْضِعًا يَسْجُدُ فِيهِ إلَّا عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ أَيَجُوزُ لَهُ الْحَجُّ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَيَرْكَبُ حَيْثُ لَا يُصَلِّي وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْحَاجِّ يَأْتِي مُرَاهِقًا لَيْلَةَ النَّحْرِ يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَذْكُرُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا بَعْدُ فَإِنْ هُوَ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَاتَهُ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَإِنْ وَقَفَ خَرَجَ وَقْتُ الْعِشَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ : يُصَلِّي وَيَفُوتُهُ الْحَجُّ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عَكْسُهُ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حِجَازِيًّا أَوْ آفَاقِيًّا فَإِنْ كَانَ حِجَازِيًّا قَدَّمَ الصَّلَاةَ وَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ آفَاقِيًّا قَدَّمَ الْحَجَّ وَإِنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ .

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّهُ يُصَلِّي كَصَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ فَيُصَلِّي وَهُوَ مَاشٍ أَوْ رَاكِبٌ فَيُدْرِكُهُمَا مَعًا وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ .

وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الْعَظِيمَةِ فَكَيْفَ يَتْرُكُ الْمُكَلَّفُ الصَّلَاةَ أَوْ

يُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِ فَرْضِ الْحَجِّ .

هَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ سِيَّمَا إنْ كَانَ مَنْ ذَكَرَ الصَّلَاةَ امْرَأَةً فَيَقْوَى الْخِلَافُ فِي أَمْرِهَا إذْ لَا قُدْرَةَ لَهَا فِي الْغَالِبِ عَلَى تَأْخِيرِ الْحَجِّ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى إنْ كَانَتْ آفَاقِيَّةً ، وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَرْكُوبٌ ، ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْحَجِّ وَيَتْرُكْنَ الصَّلَوَاتِ وَمَنْ صَلَّتْ مِنْهُنَّ تُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الِاضْطِرَارِ وَالِاضْطِرَارُ هُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي مَوْضِعِ خَوْفٍ فَيُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ إذَا نَزَلَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ بَلْ يُومِئُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ بَعْدَ أَنْ تُوقَفَ لَهُ وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ فَإِذَا صَلَّيَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلْيُومِئَا بِالسُّجُودِ إلَى الْأَرْضِ لَا إلَى كُوَرِ الرَّاحِلَةِ فَإِنْ أَوْمَأَ إلَى كُوَرِ الرَّاحِلَةِ فَصَلَاتُهُمَا بَاطِلَةٌ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُجْزِئُهَا أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَقِّهَا .

وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ نُزُولَ الْمَرْأَةِ وَرُكُوبَهَا عَوْرَةٌ مُطْلَقًا لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ كَشْفِهَا وَنَظَرِ غَيْرِ الْمَحَارِمِ لَهَا وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ إذْ لَا غَيْرَةَ فِي هَذَا الزَّوْجِ ، وَلَا مَحْرَمَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَغْيَرُ مِنْ زَوْجِهَا وَمِنْ ذِي مَحَارِمِهَا .

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ } وَقَدْ أَمَرَهُنَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُنَّ بِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُنَّ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَلَا فِي إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ صَلَاتِهَا عَلَى الْمَحْمَلِ لِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ إلَّا مَا ذُكِرَ قَبْلُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَنْزِلَ

إلَى فِعْلِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا فَعَلَتْهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا النُّزُولُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَتَسْتَتِرُ جَهْدَهَا وَيَحْرُمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَيْهَا .

هَذَا حُكْمُ الْفَرَائِضِ .

وَأَمَّا السُّنَنُ فَجَائِزٌ فِعْلُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إيمَاءً } .

وَكَذَلِكَ صَلَاةُ اللَّيْلِ إلَّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ .

وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَتُهُ فِعْلُ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكُ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ .

فَمِنْ تَقْوَاهُ تَقْدِيمُ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ وَتَقْدِيمُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى تَرْكِ الْمَكْرُوهَاتِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ يَتَقَرَّبُونَ وَهُمْ مِنْهُ مُبْتَعِدُونَ فَيُضَيِّعُ أَحَدُهُمْ الْوَاجِبَاتِ حِفْظًا لِلْمَنْدُوبَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ صَوْنًا عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ ، وَلَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا ذَوُو الضَّلَالَاتِ وَأَهْلُ الْجَهَالَاتِ انْتَهَى .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .

فَآكَدُ الْفَرَائِضِ وَأَعْلَاهَا وَأَعْظَمُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقَامَةُ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا .

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا

فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمَنْ أَبَى فَهُوَ كَافِرٌ وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } وَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ لِلْحَجِّ وَيُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ فِي الْغَالِبِ وَمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقِيمَ وَحِينَئِذٍ يُصَلِّي وَمِنْهُمْ مَنْ يُوقِعُهَا فِي وَقْتِهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُبِحْ التَّيَمُّمَ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ .

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَتَيَمَّمُ وَالْقِرَبُ مَعَهُ مَلْآنَةُ بِالْمَاءِ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ عَطْشَانُ مَعَهُمْ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْقُونَ غَيْرَهُمْ وَإِنْ سَقَى بَعْضُهُمْ فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْمَاءَ الثَّانِي وَالْمَاءُ الْأَوَّلُ أَكْثَرُهُ بَاقٍ مَعَهُمْ وَالتَّيَمُّمُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَمْنُوعٌ شَرْعًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَلْ يَزِيدُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ بِأَنْ يَتَيَمَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى الْمَاءِ وَيَعْتَلُّونَ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ نَفْسَ وُجُودِ السَّفَرِ يُبِيحُ لَهُمْ التَّيَمُّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ ارْتَكَبَهُ وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ مُتَعَيَّنٌ وَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَحْذُورَ فِي عَدَمِ السُّؤَالِ وَفِي إيقَاعِهِ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ .

( فَصْلٌ ) وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ أَعْنِي عِبَادَةَ الْحَجِّ افْتَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ ثُمَّ عَذَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَرْكِهَا الْأَعْذَارَ تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ شُرُوطَ وُجُوبِ الْحَجِّ سِتَّةٌ : وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ وَإِمْكَانُ السَّيْرِ فَإِنْ عُدِمَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ ، وَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُيَمِّمُهُ أَوْمَأَ إلَى الْأَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِالسُّجُودِ إلَيْهَا ، وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِي مِثْلِ الْمَرْبُوطِ وَالْمَصْلُوبِ فَإِنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَمَسَّهَا لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ رَبْطٍ أَوْ صَلْبٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَنْ يُيَمِّمَهُ وَيَنْوِيَ هُوَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا وَنَوَاهَا مَنْ يَمَّمَهُ عَنْهُ فَلَا تُجْزِيهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّورَةَ الَّتِي مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَيَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ مَعَ ذَلِكَ أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى رَجُلٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى جَالِسًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَيَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَيْهَا أَوْمَأَ بِالسُّجُودِ إلَى الْأَرْضِ وَيَكُونُ إيمَاؤُهُ بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْجُلُوسِ صَلَّى مُسْتَنِدًا عَلَى حُكْمِ مَا مَرَّ فِي صَلَاةِ الْقَائِمِ الْمُسْتَنِدِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى مُضْطَجِعًا مُسْتَقْبِلَ

الْقِبْلَةِ ، وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ إنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ السَّمَاءَ لَكِنَّهُ لَوْ جَلَسَ لَكَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي حَقِّ هَذَا إنَّمَا هُوَ بِالْإِيمَاءِ بِعَيْنِهِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَقْلِهِ وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ إنْ عُدِمَ شَرْطٌ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ لَمْ يَأْثَمْ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ ، بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي فِعْلِ الْعِبَادَةِ ، وَفِي تَرْكِهَا .

وَلِأَجْلِ تَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَا قَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفَهِمُوهُ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَبِالدُّخُولِ فِيهَا مِثْلَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فَيَظُنَّ لِجَهْلِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيَدْخُلُ فِيهِ ، وَهُوَ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ فَرْضِهِ عَلَيْهِ فَيُكَلِّفُ نَفْسَهُ مَا لَا يَفِي بِهِ وَلَا تَتَخَلَّصُ الذِّمَّةُ بِإِيقَاعِهِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ لِكَثْرَةِ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعْتَوِرُ الْعَمَلَ سِيَّمَا الْحَجُّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ لِظُهُورِهِ وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ لِفَاعِلِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ لِأَجْلِهِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ نُهِيَ النَّاسُ عَنْ جَاحِمِ الْجَمْرِ لَقَالَ قَائِلٌ لَوْ ذُقْته .

وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ إلَيْهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ .

وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ الْحَاجُّ بِالْبَيْتِ يَهُونُ عَلَيْهِمْ السَّفَرُ وَيُبْسَطُ عَلَيْهِمْ الرِّزْقُ وَيَرْجِعُونَ مَحْرُومِينَ مَسْلُوبِينَ يَهْوِي بِأَحَدِهِمْ بَعِيرُهُ

بَيْنَ الْقِفَارِ وَالرِّمَالِ وَجَارُهُ مَأْسُورٌ إلَى جَنْبِهِ لَا يُوَاسِيهِ .

وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يُوَدِّعُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ قَدْ عَزَمْت عَلَى الْحَجِّ أَفَتَأْمُرُنِي بِشَيْءٍ فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ : كَمْ أَعْدَدْت لِلنَّفَقَةِ ؟ فَقَالَ : أَلْفَيْ دِرْهَمٍ قَالَ بِشْرٌ فَأَيُّ شَيْءٍ تَبْتَغِي بِحَجِّك نُزْهَةً أَوْ اشْتِيَاقًا إلَى الْبَيْتِ أَوْ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَإِنْ أَصَبْت رِضَا اللَّهِ وَأَنْتَ فِي مَنْزِلِك وَتُنْفِقُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَتَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَأَعْطِهَا عَشْرَةَ أَنْفُسٍ .

مَدِينٌ تَقْضِي دَيْنَهُ وَفَقِيرٌ تَرُمُّ شَعَثَهُ وَمُعِيلٌ تُحْيِي عِيَالَهُ وَمُرَبًّى يَتِيمٌ تُفَرِّحُهُ وَتُغِيثُ لَهْفَانَ وَتَكْشِفُ ضُرَّ مُحْتَاجٍ وَتُعِينُ رَجُلًا ضَعِيفَ الْيَقِينِ ، وَإِنْ قَوِيَ قَلْبُك أَنْ تُعْطِيَهَا لِوَاحِدٍ فَافْعَلْ ، فَإِنَّ إدْخَالَك السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةٍ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قُمْ فَأَخْرِجْهَا كَمَا أَمَرْنَاك ، وَإِلَّا قُلْ لَنَا مَا فِي قَلْبِك فَقَالَ يَا أَبَا نَصْرٍ سَفَرِي أَقْوَى فِي قَلْبِي فَتَبَسَّمَ بِشْرٌ وَقَالَ لَهُ الْمَالُ إذَا جُمِعَ مِنْ وَسَخِ التِّجَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ اقْتَضَتْ النَّفْسُ أَنْ تَقْضِيَ بِهِ وَطَرًا تُسْرِعُ إلَيْهِ تَظَاهُرًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَقَدْ آلَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ إلَّا عَمَلَ الْمُتَّقِينَ .

وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا إذَا نَظَرُوا إلَى الْمُتْرَفِينَ قَدْ خَرَجُوا إلَى مَكَّةَ يَقُولُونَ لَا تَقُولُوا خَرَجَ فُلَانٌ حَاجًّا وَلَكِنْ قُولُوا خَرَجَ مُسَافِرًا .

سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّ شَابًّا مِنْ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى الْحَجِّ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَرَغَ مَا بِيَدِهِ وَكَانَ يُحْسِنُ الْخِيَاطَةَ فَجَاءَ إلَى خَيَّاطٍ وَجَلَسَ يَخِيطُ عِنْدَهُ بِالْأُجْرَةِ وَكَانَ عَلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَكَانَ جُنْدِيٌّ يَأْتِي إلَى الدُّكَّانِ

فَيَقْعُدُ عِنْدَهُ فَيَتَكَلَّمُونَ وَالشَّابُّ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ ، بَلْ مُقْبِلٌ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ فَحَصَلَ لِلْجُنْدِيِّ فِيهِ حُسْنُ ظَنٍّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ أَوَانُ خُرُوجِ .

الرَّكْبِ إلَى الْحَجِّ سَأَلَهُ الْجُنْدِيُّ لِمَ لَا تَحُجُّ فَقَالَ لَيْسَ لِي شَيْءٌ أَحُجُّ بِهِ فَجَاءَ الْجُنْدِيُّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ خُذْ هَذِهِ فَحُجَّ بِهَا فَرَفَعَ الشَّابُّ رَأْسَهُ إلَيْهِ وَقَالَ لَهُ كُنْت أَظُنُّك مِنْ الْعُقَلَاءِ فَقَالَ : وَمَا رَأَيْت مِنْ عَدَمِ عَقْلِي ؟ ، فَقَالَ لَهُ : أَنَا أَقُولُ لَك كُنْت فِي بَلَدِي بَيْنَ أَهْلِي وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ الْحَجَّ فَلَمَّا أَنْ وَصَلْت إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِي جِئْت أَنْتَ بِدَرَاهِمِك تُرِيدُ أَنْ تُوجِبَ عَلَيَّ شَيْئًا أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي ، وَذَلِكَ لَا أَفْعَلُهُ أَوْ كَمَا قَالَ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ أَيْضًا جَاءَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَفَرَغَ مَا بِيَدِهِ فَبَقِيَ يَعْمَلُ بِالْقِرْبَةِ عَلَى ظَهْرِهِ وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ فَيَأْكُلُ مِنْهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي وَكَانَ لَهُ مَالٌ بِبَلَدِهِ فَجَاءَ بَعْضُ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُمْ إلَى الْحِجَازِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيَّ الْحَجَّ الْآنَ لِعَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى الزَّادِ وَمَا أَحْتَاجُهُ فِي الْحَجِّ فَقَالُوا : خُذْ مِنَّا مَا تَخْتَارُ فَقَالَ : لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَمْ أُنْدَبْ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ نَحْنُ نُقْرِضُك إلَى أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَلَدِك فَقَالَ وَمَنْ يَضْمَنُ لِي الْحَيَاةَ حَتَّى تَأْخُذُوا قَرْضَكُمْ فَقَالُوا لَهُ نَجْعَلُك فِي حِلٍّ مِنْهُ فَقَالَ لَهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَا أُنْدَبُ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ فَوَفِّرْ مِمَّا تُحَصِّلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا تَحُجُّ بِهِ وَتَرْجِعُ إلَى بَلَدِك وَمَالِك فَقَالَ لَهُمْ تَفُوتُنِي حَسَنَاتٌ مُعَجَّلَةٌ لِشَيْءٍ

لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ الْآنَ وَلَا أَدْرِي هَلْ أَعِيشُ لِذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْ لَا أَوْ كَمَا قَالَ .

وَقَدْ مَنَعَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ قَرْضًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ مَعَ رَغْبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ وَتَلَهُّفِهِ عَلَيْهِ وَصَبْرِهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِ الْمُقْتَرِضِ فِي بَلَدِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إلَيْهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا رَاغِبٌ فِي أَنْ لَا يَأْخُذَ عَرْضَهُ لَوْ رَضِيَ الْمُقْتَرِضُ .

وَعَلَّلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي هَلْ يَفِي بِهِ أَمْ لَا ؟ إنْ كَانَ قَرْضًا .

وَالثَّانِي : الْمِنَّةُ فِيهِ فَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ الْهِبَةِ فَفِيهِ الْمِنَّةُ أَكْثَرُ .

فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيِّدِي الشَّيْخِ : لَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَمُنُّ ، بَلْ يُمَنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لَمْ يَمُنَّ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فِي بَلَدِهِ فَقَالَ لَهُ قَدْ لَا يَرْجِعُ هُوَ لِلْبَلَدِ يَعْنِي الْمُقْتَرِضَ فَقَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَقَعُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ أَحْجَجَ فُلَانًا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمِنَّةِ مَا فِيهِ بِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُنْدَبْ إلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ .

هَذَا فِعْلُهُمْ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى فَمَا بَالُك بِهِمْ فِي التَّطَوُّعِ هَذَا حَالُ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي خَلَاصِ ذِمَمِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يَتَدَايَنُ وَيَحْتَالُ وَيَطْلُبُ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِ الْحَجِّ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَطْلُبُ مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ طُغْيَانِهِمْ لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ بَعْضَ مَنْ يَعْتَقِدُونَهُ وَيَظُنُّونَ بِهِ خَيْرًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَيُعَامِلُهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَيَطْلُبُ مِنْ فَضَلَاتِ أَوْسَاخِهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ الْقَذِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ .

وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْجَهْلُ فَتُسَوِّلُ

لَهُ نَفْسُهُ أَوْ يَغُرُّهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ ، وَهُوَ بِالْعَكْسِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ .

وَبَعْضُ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ الْحَجِّ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَعِدَهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ .

وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُ أَهْلَهُ ضِيَاعًا وَيَمْضِي إلَى الْحَجِّ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ } وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَبَعْضُهُمْ قَدْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دُكَّانًا يَجْبِي بِهِ أَمْوَالَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ .

وَبَعْضُهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ فَيَتَشَفَّعُ عِنْدَهُمْ بِمَنْ يَرْجُو أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ أَوْ يَرْجِعُوا إلَى قَوْلِهِ وَيُثْنِي الشَّافِعُ عَلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُمْ إذْ ذَاكَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِيَتَعَطَّفُوا بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ فَيَأْكُلُوا الدُّنْيَا وَالدِّينَ ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَبَعْضُهُمْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ فَيَخْرُجُ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا مَرْكُوبٍ فَتَطْرَأُ عَلَيْهِ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى .

مِنْهَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ .

وَمِنْهَا عَدَمُ الْقُوتِ وَالْوُقُوعُ فِي الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ وَتَكَلُّفِ النَّاسِ الْقِيَامَ بِقَوْلِهِ وَسَقْيِهِ وَرُبَّمَا آلَ أَمْرُهُ إلَى الْمَوْتِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَتَجِدُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ طَرْحَى مَيِّتِينَ بَعْدَ أَنْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْقَعُوا إخْوَانَهُمْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ فِي إثْمِهِمْ وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ كُلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَكْفِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أَوْ سَعَى لَهُمْ فِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ

أَنَّ غَيْرَهُ يُعِينُهُمْ بِشَيْءٍ تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ فِي الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ .

فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِهِمْ فِيمَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَالْإِفْضَاءِ إلَى الْمَوْتِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا وَقَعَ بِهِمْ وَفِيمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ السُّخْطِ وَالضَّجَرِ وَالسَّبِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَذَا الْحَالِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ إعَانَتُهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ بِالشَّرْبَةِ وَالشَّرْبَتَيْنِ وَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا ، وَمَا يُمْنَعُ وَمَا يُنْدَبُ وَمَا يُكْرَهُ .

وَقَدْ جَاءَ هَذَا بِالنَّصِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَحُجُّ أَغْنِيَاؤُهُمْ لِلنُّزْهَةِ وَأَوْسَطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : الْقُرَّاءُ هُمْ الْمُتَعَبِّدُونَ .

وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا شَاكَلَهَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ الْجَاهِلِ شَهْوَةٌ وَطَاعَةُ الْعَارِفِ امْتِثَالٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرَ إلَى فِعْلِهِ بِشَرْطِ سَلَامَتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَدَايَنُونَ حَتَّى يُوجِبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَرْضَ الْحَجِّ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُوفُونَ مَا تَعَمَّرَتْ بِهِ ذِمَّتُهُمْ .

ثُمَّ إنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ فِي عِبَادَتِهِمْ فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ وَلَرُبَّمَا

يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ حُكْمًا لِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

فَلَيْسَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْتَالَ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ غَالِبًا فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ الْآنَ بَرِيئَةٌ فَلَا يَشْغَلُهَا بِشَيْءٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ يُحِبُّ الْحَجَّ وَيَنْوِيهِ وَيَخْتَارُهُ ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَخْتَارَ طَاعَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُحِبَّهَا لَكِنْ يُقَيِّدُ مَحَبَّتَهُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يُوَفِّرَ وَيَحْتَالَ وَيَتَسَبَّبَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ ، فَإِنْ تَرَكَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ عَاصٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذَلِكَ بِسَبَبِ رِضَا وَالِدَيْهِ لِئَلَّا يَعُقَّهُمَا فَيَتَرَبَّصَ عَلَيْهِمَا الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ أَوْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ .

، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يُنْفِقُهُ فِيهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ هُوَ بِهَا مُتَطَوِّعٌ وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْفِيرُ وَالِاحْتِيَالُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ وَمَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَبَّدْ أَحَدًا بِالْجَهْلِ .

قَالَ اللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ

كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ .

فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُكَلَّفُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي أَمْرِ الزَّادِ وَمَا يُنْفِقُهُ فِي حَجِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ جِهَةٍ تُمْكِنُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى } وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتْرُكُونَ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي بَابٍ مِنْ الْحَرَامِ هَذَا وَهُمْ لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِفِعْلِ الْحَجِّ الَّذِي يُرِيدُ هَذَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الَّذِي يَحُجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ يَقُولُ لَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْك .

فَمَنْ يُجَابُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ يُقْبَلُ مِنْهُ حَجُّهُ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشُّبُهَاتِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَقْتَرِضْ مَالًا حَلَالًا لِيَحُجَّ بِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا .

وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } } قَالَ سَحْنُونَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ .

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدُوسٍ : وَاعْلَمْ أَنَّ عِمَادَ الدِّينِ وَقِوَامَهُ هُوَ طَيِّبُ الْمَطْعَمِ فَمَنْ طَابَ مَكْسَبُهُ زَكَا عَمَلُهُ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ

طَيِّبَ مَكْسَبِهِ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ وَجَمِيعُ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } وَنَظَرَ عُمَرُ إلَى الْمُصَلِّينَ فَقَالَ : لَا يَغُرُّنِي كَثْرَةُ رَفْعِ أَحَدِكُمْ رَأْسِهِ وَخَفْضِهِ الدِّينُ الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ وَالْكَفُّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَالْعَمَلُ بِحَلَالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ .

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَمْسَى وَانِيًا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ } وَقَالَ الْحَسَنُ الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وَأَفْضَلُ مِنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنْ الْحَلَالِ وَلَا أُحَرِّمُهَا وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ طِيبُ زَادِهِ فِي سَفَرِهِ وَكَانَ يَقُولُ أَفْضَلُ الْحُجَّاجِ أَخْلَصُهُمْ نِيَّةً وَأَزْكَاهُمْ نَفَقَةً وَأَحْسَنُهُمْ يَقِينًا وَيُرْوَى لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْمُسَافِرِ لِلتِّجَارَةِ مَا تَقَدَّمَ فَفِي حَقِّ هَذَا آكَدُ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِمَحْضِ الْعِبَادَةِ فَيَكُونُ النَّظَرُ فِي تَخْلِيصِ مَا يُنْفِقُهُ فِي حَجِّهِ أَوْجَبَ .

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الدِّرْهَمُ الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ .

وَرَوَى يَزِيدُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ أَوَّلًا فِي الِاسْتِخَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُسَافِرِ لَكِنَّ الِاسْتِخَارَةَ هُنَا لَيْسَتْ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخَارَةَ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ لَا مَحَلَّ لَهَا وَكَذَلِكَ الِاسْتِخَارَةُ فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ ،

وَإِنَّمَا تَكُونُ الِاسْتِخَارَةُ هُنَا هَلْ يَفْعَلُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ السَّنَةِ الْآتِيَةِ وَهَلْ يُرَافِقُ فُلَانًا أَمْ لَا وَهَلْ يَكْتَرِي مَعَ فُلَانٍ أَمْ لَا وَهَلْ يَشْتَرِي الْمَرْكُوبَ أَوْ يَكْتَرِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ

وَالشَّظَفُ فِي الْحَجِّ أَوْلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ .

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَرْكَبَ فِي الْمَحْمَلِ ، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِدْعَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَرَكِبَ النَّاسُ سُنَّتَهُ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِهِ يُنْكِرُونَهَا وَيَكْرَهُونَ الرُّكُوبَ فِيهَا .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَخَافُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ مِنْ تَمَاوُتِ الْإِبِلِ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَهُ لِثِقَلِ الْمَحْمَلِ وَثِقَلُهُ عَدْلُ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ وَزِيَادَةٍ مَعَ طُولِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ الْمَطْعَمِ .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ الْحَجَّاجِ مِنْ الزِّينَةِ وَالْمَحَامِلِ يَقُولُ إنَّ الْحَجَّ قَلِيلٌ وَالرَّكْبَ كَثِيرٌ .

فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَاسْتَشَارَ فَانْشَرَحَ صَدْرُهُ عَقِيبَ اسْتِخَارَتِهِ لِفِعْلِ الْحَجِّ بَادَرَ إلَى الشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَارَعَةَ إلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَتَغَيَّرُ الْأَحْوَالُ فَلَا يَجِدُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ بَعْدُ .

وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَلَكَ رَاحِلَةً وَزَادًا يُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا } وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ يَمْنَعَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا شَفَقَةً عَلَيْهِ فَلْيَتَرَبَّصْ عَلَيْهِمَا الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مَا لَمْ يَبْلُغْ عُمُرُهُ السِّتِّينَ فَإِنْ بَلَغَهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْحَجِّ عَلَى

الْفَوْرِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ لِأَجْلِ الْوَالِدَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَلَا يَسْتَخِيرُ فِيهِ .

وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَخِيرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ هَلْ يَفْعَلُهَا أَوْ لَا ، بَلْ يَسْتَخِيرُ فِي فِعْلِ أَحَدِهِمَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِهِمَا مَعًا .

وَلَا يَسْتَخِيرُ الْإِنْسَانُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ } الْحَدِيثَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الِاسْتِخَارَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ } ، وَهَذَا لَمْ يَهُمَّ بَعْدُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوْ هَمَّ بِالْبَعْضِ فَلَا اسْتِخَارَةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ لِشَيْءٍ فَالتَّعَدِّي بِهِ لِغَيْرِهِ بِدْعَةٌ .

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى جَنَائِزِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ صَلَاةَ الْغَائِبِ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِفِعْلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ .

فَإِذَا شَرَعَ فِي شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَجُّهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُمَاكِسَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ .

لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الدِّرْهَمَ الَّذِي يُنْفَقُ فِي الْحَجِّ مُضَاعَفٌ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِذَا مَاكَسَ فَوَّتَ نَفْسَهُ ثَوَابًا كَثِيرًا لِأَجْلِ مَا يُنْقِصُ مِنْ النَّفَقَةِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَرْكَ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُحَاكَّةِ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ سَفَرِ الْحَجِّ وَقَالَ لَا يُمَاكِسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْجِدَّةِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْشَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ مَا بِيَدِهِ إذَا لَمْ يُمَاكِسْ فَلَا بَأْسَ بِالْمُمَاكَسَةِ إذَنْ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُمَاكِسُ عِنْدَ شِرَائِهِ الْحَاجَةَ فَلَمَّا أَنْ اشْتَرَى مَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْحَجِّ كَانَ لَا يُمَاكِسُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْتَرِي مِنْهُ فَرُبَّمَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ ابْتَدَأَ هُوَ بِهِ فَقَالَ : إنَّ دِرْهَمَ الْحَجِّ بِسَبْعِمِائَةٍ فَلَوْ مَاكَسْت لَنَقَصَ لِي مِنْ الثَّوَابِ أَوْ كَمَا قَالَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمُمَاكَسَةِ لِلْبَاعَةِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَاكِسُوا الْبَاعَةَ فَإِنَّ فِيهِمْ الْأَرْذَلِينَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

ثُمَّ يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهِ لِكُلِّ مَا يَشْتَرِيهِ لِحَجِّهِ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ } وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُمَا رُكْنَانِ عَظِيمَانِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الْخَمْسَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ .

وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْخُشُوعَ فِي الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَإِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَسْجِدِهِ فَالسَّكِينَةُ آكَدُ فِي حَقِّهِ مِمَّنْ يَخْرُجُ إلَى مَسْجِدٍ سِوَاهُمَا لَكِنَّ طَلَبَ السَّكِينَةِ فِي بَعْضِهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَالْخُشُوعُ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ عِنْدَ الْخُرُوجِ آكَدُ مِنْهُ فِي شِرَاءِ حَوَائِجِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَلُوا إلَى مَضِيقٍ فِي الطَّرِيقِ تَزَاحَمُوا وَتَضَارَبُوا وَتَشَاتَمُوا وَظَهَرَتْ مِنْهُمْ عَوْرَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَعِنْدَ وُرُودِ الْمِيَاهِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ فَلْيَحْذَرْ إذْ ذَاكَ عِنْدَ الْمِيَاهِ مِنْ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُضَارَبَةِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ رَآهُمْ أَوْ سَمِعَ عَنْهُمْ .

وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ النَّاسِ مَحْمُولِينَ قَدْ قُطِعَتْ بَعْضُ أَطْرَافِهِمْ لِأَجْلِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ الْمِيَاهِ وَقَدْ تُزْهَقُ نُفُوسُ بَعْضِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا يُلَاقِي ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ قَبِيحٌ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَمَا أَشْبَهَهَا ضِدُّ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْمِيَاهِ لَا يُبَالُونَ بِكَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ .

وَقَدْ وَرَدَ { النَّاظِرُ وَالْمَنْظُورُ مَلْعُونَانِ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلْيَتَحَفَّظْ جَهْدَهُ مِنْ كُلِّ

الْقَبَائِحِ الَّتِي تَفْجَؤُهُ فَيَتَلَقَّاهَا بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا يَسْأَلُ الْعُلَمَاءَ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَقَعَ لَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُزَيِّنُونَ الْجَمَلَ بِالْحُلِيِّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَسَاوِرِ وَالْقَلَائِدِ وَيُلْبِسُونَهُ الْحَرِيرَ يَفْعَلُونَ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْعَقَبَةِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الرُّجُوعِ مِثْلَهُ وَهُمْ آثِمُونَ فِي ذَلِكَ وَيُشَارِكُهُمْ فِي الْإِثْمِ مَنْ تَطَاوَلَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ وَهُمْ كَثِيرٌ وَمَنْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ اسْتَحْسَنَهُ فَإِثْمُهُ أَكْثَرُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ إذَا كَانَ لَهُنَّ قَرِيبٌ أَوْ مَعَارِفُ يَخْرُجُونَ إلَى الْحَجِّ يَخْرُجْنَ لَيْلًا يَمْشِينَ فِي الطُّرُقِ وَفِي بَعْضِ الْأَسْوَاقِ وَيَرْفَعْنَ عَقِيرَتَهُنَّ بِمَا يَقُلْنَهُ مِنْ التَّحْنِينِ وَالرِّجَالُ يَسْمَعُونَ وَيَنْظُرُونَ إلَى فِعْلِهِنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ سِيَّمَا فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَجِبُ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ ، وَهِيَ الْحَجُّ .

وَمِثْلُ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنْ الْحَجِّ إذَا وَصَلُوا إلَى بُيُوتِهِمْ وَيُضْرَبُ إذْ ذَاكَ عِنْدَ أَبْوَابِهِمْ بِالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِتَهْنِئَةِ الْحَاجِّ وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَانَ آثِمًا وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ بِالْإِعْطَاءِ لَهُمْ أَوْ بِالْوُقُوفِ وَالنَّظَرِ أَوْ صَغَى إلَيْهِمْ أَوْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْكَرٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَغْيِيرُهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَمَنْ صَغَى أَوْ نَظَرَ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَلْبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ فَمَاذَا يَبْقَى بَعْدَ الضَّعِيفِ إنْ

ذَهَبَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ رَابِغٍ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَبْلَ الْجُحْفَةِ فَيَبْدَءُونَ الْحَجَّ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَالْحَجُّ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْعُمُرِ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّ الْجُحْفَةَ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُمْ مِيقَاتًا لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَغْتَسِلُونَ بِهِ لِلْإِحْرَامِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فِي رَابِغٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَيَتْرُكُونَ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُسْتَحَبٍّ .

وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ ، بَلْ لَوْ اغْتَسَلَ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الرَّحِيلَ ثُمَّ سَارَ إلَى الْجُحْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا لَكَانَ قَدْ حَصَّلَ السُّنَّةَ وَالْمُسْتَحَبَّ .

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ اغْتَسَلَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا فَقَالَ : إنَّ غُسْلَهُ صَحِيحٌ أَوْ كَمَا قَالَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ مَسَافَةٌ أَكْثَرُ مِنْ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ رَابِغٍ وَالْجُحْفَةِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْجُحْفَةَ لَا يَدْخُلُهَا الرَّكْبُ .

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَهُوَ يَمُرُّ بِهَا ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ أَنْ لَا يُحْرِمَ حَتَّى يَدْخُلَهَا ، بَلْ إذَا حَاذَاهَا أَحْرَمَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَغْتَسِلُ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَةِ النَّاسِ الرَّحِيلَ ثُمَّ يَسِيرُ مَعَهُمْ إلَى أَنْ يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَإِذَا حَاذَاهَا نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَعَرَّى مِنْ الْمَخِيطِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ مِنْ رَابِغٍ ثُمَّ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ حَتَّى يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَلَهُ ذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْجُحْفَةِ

بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا مَعًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَحْرَمَ مِنْ وَسَطِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ الْأَوْلَى ، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَهَا فَمَكْرُوهٌ وَعَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً إذْ أَنَّ الدَّمَ جَبْرٌ لِمَا فَاتَهُ مِنْ فَضِيلَةِ فِعْلِ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ جَبْرٌ لِلْخَلَلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ لُبْسِ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ إلَى لُبْسِ ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ ؛ لِأَنَّ تَجَرُّدَهُ مِنْ الْمَخِيطِ وَلُبْسَهُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِالْمَيِّتِ حِينَ يُدْرَجُ فِي أَكْفَانِهِ وَقَوْلُ الْحَاجِّ لَبَّيْكَ شَبِيهٌ بِقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إلَى الْمَحْشَرِ وَالْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُقُوفُهُمْ بِعَرَفَةَ شَبِيهٌ بِوُقُوفِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَغَيْرُهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ شَبِيهٌ بِالْمَوَاقِفِ الَّتِي لَهُمْ فِي الْمَحْشَرِ وَالسُّؤَالُ عِنْدَ كُلِّ مَوْقِفٍ وَكَوْنُ بَرَكَةِ بَعْضِهِمْ تَعُمُّ عَلَى بَعْضٍ شَبِيهٌ بِالْمَحْشَرِ أَيْضًا فَإِنَّ بَرَكَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ تَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَمِهِمْ ، وَالصَّالِحُ مِنْ الْأُمَمِ تَعُودُ بَرَكَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بِحَسْبِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَيْضًا فِي أَمْرِهِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا وَرَدَ { مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ } فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ .

وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ فَأُمِرَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِيَحْصُلَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ فَيُغْفَرُ

لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ .

وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَأُمِرَ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِيَأْتِيَهَا أَهْلُ الْبَلَدِ وَمَنْ هُوَ حَوَالَيْهَا فَيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ مِنْهُمْ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَلَدِ وَلَا حَوَالَيْهَا مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأُمِرَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي الْحَجِّ وَفِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَهُوَ مُعْظَمُهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِ الْمُتَّصِفِ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ وَالرِّضَا عَنْهُ ، وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى حُضُورِ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ وَتِلْكَ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا لِيَفُوزَ مَنْ حَضَرَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ .

مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِمَنِّهِ

{ فَصْلٌ } وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا يَلْزَمُهُ فِي حَجِّهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَمَا يَجْتَنِبُهُ فِي إحْرَامِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا يَجْبُرُهُ .

فَفَرَائِضُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ ، وَهِيَ النِّيَّةُ وَالْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ .

زَادَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ

{ فَصْلٌ } وَسُنَنُهُ الْمُوجِبَاتُ لِلدَّمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ إفْرَادُ الْحَجِّ وَالْإِحْرَامُ مِنْ مَكَانِ الْمِيقَاتِ وَتَرْكُ التَّمَتُّعِ وَالتَّلْبِيَةِ وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَأَنْ لَا يَقِفَ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ مُخْتَارًا لِذَلِكَ وَالْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَأَنْ لَا يَرْمِيَ الْجِمَارَ بِلَيْلٍ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ الْجِمَارِ وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَوُقُوعُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ

{ فَصْلٌ } وَفَضَائِلُهُ عِشْرُونَ ، وَهِيَ أَنْ يُحْرِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلُبْسُ الْبَيَاضِ فِي الْإِحْرَامِ وَاغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَالْإِكْثَارُ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالرَّمَلِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثِ مِنْ أَوَّلِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيُ فِي بَاقِيهِ وَالرَّمَلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ فِي السَّعْيِ .

وَالْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى .

وَأَنْ يَمُرَّ فِي طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ فِي الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ " وَهُمَا جَبَلَانِ بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ " وَالتَّطَوُّعُ بِالْهَدْيِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ .

وَالْوُقُوفُ بِأَرْضِ عَرَفَةَ دُونَ جَبَلِهَا .

وَأَنْ يَبْدَأَ يَوْمَ النَّحْرِ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ يَنْحَرَ ثُمَّ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ .

وَتَأْخِيرُ النَّفْرِ الثَّانِي إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .

وَالصَّلَاةُ فِي الْمُحَصَّبِ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ .

وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ الْيَمَانِي .

وَدُخُولُ الْبَيْتِ وَالرُّكُوعُ فِي الْمَقَامِ

{ فَصْلٌ } يَخْتَصُّ الْحَرَمُ بِخَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ إلَّا أَنْ يَبْغُوا فَفِيهِ خِلَافٌ .

الثَّانِي : تَحْرِيمُ صَيْدِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُحِلُّ مِنْ أَهْلِهِ وَمِمَّنْ طَرَأَ عَلَيْهِ .

الثَّالِثُ : تَحْرِيمُ قَطْعِ شَجَرِهِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِيهِ .

الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَدْخُلَهُ حَلَالٌ حَتَّى يُهِلَّ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يَتَحَلَّلُ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَكْثُرُ التَّرَدُّدُ إلَيْهِ كَالْحَطَّابِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ .

الْخَامِسُ : أَنْ لَا يَدْخُلَهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ لَا مَارًّا وَلَا مُقِيمًا

{ فَصْلٌ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْحُرُمَاتُ خَمْسٌ الْكَعْبَةُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْمُحْرِمُ حَتَّى يَحِلَّ وَالشَّعَائِرُ سَبْعٌ الرُّكْنُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَالْبُدْنُ وَالْجِمَارُ وَعَرَفَةُ

{ فَصْلٌ } اغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ : الْأَوَّلُ : لِلْإِحْرَامِ ، وَهُوَ آكَدُهَا .

الثَّانِي : لِدُخُولِ مَكَّةَ .

الثَّالِثُ : لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .

وَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِحْرَامَ إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ ، فَإِنَّهُمَا لَا يَغْتَسِلَانِ لِدُخُولِ مَكَّةَ إذْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الطَّوَافُ وَيَغْتَسِلَانِ لِلْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَمَنْ اغْتَسَلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَلِلْوُقُوفِ فَلَا يَتَدَلَّكُ إلَّا تَدْلِيكًا خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْلَمُ مِنْ قَتْلِ دَوَابِّ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ

{ فَصْلٌ } الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَمْنَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَيْئًا لُبْسَ الْمَخِيطِ كُلِّهِ وَتَغْطِيَةَ الرَّأْسِ وَلُبْسَ الْخُفَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَحَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَإِزَالَةَ الشَّعْرِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقَصَّ الْأَظْفَارِ وَالطِّيبَ وَقَتْلَ الْقَمْلِ وَالِاصْطِيَادَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ وَإِمْسَاكَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اصْطَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْخِطْبَةَ وَعَقْدَ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَمَغِيبَ الْحَشَفَةِ ، وَإِنْزَالَ الْمَاءِ الدَّافِقِ فِي الْيَقِظَةِ .

وَالْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَاشَا ثَلَاثٍ : لُبْسُ الْمَخِيطِ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَلُبْسُ الْخُفَّيْنِ

{ فَصْلٌ } وَالطَّوَافُ فِي الْحَجِّ ثَلَاثٌ .

طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ ، وَهُوَ فَرْضٌ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ

{ فَصْلٌ } الْجِمَارُ ثَلَاثٌ الْجَمْرَةُ الْأُولَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى وَالْوُسْطَى وَجَمْرَةُ الْعَقَبَةِ .

{ فَصْلٌ } وَالرَّمْيُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ .

يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ

{ فَصْلٌ } الْهَدْيُ ثَلَاثٌ إبِلٌ وَبَقَرٌ وَغَنَمٌ وَعَلَامَاتُهُ ثَلَاثٌ تَقْلِيدٌ وَإِشْعَارٌ وَتَجْلِيلٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ يَجْتَمِعُ فِي الْإِبِلِ ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَسْنِمَةٌ وَلَا يُفْعَلُ فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ

{ فَصْلٌ } يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ كُلِّهِ وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَفِدْيَةَ الْأَذَى وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ وَمَا عَطِبَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ مَحَلِّهِ

{ فَصْلٌ } يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِقَتْلِ الصَّيْدِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا : إذَا نَصَبَ فُسْطَاطًا فَتَعَلَّقَ بِأَطْنَابِهِ صَيْدٌ فَعَطِبَ .

الثَّانِيَةُ : إذَا فَرَّ الصَّيْدُ لِرُؤْيَتِهِ فَعَطِبَ .

الثَّالِثَةُ : إذَا نَصَبَ شِرَاكًا لِسَبُعٍ فَعَطِبَ فِيهِ صَيْدٌ .

الرَّابِعَةُ : إذَا دَلَّ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا عَلَى صَيْدِهِ فَقَتَلَهُ .

الْخَامِسَةُ : إذَا أَعْطَى سَوْطَهُ أَوْ رُمْحَهُ لِمَنْ يَقْتُلُ بِهِ صَيْدًا .

السَّادِسَةُ : إذَا أَمَرَ غُلَامَهُ عِنْدَ إحْرَامِهِ بِإِرْسَالِ صَيْدٍ فَظَنَّ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ .

السَّابِعَةُ : إذَا قَتَلَ صَيْدًا حَلَالًا ، وَهُوَ فِي يَدِهِ .

{ فَصْلٌ } التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ يُوجِبُ الْهَدْيَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .

الثَّانِي : أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ .

الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ أَوْ إلَى مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ .

الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحَجِّ .

{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى يَعْقِرُوا حُلُوقَهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ حَتَّى يَكَادَ أَنْ لَا يُسْمَعَ وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ التَّوَسُّطُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَتَأَذَّى وَلَا يَخْفِضُهُ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ إذْ أَنَّ شَعِيرَةَ الْحَجِّ لَا تَظْهَرُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الْجَهْرُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ وَيُلَبِّي بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الرِّفَاقِ وَعِنْدَ صُعُودِ جَبَلٍ أَوْ نُزُولٍ مِنْهُ وَيُلَبِّي سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ صَوْتًا وَاحِدًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُلَبِّي لِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ ثُمَّ تَكُونُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ مُسْتَصْحَبَةً مَعَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِإِهْلَالِهِ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْحُضُورِ وَالْأَدَبِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَجِّهِ لِئَلَّا يَفُوتَهُ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي

{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ وَيَتْرُكُونَ الْمَحَامِلَ وَالْحُجُفَ مُسَوَّرَةً عَلَى حَالِهَا وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، بَلْ يَكْشِفُ عَنْهَا حَتَّى يَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْحَجِّ .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِذَا كَانَ فِي الظِّلِّ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ .

وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ اسْتَظَلَّ رَاكِبًا وَقَالَ : أُضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ .

ثُمَّ نَقَلَا عَنْ الرِّيَاشِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ الْفَقِيهَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ ، وَهُوَ ضَاحٍ لِلشَّمْسِ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَلَوْ أَخَذْت بِالتَّوْسِعَةِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ ضَحَّيْت لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ إذَا الظِّلُّ أَمْسَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا فَيَا أَسَفَا إنْ كَانَ سَعْيِ بَاطِلًا وَيَا حَسْرَتَا إنْ كَانَ حَجِّي نَاقِصًا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَهُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ تَحْتَهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ بِخِلَافِ الْمَحَامِلِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَالْبَيْتِ الْمَبْنِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ الْحِمْلِ ، وَهُوَ مَاشٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدُومُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ الشَّجَرَةِ وَالْحَائِطِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَدُومُ .

{ فَصْلٌ } فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ وَأَشْرَفَ عَلَى الْبَيْتِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِزِيَادَةِ الْأَدَبِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالِاحْتِرَامِ لِبَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِابْتِهَالِ بِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ مَا يَحْتَاجُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ .

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضِيقٌ وَزَحْمَةٌ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهَا إذْ أَنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الثَّنِيَّةِ فَتَقَعُ الزَّحْمَةُ وَيَمُوتُ بَعْضُ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَشَيْءٌ يَئُولُ إلَى مِثْلِ هَذَا فَتَرْكُهُ مُتَعَيِّنٌ وَالْمُسْتَحَبُّ إذَا تُرِكَ فَلَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهِ وَلَا ذَمَّ فِي حَقِّهِ .

فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَلْيَقْصِدْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَيَدْخُلُهُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيُقَبِّلُهُ وَتَقْبِيلُهُ أَنْ يَضَعَ فَمَه عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ وَالتَّصْوِيتُ بِهِ بِدْعَةٌ وَلْيُزَاحِمْ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَذًى فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَبَّرَ حِينَ يُقَابِلُهُ وَمَضَى .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَقَعُ الِانْضِغَاطُ بَيْنَهُمْ فَقَدْ يَأْتِي فَمُ الرَّجُلِ عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ مِنْ شَرْطِهِ الطَّهَارَةُ فَتَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ الْتَذَّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى مَنْ لَمْ يَلْتَذَّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ أَوْ بِبُعْدِ الطَّائِفِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ الْمَسَافَةَ وَإِلَّا فَيُخِلُّ بِطَوَافِهِ غَالِبًا .

وَلْيَحْذَرْ

مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَالنَّاسُ يَصُبُّونَ عَلَى الْحَجَرِ مَاءَ الْوَرْدِ وَفِيهِ الْمِسْكُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ بِمَنِّهِ

{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْتِي لِلْحَجَرِ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ وَبَعْضُ الْحَجَرِ خَلْفَهُ ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَكْمِلْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، بَلْ سِتَّةً فَإِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَطَلَ طَوَافُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يُخَالِفُ إحْرَامَهُ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكُ .

وَكَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُ حَتَّى يَسْلَمَ مِمَّا ذُكِرَ هُوَ أَنْ يَمْشِيَ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي ثُمَّ يَرِدُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ فَيَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إكْمَالِ الطَّوَافِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُفْعَلُ فِي الشَّوْطِ الْأَخِيرِ يَمْشِي فِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْحَجَرَ خَلْفَهُ بِخُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ لِكَيْ يَثِقَ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ .

ثُمَّ إذَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فَلْيَرْمُلْ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَوَّلِهِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُفَارِقَانِهِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ أَتَى بِبَاقِي الطَّوَافِ مَاشِيًا الْهُوَيْنَا وَالْخُشُوعُ فِي ذَلِكَ مَطْلُوبٌ لَكِنَّهُ أُجِيزَ لِلطَّائِفِ الْكَلَامُ فِيهِ وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَقَعُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ ، وَهُمْ يَجْرُونَ فِي السَّبْعَةِ الْأَشْوَاطِ كُلِّهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمَارَاتِ الْخُشُوعِ شَيْءٌ ، بَلْ ضِدُّهُ فَيُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الشَّرِيفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ فِي كَوْنِهِمْ يَزِيدُونَ عَلَى الرَّمَلِ الْمَشْرُوعِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِيهَا جَرْيًا وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي أَنَّهُمْ يُوقِعُونَ الطَّوَافَ كُلَّهُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الْجَرْيِ وَالِاسْتِبَاقِ وَالْمَوْضِعُ

الثَّالِثُ عَدَمُ الْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِي طَوَافِهِمْ ، وَذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ

{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَطُوفَ مِنْ دَاخِلِ الْحَجَرِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ وَلَا يَتِمُّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ وَلَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ هُنَاكَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ .

وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَلِمْهُمَا .

فَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْيَمَانِي وَقَفَ عِنْدَهُ وَلَمَسَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُقَبِّلُونَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي كَمَا يُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالسُّنَّةُ اسْتِلَامُ الْيَمَانِيِ بِالْيَدِ لَا بِالْفَمِ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَحْتَرِزُ فِي طَوَافِهِ مِنْ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا وَالثَّانِي مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ .

الثَّالِثُ : أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الطَّوَافِ فِي دَاخِلِ الْحِجْرِ .

الرَّابِعُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الشَّاذَرْوَانِ أَنْ يَمِيلَ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ فِي دَاخِلِهِ ، وَهُوَ فِي الطَّوَافِ وَالشَّاذَرْوَانُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِي .

الْخَامِسُ : أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الطِّيبِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْهُ شَيْءٌ .

السَّادِسُ : أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ .

ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ ، وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ بِمَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ لِئَلَّا يَشْغَلَ غَيْرَهُ .

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الطَّائِفِ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك فَقَالَ : هَذِهِ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا مِنْ قَوْلٍ مَخْصُوصٍ أَوْ دُعَاءٍ ، بَلْ يَدْعُو بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُمْ يَسْتَصْحِبُونَ مَعَهُمْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِأَنْ

يَقُولَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ كَذَا وَعِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ كَذَا وَعِنْدَ الطَّوَافِ كَذَا وَعِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ كَذَا وَعِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ كَذَا وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ كَذَا وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي كَذَا ، وَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ يَقُولُ كَذَا وَفِي الْمَقَامِ كَذَا وَفِي الصَّفَا كَذَا وَفِي الْمَرْوَةِ كَذَا وَفِي السَّعْيِ كَذَا وَفِي مِنًى كَذَا وَفِي عَرَفَاتٍ كَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَشْتَغِلُونَ فِي طَرِيقِهِمْ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَيَتْرُكُونَ مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَجِّهِمْ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُصَحِّحَاتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ .

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْكَعَهُمَا فِي الْمَقَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مُزَاحَمَةٌ فَإِذَا كَانَتْ رَكَعَ فِي غَيْرِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَقَبَّلَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا فَيَأْتِي إلَيْهَا فَيَصْعَدُ فِي أَعْلَاهَا حَتَّى يَنْظُرَ إلَى الْبَيْتِ فَيُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ ثُمَّ يَدْعُوَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَقَارِبِهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَنْزِلَ مِنْهَا ، وَيَأْخُذَ فِي السَّعْيِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيلِ الْأَوَّلِ فَيَرْمُلَ إذْ ذَاكَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيلِ الثَّانِي ثُمَّ يَمْشِيَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَرْوَةِ فَيَفْعَلَ فِيهَا مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجَرْيِ وَالْإِسْرَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الطَّوَافِ ، بَلْ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْعَوْنَ وَهُمْ رُكْبَانٌ عَلَى الدَّوَابِّ .

وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّكُوبَ فِي السَّعْيِ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ وَهُمْ يَجْرُونَ بِهَا الْجَرْيَ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي بِلَادِهِمْ فَيُؤْذُونَ بِذَلِكَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْحُجَّاجِ وَمَنْ فِي السُّوقِ مِمَّنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى مَفَاسِدَ تَقَعُ لَهُمْ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى ، وَهَذَا ضِدُّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ .

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى رِجْلَيْهِ .

وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَشَاعِرِ إلَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَإِنَّ الرُّكُوبَ فِيهِمَا أَفْضَلُ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَمْشِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَالْمَشَاعِرُ وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ إلَى جَانِبِهِ .

وَقَدْ نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنَّهُ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالْمَشْيُ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمَشَاعِرِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا ، وَهِيَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى عَرَفَاتٍ ثُمَّ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى الْمُحَصَّبِ ثُمَّ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الرُّكُوبِ رَكِبَ وَمَشَى بِالرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ خِيفَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ ، وَهَذَا السَّعْيُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ سَعْيِهِ مَضَى فِيهِ حَتَّى يُتِمَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ تَطَهَّرَ وَابْتَدَأَ طَوَافَهُ وَالرَّمَلُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الْمِيلَيْنِ وَفِي وَادِي مُحَسِّرٍ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنْ كَانَ آفَاقِيًّا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يَسْتَثْنِي مِنْهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا وَقْتَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَطُوفَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ إلَّا لِحَاجَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّوَافِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَأْتِيَ عُقْبَةُ بِرَكْعَتَيْنِ .

وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُؤَخِّرَ الرُّكُوعَ لَهُ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ مَغِيبِهَا وَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا رَجَعَ إلَى الطَّوَافِ فَإِنْ تَعِبَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ النَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ عِبَادَةٌ .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ وَيَحْصُلُ لَهُ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ } فَإِذَا ذَهَبَ تَعَبُهُ قَامَ وَشَرَعَ فِي الطَّوَافِ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْآفَاقِيَّ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مَعْدُومَةٌ عِنْدَهُ فَيَغْتَنِمُهَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ عَلَيْهِمْ طُولَ سَنَتِهِمْ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُمْ إلَى مُزَاحَمَةِ النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ جَلَسَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَيُصْغِي لِمَا يَقُولُ الْإِمَامُ

مِنْ تَعْلِيمِ أَحْكَامِ الْحَجِّ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ وَاسْتِمَاعِهَا فَيَتْرُكُ سُنَّةً مَعْمُولًا بِهَا فَإِذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنْ خُطْبَتِهِ وَانْصَرَفَ النَّاسُ فَلْيَأْخُذْ فِي الْخُرُوجِ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ثُمَّ يَرْحَلُ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَةَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرْحَلُونَ مِنْ مِنًى فَيَأْتُونَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَيُوقِدُونَ الشَّمْعَ وَيَصْعَدُونَ بِهِ إلَى جَبَلِ عَرَفَةَ فَيَأْتُونَ الْقُبَّةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا قُبَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُدِيرُونَ بِهَا الشَّمْعَ مَوْقُودًا وَيَطُوفُونَ بِهَا كَطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ مَنْعُهُمْ وَزَجْرُهُمْ وَتَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ عَنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً وَأَخْمَدَ بِدْعَةً فَكَيْفَ بِبِدَعٍ كَمَا سَبَقَ .

وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسُوا بِمِنًى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَبَاتَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْتَدَعَ .

فَإِذَا وَصَلُوا إلَى عَرَفَةَ أَخَذُوا فِي قَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ إلَى الزَّوَالِ فَيَغْتَسِلُونَ وَيَأْتُونَ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِنَمِرَةَ وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَقَدْ صَارُوا يُصَلُّونَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ بِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ .

فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ أَتَى لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ فَخَطَبَ النَّاسَ .

وَخُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ هَذِهِ وَالْخُطْبَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ فِي ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ وَمُعْظَمُ مَا فِي الْخُطَبِ الثَّلَاثِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُنَّ تَعْلِيمُ الْحُجَّاجِ مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَجِّهِمْ وَمَا يُنْدَبُ لَهُمْ فِيهِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُكْرَهُ لَهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْمَفَاسِدَ الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ وَكَيْفِيَّةَ التَّحَرُّزِ مِنْهَا وَيَحُضُّهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ حَجِّهِمْ بِقَدْرِ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ وَوَاسِعٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يُؤَمِّنُوا عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ وَمَنْ بَعُدَ عَنْهُ ، وَأَنْ يَدْعُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَحَبُّوا وَلِمَنْ يَخْتَارُوهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ .

وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْوُقُوفِ أَنْ لَا يَزَالَ قَائِمًا إلَى الْغُرُوبِ ، بَلْ إذَا تَعِبَ مِنْ الْوُقُوفِ جَلَسَ ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُسْتَثْنًى مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ مَسَاطِبَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالرَّاحِلَةِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِقْبَالِ إذَا كَانَ بِالْأَرْضِ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ حَضَرَ بِعَرَفَةَ كَانَ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ نَائِمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوُقُوفُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَتَحَقَّقَ غُرُوبُهَا وَأَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ فَلْيُمْهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِاللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ سُنَّةٌ وَلَا تُجْزِئُ السُّنَّةُ عَنْ الْفَرْضِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ اللَّيْلِ جُزْءًا بِعَرَفَةَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ

فِي الرَّحِيلِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ فَيَشُدُّونَ الرِّحَالَ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهَا الْأَحْمَالَ ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى الْعَلَمَيْنِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُمَا فَيَقِفُونَ هُنَاكَ فَإِذَا سَقَطَ قُرْصُ الشَّمْسِ أَسْرَعُوا بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ قُرْصُهَا بَعْدُ لَمْ يَكْمُلْ مَغِيبُهُ فَيَدْخُلُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ .

وَكَثْرَةُ الدُّعَاءِ فِي عَرَفَةَ وَالْإِلْحَاحِ بِهِ وَالِابْتِهَالُ وَالتَّضَرُّعُ هُوَ السُّنَّةُ عُمُومًا .

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ } وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ إلَّا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَعْلَى .

وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَلَمَّا أَنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبَضَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ وَاسَوْأَتَاهُ ، وَإِنْ غُفِرَتْ ثُمَّ نَفَرَ مَعَ النَّاسِ فَلَحْظَةٌ مِنْ هَذَا السُّكُوتِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ } فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ السُّكُوتُ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ ؟ فَجَوَابُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ { مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } فَإِذَا كَانَ مَنْ اشْتَغَلَ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي فَمَا بَالُك بِمَنْ أُلْبِسَ خِلْعَةَ التَّضَرُّعِ وَالِافْتِقَارِ وَالِانْكِسَارِ فَهُوَ أَفْضَلُ مَقَامًا سِيَّمَا مَعَ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالْفِكَرِ السُّنِّيَّةِ الْجَلِيلَةِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ } وَقِيلَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الدَّهْرِ .

فَإِذَا تَبَيَّنَ لَك ذَلِكَ عَلِمْت أَنَّ الْخُشُوعَ وَالسُّكُوتَ وَالْحُضُورَ وَاسْتِصْغَارَ النَّفْسِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَظِيمِ آكَدُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ ، وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ أَوْ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ .

وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَا

وَالتَّسْلِيمَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ وَأَعْلَاهَا وَذَلِكَ لَا يَقُومُ فِيهِ إلَّا وَاحِدُ عَصْرِهِ .

نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ بِالدُّعَاءِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَفِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا ، وَهِيَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الرُّكُوعِ وَفِي الْجُلُوسِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ .

وَكَذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ سِرًّا وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَحَضْرَةِ الْقِتَالِ لِقَوْلِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ سَاعَتَانِ تُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ حَضْرَةُ النِّدَاءِ إلَى الصَّلَاةِ وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

وَكَذَلِكَ إذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ فِي التِّلَاوَةِ وَقَفَ وَسَأَلَ ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ وَقَفَ وَاسْتَجَارَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الدُّعَاءُ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ وَإِظْهَارًا لِلْفَاقَةِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ رَاضٍ عَنْ رَبِّهِ يَخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ مَوْلَاهُ لَهُ وَلَا يَسْكُنُ إلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ الْمَشْرُوعِ فِي الدُّعَاءِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِبَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ { أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا } وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَدْعُو بِصَوْتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا تُقَلِّصُوا تَقْلِيصَ الْيَهُودِ فَقِيلَ لَهُ مَا أَرَادَ بِتَقْلِيصِ الْيَهُودِ قَالَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ .

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ ، وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّمَا أُنْكِرَ الْكَثِيرُ مِنْهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ ، وَأَمَّا رَفْعُهَا إلَى اللَّهِ عِنْدَ الرَّغْبَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكَانَةِ فَصِفَتُهُ أَنْ تَكُونَ ظُهُورُهُمَا إلَى الْوَجْهِ وَبُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ .

وَقِيلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } أَنَّ الرَّغَبَ تَكُونُ بُطُونُ الْأَكُفِّ إلَى السَّمَاءِ وَالرَّهَبُ بُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ .

فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ إذْ ذَاكَ تَسَبَّبَ فِي حُصُولِهِ بِاسْتِدْعَاءِ بَوَاعِثِهِ وَاسْتِجْلَابِ دَوَاعِيهِ وَالِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ .

فَمِنْ بَوَاعِثِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذُنُوبَهُ وَمَا ارْتَكَبَ مِنْ قُبْحِ عَمَلِهِ حَتَّى يَنْدَمَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ الْقُنُوطِ وَيَذْكُرُ الْخَوْفَ مَعَ الرَّجَاءِ وَسَعَةِ الرَّحْمَةِ وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِمَوْلَاهُ الْكَرِيمِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ وَيَدْعُو بِالْأَلْفَاظِ اللَّائِقَةِ بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّنْمِيقِ فِي أَلْفَاظِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخُشُوعِ فِي شَيْءٍ ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ خُضُوعٍ وَانْكِسَارٍ وَذَلِكَ يُنَافِيهِ .

{ فَصْلٌ } فَإِذَا دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلْيَمْشِ الْهُوَيْنَا وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالْخُشُوعُ ، وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ .

وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا جُعِلَا عَلَمًا عَلَى حَدِّ عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ فَلَا حَرَجَ .

فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَجَّ لَهُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ وَالضَّرَرُ الْكَثِيرُ لِلنَّاسِ سِيَّمَا الضُّعَفَاءُ وَالْمُشَاةُ وَرُبَّمَا يَنْكَسِرُ بَعْضُ الْمَحَارِّ وَالْحُجُفِ هُنَاكَ وَيَقَعُ بَعْضُ الرُّكْبَانِ وَيَقَعُ بَيْنهمْ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ بِالسِّبَابِ وَالشَّتْمِ وَمَا لَا يَلِيقُ عَقِبَ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْمُعَظَّمِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِيَسْلَمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَالثَّانِي : لِيَعْلَمَ مَنْ يَرَاهُ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ .

وَصِفَةُ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُفِعَ ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَقَدْ شُنِقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامُ حَتَّى أَنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ وَكُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا } .

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ قَالَ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ

أَمَامَك } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ وَصَلُوا إلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَالرِّحَالُ قَائِمَةٌ فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ حَطُّوا الرِّحَالَ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَصَلَّوْا الْعِشَاءَ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَتْ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ فَطُوبَى لِمَنْ أَحْيَاهَا وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ فِي الْأَقَالِيمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ السُّنَّةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَمَا وُصِفَ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ سُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا امْتَثَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ وَفِي حَقِّ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا فَعَلَ فِعْلًا فِي الْحَجِّ يَقُولُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَأَكْثَرُ أَفْعَالِ الْحَجِّ إنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ ، وَهَذَا مِنْهَا .

وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَلْتَقِطَ الْحَصَى فِيمَا بَيْنَ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَا بَأْسَ .

وَلَا يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيَكْسِرُهُ فَإِنْ فَعَلَ جَازَ وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ حَصَاةً ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ

{ فَصْلٌ } وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يُحْيِيَ لَيْلَةَ الْعِيدِ بِالصَّلَاةِ .

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُومُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ .

وَقَدْ اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ .

لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَحْيَا لَيْلَتَيْ الْعِيدِ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ } وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا يَفْعَلُ فِي رَمَضَانَ ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ فِي بَيْتِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ

{ فَصْلٌ } وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا يَنْتَظِرُ بِهَا أَحَدًا ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَعْمُولُ بِهَا .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا } .

يَعْنِي بِالْجَمْعِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالصُّبْحِ بِهَا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْوَقْتَ الَّذِي عَادَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُوقِعُهَا فِيهِ فَكَانَ يُبَكِّرُ بِهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ دُونَ مُهْلَةٍ .

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَيْمُونَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَنْ حَجَّتْ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ : إنْ أَصَابَ عُثْمَانُ السُّنَّةَ فَهُوَ يُصَلِّي الْآنَ فَمَا أَتَمَّتْ كَلَامَهَا إلَّا وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ .

ثُمَّ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا دُفِعَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَالْمَشْعَرَ عَلَى يَسَارِهِ فَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَوْلَادِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِجَمِيعِ مَعَارِفِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَيَبْتَهِلُ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُنَاكَ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَرْجُوِّ فِيهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ كُلِّهِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْفِرُ الْوَقْتُ الْإِسْفَارَ الْبَيِّنَ .

وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرْحَلُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ وَيَأْتُونَ إلَى مِنًى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفُوا بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَتْرُكُونَ هَذِهِ السُّنَّةَ الْعُظْمَى وَفِيهَا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مَا لَا يُحْصَى وَكَفَى بِهَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ مَشْرُوعَةٌ ، وَقَدْ تَرَكَهَا أَكْثَرُهُمْ وَمَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ السُّنَنِ فَلَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ .

ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى مِنًى فَإِذَا وَصَلَ بَطْنَ مُحَسِّرٍ رَمَلَ قَدْرَ رَمْيَةِ الْحَجَرِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ أَيْضًا وَإِحْيَاءَهَا ثُمَّ يَمْشِي الْهُوَيْنَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مِنًى فَيَأْتِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا ، وَهُوَ رَاكِبٌ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَرْمِيَ فِي جِدَارِ الْجَمْرَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ .

وَكَذَلِكَ لَا يَرْمِيهَا بِقُوَّةٍ وَلَا يَضَعُهَا وَضْعًا وَلَكِنْ يَكُونُ رَمْيًا مُتَوَسِّطًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ رَاحِلَةٌ فَلْيَرْمِ ، وَهُوَ قَائِمٌ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّاكِبُ إنْ تَوَقَّعَ هُنَاكَ زَحْمَةً أَوْ غَيْرَهَا فَيُسَامَحُ فِي الرَّمْيِ ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْأَرْضِ قَائِمًا ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِهِ رَجَعَ إلَى مِنًى فَنَزَلَ بِهَا ثُمَّ يَنْحَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَأَفْضَلُ مَا فِي الْحَجِّ بَعْدَ فَرَائِضِهِ نَحْرُ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ قَلَّ فَاعِلُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَفِيهَا النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي .

وَكَيْفِيَّةُ مَا يُفْعَلُ فِيهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُشْعِرُهُ وَيُقَلِّدُهُ وَيَكْسُوهُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْإِبِلِ ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ وَقِيلَ إنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ أُشْعِرَتْ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُفْعَلُ فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْتَصْحِبُ الْهَدْيَ مَعَهُ إلَى أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إلَى مِنًى ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْحَرُهُ فِيهِ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ قَدْ تُرِكَتْ وَقَلَّ الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ بِهَا فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى فِعْلِهَا حَتَّى تَحْيَا هَذِهِ السُّنَّةُ الَّتِي أُمِيتَتْ فَيَحْصُلُ لِمَنْ أَحْيَاهَا الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ قَالَ { مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } وَالْغَالِبُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي الْحَجِّ يَتْرُكُونَ جُمْلَةً مِنْ سُنَنِهِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .

فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي تَرْكِ

هَذَا وَأَمْثَالِهِ ، بَلْ يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ نَحْرِ هَدْيِهِ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالتَّقْصِيرُ إنَّمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّقْصِيرُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ فَالْحَلْقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَيْسَرُ مِنْهُ ثُمَّ يُفْطِرُ عَلَى هَدْيِهِ نَاوِيًا بِذَلِكَ اتِّبَاعَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ فَحَسَنٌ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهِ وَجِلْدِهِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتِي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا } وَتَقْدِيمُ النَّحْرِ عَلَى الْحَلْقِ هُوَ الْمُسْتَحَبُّ وَلَوْ قُدِّمَ الْحَلْقُ عَلَى النَّحْرِ فَلَا حَرَجَ .

وَلْيَكُنْ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ قَوِيَّ الرَّجَاءِ فِي فَضْلِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَرْمِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهُ مَا تَعَبَّدَهُ بِهِ .

لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } وَمَا هُوَ فِيهِ مَقَامٌ عَظِيمٌ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الرَّجَاءِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَقْبُولِينَ أَوْ مِمَّنْ غُفِرَ لَهُ بِسَبَبِ مُشَارَكَتِهِ لِلْمَقْبُولِينَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعُظْمَى .

وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ لِأُمَّتِهِ الْبَابَ لِيَدْخُلَ بَعْضُهُمْ فِي بَرَكَةِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَهْلَكَ عَلَى اللَّهِ إلَّا هَالِكٌ أَلَا تَرَى إلَى صَلَاةِ النَّاسِ فِي الْأَقَالِيمِ فِي الْمَسَاجِدِ الْمُتَفَرِّقَةِ كُلُّ إنْسَانٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي بَيْتَهُ أَوْ مَوْضِعَ سَبَبِهِ أَوْ صَنْعَتِهِ .

وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ

مَقْبُولٌ فَيُغْفَرُ لِلْبَاقِينَ بِسَبَبِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَأَمَرَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَمَنْ كَانَ خَارِجَهَا بِالْحُضُورِ إلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَقْبُولٌ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فَيَأْتِي أَهْلُ الْآفَاقِ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمَوْقِفِ جَمِيعًا وَيَتَشَارَكُونَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعُظْمَى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَوْجُودًا فِيهِمْ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَظُنُّهُ مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ حَجَّ وَبَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ فَرَأَى مَلَكَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ كَمْ حَجَّ بَيْتَ رَبِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ فَقَالَ لَهُ فَكَمْ قُبِلَ مِنْهُمْ قَالَ سِتَّةٌ فَاسْتَفَاقَ مِنْ سِنَتِهِ مَرْعُوبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ مِنْك فَأَعِدْهَا عَلَيَّ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَبْعِدْهَا عَنِّي فَنَامَ فَرَآهُمَا كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتَفَاقَ فَقَالَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ نَامَ فَرَآهُمَا فَلَمَّا أَنْ قَالَ الْمَلَكُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ سِتَّةً قَالَ فَقُلْت لَهُ وَبَاقِي النَّاسِ مَا خَبَرُهُمْ أَمَرْدُودُونَ ؟ ، ، أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ الْمَلَكُ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السِّتَّةِ مِائَةَ أَلْفٍ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَجِّ فَرَأَى شَابًّا وَعَلَيْهِ آثَارُ الْخَيْرِ فَحَصَلَ لَهُ بِهِ حُسْنُ ظَنٍّ فَبَقِيَ يَتَفَقَّدُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مِنْ الْحَجِّ قَالَ فَرَأَيْته لَمَّا أَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَرَجَعَ إلَى مِنًى قَالَ إلَهِي

وَسَيِّدِي إنَّ النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْك بِهَدَايَاهُمْ ، وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ أَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك إلَّا رُوحِي فَخُذْهَا إلَيْك فَخَرَّ مَيِّتًا وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَتَعَيَّنُ تَقْوِيَةُ الرَّجَاءِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَقَبَّلِ مِنْهُمْ أَوْ الْمَغْفُورِ لَهُمْ .

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ

{ فَصْلٌ } وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِمَّا ذُكِرَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَحَلَّ لَهُ كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ وَلَيْسَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ رَمَلٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ فِي مَكَّةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهَا ، بَلْ إنْ صَادَفَهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى بِهَا وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ يَرْجِعُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا لَيْلَةً مِنْ لَيَالِيِهَا أَوْ أَكْثَرَهَا ثُمَّ يُقِيمُ بِهَا إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ عَلَى سُنَّةِ الرَّمْيِ .

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَكَذَلِكَ لَا يَدْعُ التَّكْبِيرَ بِمِنًى طُولَ مَقَامِهِ فِيهَا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ رَفْعًا مُتَوَسِّطًا بِحَيْثُ لَا يَعْقِرُ حَلْقَهُ ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي شُرِعَ الذِّكْرُ فِيهَا جَهْرًا ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّعْجِيلِ وَالْإِقَامَةِ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْإِقَامَةُ أَفْضَلُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ التَّعْجِيلِ لَكِنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَتَعَذَّرُ فَبَقِيَ التَّعْجِيلُ مُتَعَيَّنًا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَكْثَرُهُمْ يَرْمُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ يَرْحَلُونَ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِمِنًى وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِهَا وَالْإِقَامَةُ إلَى الزَّوَالِ حَتَّى يَرْمِيَ بَعْدَهُ وَلَا تُمْكِنُ الْإِقَامَةُ فِي الْغَالِبِ بَعْدَ رَحِيلِ النَّاسِ مِنْ مِنًى إلَّا بِخَطَرٍ وَغَرَرٍ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ

لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ .

فَإِذَا رَحَلَ مِنْ مِنًى قَاصِدًا مَكَّةَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ النُّزُولَ بِالْمُحَصَّبِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَعَلَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بَعْدَ دُخُولِ أَوْقَاتِهَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ غَالِبُهَا التَّعَبُّدُ فَيَفْعَلُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ .

وَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ قَدْ تُرِكَتْ فَمَنْ أَحْيَاهَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَالْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ إذَا رَحَلُوا مِنْ مِنًى لَا يَنْزِلُونَ إلَّا بِمَكَّةَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ وَصَلَّى فِيهِ ، وَهُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْعَالِمُ بِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ رَبِّهِ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى تَقْدِيمِ مَا قَدَّمَ وَتَأْخِيرُ مَا أَخَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَإِذَا دَخَلَهَا فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .

وَالْعُمْرَةُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ السَّنَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَإِنْ فَعَلَهَا قَبْلَ غُرُوبِهَا لَمْ تُجْزِهِ ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا وَلَا يُحْدِثُ لَهَا إحْرَامًا جَدِيدًا .

فَعَلَى مَذْهَبِهِ مَنْ فَعَلَهَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ الرَّمْيِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ بَعْدُ وَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ حُكْمُ الْمُحْرِمِ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَوْ يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذَا أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِمَكَّةَ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِذَا أَتَى الْحِلَّ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ وَانْتَظَرَ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَإِذَا غَرَبَتْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالْحِلِّ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَمِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَهَا رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَقِبَ الْفَرْضِ صَحَّ ، وَيَنْوِي الدُّخُولَ فِيهَا وَيُلَبِّي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ .

فَإِذَا أَتَى إلَى مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ وَيُدْرِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ فَتَحْصُلُ لَهُ الْعُمْرَةُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَيُدْرِكُ السَّفَرَ مَعَ النَّاسِ إنْ رَحَلَ الرَّكْبُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَاسِكِ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ .

وَالْغَالِبُ أَنَّ الرَّكْبَ لَا يَرْحَلُ إلَّا فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ لَكِنَّهُ قَدْ يَرْحَلُ فِي لَيْلَتِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَمَنْ فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَانَ مُتَأَهِّبًا

لِلسَّفَرِ مَعَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ وَالْفَقْرَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ } زَادَ التِّرْمِذِيُّ { وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَظَلُّ يَوْمَهُ مُحْرِمًا إلَّا غَابَتْ الشَّمْسُ بِذُنُوبِهِ }

ثُمَّ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِشُغْلٍ كَثِيرٍ أَوْ طَالَ مَقَامُهُ بِهَا وَأَرَادَ السَّفَرَ فَلْيُعِدْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْقَهْقَرَى وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَدَاعِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

ثُمَّ أَدَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَعَلَّلُوهَا إلَى أَنْ صَارُوا يَفْعَلُونَهَا مَعَ مَشَايِخِهِمْ وَمَعَ كُبَرَائِهِمْ وَعِنْدَ الْمَقَابِرِ الَّتِي يَحْتَرِمُونَهَا وَيُعَظِّمُونَ أَهْلَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ } فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلْتَكُنْ نِيَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ وَكُلِّيَّتُهُ فِي زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزِيَارَةِ مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَا يُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَقْصِدِهِ أَوْ قَضَاءِ شَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ فَهُوَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ وَالْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ .

فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُعَرَّسِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ حَتَّى يَتَأَهَّبَ لِلدُّخُولِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَطَهَّرَ وَيَرْكَعَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَطَيَّبَ وَيُجَدِّدَ التَّوْبَةَ ثُمَّ يَدْخُلَ ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى رِجْلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ .

وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَنْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَادَرُوا إلَيْهِ كُلُّهُمْ إلَّا سَيِّدَهُمْ فَإِنَّهُ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيك خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ } .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحَسْبِ مَا حَضَرَ فِي الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الْآدَابَ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى لِعَظِيمِ أَمْرِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِيمَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا الْمُجَاوَرَةُ أَوْ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ .

أَمَّا الْمُجَاوَرَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْعَجْزُ عَنْ الْقِيَامِ بِآدَابِ الْمُجَاوَرَةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ الْجَنَابُ عَظِيمٌ فَاحْتِرَامُهُ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ عَظِيمٌ وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ الْهَفَوَاتِ وَالْكَسَلِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الْمُجَاوَرَةُ أَوْ الْقُفُولُ فَأَجَابَ بِأَنْ قَالَ : السُّنَّةُ

الْحَجُّ ثُمَّ الْقُفُولُ وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ أَوْلَى .

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْيَمَنِ يَمَنُكُمْ وَيَا أَهْلَ الْعِرَاقِ عِرَاقُكُمْ وَيَا أَهْلَ الشَّامِ شَامُكُمْ وَيَا أَهْلَ مِصْرَ مِصْرُكُمْ .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يَبُلْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ فَمِثْلُ هَذَا تُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُجَاوَرَةُ أَوْ يُؤْمَرُ بِهَا وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ رِبْحٍ لَا مَوْضِعُ خَسَارَةٍ فَيَحْرِمُ نَفْسَهُ الرِّبْحَ لِقِلَّةِ الْأَدَبِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ سِيَّمَا حِينَ يَكُونُ الرَّكْبُ نَازِلًا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ فَتَجِدُ الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ فِي الطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ الْمُعَظَّمِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَيَمْشِي بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهَا فَتَتَنَجَّسُ نَعْلُهُ أَوْ قَدَمُهُ بِذَلِكَ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الشَّرِيفَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَدْ حَكَى لِي السَّيِّدُ الْجَلِيلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَعَزَمَ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ فِيهِ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : الْحُجَّاجُ يَعْمَلُونَ هَذَا فَأَجَابَهُ الْهَاتِفُ بِأَنْ قَالَ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَخَرَجَ عَنْ الْبَلَدِ حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ رَجَعَ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُشَاهِدُ مَا فُعِلَ هُنَاكَ مِنْ الْمِيضَاءَاتِ الَّتِي عُمِلَتْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَلَهَا سَرَابَاتٌ وَالْمِيَاهُ تُسْكَبُ وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْرِي فِي الْأَرْضِ سَرِيعًا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِزَوَالِهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَمِنْ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ الْهَرَبُ مِنْ مَوْضِعٍ

يُبَاشَرُ مِثْلُ هَذَا فِيهِ ثُمَّ إنَّ فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُقَابِلُ الْمِيضَاءَاتِ رُطُوبَاتٍ وَفِيهَا سَرَابَاتٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يُخَافُ مِنْهُ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ فَيَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِحَسْبِ حَالِ الْمُغَيِّرِ .

وَسَبَبُ الْوُقُوعِ فِي هَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحَسَنَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ حَسَنَةٌ وَيَفْعَلُونَهَا وَلَا يُفَكِّرُونَ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْطِنُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرَاقِبُونَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُتَحَفِّظُونَ مِمَّا يُتَوَقَّعُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ الْفَسَادِ وَفِعْلُ هَذَا بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ مِنْ أَكْبَرِ السَّيِّئَاتِ ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ يَقْصِدُ بِهِ الْحَسَنَةَ ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ لِمَا كَانَ يُفْعَلُ هُنَاكَ فِي الطَّرِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَأَرَادَ إزَالَتَهُ بِفِعْلِ الْمِيضَاءَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرُّبُطِ فَوَقَعَ فِي أَكْثَرَ مِمَّا تَحَفَّظَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالْإِزَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا فُعِلَ مِنْ الْمِيضَاءَاتِ وَالرُّبُطِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ الْأَذَى فِي الْكُنُفِ مَعَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فَيَسْرِي تَحْتَ الْأَرْضِ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُشَاهِدُ قِرَاءَتَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَاعِ حَلَقًا حَلَقًا فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَكَذَلِكَ الْأَحْزَابُ وَالْأَذْكَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ إذَا فَرَغُوا مِنْ هَذِهِ الْوَظَائِفِ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ تَارَةً بِالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَارَةً بِقَوْلِهِمْ جَرَى لِفُلَانٍ كَذَا وَوَقَعَ لِفُلَانٍ كَذَا وَاتَّفَقَ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ عِنْدَ قَبْرِ وَلِيٍّ فَكَيْفَ يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ الْكَرِيمَةِ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ

سُوقَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الصِّغَرِ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَيُؤْتَى إلَى السُّوقِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَجُوزُ مِنْ الْغَنَمِ الَّتِي نُهِبَتْ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّلَعِ .

الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ وَذَاعَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ لَا تَرْضَاهُ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَيُخَافُ أَنْ يَصِلَ هَذَا السُّمُّ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ أَوْ خَالَطَهُمْ فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ وَلَدُهُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَمَعَارِفُهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ لِتَعَذُّرِهِ .

الْوَجْهُ الثَّامِنُ : مَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْبَوْلِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .

وَقَدْ وَقَعَ لِي لَمَّا أَنْ حَجَجْت كُنْت أُصَلِّي مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ فَقَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْأَمَانَةِ وَالدِّينِ لَا تَفْعَلْ وَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا بُدَّ لَك مِنْ خِرْقَةٍ تُصَلِّي عَلَيْهَا فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَبِيتُونَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَيَبُولُونَ فِيهِ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَكْثُرَ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَيَجِيءَ الْمَطَرُ فَيَنْزِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فِي عِمَادِ الدِّينِ وَرَأْسِهِ ، وَهِيَ الصَّلَاةُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْمَقَامُ مَعَهَا وَقَدْ كُنْت عَزَمْت أَنْ أُجَاوِرَ بِهَا ، وَكَانَتْ الْمُجَاوَرَةُ تَيَسَّرَتْ عَلَيَّ فَقَالَ مَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُجَاوِرَ فَقُلْت لَهُ وَلِمَ ؟ فَقَالَ لِي مَنْ يَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَفْسَدَةُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهَا فَقُلْت لَهُ فَلِمَ جَاوَرْت أَنْتَ بِهَا فَقَالَ لِي جَاوَرْت اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُجَاوِرَ مُخْتَارًا فَانْظُرْ لِنَفْسِك وَالسَّلَامُ أَوْ كَمَا قَالَ .

فَتَرَكْت الْمُجَاوَرَةَ لِنُصْحِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى عَادَتِهِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي كُنْت أَعْهَدُ مِنْهُ .

ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْمُجَاوِرَ لَا يُبَاشِرُ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ

ذِكْرُهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْمُجَاوَرَةُ مُسْتَحَبَّةً فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَخِلَّ بِعِبَادَةٍ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِيهَا وَكَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ لِمَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ بِالْحُضُورِ مَعَهُ دُونَ إرْسَالِ السَّلَامِ بِالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُقَدِّمَ امْتِثَالَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَيُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ فَالْمُجَاوَرَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ هَذِهِ هِيَ الْمُجَاوَرَةُ .

وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْهَجُ بِهَذَا الْبَيْتِ كَثِيرًا وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كَانَ سُنَّةً وَشَرُّ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَاتِ الْبَدَائِعُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ } فَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ قَرِيبٌ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى وَكَمْ مِنْ قَرِيبِ الدَّارِ بَعِيدٌ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كَمْ مَنْ هُوَ مَعَنَا وَلَيْسَ هُوَ مَعَنَا وَكَمْ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنَّا ، وَهُوَ مَعَنَا .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ كَانَتْ السَّعَادَةُ بِالْهَيَاكِلِ وَالصُّوَرِ مَا ظَفِرَ بِهَا بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ وَحُرِمَهَا أَبُو لَهَبٍ الْقُرَشِيُّ .

وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ وَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ نَالَ مُرَادَهُ وَكَمْ مِنْ قَرِيبِ الدَّارِ مَاتَ كَئِيبًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الشَّيْءُ لِمَنْ خُبِّئَ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ قُسِمَ لَهُ .

فَالْمُجَاوَرَةُ بِالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ كَانَ الْمَرْءُ مِنْ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِالْأَشْبَاحِ .

وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَمْ مِنْ رَجُلٍ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ أَقْرَبُ إلَى هَذَا الْبَيْتِ مِمَّنْ يَطُوفُ بِهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ

يَقُولُ لَأَنْ تَكُونَ بِبَلَدِك وَقَلْبُك مُشْتَاقٌ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْبَيْتِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ وَأَنْتَ مُتَبَرِّمٌ بِمَقَامِك أَوْ قَلْبُك مُتَعَلِّقٌ إلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ .

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ كَانَ مِمَّنْ يُرِيدُ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ مُرَغَّبٌ فِيهِ .

فَإِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْوِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَيَزِيدُ هُنَا مِنْ النِّيَّاتِ فِيهِ الِامْتِثَالَ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ شَدِّهِ الرِّحَالَ إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَيَنْوِي الصَّلَاةَ فِيهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُشْرِكَ فِي نِيَّتِهِ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ وَطَنُهُ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ .

فَإِذَا بَلَغَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَالسُّنَّةُ فِيهِ كَسُنَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ أَعْنِي فِي ابْتِدَائِهِ بِالتَّحِيَّةِ بِالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ تَحِيَّتَهُ بِالطَّوَافِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِلْقَادِمِ إلَيْهِ .

ثُمَّ الْآدَابُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الْمَسَاجِدِ تَتَأَكَّدُ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَيَسْتَصْحِبُ الْخُشُوعَ وَالْهَيْبَةَ وَإِظْهَارَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَتَكُونُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ .

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَخَذَ فِي الدُّعَاءِ لَهُ وَلِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْمُسْتَهْجَنَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالصَّخْرَةِ كَمَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَجْمَعُوا فِي صَلَاتِهِمْ بِنِيَّاتِهِمْ بَيْنَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَتَيْنِ الْكَعْبَةِ وَالصَّخْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الصَّخْرَةِ مَنْسُوخٌ

بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَمَنْ نَوَى ذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَةٌ ، بَلْ يَنْوِي اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَخْلِطَ مَعَهَا مَا ذُكِرَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى مَوْضِعٍ هُنَاكَ يُسَمُّونَهُ سُرَّةَ الدُّنْيَا فَمَنْ لَمْ يَكْشِفْ عَنْ سُرَّتِهِ وَيَضَعْهَا عَلَيْهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي زِيَارَتِهِ الْخَلَلُ عَلَى زَعْمِهِمْ فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، وَهُوَ كَشْفُ أَبْدَانِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ لِوَضْعِهَا عَلَيْهِ .

وَالْبِدَعُ الَّتِي تُعْمَلُ هُنَاكَ كَثِيرَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا .

ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَالدُّعَاءِ فَيُقَوِّي رَجَاءَهُ فِي فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ بِأَنْ يُنْجِزَ لَهُ مَا وَعَدَهُ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثًا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَاغِهِ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } فَعَلَى هَذَا فَمَنْ خَرَجَ إلَيْهِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .

وَقَدْ خَرَجَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ إلَيْهِ صَلَّى فِيهِ وَرَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنْ يَنْوِيَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ

الْأَقْصَى بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَزِيَارَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُ يَنْوِي زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ ثَمَّ مَوْضِعُ نَبِيٍّ مَقْطُوعٌ بِهِ بَعْدَ مَوْضِعِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَوْضِعَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْنِي مَا دَارَ بِهِ الْبِنَاءُ فَإِنَّهُ مُحَقَّقٌ أَنَّهُ فِي دَاخِلِهِ .

وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ لَهُ فِي نَوْمِهِ ابْنِ عَلَى قَبْرِ خَلِيلِي بِنَاءً يُعْرَفُ بِهِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ نَظَرَ فَلَمْ يَعْرِفْ الْمَكَانَ الَّذِي قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلُهُ ثُمَّ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ : يَا رَبِّ لَا أَعْرِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَقِيلَ لَهُ إذَا خَرَجْت فَانْظُرْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصْعَدُ مِنْهُ النُّورُ إلَى السَّمَاءِ فَابْنِ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالنُّورِ الَّذِي قِيلَ لَهُ عَنْهُ قَدْ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَعَلَّمَ عَلَيْهِ وَبَنَتْهُ الْجَانُّ لَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا تَرَى كُلَّ حَجَرٍ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ قَلَّ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِهِ عَشْرَةٌ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ أَكْثَرُ فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ اسْتَوَى عَلَى سَرِيرِهِ وَصَعِدَتْ بِهِ الرِّيحُ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْ فَوْقِهِ فَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجُ وَكَانَ النَّاسُ إذَا أَتَوْا إلَى زِيَارَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَزُورُونَهُ مِنْ خَارِجِ الْبِنَاءِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَارَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ إلَى أَنْ تَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ

وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَبَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ إلَى تَمَامِ خَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ الرَّوْضَتَيْنِ فَعَمَدَ الْكُفَّارُ لَمَّا أَنْ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً وَصَوَّرُوا فِي دَاخِلِ الْبِنَاءِ قُبُورًا فَيَقُولُونَ هَذَا قَبْرُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا قَبْرُ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا قَبْرُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا قَبْرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا قَبْرُ سَارَةَ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي التَّارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرُ فَتَرَكُوا الْبَابَ عَلَى حَالِهِ مَفْتُوحًا وَاِتَّخَذُوهُ جَامِعًا وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى الْآنَ .

فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا لِمَنْ أَتَى إلَى زِيَارَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَزُورَهُ مِنْ خَارِجِ الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَالُ أَوَّلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَزُورَ مِنْ دَاخِلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ خَطَرٌ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ الْبَابِ أَوْ مَا قَابَلَهُ أَوْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَدُوسَ عَلَيْهِ حِينَ مَشْيِهِ وَاحْتِرَامُهُ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يَزُورُ إلَّا مِنْ خَارِجِهِ كَمَا سَبَقَ ، وَإِنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ هُنَاكَ فَلْيُصَلِّ خَارِجَهُ وَيَبْسُطْ شَيْئًا يُصَلِّي عَلَيْهِ إذْ أَنَّ خَارِجَهُ مَوْضِعُ الْأَقْدَامِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَرُ فِي نَفْسِ الدُّخُولِ إلَيْهِ فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْعَدَسِ الَّذِي يُفَرِّقُونَهُ فِيهِ هَذِهِ ضِيَافَةُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُفْرِدُونَهُ بِالذِّكْرِ فَقَدْ يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ ضِيَافَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ بِالْعَدَسِ لَيْسَ إلَّا وَكَانَتْ ضِيَافَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ الْبَقَرِ ، وَهَذَا لَفْظٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ قَائِلُهُ وَقَدْ شَاعَ هَذَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْبِلَادِ تَسْمَعُهُمْ يُنَادُونَ عَلَى الْعَدَسِ الْمَطْبُوخِ فِي الْأَسْوَاقِ عَدَسُ الْخَلِيلِ عَدَسُ الْخَلِيلِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُ نَصِيحَتَهُ وَإِلَّا فَلْيَعْتَزِلْهُمْ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ .

وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُصْغِيَ أَوْ يَنْظُرَ أَوْ يَرْضَى بِمَا يُفْعَلُ هُنَاكَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الضَّرْبِ بِالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ وَيَرْقُصُ بَعْضُ النَّاسِ هُنَاكَ عِنْدَ ضَرْبِهِمْ بِهَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِنَوْبَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَمُنْكَرٌ ظَاهِرٌ تَتَعَيَّنُ إزَالَتُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَحْضُرُهُ لِئَلَّا يُشَارِكَهُمْ فِي إثْمِ مَا ارْتَكَبُوهُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ، وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَمِعُ نَصِيحَتَهُ أَوْ يَرْجُو ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ .

وَأَشْنَعُ مِنْ ضَرْبِهِمْ بِالطَّبْلِ وَتَصْوِيتِهِمْ بِالْمَزَامِيرِ وَالْأَبْوَاقِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

كَانَ النَّاسُ يَتَقَرَّبُونَ بِالْحَسَنَاتِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَجِلُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ فَانْعَكَسَ الْحَالُ

وَصَارُوا يَتَقَرَّبُونَ بِالسَّيِّئَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا حَسَنَاتٌ مُتَقَبَّلَةٌ مِنْهُمْ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَالْبِدَعُ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَلَّ أَنْ تُحْصَرَ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ فَاللَّبِيبُ الْعَاقِلُ مَنْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَأَنْقَذَ مُهْجَتَهُ مِنْ غَمَرَاتِ الْعَوَائِدِ الْمَذْمُومَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَمَا يَنْفَعُهُ لِيَوْمِ مَعَادِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي هُنَاكَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَذَلِكَ قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الَّذِينَ فِي طَرِيقِهِ إنْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْبَرَكَاتُ الْعَظِيمَةُ وَيُقَوِّي الرَّجَاءَ فِي إجَابَةِ دُعَائِهِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ الْجَمِيلَةُ .

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِفَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ إنْ سَلِمَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِيهِ وَعَجَزَ عَنْ الْإِنْكَارِ كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَوْرَةَ أَهْلِهِ فَالسَّفَرُ إلَيْهِمْ إذَنْ مُتَعَيَّنٌ فَيَنْوِي بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ إلَى بَيْتِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَكِنَّ اسْتِحْضَارَهُ تِلْكَ النِّيَّاتِ آكَدُ لِأَجْلِ طُولِ غَيْبَتِهِ وَتَعَلُّقِ خَوَاطِرِ الْأَهْلِ بِمَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ غَرَرِ الطَّرِيقِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ هُوَ ؛ لِأَنَّهُمْ رَعِيَّتُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ لِقَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَتَغَيَّرَ الْأَحْوَالُ وَلَيْسَ حُضُورُهُ كَغَيْبَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ سَفَرُهُ إلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا بِحَسَبِ الْحَالِ .

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْصِدَ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ فَيَنْوِيَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ هَدِيَّةً لِيُدْخِلَ بِهَا السُّرُورَ عَلَى أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ إنْ تَيَسَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا ، وَهِيَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَفْعَلُ حِينَ قُدُومِهِ إلَى وَطَنِهِ تِلْكَ الْآدَابَ الْمُتَقَدِّمَةَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مِنْ سَفَرِ الْحَجِّ جَاءَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ فَيَضْرِبُونَ عِنْدَ بَابِهِ بِالطَّارِّ الْمُصَرْصِرِ وَالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ تَحْصِيلِ عِلْمٍ وَعِبَادَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُجَانِسُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ إنَّمَا هُوَ ارْتِكَابُ السَّيِّئَاتِ ، وَهُوَ الْآنَ قَدْ عُرِّيَ عَنْهَا فَهُوَ قَابِلٌ لِتَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ إذْ هِيَ خَفِيفَةٌ عَلَيْهِ وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا الْحَالَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ فَإِنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى مَنْ تُقُبِّلَ حَجُّهُ وَيَسْتَعْمِلُ الْجَدَّ وَالِاجْتِهَادَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا سَيِّئَةَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَاتِ قَدْ غُفِرَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُرْضِيَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ فَمَتَى فَجَأَهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالسَّلَامَةِ .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ } وَقَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ .

لَكِنْ اُحْتِيجَ إلَى إعَادَتِهَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدْعَةً ، وَأَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً جَائِزٌ وَأَلَّفَ تَأْلِيفًا رَدَّ فِيهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ يَسْتَدِلُّ فِيهِ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ لَا لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ أَبَدًا جَارِيَةً فِيمَنْ يُحَاوِلُ إخْمَادَ سُنَّةٍ وَإِظْهَارَ بِدْعَةٍ أَنَّ كَلَامَهُ يَكُونُ مُتَنَاقِضًا مُتَبَايِنًا فَالرَّدُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فَكَفَى الْغَيْرَ مُؤْنَةُ ذَلِكَ إذْ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ .

فَبَدَأَ فِي رَدِّهِ بِخُطْبَةٍ هَذَا نَصُّهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَانَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَنَارَهُ .

وَأَزَالَ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَبَارَهُ .

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَوْفَرَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مَا اعْتَرَى ضِيَاءٌ ظَلَامًا فَأَغَارَهُ .

سَأَلْتُمْ أَرْشَدَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّايَ عَمَّا رَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إزَالَةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَتَعْطِيلِهَا وَمَنْعِ النَّاسِ مِنْ عِبَادَةٍ اعْتَادُوهَا فِي لَيْلَةٍ شَرِيفَةٍ لَا شَكَّ فِي تَفْضِيلِهَا ، وَاحْتِجَاجُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُهَا وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَمْرِ الْمَطْرُوحِ الْمَدْفُوعِ وَغُلُوُّهُ فِي ذَلِكَ وَإِسْرَافُهُ ، وَغُلُوُّ النَّاسِ فِي مُشَاقَّتِهِ وَخِلَافِهِ حَتَّى ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } إلَى { كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَرَغِبْتُمْ

فِي أَنْ أُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَأُوَضِّحَهُ أُزَيِّفَ الزَّائِفَ مِنْهُ وَأُزَحْزِحَهُ فَاسْتَعَنْتُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَخَرْته ، وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .

وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

أَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ خُطْبَتِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَانَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَنَارَهُ .

فَهَذَا اللَّفْظُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ إقَامَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَإِشَاعَتُهَا فِي الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ الْحَقِّ النَّيِّرِ الْمُبِينِ ، وَهُوَ قَدْ نَقَلَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا مَوْضُوعٌ ، وَأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْبَيِّنَ هُوَ الَّذِي لَا نَكِيرَ لَهُ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي أَرَادَ إثْبَاتَهَا قَدْ أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ .

وَقَوْلُهُ وَأَزَالَ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَبَارَهُ فَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ مِنْ صِحَّتِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ أَنْكَرُوهَا غَلِطُوا فِي ذَلِكَ وَنِسْبَةُ الْغَلَطِ إلَيْهِ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ هُوَ الزَّائِفُ الَّذِي لَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى سَاقٍ .

وَقَوْلُهُ سَأَلْتُمْ أَرْشَدَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّايَ عَمَّا رَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إزَالَةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَتَعْطِيلِهَا .

فَقَوْلُهُ وَتَعْطِيلِهَا ، التَّعْطِيلُ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى أَمْرٍ مَشْرُوعٍ عُطِّلَ هَذَا هُوَ التَّعْطِيلُ الْمَعْرُوفُ ، وَأَمَّا تَعْطِيلُ مَا أُحْدِثَ فَلَيْسَ بِتَعْطِيلٍ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ .

وَقَوْلُهُ وَمَنْعِ النَّاسِ مِنْ عِبَادَةٍ اعْتَادُوهَا الْعِبَادَةُ هِيَ مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ

وَبَيَّنَهَا ، وَمَا لَمْ يُقَرِّرْهُ فَلَيْسَ بِعِبَادِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمَانِعُ لَهَا إمَّا أَنْ يَمْنَعَهَا لِكَوْنِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مَوْضُوعًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَمْنَعُهَا أَلْبَتَّةَ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ ضَعِيفًا فَيَمْنَعُهَا جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ مَا لَمْ يَتَّخِذْهَا عَادَةً لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَضِدِّهِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : اعْتَادُوهَا فَهَذَا رَدٌّ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَمْ تُشْرَعْ قَطُّ بِالْعَادَةِ إلَّا مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ شَرْعٌ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَمَاعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ يُقَدِّمُونَ وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً إنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ إنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي الدِّينِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَنْعُ فِي حَقِّهِمْ وَهُمْ لَمْ يَزِيدُوا وَلَمْ يُنْقِصُوا فِي التَّنَفُّلِ الْمَشْرُوعِ شَيْئًا إلَّا أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا صَلَاةَ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ فَكَيْفَ بِهِمْ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ .

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَفَعَلْت كَفِعْلِهِمْ وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَأَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَلَا يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ كَمَا

قَالَ فَكُلُّ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ إذَا فُعِلَ بَعْدَهُمْ كَانَ نَقْصًا فِي الدِّينِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَشْرُوعِيَّتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ بِالْعَادَةِ لَا بِالشَّرْعِ .

وَقَوْلُهُ : فِي لَيْلَةٍ شَرِيفَةٍ لَا شَكَّ فِي تَفْضِيلِهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ لَا شَكَّ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ فِيهَا بِالْعَادَةِ بَلْ يُعَظِّمُهَا الْمُكَلَّفُ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ وَأَيْضًا فَيَسَعُنَا فِيهَا مَا وَسِعَ السَّلَفَ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ وَاحْتِرَامَهَا عَنْهُمْ يُؤْخَذُ وَمِنْهُمْ يُتَلَقَّى لَا بِمَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا عَادَتُنَا ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فَهُوَ الَّذِي يُتَّبَعُ لَا الْعَوَائِدُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .

قَوْلُهُ وَاحْتِجَاجُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ .

فَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يَرُومُ إثْبَاتَهُ وَالتَّقَرُّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .

وَقَوْلُهُ : وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُهَا وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَمْرِ الْمَطْرُوحِ الْمَدْفُوعِ قَدْ تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهَا مَوْضُوعًا أَوْ ضَعِيفًا فَمَنْ طَرَحَهَا وَأَنْكَرَهَا لَمْ يَسْتَنِدْ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ وَلَا لَفِعْلِهِ بَلْ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فِي الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ وَقَوْلُهُ وَغُلُوُّهُ فِي ذَلِكَ وَإِسْرَافُهُ .

هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَفْظٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ

يُقَالَ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِصُلَحَائِهِمْ وَخِيَارِهِمْ فَكَيْفَ بِالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ مِنْهُمْ وَلَفْظُ الْغُلُوِّ يُسْتَعْمَلُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } فَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فَقَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَزَادُوا مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَغَلَوْا فِي دِينِهِمْ فَمَنْ زَادَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الْغُلُوِّ بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ الْبِدْعَةَ وَذَمَّهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ شَيْئًا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْرِفِينَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ أَنْ يُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ مَنْ ذَبَّ عَنْ السُّنَّةِ وَحَمَاهَا أَسْأَلُ اللَّهُ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لُحُومُ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ وَعَادَةُ اللَّهِ فِيمَنْ آذَاهُمْ أَبَدًا مَعْلُومَةٌ .

وَكَيْفَ لَا ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ النَّاصِرُ لَهُمْ وَالْمُقَاتِلُ عَنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مِنْ يَنْصُرُهُ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أَيْ إنْ تَنْصُرُوا دِينَهُ وَقَالَ تَعَالَى { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } فَضَمِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَصْرَهُ مَنْ نَصَرَ دِينَهُ .

وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ بَذَاءَةِ اللِّسَانِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ فِي حَقِّ آحَادِ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِهَا فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ

يُنْكِرُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بَلْ إنَّهُمْ مُسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذْ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْرَفْ عِنْدَهُمْ حَتَّى حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ وَقَرَّرَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَوْ كَانَتْ مِنْ الدِّينِ لَمْ تَتَأَخَّرْ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عِلْمًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ لِلذِّكْرِ جَمَاعَةً فَمَا بَالُك بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَعَلُوهُ شِعَارًا ظَاهِرًا فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَوْا عَنْهُ وَيَزْجُرُوا فَاعِلَهُ .

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأَمَةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا .

وَقَوْلُهُ : وَغُلُوُّ النَّاسِ فِي مُشَاقَّتِهِ وَخِلَافِهِ هَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَغَيْرَهُمْ قَدْ خَالَفُوا الْقَائِلَ بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا هُمْ الْعُلَمَاءُ فَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت النَّاسَ وَرَأَيْت النَّاسَ وَمَا هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَعْنِي بِهِ الْعُلَمَاءَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَةَ النَّاسِ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا عِبْرَةَ بِمُشَاقَّةِ غَيْرِهِمْ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَادَتُهُمْ لَكَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمَعَالِمِ الشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لَهَا ، وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَحْفُوظَةٌ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ .

وَقَوْلُهُ حَتَّى ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } إلَى { كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ

إلَى كَيْفِيَّةِ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ يَرُدُّ بِهَا عَلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلَحَائِهِمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبِدَعَ وَالْمُحْدَثَاتِ وَيَذُبُّونَ عَنْ الدِّينِ فَلَوْ عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ مَا وَقَعَ فِيهِ لَمَا تَكَلَّمَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

ثُمَّ إنَّ النَّهْيَ مَا وَرَدَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ نَهَى عَنْ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَةِ الْمُقَرَّرَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَأَنْكَرَهَا فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ مَشْكُورٌ عَلَى سَعْيِهِ .

لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ } ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَمَنْ عَدَّلَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَيْفَ يُدْخِلُهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي الذَّمِّ الَّذِي جَاءَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَقَوْلُهُ : فَرَغِبْتُمْ فِي أَنْ أُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَأُوَضِّحَهُ وَأُزَيِّفَ الزَّائِفَ مِنْهُ وَأُزَحْزِحَهُ .

فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي إقَامَتِهَا وَإِشَاعَتِهَا وَأَنَّ الْبَاطِلَ فِي رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنْقِيصُ مَنْ مَضَى مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ وَسَلَفِهَا الصَّالِحِ وَتَزْكِيَةُ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ إذْ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ فَاتَتْهُمْ فَضِيلَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَظُنَّ هَذَا أَحَدٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَقَوْلُهُ : فَاسْتَعَنْت بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاسْتَخَرْته .

اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يَسْتَعِينُ

وَيَسْتَخِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ لَا تَكُونُ فِي وَاجِبٍ وَلَا مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ عَلَى مَا مَضَى مِنْ بَيَانِهَا ، وَهَذَا قَدْ اسْتَعَانَ وَاسْتَخَارَ فِي شَيْءٍ يَلْزَمُهُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى السَّلَفِ الْمَاضِينَ وَعَلَى مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الدِّينِ .

وَقَوْلُهُ : وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته .

فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ إيهَامٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ طَالَعَهُ إذْ إنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ لَهُ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَعَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَنْ تَعَرَّضَ الرَّدَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْجُلَّةِ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَقْوَى الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ وَأَعْظَمِهَا لِكَيْ يَحْصُلَ لَهُ مَا رَامَهُ أَوْ بَعْضُهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ .

فَقَوْلُهُ : وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته فِيهِ مَا فِيهِ .

وَقَوْلُهُ عَقِبَ خُطْبَتِهِ : فَأَقُولُ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ شَاعَتْ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ .

فَلَفْظُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ لِنَقْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَلَمْ تُعْرَفْ قَبْلَهُ وَشَيْءٌ هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَقَدْ وَرَدَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ : شَاعَتْ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : بَيْنَ النَّاسِ فَيَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظَةِ النَّاسِ الْعُلَمَاءَ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْعُلَمَاءِ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا سَبَقَ .

فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَنْكَرُوهَا وَعَدُّوهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُنْكَرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْعَوَامَّ لَيْسَ إلَّا فَالْعَوَامُّ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ

فِي شَيْءٍ .

وَإِنْ كَانَ أَرَادَهُمَا مَعًا ، فَلَا يَصِحُّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إنْكَارِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَوَامُّ وَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ كَمَا سَبَقَ وَقَوْلُهُ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَنْشَأَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَانَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .

فَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إذْ أَنَّ مَبْدَأَ فِعْلِهَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ دُونَ غَيْرِهِ وَالْبُقَعُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَهَا فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهَا ، فَلَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا حَدَثَ فِيهَا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ .

وَقَدْ حَفِظَهَا اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ حَدَثَتْ فِيهِمَا أُمُورٌ مَعْرُوفَةٌ يَأْبَاهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَلَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّشْرِيعُ لَا يَكُونُ بِفَضِيلَةِ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ وَلَا الْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ وَشَرَفِهِمَا .

إنَّمَا يُتَلَقَّى عَنْ الشَّارِعِ بِنَصِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ إنَّ مُنْشَأَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى عَمَلِهَا وَإِثْبَاتِهَا فَمَا تَقَدَّمَ هُوَ جَوَابُهُ .

وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْهَا أَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الدِّينِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ آخَرَ .

وَقَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهَا بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا ضَعِيفٌ سَاقِطُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَوْضُوعٌ وَذَلِكَ الَّذِي نَظُنُّهُ وَمِنْهُمْ مِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى وَصْفِهِ بِالضَّعْفِ وَلَا تُسْتَفَادُ لَهُ صِحَّةٌ مِنْ ذِكْرِ رَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ فِي تَحْرِيرِ الصِّحَاحِ وَلَا مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فِيهِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَإِيرَادِ رَزِينٍ مِثْلَهُ فِي مِثْلِ كِتَابِهِ مِنْ الْعَجَبِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ

إلَى اعْتِرَافِهِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَا ضَعِيفٌ سَاقِطُ الْإِسْنَادِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ مَوْضُوعٌ وَإِلَى مُنَاقَشَتِهِ لِرَزِينٍ فِي كَوْنِهِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ وَتَعَجُّبِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ قَالَهُ الْعُلَمَاءُ .

وَقَوْلُهُ ثُمَّ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَالْمَنْعُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ فَهِيَ إذَنْ مُسْتَحَبَّةٌ بِعُمُومِ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا مَا رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الصَّلَاةُ نُورٌ } وَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَلَهُ طُرُقٌ صِحَاحٌ .

وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ نَسَبَ الْحَدِيثَ إلَى ابْنِ مَاجَهْ وَقَدْ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْمُوَطَّإِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ .

ثُمَّ .

إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا رَامَهُ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَالصَّلَاةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أَيْ : اُدْعُ لَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } فَهَذَا أَيْضًا أَمْرٌ مُطْلَقٌ ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَيَلَانِ وَالِانْحِنَاءِ .

تَقُولُ الْعَرَبُ سَجَدَ الظِّلُّ إذَا مَالَ وَسَجَدَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ فَلَوْ تُرِكْنَا مَعَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِالصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ بَيَانٍ لَمْ نَعْرِفْ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مَا هِيَ

فَلَمَّا بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ قَالَ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } فَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَّمَهُ وَنُقِلَ عَنْهُ وَتَقَرَّرَ وَلَيْسَتْ صَلَاةُ رَجَبٍ مِنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَا بُدَّ أَنْ تُتَلَقَّى مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِمِثْلِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَوْ الْكُسُوفِ أَوْ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ الْخَوْفِ أَوْ الْجِنَازَةِ .

هَذَا ، وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَيْفَ الْأَمْرُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا قَرَّرَهُ بَلْ إنَّمَا حَدَثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا سَبَقَ فَيَتَعَيَّنُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي التَّنَفُّلِ عَلَى مَا تَنَفَّلَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ .

وَقَوْلُهُ : وَأَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يَضَعْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً دَاخِلَةٌ فِي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ تُوجِبُ نَوْعِيَّةً وَخُصُوصِيَّةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ أَنَّهُ لَمْ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ أَصْلًا بِصَلَاةِ

الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ ا هـ .

وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَوْقَاتِهَا وَأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا وَحُدُودِهَا وَلَا مَدْخَلَ لِصَلَاةِ رَجَبٍ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا سَبَقَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ اسْتَدَلَّ لِجَوَازِ فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِأَنَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً دَاخِلَةٌ فِي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَرَدَّ الْأَمْرَ إلَى الْحِسَابِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَوَاتِ إذْ أَنَّهَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَالْحِسَابُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَمَا شَاءَ كُلُّهَا .

مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { مَنْ صَلَّى بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ } فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا ، وَهُوَ اخْتِلَافُ النِّيَّتَيْنِ إذْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إنَّمَا يَنْوِي النَّافِلَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا وَصَلَاةُ رَجَبٍ لَهَا نِيَّةٌ تَخُصُّهَا وَصِفَةٌ تَخُصُّهَا وَاسْمٌ يَخُصُّهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ فَإِذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ عَادَةٌ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ مَضَى عَلَى عَادَتِهِ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَجْمَعْ لَهَا فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ وَتَنَفَّلَ التَّنَفُّلَ الْمَعْهُودَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى بَابِهِ

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَذًّا أَوْ جَمَاعَةً فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَدِيثِ فِيهَا هَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ أَوْ ضَعِيفٌ فَعَلَى ضَعْفِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ مَا لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِعْلُهَا فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ شِعَارٌ ظَاهِرٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ يُعَيِّنُهُ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ .

ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا رَغَّبَ فِي التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ صَلَاةَ رَجَبٍ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا وَلَا فَهِمَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ هَذَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحِسَابِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ يُوجِبُ نَوْعِيَّةً وَخُصُوصِيَّةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَاجُ إلَى التَّوْقِيفِ عَلَى بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَإِذَا افْتَقَرَتْ إلَى ذَلِكَ فَأَوْصَافُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ تَفْتَقِرَ إلَيْهِ .

فَإِنْ قِيلَ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ قَدْ جَاءَتْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ فَفِعْلُهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي تَشْرِيعٍ وَشَعَائِرَ ظَاهِرٌ ، وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعُمُومُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ إذْ أَنَّ ذَاتَ الشَّيْءِ إذَا ===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق