9 مصاحف الكتاب الاسلامي/

الأربعاء، 24 مايو 2023

ج13وج14.من اول كتاب القصاص الي من نسي لغير ابيه..كذبا

بسم الله الرحمن الرحيم

ج13.وج14.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

لابن دقيق العيد كتاب القصاص

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ } ( 1 ) .

 

وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مباحو الدَّمِ بِالنَّصِّ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ " مُسْلِمٍ " وَكَذَلِكَ " الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ " كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ " التَّارِكُ لِدِينِهِ " وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ : جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا فِرَاقُهُمْ بِالرِّدَّةِ عَنْ الدِّينِ وَهُوَ سَبَبٌ لِإِبَاحَةِ دَمِهِ بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ : هَلْ تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ ، أَمْ لَا ؟ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا تُقْتَلُ وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ : تُقْتَلُ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ " الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ " بِمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ مُتَمَسَّكًا لِمَنْ يَقُولُ : مُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ كَافِرٌ وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الطَّرِيقَ فِي التَّكْفِيرِ فَالْمَسَائِلُ الْإِجْمَاعِيَّةُ : تَارَةً يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَثَلًا ، وَتَارَةً لَا يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : يَكْفُرُ جَاحِدُهُ ، لِمُخَالِفَتِهِ الْمُتَوَاتَرَ ، لَا لِمُخَالِفَتِهِ الْإِجْمَاعَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : لَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَنْ يَدَّعِي الْحِذْقَ فِي الْمَعْقُولَاتِ ، وَيَمِيلُ إلَى الْفَلْسَفَةِ فَظَنَّ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مُخَالِفَةِ الْإِجْمَاعِ . وَأَخَذَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ قَالَ " إنَّهُ لَا يُكَفَّرُ مُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ " : أَنْ لَا يُكَفَّرَ هَذَا الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ بِالْمَرَّةِ ، إمَّا عَنْ عَمًى فِي الْبَصِيرَةِ ، أَوْ تَعَامٍ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ . فَيَكْفُرُ الْمُخَالِفُ بِسَبَبِ مُخَالِفَتِهِ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ لَا بِسَبَبِ مُخَالِفَتِهِ الْإِجْمَاعَ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا ، فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ - أَعْنِي : زِنَا الْمُحْصَنِ ، وَقَتْلَ النَّفْسِ ، وَالرِّدَّةَ - وَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبَاحَةَ الدَّمِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْعَامِّ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ شَيْخُ وَالِدِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ فِي أَبْيَاتِهِ الَّتِي نَظَمَهَا فِي حُكْمِ تَارِكِ الصَّلَاةِ . أَنْشَدَنَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي أَبُو مُوسَى هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِهْرَانِيُّ قَدِيمًا ، قَالَ أَنْشَدَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ لِنَفْسِهِ : خَسِرَ الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاةَ وَخَابَا وَأَبَى مَعَادًا صَالِحًا وَمَآبَا إنْ كَانَ يَجْحَدُهَا فَحَسْبُكَ أَنَّهُ أَمْسَى بِرَبِّكَ كَافِرًا مُرْتَابَا أَوْ كَانَ يَتْرُكُهَا لِنَوْعِ تَكَاسُلٍ غَطَّى عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ حِجَابَا فَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ رَأَيَا لَهُ إنْ لَمْ يَتُبْ حَدَّ الْحُسَامِ عِقَابَا وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ يُتْرَكُ مَرَّةً هَمْلًا وَيُحْبَسُ مَرَّةً إيجَابَا وَالظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِهِ تَعْزِيرُهُ زَجْرًا لَهُ وَعِقَابَا إلَى أَنْ قَالَ : وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يُؤَدِّبَهُ الْإِمَا مُ بِكُلِّ تَأْدِيبٍ يَرَاهُ صَوَابَا وَيَكُفَّ عَنْهُ الْقَتْلَ طُولَ حَيَاتِهِ حَتَّى يُلَاقِيَ فِي الْمَآبِ حِسَابَا فَالْأَصْلُ عِصْمَتُهُ إلَى أَنْ يَمْتَطِي إحْدَى الثَّلَاثِ إلَى الْهَلَاكِ رِكَابَا الْكُفْرُ أَوْ قَتْلُ الْمُكَافِي عَامِدًا أَوْ مُحْصَنٌ طَلَبَ الزِّنَا فَأَصَابَا فَهَذَا مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَتْبَاعِ مَالِكٍ ، اخْتَارَ خِلَافَ مَذْهَبِهِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ . وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ - أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ - اسْتَشْكَلَ قَتْلَهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا . وَجَاءَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكْنَا زَمَنَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ الْإِشْكَالَ . فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ : أَنَّهُ وَقَفَ الْعِصْمَةَ عَلَى مَجْمُوعِ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُرَتَّبُ عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِحُصُولِ مَجْمُوعِهَا وَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهَا . وَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَنْطُوقِ - وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى إلَخْ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي بِمَنْطُوقِهِ : الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ ، فَقَدْ وَهَلَ وَسَهَا ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْقَتْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ " الْمُقَاتِلَةَ " مُفَاعِلَةٌ ، تَقْتَضِي الْحُصُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى الصَّلَاةِ إذَا قُوتِلَ عَلَيْهَا - إبَاحَةُ الْقَتْلِ عَلَيْهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ عَنْ فِعْلِهَا إذَا لَمْ يُقَاتِلْ ، وَلَا إشْكَالَ بِأَنَّ قَوْمًا لَوْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ وَنَصَبُوا الْقِتَالَ عَلَيْهَا : أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ . إنَّمَا النَّظَرُ وَالْخِلَافُ : فِيمَا إذَا تَرَكُوا إنْسَانًا مِنْ غَيْرِ نَصْبِ قِتَالٍ : هَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا ؟ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْقَتْلِ عَلَيْهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الْمُقَاتَلَةِ عَلَيْهَا إبَاحَةُ الْقَتْلِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ أُخِذَ هَذَا مِنْ لَفْظِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ تَرْتِيبُ الْعِصْمَةِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ : فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَرَتَّبُ بِفِعْلِ بَعْضِهِ : هَانَ الْخَطْبُ ؛ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ مَفْهُومٍ وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ وَبَعْضُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ ، وَلَوْ قَالَ بِهَا فَقَدْ رَجَّحَ عَلَيْهَا دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ .

 

 

340 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ } .

 

هَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الدِّمَاءِ . فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ تَكُونُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمُّ ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ بِهَا ، أَوْ بِحَسَبِ فَوَاتِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَدَمِهَا وَهَدْمُ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - أَعْظَمُ مِنْهُ ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ مَخْصُوصَةً بِمَا يَقَعُ فِيهِ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي أَوَّلِيَّةِ مَا يُقْضَى فِيهِ مُطْلَقًا ، وَمِمَّا يُقَوِّي الْأَوَّلَ : مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ } .

 

341 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ ، فَتَفَرَّقَا ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ - وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا - فَدَفْنه ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَبِّرْ ، كَبِّرْ - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ - فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا ، فَقَالَ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ ، أَوْ صَاحِبَكُمْ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ نَحْلِفُ ، وَلَمْ نَشْهَدْ ، وَلَمْ نَرَ ؟ قَالَ : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا قَالُوا : كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ . وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ ، قَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ ؟ قَالُوا : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَوْمٌ كُفَّارٌ وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ ، فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } .

 

فِيهِ مَسَائِلُ ، الْأُولَى : " حَثْمَةُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَ " حُوَيِّصَةُ " بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ ، وَقَدْ تُشَدَّدُ مَكْسُورَةً ، وَ " مُحَيِّصَةُ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَقَدْ تُشَدَّدُ . الثَّانِيَةُ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْقَسَامَةِ وَأَحْكَامِهَا ، وَ " الْقَسَامَةُ " بِفَتْحِ الْقَافِ : هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُدَّعِي لِلدَّمِ عِنْدَ اللَّوْثِ . وَقِيلَ : إنَّهَا فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى دَعْوَى الدَّمِ . وَمَوْضِعُ جَرَيَانِ الْقَسَامَةِ : أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَيَدَّعِي وَلِيُّ الْقَتِيلِ قَتْلَهُ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ، وَيَقْتَرِنُ بِالْحَالِ : مَا يُشْعِرُ بِصِدْقِ الْوَلِيِّ ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الشُّرُوطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ ، وَيُقَالُ لَهُ " اللَّوَثُ " فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ . الثَّالِثَةُ : قَدْ ذَكَرْنَا " اللَّوَثَ " وَمَعْنَاهُ ، وَفَرَّعَ الْفُقَهَاءُ لَهُ صُوَرًا : مِنْهَا : وُجْدَانُ الْقَتِيلِ فِي مَحَلَّةٍ ، أَوْ قَرْيَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَوَصَفَ بَعْضُهُمْ الْقَرْيَةَ هَهُنَا : بِأَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً . وَاشْتَرَطَ : أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ سَاكِنٌ مِنْ غَيْرِهِمْ ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ غَيْرِهِمْ حِينَئِذٍ . الرَّابِعَةُ : فِي الْحَدِيثِ " وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا " وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّمِ صَرِيحًا ، وَالْجِرَاحَةُ ظَاهِرَةٌ . وَلَمْ يَشْتَرِطْ الشَّافِعِيَّةُ فِي اللَّوَثِ " لَا جِرَاحَةً وَلَا دَمًا ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ جِرَاحَةٌ وَلَا دَمٌ فَلَا قَسَامَةَ ، وَإِنْ وُجِدَتْ الْجِرَاحَةُ ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ ، وَإِنْ وُجِدَ الدَّمُ دُونَ الْجِرَاحَةِ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفِهِ فَلَا قَسَامَةَ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْفَمِ ، أَوْ الْأُذُنِ ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ هَكَذَا حَكَى وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْخُصْيَةِ ، وَالْقَبْضِ عَلَى مَجْرَى النَّفْسِ فَيَقُومُ أَثَرُهُمَا مَقَامَ الْجِرَاحَةِ . الْخَامِسَةُ : " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ " هُوَ أَخُو الْقَتِيلِ ، " وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ " ابْنَا مَسْعُودٍ : ابْنَا عَمِّهِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِبَرِ بِقَوْلِهِ " كَبِّرْ كَبِّرْ " فَيُقَالُ فِي هَذَا : إنَّ الْحَقَّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لِقُرْبِهِ وَالدَّعْوَى لَهُ ، فَكَيْفَ عَدَلَ عَنْهُ ؟ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا : بِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ لِشَرْحِ الْوَاقِعَةِ ، وَتَبْيِينِ حَالِهَا ، أَوْ يُقَالُ : إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يُفَوِّضُ الْكَلَامَ وَالدَّعْوَى إلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ . السَّادِسَةُ : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، أَنَّ الْمُدَّعِي فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ يُبْدَأُ بِهِ فِي الْيَمِينِ ، كَمَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافُهُ وَكَأَنَّهُ قُدِّمَ الْمُدَّعِي هَهُنَا - عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْخُصُومَاتِ - بِمَا انْضَافَ إلَى دَعْوَاهُ مِنْ شَهَادَةِ اللَّوْثِ ، مَعَ عِظَمِ قَدْرِ الدِّمَاءِ ، وَلْيُنَبِّهْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءَ عِلَّةٍ .

السَّابِعَةُ : الْيَمِينُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْقَسَامَةِ : خَمْسُونَ يَمِينًا وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ تَعَدُّدِ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَقِيلَ : لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ ، فَأُكِّدَ بِالْعَدَدِ ، وَقِيلَ : سَبَبُهُ تَعْظِيمُ شَأْنِ الدَّمِ ، وَبُنِيَ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ : مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ مَحَلِّ اللَّوْثِ ، وَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي تُعَدِّدْهَا خَمْسِينَ : قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ .

الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ إذَا نَكَلَ : أَنَّهُ تُغَلَّظُ الْيَمِينُ بِالتَّعْدَادِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ إحْدَاهُمَا : إجْرَاءُ قَوْلَيْنِ فَإِنَّ نُكُولَهُ يُبْطِلُ اللَّوْثَ ، فَكَأَنْ لَا لَوْثَ . وَالثَّانِيَةُ : - وَهِيَ الْأَصَحُّ - : الْقَطْعُ بِالتَّعَدُّدِ لِلْحَدِيثِ فَإِنَّهُ جَعَلَ أَيْمَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ كَأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ . .

التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ " تَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ ، أَوْ صَاحِبَكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ " دَمَ صَاحِبِكُمْ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْقَتْلَ بِالْقَسَامَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، إذَا وَجَدَ مَا يَقْتَضِي الْقِصَاصَ فِي الدَّعْوَى ، وَالْمُكَافَأَةَ فِي الْقَتْلِ : أَحَدُهُمَا : كَمَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْهِ ، تَشْبِيهًا لِهَذِهِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ جَدِيدُ قَوْلَيْهِ - أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا قِصَاصٌ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ دِيَةٌ لَا قَوَدٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقِصَاصِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا " فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ " أَقْوَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ " ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا " يُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ " يُسْتَعْمَلُ فِي دَفْعِ الْقَاتِلِ لِلْأَوْلِيَاءِ لِلْقَتْلِ . وَلَوْ أَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ لَتُبْعِدَ اسْتِعْمَالَ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا ، وَهُوَ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي تَسْلِيمِ الْقَاتِلِ أَظْهَرُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ " دَمَ صَاحِبِكُمْ " أَظْهَرُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ " فَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ ، أَوْ صَاحِبَكُمْ " ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْأَخِيرَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارٍ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُضْمَرَ " دِيَةَ صَاحِبِكُمْ " احْتِمَالًا ظَاهِرًا وَأَمَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالدَّمِ : فَتَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ اللَّفْظِ بِإِضْمَارِ " بَدَلَ صَاحِبِكُمْ " وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى إضْمَارٍ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي إرَاقَةَ الدَّمِ أَقْرَبَ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَشْنَعَةٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِينَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ أَوْ بَعْضِهِمْ فَرُبَّمَا أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ " دَمَ صَاحِبِكُمْ " هُوَ الْقَتِيلُ ، لَا الْقَاتِلُ ، وَيَرْدُدْهُ قَوْلُهُ " دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلَكُمْ " . الْعَاشِرَةُ : لَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ إلَّا وَاحِدٌ ، خِلَافًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِمَالِكٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَيُدْفَعَ بِرُمَّتِهِ } فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ، لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ . الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ " بِرُمَّتِهِ " مَضْمُومُ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدُ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِإِسْلَامِهِ لِلْقَتْلِ ، وَفِي أَصْلِهِ فِي اللُّغَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمْ : إنَّ " الرُّمَّةَ " حَبْلٌ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْبَعِيرِ ، فَإِذَا قُيِّدَ أُعْطِيَ بِهِ . وَالثَّانِي : إنَّهُ حَبْلٌ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْأَسِيرِ ، فَإِذَا أُسْلِمَ لِلْقَتْلِ سُلِّمَ بِهِ .

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا تَعَدَّدَ الْمُدَّعُونَ فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا . الثَّانِي : أَنَّ الْجَمِيعَ يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ وَقَعَ كَسْرٌ تُمِّمَ ، فَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ مَثَلًا ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَإِنْ اقْتَضَى التَّوْزِيعُ كَسْرًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى - كَمَا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً - كَمَّلْنَا الْكَسْرَ ، فَحَلَفَ سَبْعَةَ عَشْرَ يَمِينًا . الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ " قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ مَا إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ . .

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْحَدِيثُ وَرَدَ بِالْقَسَامَةِ فِي قَتِيلٍ حُرٍّ ، وَهَلْ تَجْرِي الْقَسَامَةُ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَكَأَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ : أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ - أَعْنِي الْحُرِّيَّةَ - هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْبَابِ ، أَوْ اعْتِبَارٌ ، أَمْ لَا ؟ فَمَنْ اعْتَبَرَهُ يَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ ، إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ ، قَالَ : إنَّ السَّبَبَ فِي الْقَسَامَةِ : إظْهَارُ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّمَاءِ وَالصِّيَانَةُ مِنْ إضَاعَتِهَا . وَهَذَا الْقَدْرُ شَامِلٌ لِدَمِ الْحُرِّ وَدَمِ الْعَبْدِ ، وَأُلْغِي وَصْفُ " الْحُرِّيَّةِ " بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ جَيِّدٌ . .

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي قَتْلِ النَّفْسِ ، وَهَلْ يَجْرِي مَجْرَاهُ مَا دُونَهَا مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ ؟ مَذْهَبُ مَالِكٍ : لَا ، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِيهَا أَيْضًا : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ - أَعْنِي كَوْنَهُ نَفْسًا - هَلْ لَهُ أَثَرٌ أَوْ لَا ؟ وَكَوْنُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِمَّا يُقَوِّي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَوْرِدِهِ . .

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قِيلَ فِيهِ : إنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ كَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاحْتِسَابِ بِيَمِينِهِ ، وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا ، وَأَنَّ يَمِينَ الْمُشْرِكِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، كَيَمِينِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَمَنْ نَقَلَ مِنْ النَّاسِ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ أَيْمَانَهُمْ لَا تُسْمَعُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَشَهَادَتِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ قَطْعًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ فِي الْخُصُومَاتِ : إذَا اقْتَضَتْ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَفَ ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

342 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضًا بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، فَقِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِك : فُلَانٌ ، فُلَانٌ ؟ حَتَّى ذُكِرَ يَهُودِيٌّ ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا ، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } . 343 - وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ ، فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .

 

الْحَدِيثُ : دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مَشَاهِيرِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ : الْأُولَى : أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمِثْقَلِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْحَدِيث ، وَقَوِيٌّ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا ، فَإِنَّ صِيَانَةَ الدِّمَاءِ مِنْ الْإِهْدَار : أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَالْقَتْلُ بِالْمِثْقَلِ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ فِي إزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِالْمِثْقَلِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى إهْدَارِ الْقِصَاصِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِ الدِّمَاءِ وَعُذْرُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ . وَادَّعَى صَاحِبُ الْمُطَوَّلِ : أَنَّ ذَلِكَ الْيَهُودِيَّ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ قَتْلُ الصِّغَارِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ . قَالَ : أَوْ نَقُولُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَحَهَا بِرَضْخٍ ، وَبِهِ نَقُولُ ، يَعْنِي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي طَرِيقِ الْقَتْلِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْعُدُولَ إلَى السَّيْفِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا قَوَدَ عِنْدَهُ إلَّا بِالسَّيْفِ ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضَّ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، كَمَا فَعَلَ هُوَ بِالْمَرْأَةِ . وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا : مَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْقَتْلُ مُحَرَّمًا ، كَالسِّحْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا قَتَلَ بِاللِّوَاطِ أَوْ بِإِيجَارِ الْخَمْرِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ لِلتَّحْرِيمِ ، كَمَا قُلْنَا فِي السِّحْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تُدَسُّ فِيهِ خَشَبَةٌ ، وَيَوْجَرُ خَلًّا بَدَّلَ الْخَمْرِ . وَأَمَّا قَوْلُنَا : إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى السَّيْفِ إذَا اخْتَارَ : فَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْهُ : مَا إذَا قَتَلَهُ بِالْخَنْقِ ، قَالَ : لَا يَعْدِلُ إلَى السَّيْفِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ عُدُولٌ إلَى أَشَدَّ فَإِنَّ الْخَنْقَ يُغَيِّبُ الْحِسَّ ، فَيَكُونُ أَسْهَلَ . وَ " الْأَوْضَاحُ " حُلِيٌّ مِنْ الْفِضَّةِ يُتَحَلَّى بِهَا ، سُمِّيَتْ بِهَا لِبَيَاضِهَا ، وَاحِدُهَا " وَضَحٌ " . وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ " فَأَقَادَهُ " مَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ عُذْرِ الْحَنَفِيِّ .

 

344 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ : حَرَامٌ ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ . وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ : فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقْتُلَ ، وَإِمَّا أَنْ يَدِيَ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - يُقَالُ لَهُ : أَبُو شَاهٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اُكْتُبُوا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ ، ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا الْإِذْخِرَ ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا الْإِذْخِرَ } .

 

فِيهِ مَسَائِلُ ، سِوَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَجِّ . الْأُولَى : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ " هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الْحَدِيثِ . و " الْفِيلُ " بِالْفَاءِ وَالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ ، وَشَذَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَقَالَ " الْفِيلُ ، أَوْ الْقَتْلُ " وَالصَّحِيحُ : الْأَوَّلُ . وَحَبَسَهُ : حَبَسَ أَهْلَهُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ . الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ عَنْوَةً . فَإِنَّ التَّسْلِيطَ الَّذِي وَقَعَ لِلرَّسُولِ : مُقَابِلٌ لِلْحَبْسِ الَّذِي وَقَعَ لِلْفِيلِ وَهُوَ الْحَبْسُ عَنْ الْقِتَالِ وَقَدْ مَرَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ بِمَكَّةَ . الثَّالِثَةُ : التَّحْرِيمُ الْمُشَارُ إلَيْهِ يَجْمَعُهُ إثْبَاتُ حُرُمَاتٍ ، تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْمَكَانِ . مِنْهَا : تَحْرِيمُ الْقَتْلِ ، وَتَحْرِيمُ الْقَتْلِ : هُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ . الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجَبِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُوجَبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَيْنًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُوجَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ ، وَالْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ . وَمَنْ فَوَائِدِ هَذَا الْخِلَافِ : أَنَّ مَنْ قَالَ : الْمُوجَبُ هُوَ الْقِصَاصُ قَالَ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَقُّ أَخْذِ الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ . وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : لِلْوَلِيِّ حَقُّ إسْقَاطِ الْقِصَاصِ ، وَأَخْذُ الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ ، وَثَمَرَةُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى هَذَا تَظْهَرُ فِي عَفْوِ الْوَلِيِّ ، وَمَوْتِ الْقَاتِلِ ، فَعَلَى قَوْلِ التَّخْيِيرِ : يَأْخُذُ الْمَالَ فِي الْمَوْتِ لَا فِي الْعَفْوِ ، وَعَلَى قَوْلِ التَّعْيِينِ يَأْخُذُ الْمَالَ بِالْعَفْوِ عَنْ الدِّيَةِ ، لَا فِي الْمَوْتِ . وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ . وَمَنْ يُخَالِفُ قَالَ فِي مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ : إنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ بِرِضَى الْقَاتِلِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الرِّضَى ، لِثُبُوتِهِ عَادَةً وَقِيلَ : إنَّهُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا ذَكَرَ " خُذْ سَلَمَك ، أَوْ رَأْسَ مَالِكِ " يَعْنِي : رَأْسَ مَالِكِ بِرِضَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ، لِثُبُوتِهِ عَادَةً ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ . فَالظَّاهِرُ : أَنَّهُ يَرْضَى بِأَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهِ : يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ .

الْخَامِسَةُ : كَانَ قَدْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَوَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْكِتَابَةِ ، لِتَقْيِيدِ الْعِلْمِ بِهَا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِأَبِي شَاهٍ وَاَلَّذِي أَرَادَ أَبُو شَاهٍ كِتَابَتَهُ : هُوَ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

345 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : شَهِدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ - عَبْدٍ ، أَوْ أَمَةٍ - فَقَالَ : لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ } .

 

" إمْلَاصُ الْمَرْأَةِ " أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيِّتًا . الْحَدِيثُ : أَصْلٌ فِي إثْبَاتِ غُرَّةِ الْجَنِينِ وَكَوْنِ الْوَاجِبِ فِيهِ غُرَّةَ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ . وَذَلِكَ إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ . وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ تَصَرُّفٌ بِالتَّقْيِيدِ فِي سِنِّ الْعَبْدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ فَنَذْكُرُهُ . وَاسْتِشَارَةُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ : أَصْلٌ فِي الِاسْتِشَارَةِ فِي الْأَحْكَامِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لِلْإِمَامِ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْخَاصَّ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْأَكَابِرِ ، وَيَعْلَمُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ . وَذَلِكَ يَصُدُّ فِي وَجْهِ مَنْ يَغْلُو مِنْ الْمُقَلِّدِينَ إذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ فَقَالَ : لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَعَلِمَهُ فُلَانٌ مَثَلًا فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا خَفَى عَلَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ ، وَجَازَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجَوْزُ . وَقَوْلُ " عُمَرَ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك " يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرَى اعْتِبَارَ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَذْهَبٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ قَاطِعٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي حَدِيثٍ جُزْئِيٍّ فَلَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُلِّيًّا ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُحَالَ ذَلِكَ عَلَى مَانِعٍ خَاصٍّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ ، أَوْ قِيَامِ سَبَبٍ يَقْتَضِي التَّثَبُّتَ ، وَزِيَادَةَ الِاسْتِظْهَارِ لَا سِيَّمَا إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ مِثْلُ عَدَمِ عِلْمِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا الْحُكْمِ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُهُ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ وَلَعَلَّ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادُهُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ فِي بَابِ الِاسْتِئْذَانِ أَقْوَى ، وَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَ .

 

الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ . فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ - عَبْدٌ ، أَوْ وَلِيدَةٌ - وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ } مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ .

 

قَوْلُهُ : " فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا " لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِانْفِصَالِ الْجَنِينِ وَلَعَلَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ حَدِيثِ عُمَرَ الْمَاضِي . فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِالِانْفِصَالِ . وَالشَّافِعِيَّةُ شَرَطُوا فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ : الِانْفِصَالُ مَيِّتًا ، بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ . فَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَلَمْ يَنْفَصِلْ جَنِينٌ : لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ . قَالُوا : لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ وُجُودَ الْجَنِينِ فَلَا نُوجِبُ شَيْئًا بِالشَّكِّ ، وَعَلَى هَذَا : هَلْ الْمُعْتَبَرُ نَفْسُ الِانْفِصَالِ ، أَوْ أَنْ يَنْكَشِفَ ، وَيَتَحَقَّقَ حُصُولُ الْجَنِينِ ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَصَحُّهُمَا : الثَّانِي . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا : مَا إذَا قُدَّتْ بِنِصْفَيْنِ ، وَشُوهِدَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا وَلَمْ يَنْفَصِلْ . وَمَا إذَا خَرَجَ رَأْسُ الْجَنِينِ بَعْدَ مَا ضُرِبَ وَمَاتَتْ الْأُمُّ لِذَلِكَ ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ . وَبِمُقْتَضَى هَذَا : يَحْتَاجُونَ إلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَحَمْلِهَا عَلَى أَنَّهُ انْفَصَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . مَسْأَلَةٌ أُخْرَى : الْحَدِيثُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِلَفْظِ " الْجَنِينِ " وَالشَّافِعِيَّةُ : فَسَرُّوهُ بِمَا ظَهَرَ فِيهِ صُورَةُ الْآدَمِيِّ ، مِنْ يَدٍ أَوْ إصْبَعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الصُّورَةَ خَفِيَّةٌ ، يَخْتَصُّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِمَعْرِفَتِهَا وَجَبَتْ الْغُرَّةُ أَيْضًا ، وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ : لَيْسَتْ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ ، وَلَكِنَّهُ أَصْلُ الْآدَمِيِّ : فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ وَإِنْ شَكَّتْ الْبَيِّنَةُ فِي كَوْنِهِ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَمْ تَجِبْ بِلَا خِلَافٍ . وَحَظُّ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْحُكْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى اسْمِ " الْجَنِينِ " فَمَا تَخَلَّقَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِنَانِ . وَهُوَ الِاخْتِفَاءُ فَإِنْ خَالَفَهُ الْعُرْفُ الْعَامُّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَإِلَّا اُعْتُبِرَ الْوَضْعُ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْغُرَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَيُجْبَرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى قَبُولِ الرَّقِيقِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلرَّدِّ فِي الْبَيْعِ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ لَفْظُ " الْغُرَّةِ " قَالَ : وَهِيَ الْخِيَارُ . وَلَيْسَ الْمَعِيبُ مِنْ الْخِيَارِ ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ الْإِطْلَاقِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ لِلْغُرَّةِ قِيمَةٌ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْغُرَّةُ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَحِقَّ قَبُولُ غَيْرِهَا ، لِتَعْيِينِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ . وَأَمَّا إذَا عُدِمَتْ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُشْعِرُ بِحُكْمِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ : الْوَاجِبُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَقِيلَ : يَعْدِلُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ الْفَقْدِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ الْحَدِيثَ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ سِنٍّ دُونَ سِنٍّ وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا : لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَبْعًا ، لِحَاجَتِهِ إلَى التَّعَهُّدِ ، وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ وَأَمَّا فِي طَرَفِ الْكِبَرِ ، فَقِيلَ : إنَّهُ لَا يُؤْخَذُ الْغُلَامُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَلَا الْجَارِيَةُ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْحَدَّ : عِشْرِينَ وَالْأَظْهَرُ : أَنَّهُمَا يُؤْخَذَانِ ، وَإِنْ جَاوَزَا السِّتِّينَ ، مَا لَمْ يَضْعُفَا وَيَخْرُجَا عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِالْهَرَمِ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ وَمُسَمَّاهُ فَقَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ فَلَزِمَ قَبُولُهُ ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ . وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالسِّنِّ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِ الْحَدِيثِ .

 

مَسْأَلَةٌ أُخْرَى : الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي جَنِينِ حُرَّةٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ جَنِينُ الْأَمَةِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ وَارِدٌ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ عَامٍّ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ السَّابِقُ - وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ الِاسْتِشَارَةِ مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ ، لِقَوْلِهِ " فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ " لَكِنَّ لَفْظَ الرَّاوِي يَقْتَضِي أَنَّهُ شَهِدَ وَاقِعَةً مَخْصُوصَةً ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ جَنِينِ الْأَمَةِ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : الْوَاجِبُ فِي جَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي جَنِينٍ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِجَنِينٍ مَحْكُومٍ لَهُ بِالتَّهَوُّدِ أَوْ التَّنَصُّرِ تَبَعًا ، وَمَنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَاسَهُ عَلَى الْجَنِينِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْقِيَاسِ ، لَا مِنْ الْحَدِيثِ . وَقَوْلُهُ " قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا " إجْرَاءٌ لِهَذَا الْقَتْلِ مَجْرَى غَيْرِ الْعَمْدِ وَ " حَمَلَ " بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ مَعًا " وَطَلَّ " دَمُ الْقَتِيلِ : إذَا أُهْدِرَ ، وَلَمْ يُؤْخَذْ فِيهِ شَيْءٌ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ إلَخْ " فِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَمِّ السَّجْعِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّجْعِ الْمُتَكَلَّفِ لِإِبْطَالِ حَقٍّ ، أَوْ تَحْقِيقِ بَاطِلٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّكَلُّفِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ السَّجْعُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ : أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِسَجْعِ الْكُهَّانِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُرَوِّجُونَ أَقَاوِيلَهُمْ الْبَاطِلَةَ بِأَسْجَاعٍ تَرُوقُ السَّامِعِينَ فَيَسْتَمِيلُونَ بِهَا الْقُلُوبَ ، وَيَسْتَصْغُونَ إلَيْهَا الْأَسْمَاعَ قَالَ بَعْضُهُمْ : فَأَمَّا إذَا كَانَ وَضْعُ السَّجْعِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْكَلَامِ فَلَا ذَمَّ فِيهِ .

 

347 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ ، لَا دِيَةَ لَك } .

 

أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجِبْ ضَمَانًا لِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا عَضَّ إنْسَانٌ يَدَ آخَرَ ، فَانْتَزَعَهَا فَسَقَطَ سِنُّهُ وَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَخْلِيصَ يَدِهِ بِأَيْسَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فَكِّ لَحْيَيْهِ أَوْ الضَّرْبِ فِي شِدْقَيْهِ لِيُرْسِلَهَا فَحِينَئِذٍ إذَا سَلَّ أَسْنَانَهُ أَوْ بَعْضَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَخَالَفَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ، وَأَوْجَبَ ضَمَانَ السِّنِّ ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّخْلِيصُ إلَّا بِضَرْبِ عُضْوٍ آخَرَ ، كَبَعْجِ الْبَطْنِ ، وَعَصْرِ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ : لَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ : لَيْسَ لَهُ قَصْدُ غَيْرِ الْفَمِ ، وَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الضَّمَانِ ، فَقَدْ يُقَالُ : إنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي صُورَةِ التَّلَفِ بِالنَّزْعِ مِنْ الْيَدِ فَلَا نَقِيسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ لَكِنْ إذَا دَلَّتْ الْقَوَاعِدُ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِمْكَانِ فِي الضَّمَانِ ، وَعَدَمِ الْإِمْكَانِ فِي غَيْرِ الضَّمَانِ ، وَفَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى غَيْرِ الْفَمِ : قَوِيَ بَعْد هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْفَمِ وَغَيْرِهِ .

 

348 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثًا ، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ ، حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } .

 

" الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ : يُكَنَّى أَبَا سَعِيدٍ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وِسَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ مَشَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الْمَذْكُورِينَ وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ " جُنْدُبٌ " بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا : ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ الْعَلَقِيُّ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ - وَالْعَلَقُ : بَطْنٌ مِنْ بَجِيلَةَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى جَدِّهِ فَيَقُولُ : جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ كُنْيَتُهُ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَانَ بِالْكُوفَةِ ، ثُمَّ صَارَ إلَى الْبَصْرَةِ ، " وَحَزَّ يَدَهُ " قَطَعَهَا ، أَوْ بَعْضَهَا ، " وَرَقَأَ الدَّمُ " بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْقَافِ وَالْهَمْزِ : ارْتَفَعَ وَانْقَطَعَ ، وَفِي الْحَدِيثِ إشْكَالَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ " بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ " وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْآجَالِ وَأَجَلُ كُلِّ شَيْءٍ : وَقْتُهُ يُقَالُ : بَلَغَ أَجَلُهُ ، أَيْ تَمَّ أَمَدُهُ ، وَجَاءَ حِينُهُ ، وَلَيْسَ كُلُّ وَقْتٍ أَجَلًا ، وَلَا يَمُوتُ أَحَدٌ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ إلَّا بِأَجَلِهِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ بِالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ ، وَمَا عَلِمَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ فَعَلَى هَذَا : يَبْقَى قَوْلُهُ " بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ " يَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُوهِمُ : أَنَّ الْأَجَلَ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ . الثَّانِي قَوْلُهُ " حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرَى بِوَعِيدِ الْأَبَدِ وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، كَالتَّخْصِيصِ بِزَمَنٍ ، كَمَا يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ ، أَوْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحْلِلًا فَيَكْفُرُ بِهِ ، وَيَكُونُ مُخَلَّدًا بِكُفْرِهِ ، لَا بِقَتْلِهِ نَفْسَهُ . وَالْحَدِيثُ : أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَعْظِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ ، سَوَاءً كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مِلْكَهُ أَيْضًا ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ .أنتهى --

بسم الله الرحمن الرحيم

ج14  إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

لابن دقيق العيد

كتاب اللعان

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ ، كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ : فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ . فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ . وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . فَقَالَ : لَا ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا . ثُمَّ دَعَاهَا ، فَوَعَظَهَا ، وَأَخْبَرَهَا : أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . فَقَالَتْ : لَا ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، إنَّهُ لَكَاذِبٌ . فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ . فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ ، وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ . ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ - ثَلَاثًا } . وَفِي لَفْظٍ { لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَالِي ؟ قَالَ : لَا مَالَ لَكَ . إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا } .

 

" اللِّعَانُ " لَفْظَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " اللَّعْنِ " سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ ذِكْرِ اللَّعْنَةِ . وَقَوْلُهُ " أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَحَدَنَا " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ : جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْوَقَائِعِ بِعِلْمِ أَحْكَامِهَا قَبْلَ أَنْ تَقَعَ وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا فَرَّعُوهُ ، وَقَرَّرُوهُ مِنْ النَّازِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا . وَقَدْ كَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَكْرَهُ الْحَدِيثَ فِي الشَّيْءِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ ، وَيَرَاهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّكَلُّفِ . وَقَوْلُ الرَّاوِي " فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ : أَتَاهُ ، فَقَالَ : إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَمْ يَقَعْ ، ثُمَّ وَقَعَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ أَوَّلًا عَمَّا وَقَعَ ، وَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ فِي جَوَابِهِ ، فَبَيَّنَ ضَرُورَتَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ وَتِلَاوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا عَلَيْهِ : لِتَعْرِيفِ الْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا وَمَوْعِظَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ اسْتِحْبَابَهَا ، عِنْدَمَا تُرِيدُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْفِظَ بِالْغَضَبِ . وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيهَا وَفِي الرَّجُلِ فَلَعَلَّ هَذِهِ مَوْعِظَةٌ عَامَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجُلَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعَذَابِ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُتَعَرِّضَةٌ لِلْعَذَابِ ، الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ ، إلَّا أَنَّ عَذَابَهَا أَشَدُّ . وَظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ : يَقْتَضِي تَعْيِينَ لَفْظِ " الشَّهَادَةِ " وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُبَدَّلَ بِغَيْرِهَا . وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَيْضًا : الْبُدَاءَةَ بِالرَّجُلِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } فَإِنَّ " الدَّرْءَ " يَقْتَضِي وُجُوبَ سَبَبِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَاخْتُصَّتْ الْمَرْأَةُ بِلَفْظِ " الْغَضَبِ " لِعِظَمِ الذَّنْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْفِرَاشِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِإِلْحَاقِ مَنْ لَيْسَ مِنْ الزَّوْجِ بِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ ، كَانْتِشَارِ الْمَحْرَمِيَّةِ ، وَثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْإِنَاثِ ، وَاسْتِحْقَاقِ الْأَمْوَالِ بِالتَّوَارُثِ . فَلَا جَرَمَ خُصَّتْ بِلَفْظَةِ " الْغَضَبِ " الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ " اللَّعْنَةِ " وَلِذَلِكَ قَالُوا : لَوْ أَبْدَلَتْ الْمَرْأَةُ الْغَضَبَ بِاللَّعْنَةِ : لَمْ يُكْتَفَ بِهِ . أَمَّا لَوْ أَبْدَلَ الرَّجُلُ اللَّعْنَةَ بِالْغَضَبِ : فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَالْأَوْلَى اتِّبَاعُ النَّصِّ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَعَرْضِ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ : أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ رَجَعَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ : كَانَ تَوْبَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ : وُقُوعُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ " لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " رَاجِعًا إلَى الْمَالِ . وَقَوْلُهُ " إنْ كُنْتَ صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ ، وَعَلَى اسْتِقْرَارِ مَهْرِ الْمُلَاعَنَةِ . أَمَّا هَذَا : فَبِالنَّصِّ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَبِتَعْلِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ " بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَوْ أَكْذَبَتْ نَفْسَهَا ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

325 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاعَنَا ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ، ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ } .

 

هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهَا زِيَادَةُ نَفْيِ الْوَلَدِ ، وَأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْمَرْأَةِ ، وَيَرِثُهَا بِإِرْثِ الْبُنُوَّةِ مِنْهَا . وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْبُنُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا . وَمَفْهُومُهُ : يَقْتَضِي انْقِطَاعَ النَّسَبِ إلَى الْأَبِ مُطْلَقًا . وَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيمَا لَوْ كَانَتْ بِنْتًا : هَلْ يَحِلُّ لِلْمُلَاعِنِ تَزَوُّجُهَا ؟ . وَقَوْلُهُ " فَتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِذِكْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ فِي لِعَانِهِ ، إلَّا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ . فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَقْتَضِي : أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا ادَّعَاهُ . وَدَعْوَاهُ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ . وَقَوْلُهُ " وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " يَقْتَضِي : أَنَّ اللِّعَانَ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ ظَاهِرًا .

 

326 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَك إبِلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ قَالَ : فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا . قَالَ : فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ } .

 

فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا يُوجِبُ حَدًّا كَمَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْتَاءِ . وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذِكْرِهِ ، وَإِلَى عَدَمِ تَرَتُّبِ الْحَدِّ أَوْ التَّعْزِيرِ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي اللَّوْنِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ - بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ - لَا تُبِيحُ الِانْتِفَاءَ . وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي السَّوَادِ الشَّدِيدِ مَعَ الْبَيَاضِ الشَّدِيدِ . وَ " الْوُرْقَةُ " لَوْنٌ يَمِيلُ إلَى الْغُبْرَةِ ، كَلَوْنِ الرَّمَادِ يُسَمَّى أَوْرَقَ . وَالْجَمْعُ " وُرْقٌ " بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَّلَ مِنْهُ التَّشْبِيهَ لِوَلَدِ هَذَا الرَّجُلِ الْمُخَالِفِ لِلَوْنِهِ بِوَلَدِ الْإِبِلِ الْمُخَالِفِ لِأَلْوَانِهَا . وَذَكَرَ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ وَهِيَ نَزْعُ الْعِرْقِ ، إلَّا أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ . وَاَلَّذِي حَصَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ : هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .

 

327 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ . فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ ، اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ . وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شَبَهِهِ ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ } .

 

يُقَالُ " زَمْعَةُ " بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَيُقَالُ " زَمَعَةُ " بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْضًا . وَالْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ صَاحِبَ الْفِرَاشِ . وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ ، وَأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ يَأْخُذُ مُشَابَهَةً مِنْ أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيُعْطَى أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً وَلَا يُمْحَضُ لِأَحَدِ الْأُصُولِ . وَبَيَانُهُ مِنْ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْفِرَاشَ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِزَمْعَةَ وَالشَّبَهُ الْبَيِّنُ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِعُتْبَةَ فَأُعْطِيَ النَّسَبَ بِمُقْتَضَى الْفِرَاشِ . وَأُلْحِقَ بِزَمْعَةَ ، وَرُوعِيَ أَمْرُ الشَّبَهِ بِأَمْرِ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ . فَأُعْطِيَ الْفَرْعُ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَلَمْ يُمْحَضْ أَمْرُ الْفِرَاشِ فَتَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَوْدَةَ ، وَلَا رُوعِيَ أَمْرُ الشَّبَهِ مُطْلَقًا فَيَلْتَحِقَ بِعُتْبَةَ قَالُوا : وَهَذَا أَوْلَى التَّقْدِيرَاتِ . فَإِنَّ الْفَرْعَ إذَا دَارَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ ، فَأُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا مُطْلَقًا ، فَقَدْ أَبْطَلَ شَبَهَهُ الثَّانِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ بِالثَّانِي ، وَمُحِضَ إلْحَاقُهُ بِهِ : كَانَ إبْطَالًا لِحُكْمِ شَبَهِهِ بِالْأَوَّلِ فَإِذَا أُلْحِقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ : كَانَ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَيُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ : مَا إذَا دَارَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ ، يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلْحَاقَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَيْهِ . وَهَهُنَا لَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلَّا إلْحَاقَ هَذَا الْوَلَدِ بِالْفِرَاشِ . وَالشَّبَهُ هَهُنَا غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِلْحَاقِ شَرْعًا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ " عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ ، وَالْإِرْشَادِ إلَى مَصْلَحَةٍ وُجُودِيَّةٍ ، لَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ وُجُوبِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَيُؤَكِّدُهُ : أَنَّا لَوْ وَجَدْنَا شَبَهًا فِي وَلَدٍ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَثْبُتْ لِذَلِكَ حُكْمًا وَلَيْسَ فِي الِاحْتِجَابِ هَهُنَا إلَّا تَرْكُ أَمْرٍ مُبَاحٍ ، عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَهُوَ قَرِيبٌ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " هُوَ لَكَ " أَيْ أَخٌ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } أَيْ تَابِعٌ لِلْفِرَاشِ أَوْ مَحْكُومٌ بِهِ لِلْفِرَاشِ ، أَوْ يُقَارِبُ هَذَا . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } . قِيلَ : إنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ لَهُ الْخَيْبَةَ مِمَّا ادَّعَاهُ وَطَلَبَهُ ، كَمَا يُقَالُ : لِفُلَانٍ التُّرَابُ . وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا " تَعْبِيرًا بِذَلِكَ عَنْ خَيْبَتِهِ : وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِثَمَنِ الْكَلْبِ . وَإِنَّمَا لَمْ يُجْرُوا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَجْعَلُوا الْحَجَرَ " هَهُنَا عِبَارَةً عَنْ الرَّجْمِ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ الزَّانِي : لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَاهِرٍ يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ . وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحْصَنُ فَلَا يَجْرِي لَفْظُ " الْعَاهِرِ " عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ ؛ أَمَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا " مِنْ الْخَيْبَةِ : كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ زَانٍ . وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَتُهُ .

 

328 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا ، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ . فَقَالَ : أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَالَ : إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ } وَفِي لَفْظٍ { كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا } .

 

" أَسَارِيرُ وَجْهِهِ " تَعْنِي الْخُطُوطَ الَّتِي فِي الْجَبْهَةِ . وَاحِدُهَا سَرَرٌ وَسِرَرٌ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَسَارِيرُ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْخُطُوطُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْكَفِّ مِثْلُهَا السَّرَرُ - بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ - وَالسِّرَرُ - بِكَسْرِ السِّينِ . اسْتَدَلَّ بِهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْقِيَافَةِ ، حَيْثُ يُشْتَبَهُ إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِأَحَدِ الْوَاطِئِينَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، لَا فِي كُلِّ الصُّوَرِ بَلْ فِي بَعْضِهَا . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بِذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُسَرُّ بِبَاطِلٍ . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، وَاعْتِذَارُهُمْ عَنْ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلْحَاقُ مُتَنَازَعٍ فِيهِ ، وَلَا هُوَ وَارِدٌ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ . فَإِنَّ أُسَامَةَ كَانَ لَاحِقًا بِفِرَاشِ زَيْدٍ ، مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ لَوْنِهِ وَلَوْنِ أَبِيهِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ، فَلَمَّا غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا ، وَأَلْحَقَ مُجَزِّزٌ أُسَامَةَ بِزَيْدٍ : كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِطَعْنِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ اعْتِرَافِهِمْ بِحُكْمِ الْقِيَافَةِ " وَإِبْطَالُ طَعْنِهِمْ حَقٌّ . فَلَمْ يُسَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِحَقٍّ . وَالْأَوَّلُونَ يُجِيبُونَ : بِأَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ - إلَّا أَنَّ لَهُ جِهَةً عَامَّةً وَهِيَ دَلَالَةُ الْأَشْبَاهِ عَلَى الْأَنْسَابِ . فَنَأْخُذُ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْحَدِيثِ وَنَعْمَلُ بِهَا . وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْقِيَافَةِ : هَلْ تَخْتَصُّ بِبَنِي مُدْلِجٍ ، أَمْ لَا ؟ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْأَشْبَاهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ خَاصٍّ بِهِمْ ، أَوْ يُقَالُ : إنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قُوَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ وَمَحَلُّ النَّصِّ إذَا اخْتَصَّ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لَمْ يُمْكِنْ إلْغَاؤُهُ " ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ . وَ " مُجَزِّزٌ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا زَايٌ مُعْجَمَةٌ . وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْقَائِفِ أَمْ يَكْفِي الْقَائِفُ الْوَاحِدُ ؟ فَإِنَّ مُجَزِّزًا انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْقِيَافَةِ ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الِاكْتِفَاءُ بِالْقَائِفِ الْوَاحِدِ ، فَلَيْسَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ ، كَمَا قَدَّمْنَا . وَقَوْلُهُ " آنِفًا " أَيْ فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقَوْلِ ، وَقَدْ تَرَكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرَ تَغْطِيَةِ أُسَامَةَ وَزَيْدٍ رُءُوسَهُمَا وَظُهُورِ أَقْدَامِهِمَا وَهِيَ زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ جِدًّا لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الْقِيَافَةِ وَكَانَ يُقَالُ : إنَّ مِنْ عُلُومِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةً : السِّيَافَةُ ، وَالْعِيَافَةُ ، وَالْقِيَافَةُ . فَأَمَّا السِّيَافَةُ : فَهِيَ شَمُّ تُرَابِ الْأَرْضِ لِيُعْلَمَ بِهَا الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَالَ الْمَعَرِّيُّ : أَوْدِي فَلَيْتَ الْحَادِثَاتِ كِفَافُ مَالُ الْمُسِيفِ وَعَنْبَرُ الْمُسْتَافِ وَ " الْمُسْتَافُ " هُوَ هَذَا الْقَاصُّ ، وَأَمَّا الْعِيَافَةُ : فَهِيَ زَجْرُ الطَّيْرِ ، وَالطِّيَرَةُ وَالتَّفَاؤُلُ بِهِمَا ، وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ وَأَمَّا السَّانِحُ وَالْبَارِحُ : فَفِي الْوَحْشِ ، وَفِي الْحَدِيثِ " الْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ : مِنْ الْجِبْتِ " وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا ، وَأَمَّا الْقِيَافَةُ : فَهِيَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَشْبَاهِ لِإِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ .

 

329 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ؟ - وَلَمْ يَقُلْ : فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا } .

 

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَزْلِ فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا وَقِيلَ : فِيهِ : إذَا جَازَ تَرْكُ أَصْلِ الْوَطْءِ جَازَ تَرْكُ الْإِنْزَالِ وَرَجَّحَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَهُ فِي الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَفِي الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، لِحَقِّهِمَا فِي الْوَلَدِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ فِي السَّرَارِي لِمَا فِي ذَلِكَ - أَعْنِي الْإِنْزَالَ - مِنْ التَّعَرُّضِ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ . وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى إلْحَاقِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَزْلُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . 

330 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ ، لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ } .

 

يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ الْعَزْلَ مُطْلَقًا ، وَاسْتَدَلَّ جَابِرٌ بِالتَّقْرِيرِ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِتَقْرِيرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِذَلِكَ ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي إلَّا الِاسْتِدْلَالَ بِتَقْرِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - .

 

331 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ . وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ : فَلَيْسَ مِنَّا ، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ ، أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } . 

كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ . يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاءِ مِنْ النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ ، وَالِاعْتِزَاءِ إلَى نَسَبٍ غَيْرِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهَا فِيمَا مَضَى ، وَشَرَطَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمَ ؛ لِأَنَّ الْأَنْسَابَ قَدْ تَتَرَاخَى فِيهَا مَدَدُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ، وَيَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَتِهَا ، وَقَدْ يَقَعُ اخْتِلَالٌ فِي النَّسَبِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ ، وَلَا يُشْعَرُ بِهِ . فَشَرَطَ الْعِلْمَ لِذَلِكَ . وَقَوْلُهُ " إلَّا كَفَرَ " مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى تَأْوِيلِهِ ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ ، أَوْ بِأَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ " كُفْرٌ " لِأَنَّهُ قَارَبَ الْكُفْرَ ، لِعِظَمِ الذَّنْبِ فِيهِ ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا قَارَبَهُ ، أَوْ يُقَالُ : بِتَأْوِيلِهِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ .

وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ " مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ " يَدْخُلُ فِيهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ كُلُّهَا وَمِنْهَا : دَعْوَى الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ جَعَلَ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ " فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " اقْتَضَى ذَلِكَ تَعْيِينَ دُخُولِهِ النَّارَ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْأَوْصَافِ فَقَطْ يُشْعِرُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ . وَأَقُولُ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الدَّعَاوَى ، مِنْ نَصْبِ مُسَخَّرٍ يَدَّعِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، حِفْظًا لِرَسْمِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ ، وَهَذَا الْمُسَخَّرُ يَدَّعِي مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ، وَالْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَيْسَ حِفْظُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ مِنْ الْمَنْصُوصَاتِ فِي الشَّرْعِ ، حَتَّى يَخُصَّ بِهَا هَذَا الْعُمُومَ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ فِي الْقَضَاءِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ ، فَانْخِرَامُ هَذِهِ الْمَرَاسِمِ الْحُكْمِيَّةِ ، مَعَ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْقَضَاءِ ، وَعَدَمِ تَنْصِيصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبِهَا - أَوْلَى مِنْ مُخَالِفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَعْنِي عَدَمَ التَّشْدِيدِ فِي هَذِهِ الْمَرَاسِيمِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَلَيْسَ مِنَّا " أَخَفُّ مِمَّا مَضَى فِيمَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الْمَفْسَدَةِ مِنْ الْأُولَى ، إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّعْوَى بِأَخْذِ الْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ مَثَلًا ، وَقَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ فِي الْعُلُومِ إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا مَفَاسِدُ . وَقَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، بِأَنْ قَالَ : لَيْسَ مِثْلَنَا ، فِرَارًا مِنْ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِوَلَدِهِ - إذَا أَنْكَرَ مِنْهُ أَخْلَاقًا أَوْ أَعْمَالًا - : لَسْت مِنِّي ، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَفْيِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُسَاوِيًا لِلْأَبِ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ فَلَمَّا انْتَفَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ نُفِيَتْ الْبُنُوَّةُ مُبَالَغَةً .

وَأَمَّا مَنْ وَصَفَ غَيْرَهُ بِالْكُفْرِ فَقَدْ رَتَّبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ " حَارَ عَلَيْهِ " بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ رَجَعَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { إنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } أَيْ يَرْجِعَ حَيًّا ، وَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ أَكْفَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهِيَ وَرْطَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَعَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَمِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقَائِدِ فَغَلَّظُوا عَلَى مُخَالِفِيهِمْ ، وَحَكَمُوا بِكُفْرِهِمْ ، وَخَرَقَ حِجَابَ الْهَيْبَةِ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ خُصُومُهُمْ كَذَلِكَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ وَسَبَبِهِ ، حَتَّى صُنِّفَ فِيهِ مُفْرَدًا ، وَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ النَّظَرُ فِي هَذَا : أَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ : هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَا ؟ فَمَنْ أَكْفَرَ الْمُبْتَدِعَةَ قَالَ : إنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ فَيَقُولُ : الْمُجَسِّمَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا جِسْمًا ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُمْ عَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَفَرَ ، وَيَقُولُ : الْمُعْتَزِلَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ - فَقَدْ أَنْكَرُوا الصِّفَاتِ وَيَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ إنْكَارُ أَحْكَامِهَا ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ كَافِرٌ . وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْسِبُ الْكُفْرَ إلَى غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْمَآلِ . وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ عَنْ صَاحِبِهَا ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلشَّرْعِ ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْقَوَاطِعِ مَأْخَذًا لِلتَّكْفِيرِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُهُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ السَّمْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ طَرِيقًا وَدَلَالَةً . وَعَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأُصُولِ عَنْ هَذَا بِمَا مَعْنَاهُ : إنَّ مَنْ أَنْكَرَ طَرِيقَ إثْبَاتِ الشَّرْعِ لَمْ يَكْفُرْ ، كَمَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِطَرِيقِهِ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُكَفِّرُ إلَّا مَنْ كَفَّرَنِي ، وَرُبَّمَا خَفِيَ سَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ، وَحَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ الصَّحِيحِ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ : أَنَّهُ قَدْ لَمَحَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ - رَجَعَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ : كَافِرٌ : فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } وَكَأَنَّ هَذَا الْمُتَكَلِّمَ يَقُولُ : الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ الْكُفْرُ لِأَحَدِ الشَّخْصَيْنِ : إمَّا الْمُكَفِّرُ ، أَوْ الْمُكَفَّرُ فَإِذَا أَكْفَرَنِي بَعْضُ النَّاسِ فَالْكُفْرُ وَاقِعٌ بِأَحَدِنَا ، وَأَنَا قَاطِعٌ بِأَنِّي لَسْت بِكَافِرٍ فَالْكُفْرُ رَاجِعٌ إلَيْهِ .--- أنتهى ---

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق