9 مصاحف الكتاب الاسلامي/

الخميس، 25 مايو 2023

ج4وج5وج6.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ

ج4وج5وج6.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ - أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

فَإِذَا زَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ قَدَرَ أَنْ لَا يَجْلِسَ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ عَجَزَ ، فَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ بِالْأَدَبِ ، وَالِاحْتِرَامِ ، وَالتَّعْظِيمِ ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ الزَّائِرُ فِي طَلَبِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ أَنْ يَذْكُرَهَا بِلِسَانِهِ ، بَلْ يُحْضِرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ وَأَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الْفَرَاشِ تَقَعُونَ فِي النَّارِ وَأَنَا آخُذُ بِحُجُزِكُمْ عَنْهَا } .

أَوْ كَمَا قَالَ ، وَهَذَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَعْنِي فِي التَّوَسُّلِ بِهِ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ بِجَاهِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زِيَارَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِسْمِهِ فَلْيَنْوِهَا كُلَّ وَقْتٍ بِقَلْبِهِ وَلْيُحْضِرْ قَلْبَهُ أَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَشَفِّعًا بِهِ إلَى مَنْ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رُقْعَتِهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إلَيْهِ مِنْ أَبْيَاتٍ إلَيْك أَفِرُّ مِنْ زَلَلِي وَذَنْبِي وَأَنْتَ إذَا لَقِيت اللَّهَ حَسْبِي وَزَوْرَةُ قَبْرِك الْمَحْجُوجُ قِدَمًا مُنَايَ وَبُغْيَتِي لَوْ شَاءَ رَبِّي ، فَإِنْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِجِسْمِي فَلَمْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِقَلْبِي إلَيْك غَدَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنِّي تَحِيَّةُ مُؤْمِنٍ دَنِفٍ مُحِبِّ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا شَفَاعَتَهُ وَلَا عِنَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ وَأَدْخَلْنَا بِفَضْلِك فِي زُمْرَةِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ بِجَاهِهِ عِنْدَك ، فَإِنَّ جَاهَهُ عِنْدَك عَظِيمٌ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَوَّلِ خُلَفَائِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَرَضَّى عَنْهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا حَضَرَهُ ، ثُمَّ

يَفْعَلُ كَذَلِكَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَدِّمُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ شَفِيعَيْنِ فِي حَوَائِجِهِ ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْبَقِيعِ لِيَزُورَ مَنْ فِيهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا أَتَى إلَى الْبَقِيعِ بَدَأَ بِثَالِثِ الْخُلَفَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَأْتِي قَبْرَ الْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيَنْوِي امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَزُورُ أَهْلَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الزِّيَارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قُرْبَةٌ بِنَفْسِهَا مُسْتَحَبَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي الدِّينِ ظَاهِرَةٌ بَرَكَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ كَانَتْ إقَامَتُهُ كَثِيرَةً بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ ، وَالسَّلَامِ .

فَأَمَّا الزَّائِرُ أَيَّامًا وَيَرْجِعُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَجِوَارِهِ ، وَالْمُقَامِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنَّهُ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ وَبَابُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ دِينًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى فَيَذْهَبُ إلَى أَيْنَ ، وَقَدْ فَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْأَفَّاقِي ، وَالْمُقِيمِ فِي التَّنَفُّلِ بِالطَّوَافِ ، وَالصَّلَاةِ فَقَالُوا : الطَّوَافُ فِي حَقِّ الْأَفَّاقِي أَفْضَلُ لَهُ ، وَالتَّنَفُّلُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَفْضَلُ ، وَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا خَرَجَ إلَى زِيَارَةِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلْيَغْتَنِمْ مُشَاهَدَتَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، وَقَدْ قَالَ لِي سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ : مَا جَلَسْت فِي الْمَسْجِدِ إلَّا الْجُلُوسَ فِي

الصَّلَاةِ ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ ، وَمَا زِلْت وَاقِفًا هُنَاكَ حَتَّى رَحَلَ الرَّكْبُ وَلَمْ أَخْرُجْ إلَى بَقِيعٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَمْ أَزُرْ غَيْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ قَدْ خَطَرَ لِي أَنْ أَخْرُجَ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَقُلْت : إلَى أَيْنَ أَذْهَبُ ؟ هَذَا بَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْتُوحُ لِلسَّائِلِينَ ، وَالطَّالِبِينَ ، وَالْمُنْكَسِرِينَ ، وَالْمُضْطَرِّينَ ، وَالْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُقْصَدُ مِثْلُهُ ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا ظَفَرَ وَنَجَحَ بِالْمَأْمُولِ ، وَالْمَطْلُوبِ ، أَوْ كَمَا قَالَ

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ ، فَإِذَا زَارَ فَلْيَعْتَبِرْ فِي حَالِ مَنْ زَارَهُ وَمَا صَارَ إلَيْهِ فِي قَبْرِهِ مِنْ الْحَمَإِ الْمَسْنُونِ وَهِيَ الطِّينَةُ الْحَارَّةُ الْمُنْتِنَةُ الْعَفِنَةُ ، وَمَاذَا سُئِلَ عَنْهُ ، وَبِمَاذَا أَجَابَ وَمَا هُوَ حَالُهُ هَلْ فِي جَنَّةٍ ، أَوْ ضِدِّهَا ، وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرَحُّمِ عَلَيْهِ وَرَفْعِ مَا بِهِ مِنْ الْكَرْبِ إنْ كَانَ بِهِ وَيَسْأَلُ لَهُ جَلْبَ الرَّحْمَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي عَسْكَرِهِمْ ، إذْ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ كَمَا قِيلَ : مَنْ عَاشَ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ فَاتَ وَأَنَّهُ الْآنَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُ وَيُفَكِّرُ فِي مَاذَا يُجِيبُ ، وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَحِيدٌ فَرِيدٌ قَدْ رَحَلَ عَنْهُ أَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } انْتَهَى .

فَيَتَعَلَّقُ بِمَوْلَاهُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَطِرَةِ الْعَظِيمَةِ وَيَلْجَأُ إلَيْهِ وَيَتَوَسَّلُ

وَلَا يَقْرَأُ الزَّائِرُ عِنْدَ قَبْرِ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَغْلِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى التَّدَبُّرِ وَإِحْضَارِ الْفِكْرَةِ فِيمَا يَتْلُوهُ وَفِكْرَتَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَا يَجْتَمِعَانِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أَعْتَبِرُ فِي وَقْتٍ وَأَقْرَأُ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، وَالْقِرَاءَةُ إذَا قُرِئَتْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ ، إذْ ذَاكَ فَلَعَلَّ أَنْ يَلْحَقَ الْمَيِّتَ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَرِدْ بِذَلِكَ وَكَفَى بِهَا .

الثَّانِي : شَغْلُهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِكْرَةِ ، وَالِاعْتِبَارِ فِي حَالِ الْمَوْتِ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

وَالْوَقْتُ مَحَلٌّ لِهَذَا فَقَطْ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى سِيَّمَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي بَيْتِهِ وَأَهْدَى لَهُ لَوَصَلَتْ ، وَكَيْفِيَّةُ وُصُولِهَا أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَهَبَ ثَوَابَهَا لَهُ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَهَا لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ دُعَاءٌ بِالثَّوَابِ ؛ لَأَنْ يَصِلَ إلَى أَخِيهِ ، وَالدُّعَاءُ يَصِلُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقُبُورِ .

الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ سَبَبًا لِعَذَابِهِ ، أَوْ لِزِيَادَتِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا فَيُقَالُ لَهُ : أَمَا قَرَأْتَهَا أَمَا سَمِعْتهَا فَكَيْفَ خَالَفْتهَا فَيُعَذَّبُ ، أَوْ يُزَادُ فِي عَذَابِهِ لِأَجْلِ مُخَالِفَتِهِ لَهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ ؛ أَنَّهُ رُئِيَ فِي عَذَابٍ عَظِيمٍ فَقِيلَ لَهُ : أَمَا تَنْفَعُك الْقِرَاءَةُ الَّتِي تُقْرَأُ عِنْدَك لَيْلًا وَنَهَارًا فَقَالَ : إنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ عَذَابِي وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْقُبُورِ بِدْعَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ وَإِنَّ مَذْهَبَ

مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ انْتَهَى .

فَيَكُونُ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الزِّيَارَةِ وَيُوَضِّحُهَا حَتَّى تُعْرَفَ وَيَتَعَاهَدَهَا النَّاسُ ، وَيُبَيِّنُ لِمَنْ حَضَرَهُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الزِّيَارَةِ مِنْ الْبِدَعِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهَا فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي رُكُوبِهِنَّ عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ ، وَالرُّجُوعِ وَفِي مَسِّ الْمُكَارِي لَهُنَّ وَتَحْضِينِهِ لِلْمَرْأَةِ فِي إرْكَابِهَا ، وَإِنْزَالِهَا وَحِينَ مُضِيِّهَا يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى فَخْذِهَا وَتَجْعَلُ يَدَهَا عَلَى كَتِفِهِ مَعَ أَنَّ يَدَهَا وَمِعْصَمَهَا مَكْشُوفَانِ لَا سِتْرَ عَلَيْهِمَا سِيَّمَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاتِمِ ، وَالْأَسَاوِرِ مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ الْفِضَّةِ ، أَوْ هُمَا مَعًا مَعَ الْخِضَابِ فِي الْغَالِبِ وَتَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ فَعَلَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ وَمُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَرَاهُ الزَّوْجُ ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ ، أَوْ الْعَالِمُ ، أَوْ غَيْرُهُمْ فَيَسْكُتُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مَعَ أَنَّهَا تُنَاجِي الْمُكَارِيَ وَتُحَدِّثُهُ كَأَنَّهُ زَوْجُهَا ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا ، بَلْ الْعَجَبُ أَنَّ زَوْجَهَا وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ بِالْحَضْرَةِ وَيَعْلَمُونَهُ بِالْغَيْبَةِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ ، وَكُلُّ مَنْ يُعَايِنُهُمْ مِنْ النَّاسِ سُكُوتٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ وَلَا يَجِدُونَ لِذَلِكَ غَيْرَةً إسْلَامِيَّةً فِي الْغَالِبِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ إذَا رَآهُ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ مَنْ يُجَالِسُهُ وَيَرَاهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَلَّ فَاعِلُهَا ، فَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَعْلَمُ بِسَبَبِ إشَاعَةِ الْعَالِمِ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّهُ عَاصٍ وَكَفَى بِهَذِهِ نِعْمَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ رُجِيَ لَهُمْ التَّوْبَةُ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي ذَهَابِهِنَّ وَعَوْدِهِنَّ

.

وَأَمَّا فِي حَالِ زِيَارَتِهِنَّ الْقُبُورَ فَأَشْنَعُ وَأَعْظَمُ ؛ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ عَدِيدَةٍ : فَمِنْهَا : مَشْيُهُنَّ بِاللَّيْلِ مَعَ الرِّجَالِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَوَاتِ هُنَاكَ وَكَثْرَةِ الدُّورِ الْمُتَيَسِّرَةِ ، وَكَشْفُهُنَّ لِوُجُوهِهِنَّ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ خَالِيَاتٌ فِي بَيْتِهِنَّ ، وَيَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مُحَادَثَتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَمَزْحُهُنَّ وَمُلَاعَبَتُهُنَّ وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ مَعَ الْغِنَاءِ فِي مَوْضِعِ الْخُشُوعِ ، وَالِاعْتِبَارِ ، وَالذُّلِّ ، فَإِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْحُزْنِ ، وَالْخَوْفِ ضِدَّ مَا يَفْعَلُونَهُ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالرَّفَثَ فِي الصِّيَامِ ، وَالضَّحِكَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ } انْتَهَى .

فَيَحِقُّ لِمَنْ مَصِيرُهُ إلَى هَذَا عَدَمُ اللَّهْوِ ، وَاللَّعِبِ ، وَخُرُوجُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَوْ كَانَ بِالنَّهَارِ لَخِيفَ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْكُبْرَى فَكَيْفَ بِهِ لَيْلًا ، وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْوُعَّاظِ عَلَى الْمَنَابِرِ ، وَالْكَرَاسِيِّ ، وَالْمُحَدِّثِينَ مِنْ الْقُصَّاصِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ وَغَيْرِهَا ، وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مُخْتَلِطِينَ ، وَكَذَلِكَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّرْجِيعِ ، وَالزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ ، وَالْوَقَارِ ، وَالتَّمْطِيطِ ، وَالْمَدِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُشَدَّدِ وَعَكْسِهِ ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَى تَرْتِيبِ هَنُوكِ الْغِنَاءَ ، وَالطَّرَائِقِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الزُّوَّارُ رِجَالًا ، أَوْ نِسَاءً فَكُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ

وَغَيْرِهَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْمَشْرُوعَةِ أَعْنِي لِلرِّجَالِ ، إذْ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لِلنِّسَاءِ حِينَ رَآهُنَّ فِي جِنَازَةٍ : { ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي الْقُبُورَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا ، هَذَا وَهُنَّ فِي حَالِ التَّشْيِيعِ لِلْجِنَازَةِ فَمَا بَالُك بِهِنَّ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَكَذَلِكَ زِيَارَتُهُنَّ فِي النَّهَارِ مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا ، بَلْ النَّهَارُ أَشَدُّ كَشْفًا لِمَا يُظْهِرْنَهُ مِنْ الزِّينَةِ وَكَشْفِهَا وَعَدَمِ الْحَيَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَهُ النِّسَاءُ فِي هَذِهِ الزِّيَارَةِ الَّتِي ابْتَدَعْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ جَعَلْنَ لِكُلِّ مَشْهَدٍ يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الْجُمُعَةِ حَتَّى أَتَيْنَ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ لِيَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى وُصُولِهِنَّ إلَى مَقَاصِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ فَجَعَلْنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلسَّيِّدِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ، وَالسَّبْتِ لِلسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَالْجُمُعَةِ لِلْقَرَافَةِ لِزِيَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَمْوَاتِهِنَّ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الدَّيِّنَ الْغَيُورَ مِنْهُمْ عَلَى زَعْمِهِ لَا يُمَكِّنُ زَوْجَتَهُ أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا الْخُرُوجَ ، أَوْ تُفَارِقُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا مِنْهَا مِنْ الِامْتِنَاعِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ مَنْعِهِ لَهَا فَيَخْرُجُ مَعَهَا لِئَلَّا يُفَارِقَهَا فَيُبَاشِرُ مَا ذُكِرَ ، أَوْ بَعْضَهُ ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ ، أَوْ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهَا وَيَقَعُ اسْتِمْتَاعُ

الْأَجَانِبِ بِزَوْجَتِهِ بِالْمُزَاحِ ، وَالْبَسْطِ ، وَالْمُلَاعَبَةِ مَعَهَا ، وَاللَّمْسِ لَهَا بِحُضُورِهِ ، وَقَدْ يَرَى هَذَا مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَالسِّيَاسَةِ ، وَالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِرْضِ زَوْجَتِهِ وَعَلَى عِرْضِ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجَتِهِ .

وَقَدْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ ، وَهَذَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَخَسْفٌ بَاطِنٌ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ هَذَا إنْ احْتَمَلَ الزَّوْجُ مَا رَأَى مِمَّا وَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ الْعَدِيدَةِ ، وَإِنْ غَلَبْته الْغَيْرَةُ ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا فَعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيَقَعُ الضَّرْبُ ، وَالْخِصَامُ ، وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي ، وَالْحَاكِمِ ، وَالْحَبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

هَذَا إنْ كَانَ الزَّوْجُ سَالِمًا مِنْ الرِّيَاسَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَرَأَّسُ ، أَوْ هُوَ رَئِيسٌ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ هُنَاكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيُرْسِلُ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ لَهَا عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَبِيٍّ ، أَوْ عَبْدٍ ، أَوْ عَجُوزٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا كَانَ أَكْثَرَ فَسَادًا مِنْ خُرُوجِهَا وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَهَابُ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَيَبْتَدِئُهَا بِكَلَامٍ ، أَوْ مُزَاحٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ تَبْتَدِئْ أَحَدًا بِكَلَامٍ وَلَا مُزَاحٍ ، فَإِنْ وَجَدُوا مَعَهَا أَحَدًا مِمَّنْ ذُكِرَ تَوَصَّلُوا بِسَبَبِهِ إلَى مَا يَخْتَارُونَ مِنْهَا بِسَبَبِ تَوَسُّلِ الْوَاسِطَةِ وَتَحْسِينِهِ وَتَزْيِينِهِ لِلْفِعْلِ الذَّمِيمِ وَتَيْسِيرِهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ قَدْ عَدِمَ الطَّرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ .

وَالثَّانِي لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ يُرْسِلُهُ مَعَهَا وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَخْرُجُ وَحْدَهَا وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا الْخُرُوجَ فَيَخْرُجُ مَعَهَا وَيَمْشِي بَعِيدًا عَنْهَا ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْفَسَادِ ،

وَالْفِتْنَةِ بِكَثْرَةٍ تَتَبُّعِ فُرُوعِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ، وَقَدْ قَالَ لِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ وَرَدَ إلَى مَدِينَةِ مِصْرَ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا أَحَدٌ بِبَغْدَادَ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَنَا وَنَفَرَ النُّفُورَ الْكُلِّيَّ مِنْ إقَامَتِهِ بِإِقْلِيمِ مِصْرَ ، وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى بَغْدَادَ ، إذْ أَنَّهَا عِنْدَهُ أَقَلُّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ ، فَإِذَنْ كَانَتْ بَغْدَادُ عَلَى هَذَا أَقَلَّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ وَهِيَ مُقَامُ التَّتَارِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ الْمَلْعُونَةُ يُخْسَفُ بِهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ } فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى دُورِ الْبِرْكَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبِرْكَةِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَمِنْهَا : رُكُوبُهُنَّ إلَيْهَا عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ ، وَالْعَوْدِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَمِنْهَا خُرُوجُ بَعْضِهِنَّ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُنَاكَ عَلَى شَاطِئِ الْبِرْكَةِ فِي الطَّرِيقِ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَزَيِّنَاتٍ مُخْتَلِطَاتٍ بِالرِّجَالِ ، وَبَعْضُهُنَّ يَغْتَسِلْنَ فِي الْبِرْكَةِ ، وَبَعْضُ الرِّجَالِ يَنْظُرُونَ فِي الْغَالِبِ إلَيْهِنَّ وَمَا يَفْعَلْنَ أَيْضًا مِنْ تَبَرُّجِهِنَّ إنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ مَنْ يَنْظُرُهُنَّ مِنْ الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ ، وَالْأَسْطِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُظْهِرْنَ مَا بِهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ وَمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْنِ الثِّيَابِ ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمُمَازَحَتِهِنَّ لِلرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي أَيَّامِ الْخَضِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحَلٌّ لِفُرْجَةِ الرِّجَالِ وَفُسْحَتِهِمْ فَقَلَّ مَنْ تَرَاهُ هُنَاكَ إلَّا وَهُوَ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى الطَّاقَاتِ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ الزِّينَةُ ، وَالتَّبَرُّجُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَفَرِّجِينَ أَنَّهُمْ لَا يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ ، بَلْ يَرْتَكِبُونَ الْمُحَرَّمَ جِهَارًا فَيَمْشُونَ فِي زُرُوعِ النَّاسِ قَصْدًا وَيَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا وَمَجَالِسَ وَرُبَّمَا عَمِلُوا فِيهَا السَّمَاعَ ، وَإِنْشَادَ الشَّعْرِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّغَزُّلَاتِ الَّتِي تُمِيلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ } انْتَهَى .

يَعْنِي النِّسَاءَ ، وَذَلِكَ لِضَعْفِهِنَّ عَنْ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْحَسَنِ فَكَيْفَ بِهِ مَعَ التَّغَزُّلَاتِ ، وَقَدْ قَالُوا : إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ فَتَرِقُّ طِبَاعُهُنَّ لِمَا يَسْمَعْنَ

وَيَرَيْنَ مِنْ ذَلِكَ وَيُشَاهِدْنَهُ فَيَمِلْنَ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ الْفَسَادُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا ، وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ ، وَالْبَقَاءِ عَلَى دَخَنٍ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ

فَصْلٌ فِي الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ ، إذْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَشْفَةً لَهُنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ أَخَفُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الدُّخُولِ إلَى الْبُسْتَانِ تَحَرَّزَ مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ بِغَلْقِ الطَّاقَاتِ ، وَالْأَبْوَابِ ، وَالْأَسْطِحَةِ وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ أَهْلَهُ إلَى الْبُسْتَانِ بِشَرْطَيْنِ ، وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يُكْشَفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَأَنْ لَا يَدْخُلَهُ مَعَ أَهْلِهِ غَيْرُ ذِي مَحْرَمٍ

فَصْلٌ فِي رُكُوبِهِنَّ الْبَحْرَ وَيَنْبَغِي لَهُ ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ يَحْتَجْنَ فِيهِ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْفُرْجَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُبَاحًا ، إذْ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ كَشْفَةٌ لَهُنَّ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقَصِّي جُزْئِيَّاتِهِ هَذَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ الْفُرْجَةِ لَا مُنْكَرَ فِيهِ وَلَا فِتْنَةً يَتَخَوَّفُ وُقُوعَهَا ، وَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَفْسَدَةٌ فَالْأَوْلَى الْمَنْعُ مِثْلُ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقَنَاطِرِ وَغَيْرِهَا وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ وَمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِمَّا يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهُ فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَمَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ الْغَوْغَاءِ وَمَا فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْفِتَنِ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَقِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ اعْتَادُوا فِيهِ عَادَةً ذَمِيمَةً وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْحَرَافِيشِ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ يُجَرِّدُونَهُ وَيَأْخُذُونَ مَا مَعَهُ وَيَضْرِبُونَهُ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ وَأَعْدَمُوهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاكِمٌ ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ فِيهِمْ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى الْمَحْمَلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى شُهُودِ الْمَحْمَلِ حِينَ يَدُورُ وَيَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي يَسْتَعِدُّ فِيهَا لِدَوَرَانِ الْمَحْمَلِ ، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا تَزْيِينُ الدَّكَاكِينِ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا بِالْقُمَاشِ مِنْ الْحَرِيرِ ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ ، وَتَحْرِيمُهُ لَا خَفَاءَ فِيهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ دَوَرَانِهِ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ ، وَيَقَعُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ الْمَفَاسِدِ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالْحَرِيرِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الشَّرْعِ لِحَكَّةٍ ، أَوْ جِهَادٍ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَسَمَّى اسْتِعْمَالَ الْحَصِيرِ لُبْسًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَزْيِينِهِمْ بِمَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْمُعَلَّقَةِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَرَامٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ مُحَرَّمَةٌ فَيَتَأَكَّدُ الْوَعِيدُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحُ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا } .

.

وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُصَوِّرِينَ فِي الدُّنْيَا : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ انْتَهَى .

وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَعْنِي فِي لُحُوقِ الْإِثْمِ بَيْنَ مَنْ صَنَعَهَا وَبَيْنَ مِنْ اسْتَحْسَنَهَا وَبَيْنَ مَنْ جَلَسَ إلَيْهَا وَبَيْنَ مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَحَبَّهَا وَبَيْنَ مَنْ رَآهَا وَلَمْ يُنْكِرْ وَلَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَنْ اسْتَحَلَّهُ فَالْحُكْمُ فِيهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَلَا لِامْرَأَةٍ عُمُومًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْلِسَ تَحْتَ الْبَشْخَانَاتِ وَلَا مَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا ، وَلَا أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِهَا ، بَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهَا بِشَرْطِ أَنْ يُزِيلَهَا دُونَ إفْسَادِهَا وَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ .

أَمَّا الرِّجَالُ فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَيِّنٌ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْأَدِلَّةُ مَانِعَةٌ لَهُنَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْنِي مِنْ الْمَسَانِدِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا .

وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْكَتَّانِ الرَّفِيعِ ، أَوْ الْقُطْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَلَا يَصِلُ إلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُبَاحٌ أَعْنِي لُبْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ ، وَفِيهِ ضَرْبٌ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا يُبْلِيهَا وَتَتَدَنَّسُ بِمَا يُلَاقِيهَا مِنْ غُبَارٍ وَدُخَانِ مِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِمَا دُونَ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَالْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ إلَّا مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُنَّ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ وَلِهَذَا أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ لَهَا اللِّحَافَ ، وَالْفِرَاشَ مِنْ الْحَرِيرِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ لَهُنَّ وَلَمْ يَعُدُّوهُ إلَى غَيْرِ اللُّبْسِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا اتِّخَاذُ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ كَانَتْ لِلزِّينَةِ ، أَوْ لِلِاسْتِعْمَالِ فَذَلِكَ كُلُّهُ حَرَامٌ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ

كَانَتْ عَاصِيَةً وَيَجِبُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ زَكَاةُ تِلْكَ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِشُرُوطِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِثْمِ ، إذْ أَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ ، وَالتَّوْبَةُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي تَابَتْ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا دَامَتْ تِلْكَ الْآنِيَةُ عَلَى حَالِهَا إلَّا بِإِخْرَاجِهَا مِنْ يَدِهَا وَعَنْ مِلْكِهَا لِمَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ لَهَا وَذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَتْ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ فَتَوْبَتُهَا صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اسْتِعْمَالُ الْفِرَاشِ ، وَاللِّحَافِ مِنْ الْحَرِيرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا خَاصَّةً وَأَمَّا زَوْجُهَا ، فَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَهَا فَلَا يَدْخُلُ الْفِرَاشَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهَا وَلَا يُقِيمُ فِي الْفِرَاشِ بَعْدَ قِيَامِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتْ ضَرُورَةٌ ، ثُمَّ تَرْجِعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ ، بَلْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ لِمَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى فِرَاشِهَا وَإِنْ قَامَتْ وَهُوَ نَائِمٌ فَتُوقِظُهُ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَى مَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ ، أَوْ تُزِيلُهُ عَنْهُ انْتَهَى .

هَذَا حُكْمُ الزَّوْجِ مَعَهَا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يُعَلِّمُهُ فَيُعَلِّمَهَا ، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ لِتَتَعَلَّمَ وَإِنْ أَبَى أَنْ تَخْرُجَ فَلْتَخْرُجْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا وَلَا تَكُونُ عَاصِيَةً وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَذِنَ لَهَا الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الذُّكُورُ فَفِيهِمْ خِلَافٌ ، وَالْمَنْعُ أَوْلَى ، وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي شَأْنِ الْحَرِيرِ فِي الْبُيُوتِ وَأَمَّا فِي الْأَسْوَاقِ ، وَالدَّكَاكِينِ فَالزِّينَةُ

فِيهَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ دِينًا وَدُنْيَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الْغَالِبِ خَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ هَذَا مَعَ مَا فِي الزِّينَةِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالْمُبَاهَاةِ ، وَالتَّفَاخُرِ الْمَوْجُودِ بِالْفِعْلِ ، وَالتَّكَاثُرِ بِعَرَضِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ وَكَسْرِ خَوَاطِرِ الْفُقَرَاءِ إذَا رَأَوْا ذَلِكَ أَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ يُوقِدُونَ الْقَنَادِيلَ عَلَيْهِ لَيَالِيَ الزِّينَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُقْمِرَةً وَتَبْقَى اللَّيْلَ كُلَّهُ مُوقَدَةً وَذَلِكَ إضَاعَةُ مَالٍ لِلزَّيْتِ الَّذِي يَحْتَرِقُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، بَلْ لِلْمَضَرَّةِ بِتَسْوِيدِ الْقُمَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَقُودُ بِالزَّيْتِ الْحَارِّ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِهِ وَيُنْقِصُ ثَمَنَهُ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : الْخَوْفُ عَلَى الْقُمَاشِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَالْخِلْسَةِ وَغَيْرِهِمَا .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ السَّهَرِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةٍ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهَا .

الْخَامِسُ : أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَعْنِي الزِّينَةَ ، فَإِنَّ الَّذِي قَرَّرَهَا كَانَ ، وَالِيًا بِمِصْرَ وَصَارَتْ بَعْدَهُ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى شَاعَتْ وَذَاعَتْ ، وَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ مَهُولٍ ، وَهُوَ أَنْ ادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَوَامّ لَعِيبَ عَلَيْهِمْ وَعُنِّفُوا وَزُجِرُوا عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ ، أَوْ يَعْتَقِدَهُ بِمَقَالِهِ ، أَوْ حَالِهِ ، وَالْعِلْمُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَأْبَى ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ خَالَفَهَا ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ كَيْفَ تَعَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ ؟ مِنْهَا أَنَّ النِّسَاءَ ، وَالرِّجَالَ يَخْرُجُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا

وَيَجْتَمِعُونَ فِي لَيَالِي الزِّينَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ تَحْتَ سِتْرِ ظَلَامِ اللَّيْلِ ، وَكُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تَيَسَّرَ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي بِخِلَافِ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذَكَرُهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا لِإِنْفَاذِ غَرَضِهِ الْخَسِيسِ .

فَإِذَا تَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ فَعَلَهُ فَكَانَتْ الزِّينَةُ سَبَبًا لِتَسْهِيلِ الْمَعَاصِي وَتَيَسُّرِهَا عَلَى مَنْ أَرَادَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ وَقُودُ الْقَنَادِيلِ ، وَالشُّمُوعِ نَهَارًا يَوْمَ دَوَرَانِ الْمَحْمَلِ ، وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَقُودَ بِالنَّهَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ دُونَ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ مَعَ بَعْضٍ وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنِّسْوَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَحْيِنَ أَنْ يَسْأَلْنَ الرِّجَالَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتُهُنَّ بِالْكَلَامِ ، وَيَرَى أَنَّ بَذْلَ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لَهُنَّ فَيَجُوزُ ، أَوْ يَجِبُ بِحَسَبِ الْحَالِ الْوَاقِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْعَالِمِ تُبَلِّغُ عَنْهُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لِلنِّسَاءِ عُمُومًا وَلِبَعْضِ الرِّجَالِ خُصُوصًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيمِ زَوْجَةِ الْعَالِمِ لِلنَّاسِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } انْتَهَى .

لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ لَمْ يَزَالُوا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ ، وَقَدْ كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَرْسَلُوا إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُنَّ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا يُفْتِينَ بِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { خُذُوا عَنْهَا شَطْرَ دِينِكُمْ } فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يُعَلِّمُ زَوْجَتَهُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَهِيَ تُعَلِّمُهَا النَّاسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ الْمَشْرُوعِ ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالزَّوْجَةِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ الْعَالِمُ مِنْ زَوْجَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا صَارَ عَالِمًا بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَيُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَصْحَابَهُ ، ثُمَّ عَلَّمُوا النَّاسَ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ

فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي صَحِيفَتِهِمْ وَهُمْ وَمَا فِي صَحِيفَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَذَلِكَ مَاضٍ إلَى أَنْ يُرْفَعَ الْقُرْآنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا إنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِالْخُرُوجِ إلَى التَّعْلِيمِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الْخُرُوجِ خَرَجَتْ بِغَيْرِ ، إذْنِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَعْنِي طَلَبَ النِّسَاءِ حُقُوقَهُنَّ فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْنَ إلَّا لِأَجْلِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } قَدْ أُهْمِلَ الْيَوْمَ وَصَارَ مَتْرُوكًا قَدْ دُثِرَ مَنَارُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فِيهِ مِنْ الزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي غَالِبِ الْحَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ ، وَالْكِسْوَةِ وَفِيمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَا يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُ غَالِبًا وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِهِ ، بَلْ لَا يَخْطِرُ لِبَعْضِهِمْ بِبَالٍ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْخِطَابِ ، فَظَاهِرُ حَالِهِمْ كَحَالِ مِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى تَرْكِهِ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَقَّهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَرَفَعْته إلَى الْحَاكِمِ وَطَالَبَتْهُ بِالتَّعْلِيمِ لِأَمْرِ دِينِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهَا إمَّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِوَاسِطَةِ إذْنِهِ لَهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ جَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَجْبُرُهُ عَلَى حُقُوقِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ ، إذْ أَنَّ حُقُوقَ الدِّينِ آكَدُ وَأَوْلَى ، وَإِنَّمَا سَكَتَ الْحَاكِمُ عَمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا ، أَوْ مُحْتَسِبًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ

، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ زَوْجَةُ الْعَالِمِ بِالنِّسْوَةِ ؛ لَأَنْ تُعَلِّمَهُنَّ الْأَحْكَامَ فَلْتَحْذَرْ أَنْ يَسْرِيَ إلَيْهَا مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ بِهِنَّ مِنْ النِّسْوَةِ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، إذْ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ اجْتِمَاعِهِنَّ لَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي نَشَأْنَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِنَّ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيمِ لِلنِّسَاءِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ أَهْلَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، أَوْ بَعْضِهَا وَيَتَضَرَّرُ هُوَ لِذَلِكَ ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُمَا الْأَمْرُ بِالتَّعْلِيمِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَعْنِي تَعْلِيمَهَا لِغَيْرِهَا وَإِذْنَ زَوْجِهَا لَهَا وَيَبْقَى الْعَالِمُ مَأْمُورًا بِالتَّعْلِيمِ ، فَإِنْ تَخَوَّفَ وُقُوعَهُ ، فَالتَّعْلِيمُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَمْ تُحَقَّقْ لَكِنْ يَحْتَرِزُ مِنْهَا جَهْدَهُ ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ فَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُهُنَّ وَاسْتَحْكَمَ حُبُّهَا فِي قُلُوبِهِنَّ ، وَالْعَمَلِ بِهَا الذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ ، وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ ، أَوْ رَأَى وَسَكَتَ كَمَنْ فَعَلَ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ مَا رَتَّبْتَهُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَأَيَّامِ الْجُمُعَةِ ، فَكُلُّ يَوْمٍ فَعَلُوا فِيهِ أَفْعَالًا مَخْصُوصَةً لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ وَمَنْ خَالَفَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ يَتَطَيَّرْنَ بِهِ وَيَنْسُبْنَهُ إلَى الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ فَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُنَّ اللَّبَنَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّنَةِ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ تَفَاؤُلٌ بِأَنْ تَكُونَ سَنَتُهُمْ كُلُّهَا عَلَيْهِمْ بَيْضَاءَ وَهَذَا مِنْهُمْ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ ؛ أَمَّا الْبِدْعَةُ فَاِتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ عَادَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاؤُلِ ،

وَالتَّفَاؤُلُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الَّذِي لَا يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ حَتَّى يَسْمَعَهُ ابْتِدَاءً ، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُهُ فَلَيْسَ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ .

وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ التَّفَاؤُلُ فِي فَتْحِ الْخِتْمَةِ ، وَالنَّظَرِ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ ؛ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لَهُ مِنْهَا آيَةُ عَذَابٍ وَوَعِيدٍ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ ذَلِكَ فَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهُ مَادَّةُ التَّشْوِيشِ ، بَلْ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ لَهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْخَطَرِ الْعَظِيمِ أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ فَتَحَ الْمُصْحَفَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْفَأْلَ فَوَجَدَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ مِنْهُ { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا حَتَّى خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ مِنْهُ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا لِمُنَافَرَتِهَا لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ الذَّخِيرَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ أَخْذَ الْفَأْلِ بِالْمُصْحَفِ وَضَرْبَ الرَّمَلِ وَنَحْوَهُمَا حَرَامٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ مَعَ أَنَّ الْفَأْلَ حَسَنٌ بِالسُّنَّةِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ هُوَ مَا يَعْرِضُ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِثْلُ قَائِلٍ يَقُولُ : يَا مُفْلِحُ وَنَحْوُهُ .

وَالتَّفَاؤُلُ الْمُكْتَسَبُ حَرَامٌ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ انْتَهَى .

أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ الْفُقَّاعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَذَلِكَ الْيَوْمِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ فَيَفْتَحُونَ فَمَهْ فِي الْبَيْتِ فَيَصْعَدُ نَاحِيَةَ السَّقْفِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ يَفُورُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَيُوَسَّعُ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقَبَطِ ، وَالْأُنْسِ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ وَيَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا مِنْ جِهَةِ الْبَسْطِ قَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ إلَى

غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذَا جَهْلٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَهُوَ أَنَّهُنَّ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ السَّمَكَ وَلَا يَأْكُلْنَهُ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ ، وَهَذِهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَصْطَادُونَ السَّمَكَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَلَا يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَأْكُلُونَهُ ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ فَمَنَعَهُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ الْحَمَّامَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهَا حَيْضُهَا تَتْرُكَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَلَا يَشْتَرِينَ فِيهِ الصَّابُونَ وَلَا السِّدْرَ وَلَا الْأُشْنَانَ وَلَا يَغْسِلْنَ فِيهِ الثِّيَابَ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ انْتَقَلْنَ مِنْ خَصْلَةِ الْيَهُودِ إلَى خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ النَّصَارَى فِي كَوْنِهِنَّ لَا يَعْمَلْنَ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ وَلَا فِي يَوْمِهِ شُغْلًا ، وَأَمَّا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ فَعِنْدَهُنَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ فِيهِمَا جَمِيعُ مَا يَخْتَرْنَهُ ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ اللَّبَنَ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ وَلَا يَأْكُلْنَهُ ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ لِلْإِشْغَالِ ، وَالْحَوَائِجِ الَّتِي لَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَعْمَلْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ غَزْلِ كَتَّانٍ وَلَا مَحْرِهِ وَلَا تَسْرِيحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .

وَكَذَلِكَ مَنْعُهُنَّ خُرُوجَ النَّارِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَاعُونِ الْبَيْتِ عَشِيَّةَ كُلِّ يَوْمٍ وَيُبَالِغْنَ فِي مَنْعِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُنَّ يَتَعَشَّى فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ ، ثُمَّ جَاءَ أَحَدٌ يُسْرِجُ مِنْهُ فَلَا يَتْرُكْنَهُ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ أَذِنَ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْرِجَهُ ، ثُمَّ يُطْفِئَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ وَيُوقِدَهُ فِي الرَّابِعَةِ وَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ بِهِ .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :

إنَّ النَّارَ لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الِاقْتِبَاسِ مِنْهَا ، إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّرَرِ ، وَالضِّرَارِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إنْ اضْطَرَّ أَحَدٌ إلَى أَخْذِ الْغِرْبَالِ جَعَلْنَ فِيهِ حَجَرًا ، أَوْ مِلْحًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْحِجَامَةِ ، وَالِاطِّلَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُهُ أَنْتَ قَالَ نَعَمْ وَأُكْثِرُهُ وَأَتَعَمَّدُهُ ، وَقَدْ احْتَجَمْتُ فِيهِ وَلَا أَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ حِجَامَةٍ وَلَا اطِّلَاءٍ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ ذَلِكَ : وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَطَيَّرَ ، فَقَدْ أَثِمَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَلَا طِيَرَةَ ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ } .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ أَيْ عَلَيْهِ إثْمُ مَا تَطَيَّرَ بِهِ لَا أَنَّ مَا تَطَيَّرَ بِهِ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : وَلَا طِيَرَةَ انْتَهَى .

وَهَذِهِ الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا إنَّمَا سَبَبُهَا ارْتِكَابُ مَا نَهَى عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُجَاوِرُونَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَكُونُوا بِمَعْزِلٍ فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مُنْحَازِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ هُمْ لَا يُشَارِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَقِيَّةِ الْبَلَدِ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَ لَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَيْفَ جَرَتْ إلَى مَا هُوَ أَرْدَأُ مِنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ :

مِنْهَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَا الذِّكْرِ ، وَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ تَشَبُّهُهُمْ أَيْضًا فِي تَرْكِ الشُّغْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ عَنْ ذَلِكَ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ أَوْقَعَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ مَنْ مَنَعَ الْمَاعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَاعُونُ الْبَيْتِ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ : مَا أَحْرَمَهُمْ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ، وَالْخَيْرِ الْجَسِيمِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ، وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْقِدْرَ إذَا أَعَارَهَا الْإِنْسَانُ ، أَوْ الْغِرْبَالَ ، أَوْ غَيْرَهُمَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَا يُفْعَلُ بِذَلِكَ فَمَا طُبِخَ فِيهَا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ قُرِئَ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ شَيْءٌ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَالْفَاعِلِ لِذَلِكَ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ ، أَوْقَعَهُمْ فِي النَّهْيِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الطِّيَرَةِ } وَهُمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

الْوَجْهُ السَّابِعُ : مَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يُحْدِثُونَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ وَلَا هِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَرْكَ الْمُبَادَرَةِ لِلْمَعْرُوفِ ، وَالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَوْقَدُوا الْمِصْبَاحَ مِنْ عِنْدَهُمْ ، أَوْ أَخَذُوا الْغِرْبَالَ فَعَلُوا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَابْتَدَعُوا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الشَّرْعُ فِيهِ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ إذَا نَزَلَتْ الشَّمْسُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ فَيَخْرُجُونَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا مُخْتَلِطِينَ أَقَارِبَ وَأَجَانِبَ فَيَجْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ يُسَمُّونَهُ بِالْكَرْكِيشِ فَيَقْطَعُونَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْخَوَاتِمِ النَّفِيسَةِ ، وَالْأَسَاوِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُلِيِّ وَيَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ قَطْعِهِ بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا يُدْرِيه لَعَلَّهُ كُفْرٌ وَيَجْعَلُونَ مَا يَقْطَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فِي خَرَائِطَ مَصْبُوغَاتٍ بِزَعْفَرَانٍ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْخَرِيطَةَ فِي الصُّنْدُوقِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِكْثَارِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْنَائِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، وَأَنَّ الْفَقْرَ يُوَلِّي عَنْهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَبَعْضُهُمْ يَسْتَحْسِنُهُ وَبَعْضُهُمْ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِيهِ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَأَشْبَاهَهُ خَرَجَ مِنْ جِهَةِ الْقَبَطِ الثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ الْكَشَفَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ ، وَالشَّبَابِ وَرُبَّمَا اخْتَلَطُوا وَتَزَاحَمُوا عَلَى ذَلِكَ .

الثَّالِثُ : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِغِنَاهُمْ .

الرَّابِعُ : أَنَّهُ عَرَّضَ مَا مَعَهُ مِنْ الْآلَةِ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِمَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَدْ ` يَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ وَيَقَعُ فِي شَقٍّ مِنْ تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيُدْخِلُ يَدَهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَوْتِهِ ، أَوْ لِلْوُقُوعِ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ ثُعْبَانٌ ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي ؛ فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ بِلَسْعِهَا

وَإِمَّا أَنْ يَمْرَضَ ، وَقَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا اسْتَعَارَ بَعْضُهُمْ الذَّهَبَ أَوْ غَيْرَهُ لِيَقْطَعَ بِهِ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فَضَاعَ مِنْهُ ، أَوْ سَقَطَ فِي تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيَقَعُ فِي التَّشْوِيشِ مَعَ غُرْمِ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهَذَا قَدْ عُجِّلَ لَهُ الْفَقْرُ بِمَا سَقَطَ مِنْهُ أَوْ ضَاعَ ضِدَّ مُرَادِهِ ، وَهَكَذَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا جَارِيَةٌ فِيمَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ الَّذِي شَرَعَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَرْبَعِينَ أَرْبِعَاءَ مُتَوَالِيَاتٍ فَإِنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا ، وَذَلِكَ قُبْحٌ عَظِيمٌ وَسَخَافَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ تَسْوِيلِ اللَّعِينِ حَتَّى يُوقِعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ فِيهِ أَشْيَاءُ مُسْتَهْجَنَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ فِيهِ إحْدَاثًا ، وَالْحَدَثُ مَمْنُوعٌ .

الثَّالِثُ : مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ عَدَّ فِيهَا طَلَبَ الرِّزْقِ بِالْمَعَاصِي وَلَا شَكَّ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مَعْصِيَةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } فَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إلَّا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ حُصُولَ ذَلِكَ بِالْمُخَالَفَةِ نَقِيضُ الْمُرَادِ مِنْهُمْ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ

عِيد الأضحي ( فَصْلٌ ) وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوَاسِمِ وَهُمْ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي تَشَبَّهُوا فِيهَا بِالنَّصَارَى ؛ فَأَمَّا الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَأَوَّلُهَا عِيدُ الْأَضْحَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَوَاسِمِ الْمُسْلِمِينَ تَرَكَ بَعْضُهُمْ فِيهِ سُنَّةَ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي سَنَّهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَفْضَلَ مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ فَرْضٌ ، أَوْ سُنَّةٌ ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَعْنِي وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَتْرُكُونَ الْأُضْحِيَّةَ وَيَشْتَرُونَ اللَّحْمَ وَيَطْبُخُونَ أَلْوَانَ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ الْمَشْرُوعَةُ بِبَعْضِ ثَمَنِ مَا أَنْفَقُوهُ ، أَوْ مِثْلِهِ ، أَوْ يُقَارِبُهُ حَتَّى حَرَمَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ الْعُظْمَى ، وَالْخَيْرَ الشَّامِلَ بِتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمْ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ يَذْبَحُ لَيْلَةَ الْعِيدِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ ، أَوْ لَا ، فَإِنْ نَوَاهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَيَّنَهَا ، أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَهَا أَثِمَ فِي ذَبْحِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَيَكُونُ حَرِجَةً

فِي حَقِّهِ إنْ قَدِمَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَاهِلِ هَلْ هُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ ، أَوْ كَالنَّاسِي ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْمُتَعَمِّدِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا وَنَوَى بِهَا الْأُضْحِيَّةَ حِينَ ذَبَحَهَا لَمْ تُجْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ ، فَقَدْ أَسَاءَ فِي فِعْلِهِ بِارْتِكَابِهِ الْبِدْعَةَ ، وَالْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فِي وَقْتِهَا وَيُفْطِرَ عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ مِنْهَا .

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْأُضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ السَّبَبُ فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ الْجَزِيلِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ يَعْمَلُ الطَّعَامَ بِلَيْلٍ حَتَّى إذَا جَاءُوا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَدُوا ذَلِكَ مُتَيَسِّرًا فَأَكَلُوا هُمْ وَمَنْ يَخْتَارُونَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُونَ بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ الذَّبْحَ بِاللَّيْلِ لِأَجْلِ عَمَلِ الطَّعَامِ فَوَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ ارْتِكَابُ بِدْعَةٍ وَمُخَالَفَةٍ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْجَلِيلَةِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُضَحِّي بِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَكْفِيه بَاعَ الثَّانِي وَاشْتَرَى بِهِ الْأُضْحِيَّةَ ، وَكَذَلِكَ فِي ثَوْبِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلَةٌ تَدَايَنَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْقُرْبَةَ الْعَظِيمَةَ ، وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ

إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَمَا أَدْخَلَ مِنْ سُمِّهِ السَّمُومِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِتَسْوِيلِهِ لَهُمْ تَرْكَ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعُظْمَى ، وَحَرَمَهُمْ جَزِيلَ ثَوَابِهَا بِمَا أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْعِلَلِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ فَزَيَّنَ لِكُلِّ أَهْلِ إقْلِيمٍ مَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ ، فَإِذَا قُلْت لِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ : لِمَ لَا تُضَحِّي ؟ فَيَقُولُ : لِي مَعَارِفُ كَثِيرَةٌ وَخَرُوفٌ وَاحِدٌ لَا يَعُمُّهُمْ ، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ يَلُومَنِي وَلَا يَلْزَمُنِي أَكْثَرُ مِنْ خَرُوفٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا قُلْت لِلْفَقِيرِ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ : لِمَ تَتَكَلَّفُ الْأُضْحِيَّةَ وَهِيَ لَا تَجِبُ عَلَيْك فَيَقُولُ : قَبِيحٌ مِنْ الْجِيرَانِ ، وَالْأَهْلِ ، وَالْمَعَارِفِ أَنْ يَقُولُوا : فُلَانٌ لَمْ يُضَحِّ فَصَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ بِالنَّظَرِ إلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا مَشُوبَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ وَتَحْسِينِهِمْ وَتَقْبِيحِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمَوْسِمِ الْعَظِيمِ كَيْفَ تَرَكُوا بَرَكَتَهُ وَانْحَازُوا عَنْهَا بِمَعْزِلٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ { مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمَرَ بِزِيَادَةِ الْكَبِدِ فَصُنِعَ لَهُ ، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَيْهِ } تَشَبُّهًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَفَاؤُلًا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا يَفْطُرُونَ فِيهَا عَلَى زِيَادَةِ كَبِدِ الْحُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرَضِينَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّفَاؤُلِ بِذَلِكَ ، إذْ أَنَّهُ عَرُوسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيِّ الْجَلِيلِ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، بَعْضُهُمْ يَبِيعُ جُلُودَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ،

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَحَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } فَيَدْخُلُ الْمِسْكِينُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .

وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي تَفْرِقَةِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ ، إذْ أَنَّهُمْ يُهْدُونَ اللَّحْمَ لِلْجَارِ وَغَيْرِهِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ لِلْعِوَضِ عَنْهُ ، ثُمَّ إنَّ الْجَارَ وَغَيْرَهُ يُكَافِئُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ بِمِثْلِهِ ، أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ ، وَالْمُعْطِي ، وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْظُرُ فِيمَا يُعْطِيَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعِوَضِ فَيَرْضَى بِهِ ، أَوْ يَسْخَطُهُ ، فَقَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ بَابِ الْمُهَادَاةِ بِقَصْدٍ مِنْ قَصْدِ الْعِوَضِ عَنْهُ .

وَالْأُضْحِيَّةُ لَا يُتَعَوَّضُ عَنْهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْهَدَايَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا الْعِوَضِيَّةُ بِشَرْطِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَدِيَّةِ الْجِيرَانِ الطَّعَامُ يَتَعَوَّضُونَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ فَاعِلَ السُّنَّةِ فِيمَا ذُكِرَ قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ ، وَاعْلَمْ وَفَّقْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ الْمَذْكُورَ فِي إهْدَاءِ اللَّحْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ وَمَا شَاكَلَهَا ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُعْطِي لِلَّهِ تَعَالَى وَيَأْخُذُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى التَّعْوِيضِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَسْنَاهَا ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ فِي هَدَايَا الْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ الطَّعَامَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ كَيْفَ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَيُلْقِي لِمَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ وَسْوَسَتَهُ حُجَجًا لِتَرْكِ تِلْكَ السُّنَّةِ

وَاسْتِعْمَالِ غَيْرِهَا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُحَرَّمٌ بَيِّنٌ ، أَوْ بِدْعَةٌ بَيِّنَةٌ ، يَرَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ نُورٌ أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ فِي الْعِيدِ بِإِسْرَاعِ الْأَوْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْأَهْلِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقَطْعِ تَشَوُّفِ الْأَهْلِ لِوُرُودِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَذَكَاةِ الْأُضْحِيَّةِ إنْ كَانَتْ وَاجْتِمَاعِهِمْ وَفَرَحِهِمْ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَذِكْرِ اللَّهِ مَوْضِعَ وَبِعَالٍ انْتَهَى .

يَعْنِي بِذَلِكَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَلَمَّا عَلِمَ إبْلِيسُ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ الشَّامِلَةِ ، وَالرَّاحَةِ الْمُعَجَّلَةِ الْمُثَابِ عَلَيْهَا وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا يُلْقِيه لَهُمْ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا ، وَمِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِتَرْكِ سُنَّةٍ حَتَّى يُعَوِّضَ لَهُمْ عَنْهَا شَيْئًا يُخَيَّلُ إلَيْهِمْ أَنَّهُ قُرْبَةٌ .

عَوَّضَ لَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ وَزَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَرَاهُمْ أَنَّ زِيَارَةَ الْأَقَارِبِ مِنْ الْمَوْتَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَزِيَادَةِ الْوُدِّ لَهُمْ وَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةِ التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ ، إذْ فَقَدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْعِيدِ ، وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ الْبِدَعِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَكَيْفَ بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَ وَيَتَحَلَّيْنَ ابْتِدَاءً ، وَيَتَجَمَّلْنَ فِيهِ بِغَايَةِ الزِّينَةِ مَعَ عَدَمِ الْخُرُوجِ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَرَاهُنَّ يَوْمَ الْعِيدِ عَلَى الْقُبُورِ مُتَكَشِّفَاتٍ قَدْ خَلَعْنَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُنَّ ، فَبَدَّلَ لَهُمْ مَوْضِعَ السُّنَّةِ مُحَرَّمًا وَمَكْرُوهًا ، فَالْمَكْرُوهُ فِي كَوْنِهِ

أَخَّرَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمُحَرَّمُ مَا يُشَاهِدُ الزَّائِرُ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ فِي الْمَقَابِرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ كُلُّهَا لَمْ يَقْنَعْ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِهَا ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا شَنِيعًا ، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ وَفِيهِنَّ الْأَبْكَارُ ، وَالْمُرَاهِقَاتُ وَغَيْرُهُنَّ اللَّاتِي يَخْرُجْنَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ظَاهِرَاتٍ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَمَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ الْغِنَاءِ ، وَالدُّفُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ ، وَالْأَسْوَاقِ وَدُخُولِهِنَّ الْبُيُوتَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ يَفْتَتِنُ بِهِنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَيَسْكُتُ لَهُنَّ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ وَيَعِظُونَهُنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

عِيدُ الْفِطْرِ ( فَصْلٌ ) ، وَالسُّنَّةُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ التَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ الْمَأْكُولِ ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ فَمَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ ، فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ طَعَامًا مَعْلُومًا ، إذْ هُوَ مِنْ الْمُبَاحِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِيهِ وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، وَإِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَفِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ ، إذْ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ .

وَأَمَّا مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ شِرَاءِ الْخُشْكِنَانِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامَيْنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَعْكِ الْمَحْشُوِّ بِالْعَجْوَةِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي بَاطِنِهِ تَبَعٌ لِظَاهِرِهِ بِخِلَافِ الْخُشْكِنَانِ وَالْبُسْنَدُودِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَبَعٌ لِبَاطِنِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكْسِرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا .

وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ كَسْرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكْسِرَ وَاحِدَةً وَيُعَايِنَ جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ مِنْ الْبِدَعِ كَوْنُهُمْ يَبُخُّونَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ .

وَالْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَهُمْ صِيَامٌ ، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي بَخٍّ الْكَعْكِ بِالشَّيْرَجِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَهُمْ صِيَامٌ أَيْضًا ، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ فَيُعَرِّضُ الصَّائِمُ نَفْسَهُ لِلْفِطْرِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرًا ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ يَعْمَلُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ مِنْ أَنْ يَبُخُّونَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ

سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي أَفْوَاهِهِمْ نَجَاسَةً فِي وَقْتِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ ، أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَلَمْ يُطَهِّرْ فَمَهُ بَعْدَهَا ، فَمَا أَصَابَهُ بِرِيقِهِ مُتَنَجِّسٌ .

الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ إذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَأْكُولُ عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِمَّا ذُكِرَ لَكَانَ بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ، وَالطِّبِّ : أَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ .

وَأَمَّا الطِّبُّ فَإِنَّ الصَّوْمَ يُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ غَالِبًا وَيَعْصِمُ ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ الصَّوْمِ أَفْطَرُوا عَلَى الْكَعْكِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ جَفَافًا وَإِمْسَاكًا فَيَتَضَرَّرُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ ، فَقَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَدْوِيَةِ ، وَالْأَشْرِبَةِ ، وَالْأَطِبَّاءِ وَكَانُوا فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ السَّمَكَ الْمَشْقُوقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْفَاضِلِ الَّذِي يُعْتِقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الرِّقَابِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ الْمَرْءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَى كَسْبِ الْحَسَنَاتِ ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ اتِّقَاءُ الْمَحَارِمِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا } .

فَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ فِطْرَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ عَلَى شَيْءٍ مُمَكَّسٍ ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعِدَّ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِإِفْطَارِهِ شَيْئًا حَلَالًا مِنْ جِهَةٍ يَرْضَاهَا الشَّرْعُ لَعَلَّهُ يَلْحَقُ بِالْقَوْمِ .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا حَظُّ نَفْسٍ وَمُبَاهَاةٌ

وَشَهْوَةٌ خَسِيسَةٌ فَانِيَةٌ يَحْرِصُونَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَوَلَدٍ وَعَبْدٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ شَرْعًا ، وَاَلَّذِي لَهُمْ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَسِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ يَتَسَاكَتُونَ عَنْهُ وَيُهْمِلُونَ أَمْرَهُ ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا هَذَا الْغَالِبُ مِنْهُمْ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ إخْرَاجُهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ ، إذْ أَنَّهُ قُوتُ جَمِيعِهِمْ فَفَعَلَ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتْرُكُونَهَا لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا وَيُنْفِقُونَ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا ، أَوْ مِثْلَهُ فَعَوَّضُوا مَكَانَ السُّنَنِ الْمَطْهَرَةِ عَوَائِدَهُمْ الرَّدِيئَةَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَفِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ الْبِدَعِ سَهَرُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِمَا ، أَوْ فِي بَعْضِهِمَا لَا لِعِبَادَةٍ ، بَلْ لِلشُّغْلِ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا شَاكَلَهَا وَإِضَاعَةِ الْمَالِ بِصَقْلِ الْقُمَاشِ الَّذِي يُفْضِي إلَى تَقْطِيعِهِ وَتَرْكِ إحْيَاءِ اللَّيْلَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَنْدُوبِ إلَى إحْيَائِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى مَا فِيهِ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ إلَى الْبُيُوتِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا ، فَتَفْرِقَةُ الْكَعْكِ هَاهُنَا مُقَابِلَةٌ لِتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فِي الْأَضْحَى

يَوْمُ عَاشُورَاءَ الْمَوْسِمُ الثَّالِثُ مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَالتَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ ، وَالْأَقَارِبِ ، وَالْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ وَزِيَادَةُ النَّفَقَةِ ، وَالصَّدَقَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُجْهَلُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطٍ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَدَمِ التَّكَلُّفِ ، وَمِنْ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ سِيَّمَا إذَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ؛ لِأَنَّ تَبْيِينَ السُّنَنِ وَإِشَاعَتَهَا وَشُهْرَتَهَا أَفْضَلُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَضَى فِيهِ طَعَامٌ مَعْلُومٌ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتْرُكُونَ النَّفَقَةَ فِيهِ قَصْدًا لِيُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّ عَاشُورَاءَ يَخْتَصُّ بِذَبْحِ الدَّجَاجِ وَغَيْرِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَأَنَّهُ مَا قَامَ بِحَقِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَكَذَلِكَ طَبْخُهُمْ فِيهِ الْحُبُوبَ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَرَّضُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاسِمِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَعْظِيمَهَا إلَّا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَالْخَيْرِ وَاغْتِنَامِ فَضِيلَتِهَا لَا بِالْمَأْكُولِ بَلْ كَانُوا يُبَادِرُونَ إلَى زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْدُومَةٌ ، أَوْ قَلِيلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَصَدَّقُ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ بِدْعَةً ، أَوْ مُحَرَّمًا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الزَّكَاةُ مَثَلًا فِي شَهْرِ صَفَرٍ ، أَوْ رَبِيعٍ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ فَيُؤَخِّرُونَ إعْطَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ مَا

فِيهِ ، فَقَدْ يَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ ، أَوْ يُفْلِسُ فَيَبْقَى ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَأَقْبَحُ مَا فِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ شَهِدَ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .

وَفِيهِ بِدْعَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَدَّ لِلزَّكَاةِ حَوْلًا كَامِلًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَفِي فِعْلِهِمْ الْمَذْكُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَوْلِ بِحَسَبِ مَا جَاءَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا ، وَقَدْ يَكُونُ قَلِيلًا ، وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ نَقِيضُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا لِأَجْلِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا مِنْهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيه كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهَا ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيه عِنْدَ الْجَمِيعِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْزِيه بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ دَافِعُ الزَّكَاةِ وَآخِذُهَا بَاقِيَيْنِ عَلَى وَصْفَيْهِمَا مِنْ الْحَيَاةِ ، وَالْجِدَةِ ، وَالْفَقْرِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُزَكَّى عَنْهُ ، وَفِي هَذَا مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ كَالْأَوَّلِ .

وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، وَنَفْسُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَعْلُومِ بِدْعَةٌ مُطْلَقًا لِلرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ، ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خُرُوجِ النِّسَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ بِدُخُولِهِنَّ الْجَامِعَ الْعَتِيقَ بِمِصْرَ وَهُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الْخَسِيسَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ التَّحَلِّي ، وَالزِّينَةِ الْحَسَنَةِ ، وَالتَّبَرُّجِ لِلرِّجَالِ وَكَشْفِ بَعْضِ أَبْدَانِهِنَّ وَيُقِمْنَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ لَا يُشَارِكُهُنَّ فِيهِ الرِّجَالُ وَيَتَمَسَّحْنَ فِيهِ بِالْمَصَاحِفِ وَبِالْمِنْبَرِ ، وَالْجُدَرَانِ وَتَحْتَ اللَّوْحِ

الْأَخْضَرِ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ السَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْحِنَّاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا مِنْهُنَّ فَكَأَنَّهَا مَا قَامَتْ بِحَقِّ عَاشُورَاءَ ، وَمِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا مَحْرُهُنَّ فِيهِ الْكَتَّانَ وَتَسْرِيحُهُ وَغَزْلُهُ وَتَبْيِيضُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَيَشِلْنَهُ لِيَخِطْنَ بِهِ الْكَفَنَ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا لَا يَأْتِيَانِ مَنْ كَفَنُهَا مِخْيَطٌ بِذَلِكَ الْغَزْلِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الِافْتِرَاءِ ، وَالتَّحَكُّمِ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ رَآهُ ، وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ الْبَخُورُ .

فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِهِ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَتَبَخَّرْ بِهِ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا وَكَوْنُهُ سُنَّةً عِنْدَهُنَّ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ، وَادِّخَارِهِنَّ لَهُ طُولَ السَّنَةِ يَتَبَرَّكْنَ بِهِ وَيَتَبَخَّرْنَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِثْلُهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ الثَّانِي ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ إذَا بُخِّرَ بِهِ الْمَسْجُونَ خَرَجَ مِنْ سِجْنِهِ وَأَنَّهُ يُبْرِئُ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالنَّظْرَةِ ، وَالْمُصَابِ ، وَالْمَوْعُوكِ ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِلٌ فَعَلْنَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَهَذِهِ الْمَوَاسِمُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَمْ مِنْ بِدْعَةٍ أَحْدَثُوا فِي ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي نَسَبُوهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ فَمِنْهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ فَيَتَكَلَّفُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ ، وَالْحَلَاوَاتِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا } .

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الصُّوَرِ الَّتِي لَهَا رُوحٌ وَدَلِيلٌ عَلَى عَذَابِ مَنْ صَوَّرَهَا ، فَمَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ فَهُوَ مُعِينٌ لَهُمْ عَلَى تَصْوِيرِهَا ، وَمَنْ أَعَانَهُمْ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا تَوَاعَدُوا بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْحَلَاوَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِصُورَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ بَيْعِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ وَقَفَ يَنْظُرُ إلَيْهَا ، أَوْ تُعْجِبُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ فَكُلُّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُهُمْ وَيَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى ، وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ الْعُدُولِ وَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارٌ ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ نَظَرٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ حَتَّى تَقَعَ مِنْهُمْ التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِمَا ذَكَرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ أَخَذَ حَرَامًا وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي بُكَاءِ وَلَدِهِ ، أَوْ سَخَطِ زَوْجَتِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْرُوفَةٌ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَلَاوَةُ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَنْعِ ،

وَمَا مُنِعَ فِعْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ فَلَوْ كَسَّرَهَا وَبَاعَهَا مَكْسُورَةً لَجَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَكِنْ يُكْرَهُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنْ يَشْتَرُوهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِفَةً فِعْلُهَا مُحَرَّمٌ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِ فَاعِلِهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، وَهُوَ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّصْوِيرِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِهَذَا الْمَوْسِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى مُهَادَاةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْهَارِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ جَدِيدَةً ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَةِ بَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ خِرْقَةٍ عَلَى صِينِيَّةٍ مَعَ أَطْبَاقِ الْحَلَاوَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ .

وَالْغَالِبُ مِنْ النِّسْوَةِ أَنَّهُنَّ يُكَلِّفْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَرُبَّمَا يَئُولُ أَمْرُهُمْ إنْ قَصَّرَ فِي التَّوْسِعَةِ إلَى الْفِرَاقِ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا شَاكَلَهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ } فَمَنْ تَكَلَّفَ ، أَوْ كَلَّفَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الدُّخُولِ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .

وَالتَّكَلُّفُ مَذْمُومٌ فِي الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَكَيْفَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ شَرْعِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ ، بَلْ مُحْدَثٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا الشَّهْرَ أَعْنِي شَهْرَ رَجَبٍ وَيَحْتَرِمُونَهُ إلَّا بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهِ ، وَالتَّشْمِيرِ لِأَدَاءِ حُقُوقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِقَامَةِ حُرْمَتِهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَوَّلَ شُهُورِ الْبَرَكَةِ

وَافْتِتَاحِ تَزْكِيَةِ الْأَعْمَالِ لَا بِالْأَكْلِ وَالرَّقْصِ وَلَا بِالْمُفَاخَرَةِ بِالطَّعَامِ وَالْهَدَايَا .

وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ : أَنَّ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْهُ يُصَلُّونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْجَوَامِعِ ، وَالْمَسَاجِدِ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِهَا وَيَفْعَلُونَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَيُظْهِرُونَهَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ وَجَمَاعَةٍ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ ، وَانْضَمَّ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَفَاسِدُ مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ فِي اللَّيْلِ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ زِيَادَةِ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا .

وَفِي زِيَادَةِ وَقُودِهَا إضَاعَةُ الْمَالِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ الْوَقْفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ جُرْحَةً فِي حَقِّ النَّاظِرِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَاقِفُ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا .

وَزِيَادَةُ الْوُقُودِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ عَالِمًا بِذَلِكَ فَهُوَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، وَأَمَّا إنْ حَضَرَ لِيُغَيِّرَ وَهُوَ قَادِرٌ بِشَرْطِهِ فَيَا حَبَّذَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقْبِيحَ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِعْلِهِمْ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَأَعْظَمَ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : إنَّهَا بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ حَدَثَتْ فِي زَمَانِهِ وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَحْدَثَهَا فُلَانٌ سَمَّاهُ فَالْتَمَسَهُ هُنَاكَ هَذَا قَوْلُهُ فِيهَا ، وَهِيَ عَلَى دُونِ مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّدْبِ إلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا

وَقَعَ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَإِظْهَارِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَفْعَلُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَيُصَلِّيهَا سِرًّا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا سُنَّةً دَائِمَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِالسَّنَدِ الضَّعِيفِ قَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : إنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا وَلِكِنِّهَا لَا تُفْعَلُ عَلَى الدَّوَامِ فَإِنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهَا ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ ، فَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ صَحِيحًا ، فَقَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِهِ ، وَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ مَطْعَنٌ يَقْدَحُ فِيهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَا فَعَلَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ خَيْرًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَعِيرَةً ظَاهِرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ كَقِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْنَا صِحَّتُهُ ، وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مَكْرُوهٌ فِعْلُهَا ، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْنَعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِيهِ أَعْنِي فِي شَهْرِ رَجَبٍ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ الَّتِي شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ فِيهَا بِفَضْلِهِ الْعَمِيمِ وَإِحْسَانِهِ الْجَسِيمِ ، وَكَانَتْ عِنْدَ السَّلَفِ يُعَظِّمُونَهَا إكْرَامًا لِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَادَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالتَّضَرُّعِ ، وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الْجَمِيلَةِ فِي تَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِامْتِثَالِهِمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ : تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ وَكَيْفَ لَا ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِخَمْسِينَ إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ مِنْ غَنِيٍّ كَرِيمٍ ، فَكَانُوا إذَا جَاءَتْ يُقَابِلُونَهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شُكْرًا مِنْهُمْ لِمَوْلَاهُمْ عَلَى مَا مَنْحَهُمْ وَأَوْلَاهُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ آمِينَ ، فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَقَابَلُوا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الشَّرِيفَةَ بِنَقِيضِ مَا كَانَ السَّلَفُ يُقَابِلُونَهَا بِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ ، فَمِنْهَا إتْيَانُهُمْ الْمَسْجِدَ الْأَعْظَمَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِيهِ ، وَمِنْهَا زِيَادَةُ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ فِيهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لِمَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ ، وَمِنْهَا مَا يَفْرِشُونَهُ مِنْ الْبُسُطِ ، وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهِمَا ، وَمِنْهَا أَطْبَاقُ النُّحَاسِ فِيهَا الْكِيزَانُ ، وَالْأَبَارِيقُ وَغَيْرِهِمَا كَأَنَّ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى بَيْتُهُمْ ، وَالْجَامِعُ إنَّمَا جُعِلَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلْفِرَاشِ ، وَالرُّقَادِ ، وَالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ .

فَإِنْ احْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ } وَبِفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُلَازَمَتِهِ الْمَسْجِدَ وَمَبِيتِهِ فِيهِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُسَمَّى حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْتِزَامَهُمْ الْمَسْجِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَبِيتَهُمْ فِيهِ لِمَعْنًى بَيِّنٍ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ بَرَاحٌ مِنْهُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَكَيْفِيَّةُ الْتِزَامِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ ، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ فِي أَحْوَالٍ سَنِيَّةٍ إمَّا صَلَاةٍ ، أَوْ ذِكْرٍ ، أَوْ تِلَاوَةٍ ، أَوْ فِكْرٍ كُلُّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ ، وَإِنْ غَلَبَ النَّوْمُ عَلَى أَحَدِهِمْ أَعْطَى الرَّاحَةَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَجْلِسَ مُحْتَبِيًا قَلِيلًا ، ثُمَّ يَنْهَضُ لِمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُمْ لَيْسُوا كَمِثْلِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ زَائِرٌ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ أُحَدِّثُهُ فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَخَافَ الزَّائِرُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ تَنَفُّلَهُ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ ، فَقَالَ الزَّائِرُ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أُكَلِّمُهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ ، وَالتِّلَاوَةِ فَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ وِرْدَهُ فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ ، فَقَالَ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أُكَلِّمُهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَامَ يَتَنَفَّلُ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، فَقَامَ يَتَنَفَّلُ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ

عَلَى الذِّكْرِ ، وَالتِّلَاوَةِ إلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ ، وَالزَّائِرُ يَنْتَظِرُهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ فَخَفَقَتْ رَأْسُ هَذَا السَّيِّدِ فَاسْتَفَاقَ عِنْدَ خَفَقَانِ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ الزَّائِرُ فِي نَفْسِهِ : يَحْرُمُ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ مَنْ هَذَا حَالُهُ .

فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَمَضَى فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ صَارَ حَالُ هَذَا ، وَهُوَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ فَجَعَلَ السِّنَةَ الَّتِي لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَمَا بَالُك بِالسَّادَةِ الْكِرَامِ فَكَيْفَ يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِهِمْ عَلَى اللَّهْوِ ، وَاللَّعِبِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النَّفْسِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِمَنْ يَظُنُّ فِيهِ ، أَوْ يَتَوَهَّمُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ يَشْتَرِيَ : مَا تَفْعَلُ وَمَا تُرِيدُ ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَوَهَّمَهُ يَقُولُ لَهُ عَلَيْك بِسُوقِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَمِنْهَا السَّقَّاءُونَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ فَمِنْهَا الْبَيْعُ ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَهِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ وَيُعْطِيَك مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَكُمَا ، وَقَدْ مُنِعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظُ الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَلَوْ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَطْ ، وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ مَنْ سَبَّلَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ دَخَلَ لِيَسْقِيَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ لَجَازَ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهِ ، وَمَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْجَبُ .

الثَّانِي : أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ : الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ .

الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ .

الرَّابِعُ : أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ بِقَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ حُفَاةً وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَأَقْدَامُهُمْ مُتَنَجِّسَةٌ .

الْخَامِسُ : إنْ كَانَ لَهُ نَعْلٌ فَلَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ إبْطِهِ ، أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ دُونَ شَيْءٍ يُكِنُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى وَقَعَ فِي الْمَسْجِدِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ لَهُ لِمَا ذُكِرَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَيْنَ يَضَعُ نَعْلَهُ حِينَ صَلَاتِهِ ، وَلَوْ تَحَفَّظَ النَّاسُ الْيَوْمَ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَتَحَفَّظُونَ لَمَا احْتَاجُوا إلَى بِدْعَةِ السَّجَّادَةِ ، وَالْحُصُرِ .

وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي السَّقَّاءِ فَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بَلْ الْمَنْعُ عَامٌّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَحَيْثُ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ

الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، وَمِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ حَلَقَاتٍ كُلُّ حَلْقَةٍ لَهَا كَبِيرٌ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي الذِّكْرِ ، وَالْقِرَاءَةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِكْرًا ، أَوْ قِرَاءَةً لَكِنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَالذَّاكِرُ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، بَلْ يَقُولُ : لَا يِلَاهَ يِلَّلَّهُ فَيَجْعَلُونَ عِوَضَ الْهَمْزَةِ يَاءً وَهِيَ أَلِفُ قَطْعٍ جَعَلُوهَا وَصَلًا ، وَإِذَا قَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُطُّونَهَا وَيُرْجِعُونَهَا حَتَّى لَا تَكَادُ تُفْهَمُ ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَزِيدُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ بِحَسَبِ تِلْكَ النَّغَمَاتِ ، وَالتَّرْجِيعَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْغِنَاءَ ، وَالْهُنُوكَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ ، ثُمَّ فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقَارِئَ يَبْتَدِئُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَالْآخَرُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ ، أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَهُ فَيُسْكِتُونَ الْقَارِئَ ، أَوْ يَهُمُّونَ بِذَلِكَ ، أَوْ يَتْرُكُونَ هَذَا فِي شِعْرِهِ ، وَهَذَا فِي قِرَاءَتِهِ لِأَجْلِ تَشَوُّقِ بَعْضِهِمْ لِسَمَاعِ الشَّعْرِ وَتِلْكَ النَّغَمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ أَكْثَرَ ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ اللَّعِبِ فِي الدِّينِ أَنْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُنِعَتْ فَكَيْفَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ اجْتِمَاعَ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ مُخْتَلَطِينَ بِاللَّيْلِ ، وَخُرُوجَ النِّسَاءِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الزِّينَةِ ، وَالْكِسْوَةِ ، وَالتَّحَلِّي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مُؤَخَّرِ الْجَامِعِ وَبَعْضُ النِّسَاءِ يَسْتَحْيِنِ أَنْ يَخْرُجْنَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ فَيَدُورُ عَلَيْهِنَّ

إنْسَانٌ بِوِعَاءِ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَيُعْطِينَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا ، أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ يَعُودُ كَذَلِكَ مِرَارًا ، وَالْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي وِعَاءٍ حَرَامٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ ، وَالشَّنَاعَةِ وَبَعْضُهُمْ يَخْرُجَ إلَى سِكَكِ الطُّرُقِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا ، ثُمَّ يَأْتِي النَّاسُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيَمْشُونَ إلَى الْجَامِعِ فَتُصِيبُ أَقْدَامَهُمْ النَّجَاسَةُ ، أَوْ نِعَالَهُمْ وَيَدْخُلُونَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيُلَوِّثُونَهُ .

وَدُخُولُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ فِيهَا مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْإِثْمِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهَا خَطِيئَةٌ هَذَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ بِاتِّفَاقٍ فَكَيْفَ بِالنَّجَاسَةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا يَوْمًا مَعَ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ جُلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْأَكَابِرِ فِي الْعِلْمِ ، وَالدِّينِ وَهُوَ شَيْخُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْقَرَوِيَّيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ شَيْخُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ شُبَّاكٌ فِيهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَتَنَخَّمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ النُّخَامَةَ فِي فِيهِ وَلَمْ يُلْقِهَا حَتَّى قَامَ وَمَشَى خُطْوَتَيْنِ وَأَخْرَجَ فَمَهْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَحِينَئِذٍ أَلْقَاهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .

قَالَ : فَقُلْت لَهُ : لِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَنْتَ جَالِسٌ بِمَوْضِعِك ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .

فَقَالَ لِي : إنَّ النُّخَامَةَ إذَا خَرَجَتْ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ الْبُصَاقِ ، وَلَوْ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ ، أَوْ دُونَهُ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ خَطِيئَةٌ فَقُمْت ؛ لَأَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى احْتِرَازِ هَذَا الْعَالِمِ الْجَلِيلِ فِيمَا فَعَلَ

فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ إلَى ضِدِّهَا فَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا وَبَصِيرَةً رَأَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ

لَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ مَوْسِمِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ مَوْسِمًا وَلَيْسَ بِمَوْسِمٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوَاسِمَ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الْعِيدَانِ وَعَاشُورَاءُ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ ، أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ .

الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ وَخَيْرٌ جَسِيمٌ وَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُعَظِّمُونَهَا وَيُشَمِّرُونَ لَهَا قَبْلَ إتْيَانِهَا فَمَا تَأْتِيهِمْ إلَّا وَهُمْ مُتَأَهِّبُونَ لِلِقَائِهَا ، وَالْقِيَامُ بِحُرْمَتِهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ احْتِرَامِهِمْ لِلشَّعَائِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ الشَّرْعِيُّ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فَعَكَسُوا الْحَالَ كَمَا جَرَى مِنْهُمْ فِي غَيْرِهَا فَمَا ثَمَّ مَوْضِعٌ مُبَارَكٌ ، أَوْ زَمَنٌ فَاضِلٌ حَضَّ الشَّرْعُ عَلَى اغْتِنَامِ بَرَكَتِهِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ الْمَوْلَى سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى فِيهِ إلَّا وَتَجِدُ الشَّيْطَانَ قَدْ ضَرَبَ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَجَمِيعِ مَكَايِدِهِ لِمَنْ يُصْغِي إلَيْهِ ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى يَحْرِمَهُمْ جَزِيلَ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَيُفَوِّتَهُمْ مَا وُعِدُوا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَمِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَمَرُّدِهِ وَشَيْطَنَتِهِ وَإِغْوَائِهِ بِمَا نَالَ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِمْ سَمِعُوا مِنْهُ وَنَالَ مِنْهُمْ بِأَنْ حَرَمَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَبْدَلَ لَهُمْ مَوْضِعَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِدَعِ وَشَهَوَاتِ النُّفُوسِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ ، وَالْحَلَاوَاتِ

الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَالْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حِكَايَةً عَنْ اللَّعِينِ إبْلِيسَ بِقَوْلِهِ { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيَدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَجِدُ اللَّعِينَ لَا يَجِدُ مَوْضِعًا فِيهِ امْتِثَالُ سُنَّةٍ إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَبْدِيلِهَا بِمَا يُنَاقِضُهَا حَتَّى صَارَ مَا أَبْدَلَهُ سُنَّةً لَهُمْ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } .

وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ ، وَالنَّهْيِ ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَوْ يُشِيرُ بِهِ إنَّمَا هُوَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَارَةً يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فَيُوجِبُهُ وَتَارَةً يُخَفِّفُ عَنْ الْعِبَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سُنَّةً ، فَإِذَا سَمِعْت بِالسُّنَّةِ فَهِيَ عَادَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقَتُهُ ، ثُمَّ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي فِي اتِّخَاذِ السُّنَّةِ عَادَةً فَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ ، أَوْ طَرِيقَةٌ فَتِلْكَ سُنَّتُهُ فَلَمَّا أَنْ اعْتَادَ النَّاسُ عَوَائِدَ وَمَضَتْ الْأَعْوَامُ عَلَيْهَا كَانَتْ سُنَّتَهُمْ .

فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانُ يَتْرُكُ عَادَتَهُمْ قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً ، فَإِذَا جَاءَ يَفْعَلُ سُنَّةً أَعْنِي سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا فَعَلَ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا جَرَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الثَّلَاثَةِ قُرُونٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } انْتَهَى .

هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ هُوَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ ، إذْ أَنَّ أَكْثَرَ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ مَا حَدَثَتْ إلَّا بَعْدَهُمْ ، وَفِي كُلِّ عَامٍ تَزِيدُ الْبِدَعُ وَتَنْقُصُ السُّنَنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ مَا أَرَاهُ مُنْذُ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ عَامَنَا هَذَا أَخْصَبُ وَأَرْخَصُ سِعْرًا مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي فَقَالَ : فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ فِقْهًا وَقِرَاءَةً وَأَحْدَثُ عَهْدًا بِالنُّبُوَّةِ فَقَالَ الَّذِي مَضَى فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْت وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي } .

وَهَا هُوَ ذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَانَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ يَقُولُ : لَا تَسْأَلُوهُمْ الْيَوْمَ عَمَّا أَحْدَثُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا لَهُ جَوَابًا وَلَكِنْ سَلُوهُمْ عَنْ السُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الرَّأْي ، وَالْهَوَى يَقُولُ : لَقَدْ كَانَ الْقُعُودُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا يَعْدِلُ بِهِ فَمُذْ صَارَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُرَاءُونَ ، فَقَدْ بَغَّضُوا إلَيَّ الْجُلُوسَ فِيهِ وَلَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى مَزْبَلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ

مِنْ أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُجَادِلَ عَنْ السُّنَّةِ وَلَكِنَّك تُخْبِرُ بِهَا ، فَإِنْ قُبِلَ مِنْك وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ ، فَقَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا وَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً ، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً انْتَهَى .

وَالْغَرِيبُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَوْصَاهُ { كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ } .

وَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِك قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ } انْتَهَى وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ { الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي } { وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفِتَنَ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا أَدْرَكَنِي ذَلِكَ الزَّمَانُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } يَعْنِي أَنْ يَتَّخِذَ بَيْتَهُ كَأَنَّهُ ثَوْبُهُ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ فَيُلَازِمُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ إذَا عَمَّتْ الْفِتَنُ وَكَثُرَتْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ مُشَاهَدٌ ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَاتِ رَجَعَتْ لِلْعَادَاتِ ، بَلْ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ قَدْ صَارَتْ الْيَوْمَ وَسَائِلَ لِلدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا وَأُكُلِهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهَا لِلرِّيَاءِ ، وَالسُّمْعَةِ فِي الْغَالِبِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْهَرَبُ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَدِيدَةِ إلَى قُعُودِ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ أَسْلَمُ لَهُ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهَا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ لِلْعَبْدِ جِهَةُ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ

بِالنَّصْرِ مِنْهَا لَهُ فَلَا يُبَالِي الْمُكَلَّفُ بِتَعَدُّدِ جِهَاتِ اللَّعِينَ إبْلِيسَ لِإِبْقَاءِ الْبَابِ الْعُلْوِيِّ الْمَفْتُوحِ لَهُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ ، وَالْكَرَمِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ } انْتَهَى .

فَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَمَهْمَا وَقَعَ الْمُؤْمِنُ فِي شَيْءٍ مَا مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَتَبُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَإِذَا أَوْقَعَهَا بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا وَجَدَ الْبَابَ ، وَالْحَمْدَ لِلَّهِ مَفْتُوحًا لَا يُرَدُّ عَنْهُ وَلَا يُغْلَقُ دُونَهُ بِكَرَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ وَقُوَّةِ صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا جَرَى لَهُ فِي بَدْءِ تَوْبَتِهِ وَنُزُولِهِ عَنْ فَرَسِهِ وَدَفْعِهِ ثِيَابَهُ لِلصَّيَّادِ وَأَخْذِهِ ثِيَابَ الصَّيَّادِ وَمَرَّ لِسَبِيلِهِ فَرَأَى إنْسَانًا قَدْ وَقَعَ عَنْ قَنْطَرَةٍ فَقَالَ لَهُ : قِفْ .

فَوَقَفَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى وَصَلَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَلْقَاهُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ سَالِمًا وَمَا ذَاكَ إلَّا لِصِدْقِ تَوْبَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَوْبَتِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ وَفِي مُلَازَمَتِهِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَيُقِيلُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا مَضَى وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ عَاجِلًا وَآجِلًا ، أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ وَابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ وَنَزَلَ بِهِ إلَى قَعْرِ الْبَحْرِ وَهُوَ يُنَادِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ

سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } فَسَمِعَهُ قَارُونُ وَهُوَ يُخْسَفُ بِهِ فَسَأَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِعَذَابِهِ أَنْ يَقِفُوا بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ صَاحِبَ الصَّوْتِ فَلَمَّا أَنْ سَأَلَهُ وَأَجَابَهُ قَالَ لَهُ قَارُونُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّك إذَا رَجَعْت إلَيْهِ تَجِدُهُ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ تَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ .

فَقَالَ لَهُ يُونُسُ عَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا مَنَعَك أَنْتَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رَبِّك فَقَالَ لَهُ : إنَّ تَوْبَتِي وُكِّلَتْ إلَى ابْنِ خَالَتِي مُوسَى فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنِّي فَهَذَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي قَبُولِ التَّائِبِ عِنْدَ صِدْقِهِ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ لَكِنْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ إلَّا مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إلَى شَاهِقٍ كَطَائِرٍ بِأَفْرَاخِهِ ، أَوْ كَثَعْلَبٍ بِأَشْبَالِهِ } .

أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَا أَتْقَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا أَتْقَاهُ } فَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ التَّعَارُضُ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَذَا بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهِ وَأَمَرَ هَذَا بِالْفِرَارِ .

وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ ، وَالْفِرَارِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الْفِرَارِ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ فِيهَا وَأُخْرَى فَاسِدَةً ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَفِرَّ بِدَيْنِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْفَاسِدَةِ إلَى الْمَوَاضِعِ الصَّالِحَةِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ

اسْتَوَى فِي عُمُومِ مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَفِرُّ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا رَأَيْت الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ فِي مَوْضِعٍ وَعَلَا أَمْرُهُ فَلَا تَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ وَاعْتَزِلْ مَا قَدَرْت عَلَيْهِ وَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّك إذَا خَرَجْت مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَصِرْت إلَى غَيْرِهِ وَجَدْتَهُ أَكْثَرَ فَسَادًا وَمَنَاكِرَ وَبِدَعًا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجْت عَنْهُ فَتَنْدَمُ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى خُرُوجِك مِنْهُ وَتُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ فَتَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِشَارَةِ ، وَالِاسْتِخَارَةِ وَتَبْدِيلِ الْحَالِ بِطُرُقِ الْأَسْفَارِ وَمُبَاشَرَةِ مَا كُنْت مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَمُلَاقَاةِ الْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسَافِرِينَ ، فَإِذَا وَصَلْت إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ وَجَدْته قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى مَا هُوَ أَشَدُّ فَتَنْدَمُ عَلَى رُجُوعِك إلَيْهِ ، وَتَرَى أَنَّ إقَامَتَك فِي مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت سَافَرْت إلَيْهِ أَقَلُّ فَسَادًا فَتَقَعُ فِي ضَيَاعِ الْأَوْقَاتِ ، وَالْمَشَاقِّ وَارْتِكَابِ الْأَهْوَالِ وَرُؤْيَةِ الْمُخَالَفَاتِ وَمُبَاشَرَتِهَا عِيَانًا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُسَافِرْ ، ثُمَّ يَبْقَى حَالُهُ كَذَلِكَ مُذَبْذَبًا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ ، أَوْ كَمَا قَالَ وَفِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِقَامَةِ فِي الْبُيُوتِ رِفْقٌ عَظِيمٌ وَرَحْمَةٌ شَامِلَةٌ لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا بِالْجُلُوسِ فِي ، أَوْطَانِهِمْ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي } .

هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كَثُرَ فِيهِ الْفَسَادُ ، وَأَهْلُهُ الْمُقِيمُونَ مَعَهُ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْبَلَاءِ

دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّةِ حَالِ الْوَلِيِّ الْمُقِيمِ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا قُوَّةُ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَكَانَتُهُ عِنْدَهُ وَقُرْبُهُ مِنْهُ مَا انْدَفَعَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ فَبِنَفْسِهِ وَهِمَّتِهِ الْعَالِيَةِ وَحُلُولِهِ بَيْنَهُمْ أَخَّرَ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ لِيَتُوبَ مَنْ يَتُوبُ وَيَرْجِعَ مَنْ يَرْجِعُ ، أَوْ يُصِيبُ الْعَذَابُ بَعْضَهُمْ خُصُوصًا وَلَا يَقَعُ عَامًّا .

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالصِّقِلِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْلِ الْأَرْضَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ إمَّا قَائِمٌ لَهُ بِحُجَّةٍ ، وَإِمَّا مَدْفُوعٌ بِهِ الْبَلَاءُ انْتَهَى .

فَالْقَائِمُ بِالْحُجَّةِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ ، وَالْمَدْفُوعُ بِهِ الْبَلَاءُ قَدْ يُعْرَفُ ، وَقَدْ لَا يُعْرَفُ ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ آخَرِينَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالْقُرَشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ رَأَى فِي وَقْتِهِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِأَهْلِ مِصْرَ بَلَاءٌ قَالَ : أَيَقَعُ هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ قِيلَ لَهُ : اُخْرُجْ مِنْ بَيْنِهِمْ فَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَخَرَجَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ أَسْأَلُ اللَّهِ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ، فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ عَذَابًا عَامًّا وَفِيهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ

فَعَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْفِرَارُ إلَى الْبُيُوتِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إظْهَارِ مَعَالِمِ الشَّرْعِ ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا فَيُبَادِرُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ يَتَخَوَّفُ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ الْبِدَعِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ هَلْ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ الرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنُوبُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي بَيْتِهِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ نَفْعًا بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّفْعُ مُتَعَدِّيًا ، وَإِنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ فَالرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ لَحَصَلَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ وَزِيَارَةُ جِوَارِ بَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالِاعْتِكَافُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ .

فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُرْشِدُهُ ، أَوْ يَسْتَرْشِدُ هُوَ مِنْهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، إذْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ ، وَالْمَقْصُودَ مِنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي زَمَنِهِ فَيَكُونُ فِرَارًا بِدِينِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى بَيْتِ رَبِّهِ وَمِنْ بَيْتِ رَبِّهِ إلَى بَيْتِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ } ، وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فَلَا يَتْرُك الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ ، إذْ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَمِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَبَدَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صَلَاتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، بَلْ حَيْثُمَا قَلَّتْ الْبِدَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى وَأَفْضَلَ مِنْ

غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَسْجِدًا سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَقَلَّ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إلَى أَقَلِّ الْمَسَاجِدِ بِدَعًا فَلْيُصَلِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ بِدْعَةٌ وَاحِدَةٌ أَشَدَّ مِنْ بِدَعٍ جُمْلَةٍ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ وَلْيُصَلِّ فِيمَا عَدَاهُ ، وَإِذَا صَلَّى مَعَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ جَهْدَهُ وَيُغَيِّرْ مَا اسْتَطَاعَ بِشَرْطِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَيْلَةٌ تَزِيدُ فِيهَا الْبِدَعُ وَتَكْثُرُ فَتَرْكُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ ، إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَلَكِنْ تَكْثِيرُ سَوَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ مُتَعَيِّنٌ فَيَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ لَهُ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْحَاضِرِينَ فِي أَمَاكِنِ الْبِدَعِ فِي الْإِثْمِ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَأْنَسُ قَلْبَهُ بِتِلْكَ الْبِدَعِ فَيَئُولُ إلَى تَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتَبِ التَّغْيِيرِ لِمَا وَرَدَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْسِنَ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ ، أَوْ يَسْمَعَ بِهِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } .

يَعْنِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ امْرِئٍ حَتَّى يُتْقِنَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا إتْقَانُهُ قَالَ : يُخَلِّصُهُ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَالْبِدْعَةِ } ، وَقَدْ وَرَدَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ

أَحْدَثَ فِي الدِّينِ حَدَثًا : هَبْ أَنِّي أَغْفِرُ لَك مَا بَيْنِي وَبَيْنَك فَاَلَّذِي أَضْلَلْتهمْ مِنْ النَّاسِ } انْتَهَى .

فَإِذَا وَقَعَ اسْتِحْسَانُ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ كَائِنًا مَا كَانَ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ قَلَّ أَنْ يَقَعَ أَعْنِي أَنْ تَعُمَّ تِلْكَ الْبِدَعُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمِيعَ مَسَاجِدِ الْبَلَدِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَمَالُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَاصِلٌ لَهُ أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ ، أَوْ مِنْ أَكْثَرِهَا ، وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْضُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا الْبِدَعُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ وَزَالَتْ الْبِدَعُ كُلُّهَا ، أَوْ أَكْثَرُهَا ، أَوْ بَعْضُهَا لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ عَلَى تَعَاطِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ إذَا خَتَمَ وَلَدُهُ الْقُرْآنَ ، أَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ .

وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُمْ أَوْقَدُوا جَامِعَهَا الْأَعْظَمَ فَزَادُوا فِي الْوَقُودِ الزِّيَادَةَ الْكَثِيرَةَ فَجَاءَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَشْتَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَلَى عَادَتِهِ فَرَأَى ذَلِكَ فَوَقَفَ وَلَمْ يَدْخُلْ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ إلَّا ثَلَاثَةُ قَنَادِيلَ ، أَوْ خَمْسَةٌ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَامْتَثَلُوا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ ، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ فَوَقَعَ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِتَغْيِيرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى جَرَّ الْأَمْرُ إلَى اعْتِيَادِ الْبِدَعِ وَيَنْسُبُهَا أَكْثَرُ الْعَوَامّ إلَى الشَّرْعِ بِسَبَبِ حُضُورِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فَظَنَّ أَكْثَرُ الْعَوَامّ أَنَّ

ذَلِكَ مِنْ الْمَشْرُوعِ ، وَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ، إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ الْبِدَعِ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ فَتَتَأَكَّدُ الصَّلَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ وَحْدَهُ إحْيَاءُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَالسَّعَادَةِ مَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ مِنْ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ ، فَإِذَا أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ } .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ } ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ كُمِّلَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي بِصَلَاتِهِ ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا إلَّا وَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي قَبُولِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إذَا حَضَرَ مَوْضِعًا ، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَوَى إلَى السُّنَّةِ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي وِلَايَتِهِ ، إذْ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ .

وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا جَاءَتْ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ فَلَا يَجْمَعُونَ فِيهِ وَيُصَلُّونَ أَفْذَاذًا ، وَالْإِمَامُ لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَكَانَ

فِيهَا بَعْضُ طِينٍ وَظَلَامٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ هُوَ وَخَادِمُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا ، فَحَصَلَ لَهُ سُرُورٌ فَسَأَلَهُ خَادِمُهُ مَا سَبَبُ سُرُورِهِ فَقَالَ لَهُ : أَلَا تَرَى مَا حَصَلَ لَنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَمَا خَصَّصَنَا بِهِ مِنْ إحْيَاءِ بَيْتِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَنَا وَلَمْ يُشَارِكْنَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فَرَحُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَسْجِدٌ سَالِمٌ مِنْ الْبِدَعِ فَكَيْفَ بِالْهَارِبِ مِنْ مَوَاضِعِ الْبِدَعِ إلَى مَوَاضِعَ تَحْصُلُ فِيهَا السَّلَامَةُ ، وَالْخَيْرُ ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إحْيَاءِ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى

وَإِنَّمَا طَالَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ مَا يُعْمَلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِأَجْلِ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ أَعْنِي فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهَا لَكِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ زَادَتْ فَضِيلَتُهَا وَمُقْتَضَى زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ زِيَادَةُ الشُّكْرِ اللَّائِقِ بِهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِهَا فَبَدَّلَ بَعْضُهُمْ مَكَانَ الشُّكْرِ زِيَادَةَ الْبِدَعِ فِيهَا عَكْسُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ ضِدَّ شُكْرِ النِّعَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ زِيَادَةِ الْوَقُودِ الْخَارِجِ الْخَارِقِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْجَامِعِ قِنْدِيلٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يُوقَدُ إلَّا أَوْقَدُوهُ حَتَّى إنَّهُمْ جَعَلُوا الْحِبَالَ فِي الْأَعْمِدَةِ ، وَالشُّرَافَاتِ وَعَلَّقُوا فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَأَوْقَدُوهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْلِيلُ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التَّمَسُّحَ بِالْمُصْحَفِ ، وَالْمِنْبَرِ ، وَالْجُدَرَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ السَّبَبَ فِي ابْتِدَاءِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَزِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ النَّارِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ النَّارِ يُوقِدُونَهَا حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي قُوَّتِهَا وَشَعْشَعَتِهَا اجْتَمَعُوا إلَيْهَا بِنِيَّةِ عِبَادَتِهَا ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَى تَرْكِ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى فِي زِيِّهِمْ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ ، وَالْوِلْدَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَتَنَجَّسُ الْجَامِعُ بِفَضَلَاتِهِمْ غَالِبًا وَكَثْرَةِ اللَّغَطِ ، وَاللَّغْوِ الْكَثِيرِ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ لَيْلَةِ السَّابِعِ ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَفِي هَذِهِ

اللَّيْلَةِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ وَأَكْبَرُ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهَا فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدَعِ كَيْفَ يَجُرُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَامِعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَجَعَ كَأَنَّهُ دَارُ شُرْطَةٍ لِمَجِيءِ الْوَالِي ، وَالْمُقَدَّمِينَ ، وَالْأَعْوَانِ وَفَرْشِ الْبُسُطِ وَنَصَبِ الْكُرْسِيِّ لِلْوَالِي لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فِي مَكَان مَعْلُومٍ وَتُوقَدُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشَاعِلُ الْكَثِيرَةُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ وَيَقَعُ مِنْهَا بَعْضُ الرَّمَادِ فِيهِ وَرُبَّمَا وَقَعَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا ، وَالْبَطْحُ لِمَنْ يَشْتَكِي فِي الْجَامِعِ ، أَوْ تَأْتِيهِ الْخُصُومُ مِنْ خَارِجِ الْجَامِعِ وَهُوَ فِيهِ ، هَذَا كُلُّهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ .

وَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْجَامِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ مِنْ الْخُصُومِ ، وَالْجَنَادِرَةِ وَغَيْرِهِمْ ، بَلْ اللَّغَطُ وَاقِعٌ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى الشَّكَاوَى وَأَحْكَامِ الْوَالِي يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إقَامَةُ حُرْمَةٍ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِبَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُمْ أَتَوْهُ لِيُعَظِّمُوهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ ، وَهَذَا أَمْرٌ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ، إذْ أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَرُجِيَ لَهُمْ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَلَكِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْ الْقُرَبِ ، وَمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تُرْفَعُ أَيْ تُغْلَقُ وَلَا تُفْتَحُ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَرْفِيعَهَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ،

وَذَلِكَ يَتَلَقَّى عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْآخِذِينَ عَنْهُ ، وَتَعْظِيمُهُمْ لَهَا إنَّمَا كَانَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ وَمَا يَخُصُّهُ يَخُصُّنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ .

وَقَدْ بَنَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْبَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبَطْحَاءُ ، وَقَالَ : مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا ، أَوْ يَنْشُدَ ضَالَّةً فَلْيَخْرُجْ إلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ فَإِنَّمَا الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك } .

وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَسْجِدُنَا هَذَا لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ ، وَاجْعَلُوا وُضُوءَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ } انْتَهَى .

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ ، وَصَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِمَا فِيهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ بِدْعَةٌ ، وَلَوْ صَلَّاهَا إنْسَانٌ وَحْدَهُ سِرًّا لَجَازَ ذَلِكَ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي كَرَاهِيَتِهِ تَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّبَاعِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ

يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ وَهُوَ خُرُوجُ الْحَرِيمِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ فِيهَا زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى غَيْرِهَا أَعْنِي كَثْرَةَ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقُبُورِ ، وَمَعَ بَعْضِهِنَّ الدُّفُّ يَضْرِبْنَ بِهِ وَبَعْضُهُنَّ يُغَنِّينَ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُنَّ مُتَجَاهَرِينَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ حَيَائِهِنَّ وَقِلَّةِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِنَّ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ لِلْعِبَادَةِ وَهِيَ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ مِنْ الشُّبَّانِ ، وَالرِّجَالِ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَأَكْثَرُهُمْ مُخْتَلِطُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضِ نِسَاءٌ وَشُبَّانٌ وَرِجَالٌ قَدْ رَفَعُوا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ ، وَالْوَقَارِ عَنْهُمْ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ ، إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْقُبُورِ بَيْنَ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ أَعْنِي فِي كَشْفِ الْوُجُوهِ ، وَالْأَطْرَافِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ فَيَا لِلْعَجَبِ فِي انْكِشَافِهِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ ، وَالتِّذْكَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا رَجَعْنَ إلَى الْبَلَدِ يَرْجِعْنَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ كَشْفِ السُّتْرَةِ عَنْهُنَّ ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى الْبَلَدِ تَنَقَّبْنَ ، إذْ ذَاكَ وَاسْتَتَرْنَ ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ بَيْنَهُنَّ شَعِيرَةً يَتَدَيَّنُ بِهَا أَعْنِي فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَتِرُ فِي الْبَلَدِ ، وَفِي الْقُبُورِ ، وَالطَّرِيقِ إلَيْهَا مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ لَا تَسْتَتِرُ مِنْ أَحَدٍ ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ كَمَا سَبَقَ .

الثَّانِي : انْتِهَاكُ حُرْمَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُعَظَّمَةِ ، وَهَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمِ ، وَهَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ أَعْظَمُوا

الْمَعْصِيَةَ بِفِعْلِهَا عَلَى الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخَشْيَةِ ، وَالْفَزَعِ ، وَالِاعْتِبَارِ ، وَالْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِهَذَا الْمَصْرَعِ الْعَظِيمِ الْمَهُولِ أَمْرُهُ ، فَرَدُّوا ذَلِكَ لِلنَّقِيضِ ، وَجَعَلُوهُ فِي مَوْضِعِ فَرَحٍ وَمَعَاصٍ كَحَالِ الْمُسْتَهْزِئِينَ .

الرَّابِعُ : أَذِيَّةُ الْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ .

الْخَامِسُ : قِلَّةُ احْتِرَامِهِمْ لِتَعْظِيمِ جَنَابِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ يَمْضُونَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .

السَّادِسُ : أَنَّهُمْ اتَّصَفُوا بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ بِصِفَةِ النِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ صِفَتُهُ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ وَإِظْهَارُهَا فِي الصُّورَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ فَيَا لِلْعَجَبِ كَيْفَ يَقْدِرُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَسْمَعَ بِهَذِهِ الْمُنَاكِرِ وَلَا يَتَنَغَّصُ لَهَا وَلَا يَتَشَوَّشُ مِنْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْحَدِيثِ فِيمَنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } .

فَكَيْفَ يَتْرُكُ حَرِيمَهُ ، أَوْ أَقَارِبَهُ ، أَوْ مَنْ يَلُوذُ بِهِ يَخْرُجْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُكُوبِهِنَّ الدَّوَابَّ مَعَ الْمُكَارِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ نَصِيبٌ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجَنَائِزِ وَلَا الْقُبُورِ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ خَرَجَاتٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ فِي الْقُبُورِ حَتَّى صَارَ أَمْرُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُومُ إنْسَانٌ بِشَيْءٍ يَحْمِلُهُ كَالْقُبَّةِ عَلَى عَمُودٍ حَوْلَهَا قَنَادِيلُ كَثِيرَةٌ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالشُّبَّانِ ، وَالرِّجَالِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ يَتَزَاوَرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مِنْ الْآفَاتِ فِي الدِّينِ ، وَالدُّنْيَا مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُقِيمُونَ خَشَبَةً عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ ، أَوْ

الْمَيِّتَةِ وَيَكْسُونَ ذَلِكَ الْعَمُودَ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَلِيقُ بِهِ عِنْدَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ الصُّلَحَاءِ جَعَلُوا يَشْكُونَ لَهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا يُؤَمِّلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَهْلِ ، وَالْأَقَارِبِ ، وَالْمَعَارِفِ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ مَعَهُ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مَا حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَرُوسًا ، أَوْ عَرُوسَةً كَسَوْا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي حَالِ فَرَحِهِ فَيَكْسُونَ الْمَرْأَةَ ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَيُحَلُّونَهَا بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُونَ يَبْكُونَ وَيَتَبَاكَوْنَ وَيَتَأَسَّفُونَ ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَنَاقِضَةٌ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا سَوَّلَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَهَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ عَلَى الْخَشَبَةِ فِيهِ تَشَبُّهٌ فِي الظَّاهِرِ بِالنَّصَارَى فِي كِسْوَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ ، وَالصُّوَرِ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا اخْتِلَاقًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِي مَوَاسِمِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ فِي الظَّاهِرِ إلَى الْمَشْيَخَةِ ، وَالْهِدَايَةِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَفَعَلَ فِي زَاوِيَتِهِ بِالْمَقَابِرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْوَقُودِ بِالْجَامِعِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ إلَى ذَلِكَ قَصْدًا وَيَتْرُكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْوَقُودِ فِي الْبَلَدِ لِاشْتِمَالِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ لِتَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ تَنَاوُلُ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ فِي الْبَلَدِ وَسَمَّى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيْلَةَ الْمَحْيَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يَلِيقُ بِهَا لَكِنْ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْخَيْرِ ، وَالتَّضَرُّعِ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِطَاعَتِهِ ، وَالنَّجَاةِ بِفَضْلِهِ مِنْ

مُخَالَفَتِهِ وَمَعَاصِيهِ لَا بِمَا يَفْعَلُهُ هُوَ وَمَنْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَأَمْثَالُهُمْ ، وَصَارَ الرِّجَالُ ، وَالنِّسَاءُ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ وَتَمَادَى ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ حَتَّى صَارَ عَادَةً لَهُمْ فَبَقِيَ النَّاسُ يَهْرَعُونَ لِذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَنَصَبُوا الْخِيَامَ خَارِجَ الزَّاوِيَةِ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ وَزَادَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَكَثُرَتْ الْبِدَعُ وَوَقَعَ الضَّرَرُ لِمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْمَوْطِنَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَلِمَنْ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ فَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَحْيَاءِ بِحُضُورِ ذَلِكَ وَاسْتِحْسَانِهِ .

وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَمْوَاتِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ ، إذْ أَنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ وَيَعْظُمُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ وَتَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُلُوسِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي تِلْكَ الْمَوْضِعِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَيَقَعُونَ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ وَتَوَلَّى ذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى قَامَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ كَعَادَةِ شَيْخِهِمْ وَاسْتَأْكَلُوا بِذَلِكَ بَعْضَ الْحُطَامِ الَّذِي فِي أَيْدِي بَعْضِ مَعَارِفِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ مِنْ الذَّمِّ وَصَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ قَلَّمَا يَفُوتُهُمْ الْخُرُوجُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شُهُودِ ذَلِكَ ، فَأَيْنَ الشَّفَقَةُ ، وَالرَّحْمَةُ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ ، وَلِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِيمَانِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَزُورُونَهُمْ وَيَتَبَرَّكُونَ

بِهِمْ ؟ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ ، إذْ أَنَّ تَعْظِيمَهُمْ وَحُصُولَ بَرَكَتِهِمْ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ لَا بِالْمُخَالَفَةِ وَاقْتِرَافِ الذُّنُوبِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ خَسْفِ الْقُلُوبِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ .

فَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ مَوْلِدٍ وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ .

فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ الْمَغَانِي وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنْ الطَّارِ الْمُصَرْصَرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ وَمَضَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَشْتَغِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَظَّمَهَا بِبِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّمَاعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيهِ مَا فِيهِ .

فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَضَّلَنَا فِيهِ بِهَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ آلَاتِ الطَّرَبِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ .

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّارَ الَّذِي فِيهِ الصَّرَاصِرُ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ الشَّبَّابَةُ وَيَجُوزُ الْغِرْبَالُ لِإِظْهَارِ النِّكَاحِ .

فَآلَةُ الطَّرَبِ وَالسَّمَاعِ أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَعْظِيمِ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ .

فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيْرِ شُكْرًا لِلْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَا أَوْلَانَا مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِرَحْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَمَا وَصَفَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي

كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .

لَكِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ { بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ } فَتَشْرِيفُ هَذَا الْيَوْمِ مُتَضَمِّنٌ لِتَشْرِيفِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ .

فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِمَهُ حَقَّ الِاحْتِرَامِ وَنُفَضِّلَهُ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَشْهُرَ الْفَاضِلَةَ وَهَذَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي } انْتَهَى .

وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَتَشَرَّفُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ فِيهِ .

فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ وَذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ } فَنَمْتَثِلُ تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا ( فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ الْتَزَمَ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا الْتَزَمَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ مِمَّا قَدْ عُلِمَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا الْتَزَمَهُ فِي غَيْرِهِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْتَزِمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا هُوَ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ سِيَّمَا فِيمَا كَانَ يَخُصُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَشْرَعْ فِي قَتْلِ صَيْدِهِ وَلَا فِي قَطْعِ شَجَرِهِ الْجَزَاءَ تَخْفِيفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً لَهُمْ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْظُرُ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ يَتْرُكُهُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فَمَا أَكْثَرَ شَفَقَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا شَرَعَهَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْيَمِينِ الَّذِي أَجَازَ الْحَلِفَ بِهَا وَأَمَّا مَنْ يَتَعَمَّدُ الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ إنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِانْغِمَاسِ صَاحِبِهَا فِي النَّارِ وَلَمْ تَرِدْ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُشَرِّعُونَ .

فَكَذَلِكَ قَتْلُ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَ مِنْ الصَّيْدِ فِيهِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ جَزَاءً عَلَى مَنْ قَتَلَهُ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرَمِ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فَعَلَى هَذَا فَتَعْظِيمُ هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَاتِ فِيهِ وَالصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَاتِ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ لَهُ تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَكْثَرُ احْتِرَامًا كَمَا يَتَأَكَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَتْرُكُ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَيَجْتَنِبُ مَوَاضِعَ الْبِدَعِ وَمَا لَا يَنْبَغِي .

وَقَدْ ارْتَكَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضِدَّ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الشَّرِيفُ تَسَارَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ .

فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْإِسْلَامِ وَغُرْبَتِهِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَالْعَامِلِينَ بِالسُّنَّةِ .

وَيَا

لَيْتَهُمْ لَوْ عَمِلُوا الْمَغَانِيَ لَيْسَ إلَّا بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ فَيَبْدَأُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَيَنْظُرُونَ إلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَعْرِفَةً بِالْهُنُوكِ وَالطُّرُقِ الْمُهَيِّجَةِ لِطَرِبِ النُّفُوسِ فَيَقْرَأُ عَشْرًا .

وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وُجُوهٌ .

مِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ الْقَارِئُ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَالتَّرْجِيعُ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .

الثَّانِي أَنَّ فِيهِ قِلَّةَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ احْتِرَامٍ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

الثَّالِثُ أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُونَ عَلَى شَهَوَاتِ نُفُوسِهِمْ مِنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ بِضَرْبِ الطَّارِ وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالتَّكْسِيرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُغَنِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ .

الرَّابِعُ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ صِفَةُ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ اللَّهُمَّ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا .

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْتَدِئُونَ الْقِرَاءَةَ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ وَتَعَلُّقُ خَوَاطِرِهِمْ بِالْمَغَانِي .

الْخَامِسُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى لَهْوِهِ بِمَا بَعْدَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ .

السَّادِسُ أَنَّ بَعْضَ السَّامِعِينَ إذَا طَوَّلَ الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ يَتَقَلْقَلُونَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ طَوَّلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْكُتْ حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِمَا يُحِبُّونَهُ مِنْ اللَّهْوِ .

وَهَذَا غَيْرُ مُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ سَمَاعَ كَلَامِ مَوْلَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَدْحِهِمْ { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ بِمَا ذُكِرَ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَسْتَعْمِلُونَ الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا سَمِعُوا

كَلَامَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ قَامُوا بَعْدَهُ إلَى الرَّقْصِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالطَّرَبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الشَّيْطَانِ وَيَطْلُبُونَ الْأَجْرَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فِي تَعَبُّدٍ وَخَيْرٍ وَيَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يَفْعَلُهُ سَفَلَةُ النَّاسِ وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى فَتَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ يَفْعَلُهُ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ أَعْنِي فِي تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا ذُكِرَ .

ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَكِيدَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالدَّسِيسَةُ مِنْ اللَّعِينِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إذَا شَرِبَهُ أَوَّلَ مَا تَدِبُّ فِيهِ الْخَمْرَةُ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ فَإِذَا قَوِيَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ لِمَنْ حَضَرَهُ وَانْكَشَفَ مَا كَانَ يُرِيدُ سَتْرَهُ عَنْ جُلَسَائِهِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمُغَنِّي إذَا غَنَّى تَجِدْ مَنْ لَهُ الْهَيْبَةُ وَالْوَقَارُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ وَيَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْخَيْرَاتِ يَسْكُتُ لَهُ وَيُنْصِتُ فَإِذَا دَبَّ مَعَهُ الطَّرَبُ قَلِيلًا حَرَّكَ رَأْسَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ إذَا تَمَكَّنَ الطَّرَبُ مِنْهُ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَقُومُ وَيَرْقُصُ وَيُعَيِّطُ وَيُنَادِي وَيَبْكِي وَيَتَبَاكَى وَيَتَخَشَّعُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ جَاءَهُ الْمَدَدُ مِنْهَا وَيُخْرِجُ الرَّغْوَةَ أَيْ الزَّبَدَ مِنْ فِيهِ وَرُبَّمَا مَزَّقَ بَعْضَ ثِيَابِهِ وَعَبِثَ بِلِحْيَتِهِ .

وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمْزِيقَ الثِّيَابِ مِنْ ذَلِكَ

هَذَا وَجْهٌ .

الثَّانِي أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْعُقَلَاءِ إذْ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَجَانِينِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ .

الثَّالِثُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَفْسَهُ بِالْبَهَائِمِ إذْ التَّكْلِيفُ إنَّمَا خُوطِبَ بِهِ الْعُقَلَاءُ .

وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ سُلِبَ عَقْلُهُ وَلَوْ صَدَقَ فِي دَعْوَاهُ لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مُدَّةً وَلَكِنَّا نَرَاهُ عِنْدَ سُكُوتِ الْمُغَنِّي يَسْكُنُ إذْ ذَاكَ وَيَرْجِعُ إلَى هَيْئَتِهِ وَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَلُومُ الْمُغَنِّيَ عَلَى سُكُوتِهِ وَلَوْمُهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ مَعَ حُظُوظِ نَفْسِهِ سَامِعٌ لِقَوْلِ الْمُغَنِّي إذْ لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ كَمَا يَزْعُمُ لَمَا أَحَسَّ بِالْمُغَنِّي وَلَا غَيْرِهِ إنْ تَكَلَّمُوا أَوْ سَكَتُوا .

يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الدَّاءَ الْعُضَالَ وَهُوَ الْكَذِبُ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهَا فِي سِرِّهِمْ فَإِنْ يَكُنْ مَا قَالُوهُ حَقًّا وَهُوَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِمَا ذَكَرُوا فَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى الشَّيْطَانِ إذْ أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَغْنَتْ الشَّيْطَانَ عَنْ تَكَلُّفِ أَمْرِهِمْ فَهِيَ تُحَدِّثُهُمْ وَتُسَوِّلُ لَهُمْ فَيَتَحَدَّثُونَ فِي سِرِّهِمْ بِمَا يَخْطُرُ لِنُفُوسِهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ خُوطِبْنَا بِكَذَا وَكَذَا .

وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ مَنْ هُوَ مُخَالِفٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِكِتَابِهِ وَلِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ ذُكِرَ لَهُ بِالْوِلَايَةِ فَقَصَدَهُ فَرَآهُ يَتَنَخَّمُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَمِينًا عَلَى أَسْرَارِ الْحَقِّ .

وَقَدْ وَعَظَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا مَنْ حَضَرَهُ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَاحَ وَمَزَّقَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لَهُ يُمَزِّقُ لِي عَنْ قَلْبِهِ لَا عَنْ جَيْبِهِ انْتَهَى .

ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَطَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا نَظِيفَ الصُّورَةِ حَسَنَ الْكِسْوَةِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ أَحَدًا مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَتَصَنَّعُونَ فِي رَقْصِهِمْ بَلْ يَخْطُبُونَهُمْ لِلْحُضُورِ فَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ رُبَّمَا عَادُوهُ وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ فِتْنَةً كَمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا وَهُمْ يَأْتُونَ إلَى ذَلِكَ شَبَهَ الْعَرُوسِ الَّتِي تَجَلَّى لَكِنَّ الْعَرُوسَ أَقَلُّ فِتْنَةً لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ حَيِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ الْعَنْبَرُ وَالطِّيبُ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ بَيْنَ أَثْوَابِهِمْ وَيَتَكَسَّرُونَ مَعَ ذَلِكَ فِي مَشْيِهِمْ إذْ ذَاكَ وَكَلَامِهِمْ وَرَقْصِهِمْ وَيَتَعَانَقُونَ فَتَأْخُذُهُمْ إذْ ذَاكَ أَحْوَالُ النُّفُوسِ الرَّدِيئَةِ مِنْ الْعِشْقِ وَالِاشْتِيَاقِ إلَى التَّمَتُّعِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الشُّبَّانِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ الشَّيْطَانُ وَتَقْوَى عَلَيْهِمْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَيَنْسَدُّ عَلَيْهِمْ بَابُ الْخَيْرِ سَدًّا .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ .

وَقَوْلُهُ هَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْعَذْرَاءَ تَمْتَنِعُ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ ابْتِدَاءً مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا بِخِلَافِ الشَّابِّ .

لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى سُمٌّ وَالشَّابُّ لَا يَتَنَقَّبُ وَلَا يَخْتَفِي بِخِلَافِ الْعَذْرَاءِ .

وَالشَّيْطَانُ مِنْ دَأْبِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ كُبْرَى أَجْلَبَ عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَبِعَمَلِ الْحِيَلِ الْكَثِيرَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُ النَّاظِرِ بِالْعَذْرَاءِ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الشَّابِّ .

هَذَا فِي حُضُورِ الشَّابِّ لَيْسَ إلَّا .

فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُغَنِّيًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَيَنْشُدُ التَّغَزُّلَ وَيَتَكَسَّرُ فِي صَوْتِهِ وَحَرَكَاتِهِ فَيُفْتَنُ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّجَالِ .

وَبَعْضُ النِّسْوَةِ يُعَايِنُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ

نَظَرِهِنَّ مِنْ السُّطُوحِ وَالطَّاقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

فَيَرَيْنَهُ وَيَسْمَعْنَهُ وَهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَقَلُّ عُقُولًا فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ .

وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَدَيْهِ بَعْضُ عِلْمٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَهُ غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ كَيْفَ يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِفَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الشُّبَّانِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ .

فَإِنَّ سَمَاعَ مِثْلِ ذَلِكَ لَهُنَّ يُهَيِّجُ قُلُوبَهُنَّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِقَّتِهِنَّ وَقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ مِنْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ .

فَكَيْفَ يَتَسَبَّبُ فِي حُضُورِهِنَّ حَتَّى يُعَايِنَّ مَا يَفْتِنُهُنَّ وَيُغَيِّرُهُنَّ عَنْ وُدِّهِ .

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى قَطْعِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا .

وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَى الْفِرَاقِ فَيَفْسُدُ حَالُ الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ جَزَاءً وِفَاقًا ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ فَجَوَّزُوا عَلَيْهِ بِالنَّكِدِ الْعَاجِلِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ إذَا حَصَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْأَقَارِبُ وَالْجِيرَانُ وَالْجَنَادِرَةُ وَالْقَاضِي بَيْنَهُمْ وَتَشَتَّتَتْ أَحْوَالُهُمْ بَعْدَ جَمْعِهِمْ وَصَارُوا فِرَقًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ يَا عُصْبَةً مَا ضَرَّ أُمَّةَ أَحْمَدَ وَسَعَى عَلَى إفْسَادِهَا إلَّا هِيَ طَارٌ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ أَرَأَيْت قَطُّ عِبَادَةً بِمَلَاهِي وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ اللُّوطِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ طَائِفَةٌ تَتَمَتَّعُ بِالنَّظَرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ النَّظْرَةَ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ إجْمَاعًا .

بَلْ صَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ .

وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يَتَمَتَّعُونَ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَدَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى .

وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّظَرِ وَالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بَلْ الدَّوَامُ عَلَيْهِ يُلْحِقُهُ بِهَا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَإِذَا دَاوَمَ

عَلَى الصَّغَائِرِ صَارَتْ كَبَائِرَ هَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ دَاوَمَ عَلَى الصَّغَائِرِ وَصَارَتْ بِدَوَامِهِ عَلَيْهَا كَبَائِرَ .

وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى .

فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ جُمْلَةٍ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ .

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ .

وَيُقَالُ إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ وَيَغْضَبُ الرَّبُّ تَعَالَى لِثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ لِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِتْيَانِ الذَّكَرِ لِلذَّكَرِ .

وَرُكُوبِ الْأُنْثَى الْأُنْثَى .

وَفِي الْخَبَرِ { لَوْ اغْتَسَلَ اللُّوطِيُّ بِالْبِحَارِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إلَّا التَّوْبَةُ } وَقَدْ قَالَ بَعْضُ صُوفِيَّةُ الشَّامِ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَرَّ بِي ابْنُ الْجَلَاءِ الدِّمَشْقِيُّ وَأَخَذَ بِيَدِي فَاسْتَحَيْتُ مِنْهُ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجَّبْت مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةِ الْمُحْكَمَةِ كَيْفَ خُلِقَتْ لِلنَّارِ فَغَمَزَ يَدِي وَقَالَ لَتَجِدَنَّ عُقُوبَتَهَا بَعْدَ حِينٍ فَعُوقِبْت بِتِلْكَ النَّظْرَةِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً .

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْأَشْيَاخِ عَنْ مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ .

قَالَ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيِّ فِي النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ .

فَقَالَ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي .

قُلْت وَلِمَ ذَلِكَ .

قَالَ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا .

وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي إنْكَارِ الْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ مُطْلَقًا مَعَ سَلَامَتِهِ مِمَّا ذُكِرَ .

وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَافَ إلَيْهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ .

قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا مَعْنَاهُ .

وَلَا شَكَّ أَنَّك لَوْ مَثَّلْت

بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ الْمُغَنِّينَ وَتَزَيُّنَهُمْ .

وَهَذِهِ الْآلَاتِ وَهَيْئَتَهَا وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاعُ الْيَوْمَ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوَجَدْت نَفْسَكَ تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حُضُورِ هَذِهِ الْمَجَالِسِ وَرُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .

لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ الصَّادِقِينَ شِعَارُهُمْ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ مَشْيُهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ اللَّعِبِ وَالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُلْطَةِ وَالْجُمُوعِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا أَقْبَحَهَا وَكَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ .

وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ عَوَائِدِ أَهْلِ الْوَقْتِ وَمِمَّنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إذَا عَمِلَ بِالسَّمَاعِ فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إلَيْهِ الْإِخْوَانَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ

الْمَاضِينَ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ نِيَّةً مُخَالِفَةً لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ قَدَمُ السَّبْقِ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ وَنَحْنُ لَهُمْ تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ .

وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ وَالْمَوَارِدِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا } انْتَهَى .

وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ بَخِيلٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَقَالَ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاء كَلَامًا مَنْظُومًا فِي وَصْفِ زَمَانِنَا هَذَا كَأَنَّهُ شَاهَدَهُ ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ وَالْمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ وَبَقِيت فِي خُلْفٍ يُزَكِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَدْفَعَ مُعْوَرٌ عَنْ مُعْوَرِ أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٍ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ فَإِذَا أُصِيبَ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا مِثْلَهُ مَنْ يَسْعَ فِي عِلْمٍ بِلُبٍّ يَظْفَرْ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَدَعُوا فِعْلَ الْمَوْلِدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُ النِّسَاءِ لِفِعْلِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَكَيْفَ إذَا فَعَلَهُ النِّسَاءُ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا فَعَلْنَهُ ظَهَرَتْ فِيهِ

عَوْرَاتٌ جُمْلَةٌ وَمَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْضُ النِّسَاءِ يَنْظُرُ إلَى الرِّجَالِ فَيَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَفِي الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْهَى لِأَنَّ بَعْضَ الرِّجَالِ يَتَطَلَّعُ عَلَيْهِنَّ مِنْ بَعْضِ الطَّاقَاتِ وَمِنْ السُّطُوحِ وَرُبَّمَا عَرَفَ الرِّجَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَعْضَ النِّسْوَةِ الْحَاضِرَاتِ فَيَقُولُونَ هَذِهِ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَهَذِهِ بِنْتُ فُلَانٍ وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نُفُوسُ بَعْضِ الرِّجَالِ بِبَعْضِ مَنْ يَرَوْنَ .

وَكَذَلِكَ بَعْضُ النِّسْوَةِ رُبَّمَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهَا بِمَنْ رَأَتْهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالشُّبَّانِ .

فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى وَالْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُنَّ اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ فِي الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ كَمَا يَفْعَلُ الرِّجَالُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِأَدِلَّتِهِ سِيَّمَا وَأَصْوَاتُ النِّسَاءِ فِيهَا مِنْ التَّرْخِيمِ وَالنَّدَاوَةِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ فَتَكْثُرُ الْفِتْنَةُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَسْمَعُهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الشُّبَّانِ وَأَصْوَاتُهُنَّ عَوْرَةٌ فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ الْمَوْلِدُ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى السُّوقِ زَادَتْ الْفِتْنَةُ وَعَمَّتْ الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْمَعُ أَوْ يَرَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .

الثَّالِثُ : أَنَّ تَصْفِيقَهُنَّ بِالْأَكُفِّ فِيهِ فِتْنَةٌ وَزِيَادَةٌ فِي إظْهَارِ الْعَوْرَاتِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا وَاضْطُرَّتْ إلَى التَّصْفِيقِ أَنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهَا عَلَى ظَهْرِ يَدِهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ صَوْتِ بَاطِنِ كَفَّيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ .

الرَّابِعُ : أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَرْقُصْنَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي رَقْصِ الشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مِنْ الْعَوْرَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَفِي رَقْصِهِنَّ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ .

وَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِالسِّتْرِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ .

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسْوَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فِي الْغَالِبِ حَتَّى تَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وَتَتَطَيَّبُ وَتَتَزَيَّنُ ثُمَّ تُفْرِغُ عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيِّ مَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَإِذَا رَقَصَتْ وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ زَادَتْ خَشْخَشَةُ الْحُلِيِّ فَقَدْ تُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ فَتَزِيدُ الْفِتْنَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ إذْ لَا يَخْلُو أَمْرُهُنَّ فِي الْغَالِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرِّجَالِ يَسْتَمِعُونَ وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُونَ فَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَتَفْسُدُ الْقُلُوبُ وَتَتَشَوَّشُ .

فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَطَرَأَ عَلَيْهِ سَمَاعُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ رُؤْيَتُهُ تَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ بَاطِنُهُ مِنْ الْفِتْنَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوَقَعَ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ جِهَةِ مَا يَرَى أَوْ يَسْمَعُ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ فَإِنْ كَانَ التَّشْوِيشُ الْوَاقِعُ فِي بَاطِنِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَجِدُهُ الْبَشَرُ غَالِبًا فَقَدْ يُؤَوَّلُ ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ تَعَبُّدِهِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَخَافُ أَنْ يُصِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْعُقُوبَةِ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا لِأَجْلِ فَسَادِ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَخُرُوجُهَا لِلْمَوْلِدِ لَيْسَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ لِلْبِدَعِ وَالْمَنَاكِيرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

ثُمَّ إنَّهُنَّ لَا يَجْتَمِعْنَ لِلْمَوْلِدِ الَّذِي احْتَوَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ يَزْعُمْنَ أَنَّهَا شَيْخَةٌ

عَلَى عُرْفِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ وَهُوَ الْغَالِبُ مِمَّنْ تُدْخِلُ نَفْسَهَا فِي التَّفْسِيرِ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتُفَسِّرُ وَتَحْكِي قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَتَزِيدُ وَتُنْقِصُ وَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِي الْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَرُدُّهَا وَيُرْشِدُهَا .

وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي بَيْتِ شَيْخٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيَّرَ عَلَيْهَا أَحَدٌ بَلْ أَكْرَمُوهَا وَأَعْطَوْهَا .

وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْجُلُوسَ إلَى الْقُصَّاصِ مِنْ الرِّجَالِ أَعْنِي الْوُعَّاظَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَانُوا يَرَوْنَ الْقِصَصَ بِدْعَةً وَيَقُولُونَ لَمْ يُقَصُّ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ظَهَرَ الْقُصَّاصُ .

وَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ فَلَوْ كَانَتْ الْقِصَصُ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْقُصَّاصُ عُلَمَاءَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا مَعَ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ .

وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ الْقَصَصُ بِدْعَةٌ .

وَرَوَيْنَا عَنْ عَوْنِ بْنِ مُوسَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ سَأَلْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُلْت أَعُودُ مَرِيضًا أَحَبُّ إلَيْكَ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ عُدْ مَرِيضَكَ قُلْت أُشَيِّعُ جِنَازَةً أَحَبُّ إلَيْك أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ شَيِّعْ جِنَازَتَكَ قُلْت إنْ اسْتَعَانَ بِي رَجُلٌ فِي حَاجَتِهِ أُعِينُهُ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ اذْهَبْ فِي حَاجَتِك .

وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ

الْمَسْجِدِ وَقَالَ مَا أَخْرَجَنِي مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا الْقَاصُّ وَلَوْلَاهُ مَا خَرَجْت .

وَقَالَ ضَمْرَةُ قُلْت لِلثَّوْرِيِّ نَسْتَقْبِلُ الْقَاصَّ بِوُجُوهِنَا فَقَالَ وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ .

وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ دَخَلْت عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ مَا كَانَ الْيَوْمَ مِنْ خَبَرٍ فَقُلْت نَهَى الْأَمِيرُ الْقُصَّاصَ أَنْ يَقُصُّوا .

وَقَدْ قَسَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ فَوَصَفَهُمْ بِأَمَاكِنِهِمْ فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ ثَلَاثَةٌ أَصْحَابُ الْكَرَاسِيِّ وَهُمْ الْقُصَّاصُ وَأَصْحَابُ الْأَسَاطِينِ وَهُمْ الْمَفْتُون وَأَصْحَابُ الزَّوَايَا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ انْتَهَى .

وَقَدْ مَنَعَ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ حِينَ مَشَى عَلَيْهِمْ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ مَا خَلَا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ وَسَأَلَهُ فَأَجَابَهُ بِمَا يَنْبَغِي أَبْقَاهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى امْتَحَنَهُ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي زَمَانِنَا هَذَا .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَقَامَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ وَأَدْيَنُ وَأَوْرَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا هَذَا وَصُلَحَائِهِمْ إذْ أَنَّهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ فِيهِمْ بِضِدِّ حَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَصِفَةُ مَا يُفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَسَبَبُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْقِصَّةَ عَلَى مَا نُقِلَ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ أَنْ تُنْسَبَ لِمَنْصِبِ مَنْ نُسِبَتْ إلَيْهِ .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ قَالَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ عَصَى أَوْ خَالَفَ فَقَدْ كَفَرَ نَعُوذُ

بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .

وَكَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ مِمَّنْ يُطَالِعُ الْكُتُبَ وَيَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ فَكَيْفَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ مُعْوَجَّةٌ أَصْلًا وَفَرْعًا ثُمَّ إنَّهَا مَعَ اعْوِجَاجِهَا قَلِيلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَإِنْ طَالَعَتْ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي عِنْدَهَا الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ وَالْغَالِبُ فِي الْقَصَصِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعْفُ وَالْكَذِبُ فَتَنْقُلُهُ إنْ كَانَتْ ثِقَةً عَلَى مَا رَأَتْهُ فَيَقَعُ الْخَطَأُ فَكَيْفَ بِهَا إذَا حَرَّفَتْهُ فَزَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ فِيهِ فَتَضِلَّ وَتُضِلَّ فَيَدْخُلْنَ النِّسْوَةُ فِي الْغَالِبِ وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَيَخْرُجْنَ وَهُنَّ مُفْتَتَنَاتٌ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ فُرُوعِ الدِّينِ .

أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } الْآيَةَ فِي سُورَةِ طَه قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا الْيَوْمَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى عَنْهُ أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ فَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا الْمُمَاثِلِينَ لَنَا فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ الْأَكْبَرِ لِلنَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ انْتَهَى .

ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ بِالْمَغَانِي وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ انْتَقَلَ إلَى كَرَامَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفُجِعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأُصِيبَتْ بِمُصَابٍ عَظِيمٍ لَا يَعْدِلُ ذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْمَصَائِبِ أَبَدًا فَعَلَى هَذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ

الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ الْكَثِيرُ وَانْفِرَادُ كُلِّ إنْسَانٍ بِنَفْسِهِ لِمَا أُصِيبَ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمْ الْمُصِيبَةُ بِي } انْتَهَى فَلَمَّا ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُصِيبَةَ بِهِ ذَهَبَتْ كُلُّ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَرْءَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَبَقِيَتْ لَا خَطَرَ لَهَا .

وَلَقَدْ أَحْسَنَ حَسَّانُ حِينَ رَثَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ كُنْتَ السَّوَادَ لِنَاظِرِي فَعَمَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ فَانْظُرْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَيْفَ يَلْعَبُونَ فِيهِ وَيَرْقُصُونَ وَلَا يَبْكُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ لِأَجْلِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ مِنْ أَجْلِ فَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ مُذْهِبًا لِلذُّنُوبِ وَمُمْحِيًا لِآثَارِهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ لَكَانَ أَيْضًا بِدْعَةً وَإِنْ كَانَ الْحُزْنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دَائِمًا لَكِنْ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ وَالتَّبَاكِي وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ بَلْ ذَلِكَ أَعْنِي الْحُزْنَ فِي الْقُلُوبِ فَإِنْ دَمَعَتْ الْعَيْنُ فَيَا حَبَّذَا وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ إذَا كَانَ الْقَلْبُ عَامِرًا بِالْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الذِّكْرُ لِهَذَا الْفَصْلِ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا الطَّرَبَ الَّذِي لِلنُّفُوسِ فِيهِ رَاحَةٌ وَهُوَ اللَّعِبُ وَالرَّقْصُ وَالدُّفُّ وَالشَّبَّابَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ رَاحَةٌ بَلْ الْكَمَدُ وَحَبْسُ النُّفُوسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَمَلَاذِّهَا .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ لِوِلَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعْمَلُ يَوْمًا آخَرَ لِلْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ

قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ طَعَامًا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ لَيْسَ إلَّا وَجَمَعَ لَهُ الْإِخْوَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ .

هَذَا وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالتَّقَرُّبُ لَيْسَ إلَّا فَكَيْفَ بِهَذَا الَّذِي جَمَعَ بِدَعًا جُمْلَةً فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ .

فَكَيْفَ إذَا كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْفَرَحِ وَمَرَّةً لِلْحُزْنِ فَتَزِيدُ الْبِدَعُ وَيَكْثُرُ اللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَيْفَ زَادَتْ عَلَى مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ فَتَعَدَّتْ فِتْنَةُ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ وَهَتْكِ الْحَرِيمِ هُنَاكَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ مُخْتَلَطِينَ عَلَى الْوَاعِظِ أَوْ الْوَاعِظَةِ وَتُنْصَبُ لَهُمْ الْمَنَابِرُ وَيَصْعَدُونَ عَلَيْهَا يَعِظُونَ وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُعَّاظِ وَزَعَقَاتِهِمْ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ وَالْهُنُوكُ الْمَذْمُومَةُ شَرْعًا الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ أَعْجَبَهُمْ شَأْنُهُمْ وَيَتَمَايَلُونَ مَعَ كُلِّ صَوْتٍ وَيَرْجِعُونَ بِحَسَبِ حَالِ ذَلِكَ الصَّوْتِ مَعَ التَّكْسِيرِ وَالضَّرْبِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْكُرْسِيِّ وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ وَالْبُكَاءِ وَهُوَ خَالٍ مِنْ الْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَرِيٍّ عَنْ التَّوْفِيقِ فِيهِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ { إذَا اسْتَكْمَلَ نِفَاقُ الْمَرْءِ كَانَتْ عَيْنَاهُ بِحُكْمِ يَدِهِ يُرْسِلُهُمَا مَتَى شَاءَ } انْتَهَى وَهَذَا نُشَاهِدُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَتَجِدُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الظَّلَمَةِ تُذَكِّرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَوَاعِظِ أَوْ التَّخْوِيفِ فَيُرْسِلُونَ دُمُوعَهُمْ إذْ ذَاكَ وَيَتَخَشَّعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ ثُمَّ يَبْقَوْنَ عَلَى حَالِهِمْ لَا يُقْلِعُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَفِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ مِنْ الْكَشَفَةِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَإِنَّ النِّسَاءَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا يَحْتَجِبْنَ فَكَأَنَّ الرِّجَالَ فِي الْقُبُورِ صَارُوا نِسَاءً فَإِذَا دَخَلُوا الْبَلَدَ رَجَعُوا رِجَالًا يُسْتَحْيَا مِنْهُمْ فِيهَا ( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِكَايَةِ هَذَا الْعَدُوِّ اللَّعِينِ بَلْ بَعْضُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى

وَسْوَسَتِهِ إذْ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَقَدْ قَرَّرُوا وَأَصَّلُوا أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَاضِلٍ يَشْغَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ بِارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ فِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ مِمَّا يَعُمُّ وُجُودُهُ مِنْهُنَّ غَالِبًا وَلَا يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ كَلَيَالِي الْجُمَعِ سِيَّمَا الْمُقْمِرَةُ مِنْهَا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِيهَا تَكْثُرُ فَعَامَلُوهَا بِالنَّقِيضِ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذْ أَنَّ اللَّيَالِيَ الْمُقْمِرَةَ هِيَ لَيَالِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ اللَّيَالِيِ الْمَعْلُومِ فَضْلُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى فَإِنْ اجْتَمَعَ إلَى الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَلَيَالِيِهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَشْهُرِ أَوْ الْأَيَّامِ أَوْ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ فَتَزِيدُ الْفَضَائِلُ إلَى فَضَائِلَ أُخَرَ فَتَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَيَقَعُ تَعْظِيمُ الثَّوَابِ وَالْخَيْرَاتِ لِمَنْ قَامَ بِحُرْمَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .

فَلَمَّا أَنْ زَادَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ قَابَلْنَهَا بِضِدِّ مَا يُرَادُ مِنْهُنَّ عَلَى عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ وَإِنْ كُنَّ لَمْ يَقْصِدْنَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِالنَّقِيضِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَنْهَتِكْنَ فِي الْغَالِبِ فِي الْجُمُعَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ وَالْجُمُعَةِ فِي إقَامَتِهِنَّ فِيهَا وَالسَّبْتِ فِي رُجُوعِهِنَّ إلَى بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَالْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَكِنْ زَادَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِسَبَبِ الْوُقُودِ فِي الزَّاوِيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ الْوَقُودِ فِيهَا وَفِي الْقُبُورِ أَشْنَعُ إذْ فِيهِ تَفَاؤُلٌ لِمَنْ هُنَاكَ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ .

وَقَدْ نَهَى

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ يُفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ وَأَعْظَمُ فِتْنَةٍ فِيهَا اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مُخْتَلَطِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِتْنَةٌ حَيْثُ وُجِدُوا لَكِنْ فِي الْقُبُورِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ إنَّهُمْ ضَمُّوا لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِزِيَارَةِ السَّيِّدِ الْحُسَيْنِ وَحُضُورِ بَعْضِهِنَّ سُوقَ الْقَاهِرَةِ لِمَا يَقْصِدْنَ فِيهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا .

وَجَعَلْنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِزِيَارَةِ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ حُضُورِ سُوقِ مِصْرَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ .

وَيَوْمَ الْأَحَدِ لِحُضُورِ سُوقِ مِصْرَ أَيْضًا فَلَمْ يَتْرُكْنَ الْإِقَامَةَ فِي الْغَالِبِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ إنْ سَلِمْنَ فِيهِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَنْ يَخْتَرْنَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَأَيْنَ الضَّرُورَةُ الشَّرْعِيَّةُ .

وَلَوْ حُكِيَ هَذَا عَنْ الرِّجَالِ لَكَانَ فِيهِ شَنَاعَةٌ وَقُبْحٌ فَكَيْفَ بِهِ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَإِنَّهَا لَا تَأْتِي إلَّا بِالشَّرِّ .

وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ قَدْ وَقَعَتْ بِهَدْمِ بُنْيَانِ الْبُيُوتِ الَّتِي فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا سَبَقَ فَلَوْ امْتَثَلْنَا أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ كُلُّهَا وَكُفِيَ النَّاسُ أَمْرَهَا فَبِسَبَبِ مَا هُنَاكَ مِنْ الْبُنْيَانِ وَالْمَسَاكِنِ وَجَدَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى حُصُولِ أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا قَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ فَإِذَا هَمَّ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَرَادَهَا وَعَمِلَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَفْعَلُهَا أَوْ وَجَدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ مَكَانًا لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعِصْمَةِ .

فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ فِيهِ مَفَاسِدُ .

مِنْهَا هَتْكُ الْحَرِيمِ بِخُرُوجِهِنَّ إلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَيَجِدْنَ أَيْنَ يُقِمْنَ أَغْرَاضَهُنَّ هَذَا وَجْهٌ .

الثَّانِي تَيْسِيرُ الْأَمَاكِنِ لِاجْتِمَاعِ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ فَتَيْسِيرُ الْمَسَاكِنِ هُنَاكَ سَبَبٌ وَتَسْهِيلٌ لِوُقُوعِ الْمَعَاصِي هُنَاكَ .

أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْنِي الْبَيْتَ مُجَاوِرًا لِلتُّرْبَةِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَتَنْقَطِعُ آثَارُهُمْ وَتَبْقَى الدِّيَارُ خَالِيَةً فَيَجِدُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى مُرَادِهِ وَقَدْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ حَيَاةِ صَاحِبِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ .

وَقَدْ يَنْقَلِعُ بَابُهَا فَتَبْقَى مَأْوَى لِلْفَسَقَةِ وَاللُّصُوصِ .

الثَّالِثُ : وَهُوَ أَكْبَرُ وَأَشْنَعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مِنْهُ شَيْءٌ مَا مَوْجُودًا فِيهِ حَتَّى يَفْنَى فَإِذَا فَنِيَ حِينَئِذٍ يُدْفَنُ غَيْرُهُ فِيهِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مَا مِنْ عِظَامِهِ

فَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ كَجَمِيعِهِ .

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْفَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَلَا يُكْشَفَ عَنْهُ اتِّفَاقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قَدْ غُصِبَ .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا وَأُهِيلَ عَلَيْهِ بَعْضُ التُّرَابِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ يَاقُوتَةً وَقَعَتْ فِي الْقَبْرِ لَهَا قِيمَةٌ أَوْ نَفَقَةٌ كَثِيرَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ مَا أُهِيلَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ لِأَخْذِ مَا وَقَعَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجُوزُ الْكَشْفُ بَعْدَ إهَالَةِ شَيْءٍ مِنْ التُّرَابِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْكَشْفِ عَنْهُ خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُ الْمَيِّتِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَمَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّتْرِ عَلَيْهِ .

وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ سَتْرُ الْعَوْرَاتِ وَفِي الْمَمَاتِ سَتْرُ جِيَفِ الْأَجْسَادِ وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ سَبَبًا إلَى خَرْقِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَفْرِ قُبُورِهِمْ وَالْكَشْفِ عَنْهُمْ بَلْ يَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ الْأَمْوَاتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ قِدَمٍ أَوْ طَرَاوَةٍ فِي الْقِفَافِ فَيَرْمُونَ ذَلِكَ فِي الْمَزَابِلِ أَوْ يَدْفِنُونَهُ بَعْضَ دَفْنٍ وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِ الْقُبُورِ الْبُيُوتَ الْعَالِيَةَ وَالْمَرَاحِيضَ وَالسَّرَابَاتِ وَيَنْقُلُونَ الْمَوْتَى وَفِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَشْرَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا بِمِصْرَ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِهِمْ السَّرَابَاتِ الَّتِي لِلْمَرَاحِيضِ فَتَعُمُّ الْأَذِيَّةُ لِمَنْ نُقِلَ

مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَمْ يُنْقَلْ لِقُوَّةِ سَرَيَانِ النَّجَاسَةِ الْمُنْبَعِثَةِ إلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ .

وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ وَيَسْكُتُ لَهُ لِلْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ الْجَارِيَةِ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ .

وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ عِيَانًا حَفَرَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ مَوْضِعَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَرَأَيْت الْفَعَلَةَ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَرْمُونَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى بَنَى دَارًا عَظِيمَةً عَلَى زَعْمِهِمْ وَحَمَّامًا وَإِصْطَبْلًا وَبِئْرًا وَحَوْضًا لِلسَّبِيلِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ ارْتَكَبَ بَعْضُ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ أَمْرًا عَظِيمًا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ يُبَاشِرُ نَبْشَ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ الْأُسَارَى مِنْ كُفَّارِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى فِي الْقُفَفِ بَعْدَ حَفْرِهِمْ عَلَيْهِمْ أَذِيَّةً وَنِكَايَةً وَحَسِيفَةً فَيَكْسِرُونَ الْعِظَامَ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا } انْتَهَى ثُمَّ إذَا أَخْرَجُوا الْعِظَامَ فِي الْقُفَفِ لِيَرْمُوهَا يَتَضَاحَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَقَدْ يُنَادِي بَعْضُ الْأُسَارَى عَلَى الْقُفَّةِ الَّتِي مَعَهُ فِيهَا عِظَامُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّهُ يَبِيعُ شَيْئًا يَقُولُ قُفَّةٌ بِرُبْعٍ قُفَّةٌ بِأَرْبَعِ فُلُوسٍ قُفَّةٌ بِفَلْسَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِهْزَائِهِمْ .

وَكَيْفَ لَا وَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَقَدْ وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى الْجِهَادِ عَلَى زَعْمِهِمْ فَانْتَهَكُوا ذَلِكَ وَطَابَتْ خَوَاطِرُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَا أَعْظَمَ قُبْحَهَا وَمَا أَشْنَعَهَا وَارْتِكَابِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ فِيهَا كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ تَسَامُحُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْبُنْيَانِ فِي الْقُبُورِ وَوَقَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ بَلْ بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ

مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْوُصُولِ إلَى أَرْبَابِ الْأُمُورِ تَجِدْ لَهُمْ فِيهَا مَوَاضِعَ عَالِيَةً عَظِيمَةً عِنْدَهُمْ وَتَشَبَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى عَلَى تُرَبِهِمْ الْأَوْقَافَ عَلَى الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالذَّاكِرِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ حَالِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَقِفُونَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالْمُؤَذِّنِ وَعَلَى الزَّيْتِ لِوَقُودِ الْمَكَانِ وَيُمْنَعُ الْوُقُودُ هُنَاكَ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ .

وَالثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ بِهِ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ .

وَالثَّالِثُ : إضَاعَةُ الْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ مِنْ كَوْنِهِمْ يُفْتُونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْبَشَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَلَا أَنْ يُتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَرَاحِيضِ وَالْفَسَاقِي الْمَمْلُوءَةِ بِالْمَاءِ لِلِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَقِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَقْفًا فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَنْ يَبُولُ عَلَيْهِمْ وَيُنَجِّسُهُمْ فَتَجِدُ أَكْثَرَ دُورِهِمْ أَكْثَرَ تَنْجِيسًا لِزِيَادَةِ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَقَوْمَةِ الْمَكَانِ وَمَنْ كَانَ يَأْتِي إلَيْهِمْ وَإِلَى زِيَارَتِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

فَإِذَا عُلِمَ مَا ذُكِرَ وَتَحَقَّقَ بِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا بَطَلَ إذْ ذَاكَ الْوَقْفُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ مُنَافٍ لِلْقُرْبَةِ قَطْعًا فَأَيْنَ الْقُرْبَةُ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ يَتَفَاخَرُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِي صِفَةِ الرُّخَامِ الَّذِي يَفْرِشُونَهُ حَوْلَ الْقَبْرِ

وَعَلَيْهِ .

وَأَمَّا بُنْيَانُ الْقَبْرِ وَالْأَعْمِدَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالسُّقُوفِ الْمُذَهَّبَةِ وَالتَّصَاوِيرِ الَّتِي فِي بَعْضِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ كَيْفَ يَنْعَكِسُ مُرَادُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى ضِدِّهِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا الْأَوْقَافَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَمَا قَصَدُوا بِالْأَوْقَافِ إلَّا كَثْرَةَ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ انْعَكَسَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا إذْ أَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِتِلْكَ الْقُصُورِ وَالْأَبْوَابِ وَالْحُجَّابِ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَالِ رِيَاسَتِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَصْحَبُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي الْقُبُورِ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ وَعُمْدَتُهَا إذْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ الْوَرَعُ وَكُلُّ أَحَدٍ فِيهِ عَلَى مَرْتَبَتِهِ وَالْوَرَعُ بِالْمَرْءِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي حَيَاتِهِ إذْ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا إقَامَةٌ إلَّا أَنْفَاسٌ يَسِيرَةٌ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلِقَاءِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَرَعِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْ قُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأَوْتَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَرَعٌ حَاجِزٌ لَمْ يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْ النَّارِ } انْتَهَى .

فَعَكَسَ هَؤُلَاءِ الْأَمْرَ وَجَمَعُوا الْمَالَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَغَصَبُوا مَوَاضِعَ قُبُورِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ رَاحِلُونَ لِأَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَبَنَوْا وَشَيَّدُوا الدِّيَارَ

وَغَيْرَهَا مِنْ مَالٍ جُمِعَ مِنْ الشُّبُهَاتِ ، أَوْ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ هُمَا مَعًا عَكْسُ خِصَالِ الْمُتَّقِينَ بَلْ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَصْبُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِيمَا هُوَ لِلْأَحْيَاءِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ لِلْمَوْتَى خُصُوصًا فَغَصَبُوا حُقُوقَ الْمَوْتَى وَبَنَوْا فِيهَا بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ } انْتَهَى .

ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أَوْقَافًا عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمَغْصُوبَةِ وَتَسَبَّبُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى انْبِعَاثِ النَّجَاسَاتِ عَلَى قُبُورِ أَنْفُسِهِمْ وَقُبُورِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

ثُمَّ الْعَجَبُ فِي حُكْمِهِمْ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفُ لِلْوَقْفِ مَصْرِفًا غَيْرَ مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ فَلِمَنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ ( فَصْلٌ ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلَا يَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرَحُّمِ وَلَا لِحُضُورِ دَفْنِ الْجِنَازَةِ هُنَاكَ وَلَا لِغَيْرِهِمَا إذْ أَنَّ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَغْصُوبَةٌ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَنْبَغِي وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ انْتَهَى .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْإِنْكَارُ هَاهُنَا لَا مَحَلَّ لَهُ إذْ أَنَّ مَنْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ قَدْ مَاتَ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي تَرْكِ الدُّخُولِ فِيهِ فَائِدَةً كُبْرَى إذْ أَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفِيَّةَ تَتَبُّعِ اللَّعِينِ إبْلِيسَ

السُّنَنَ الشَّرِيفَةَ لَا يَجِدُ سُنَّةً إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِهَا بِكَيْدِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا بِضِدِّهَا أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي النِّسَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهِنَّ الِاخْتِفَاءُ وَالْحِجَابُ الْمَنِيعُ وَمَهْمَا أَمْكَنَ كَانَ أَوْلَى وَأَوْجَبَ وَفِي حَالِ الْمَمَاتِ لَمْ تُفَرِّقْ السُّنَّةُ بَيْنَ قُبُورِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ الْقُبُورِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا زِيٌّ يَخْتَصُّ بِهِ .

وَأَنْتَ تَرَى حَالَ بَعْضِ النِّسْوَةِ الْيَوْمَ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ فَتَرَاهُنَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ يَتَبَرَّجْنَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ إنَّهُنَّ إذَا مُتْنَ يَجْعَلْنَ عَلَى قُبُورِهِنَّ أَعْنِي مَنْ قَدَرَ مِنْهُنَّ فَيَجْعَلْنَ فِي التُّرَبِ الْحُجَّابَ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَالْبَوَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَوْهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فَعَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَّ فِي قُبُورِهِنَّ عَكْسُ الْحَيَاةِ فَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ بَرَكَةِ مَنْ يَزُورُ الْقُبُورَ ، أَوْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ مَنْ يُبَكِّرُ مِنْ الرِّجَالِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِالشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَّصِفُ بِهِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ ، وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالذُّلِّ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالتَّصَاغُرِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا أَشْبَهَهَا هِيَ الَّتِي تَنَزَّهَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَرَفٌ وَلَا تَقَرُّبٌ إلَّا بِهَا فَإِنْ انْخَرَمَ شَيْءٌ مِنْهَا نَقَصَ مِنْ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْحَالِ .

كَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَصَارَ الْيَوْمَ الْأَمْرُ

بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْتِي الْعَالِمُ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ فَعَمَّتْ الْفِتْنَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ فَلَا تَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى زَوَالِهِ ، أَوْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، أَوْ مُحَرَّمٌ .

فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَنْ تَرَحَّمَ عَلَى الْقُبُورِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي تَرَحُّمِهِ مَنْ كَانَ خَلْفَ بُنْيَانٍ ، أَوْ غَيْرِهِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ قَصْدَ الزَّائِرِ أَوْ الْمَارِّ التَّرَحُّمُ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَمَنْ رَآهُمْ مِنْ الْقُبُورِ .

وَأَمَّا مَنْ هُوَ خَلْفَ حِجَابٍ وَلَمْ يَقْصِدْهُ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تَرَحُّمِهِ لِانْعِزَالِ الْمَدْفُونِ بِحِجَابِ مَا بِالتُّرْبَةِ الْمُشَيَّدَةِ وَغَيْرِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعُمَّ بِدُعَائِهِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ .

وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ بِالْقَلْبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى الدُّعَاءَ وَالتَّرَحُّمَ لِمَنْ قَبْرُهُ عَلَى مَا وُصِفَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِهِ مَا بَنَوْهُ وَشَيَّدُوهُ وَغَصَبُوهُ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَوَاضِعِ دَفْنِهِمْ وَمَنْ دَعَا لَهُمْ أَوْ تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِمْ إذَا اتَّصَفُوا بِمَا ذُكِرَ لَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرْنَا بِهِجْرَانِ مَنْ أُمِرْنَا بِهِجْرَانِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَلَا فَائِدَةَ فِي هِجْرَانِهِمْ بِتَرْكِ الدُّعَاءِ لَهُمْ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ

الْمُكَلَّفَ الْعَالِمَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ فَلَا يَدْعُو لَهُمْ .

وَفِي عَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا فَائِدَةٌ كُبْرَى ، وَهُوَ الرَّدْعُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُمْ وَيَحْذُوَ حَذْوَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ النَّاسِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا الْحَالِ لَعَلَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ ثَوَابُ التَّأَسُّفِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يُكْتَبُ مِنْ حِزْبِهِمْ إذْ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا كَمَا يَنْبَغِي شَرْعًا أُلْحِقَ بِهِمْ .

وَلَمْ تَزَلْ الْأَكَابِرُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ يُدْفَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَيْ يَصِلَ إلَيْهِمْ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَتَرَحَّمُ ، أَوْ يَسْتَغْفِرُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَقَدْ خَرَجْنَا عَمَّا كُنَّا بِصَدَدِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْقُبُورِ وَوَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهَا .

ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْمَوْلِدِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْمَغَانِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَيُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ الْقُرَّاءَ وَالْفُقَرَاءَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مُجْتَمَعِينَ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْهُنُوكِ كَمَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْع ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَوْلِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَوْلِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَطْعَمَ الْإِخْوَانَ لَيْسَ إلَّا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَكَيْفَ بِهِ هُنَا فَمِنْ بَابِ أَحْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ .

وَقَدْ يَحْصُلُ فِي هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ بَعْضُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ أَكْثَرُ ، أَوْ مِثْلُهُ .

وَبَعْضُهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ هَذَا وَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ

بِقِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَكْبَرِ الْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ وَفِيهَا الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ لَكِنْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ اللَّائِقِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ كَمَا يَنْبَغِي لَا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُشْرَعِ لَهَا لَكَانَ مَذْمُومًا مُخَالِفًا فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالَك بِغَيْرِهَا

( فَصْلٌ ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَوْلِدَ لَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ وَلَكِنْ لَهُ فِضَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا فِي بَعْضِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَوَاسِمِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا وَيَسْتَحْيِ أَنْ يَطْلُبَهَا بُدَاءَةً فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَخْذِ مَا اجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَشَدُّهَا أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ النِّفَاقِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ إذْ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ عَمِلَ الْمَوْلِدَ يَبْتَغِي بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَاطِنُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِهِ فِضَّتَهُ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تَكُونَ لَهُ دُنْيَا وَيَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِتَزِيدَ دُنْيَاهُ بِمُسَاعَدَةِ النَّاسِ لَهُ فَيَزْدَادَ هَذَا فَسَادًا عَلَى الْمَفَاسِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِذَلِكَ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ الْمَحَامِدَ كَثِيرًا ، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ .

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ إلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَخَافُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَرِّهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يُسَاعِدَهُ النَّاسُ تَقِيَّةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ فَيَزْدَادَ مِنْ الْحُطَامِ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْ شَرِّهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ بِفِعْلِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ .

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْحَالِ فَيُرِيدَ أَنْ يَتَّسِعَ حَالُهُ فَيَعْمَلَ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ ذَلِكَ .

الثَّانِي مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفُقَرَاءِ لَكِنْ لَهُ لِسَانٌ يُخَافُ مِنْهُ وَيُتَّقَى لِأَجْلِهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا مِمَّنْ

يَخْشَاهُ وَيَتَّقِيهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ مِنْ حُضُورِ الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنْ مَعَارِفِهِ لَحَلَّ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا يَتَشَوَّشُ بِهِ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْعَدَاوَةِ ، أَوْ الْوُقُوعِ فِي حَقِّهِ فِي مَحَافِلِ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ قَاصِدًا بِذَلِكَ حَطَّ رُتْبَتِهِ بِالْوَقِيعَةِ فِيهِ ، أَوْ نَقْصَ مَالِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُهُ مَنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ إلَى الثَّنَاءِ وَالْمِدْحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَفَاسِدِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ وَدُخُولِ وَسَاوِسِ النُّفُوسِ وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَتَعَذَّرُ حَصْرُهُ .

فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ أَعْطَى قِيَادَهُ لِلِاتِّبَاعِ وَتَرَكَ الِابْتِدَاعَ .

وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُصَّ مَوْلِدُهُ الْكَرِيمُ بِشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَبِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاخْتُصَّ بِفَضَائِلَ عَدِيدَةٍ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا الْحُرْمَةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا فِي لَيْلَتِهَا .

فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ انْتَهَى .

وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ ، وَهُوَ أَنَّ خَلْقَ الْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا بَنُو آدَمَ وَيَحْيَوْنَ وَيَتَدَاوَوْنَ وَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ لِرُؤْيَتِهَا وَتَطِيبُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَتَسْكُنُ بِهَا خَوَاطِرُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِتَحْصِيلِ مَا يُبْقِي حَيَاتَهُمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ حِكْمَةِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوُجُودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قُرَّةُ عَيْنٍ بِسَبَبِ مَا وُجِدَ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالْبَرَكَةِ الشَّامِلَةِ لِأُمَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ ظُهُورَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ تَفَطَّنَ إلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِقَاقِ لَفْظَةِ رَبِيعٍ إذْ أَنَّ فِيهِ تَفَاؤُلًا حَسَنًا بِبِشَارَتِهِ لِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالتَّفَاؤُلُ لَهُ أَصْلٌ أَشَارَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ اسْمِهِ نَصِيبٌ هَذَا فِي الْأَشْخَاصِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفَصْلُ الرَّبِيعِ فِيهِ

تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَمَّا فِي بَاطِنِهَا مِنْ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْعِبَادِ وَحَيَاتُهُمْ وَمَعَايِشُهُمْ وَصَلَاحُ أَحْوَالِهِمْ فَيَنْفَلِقُ الْحَبُّ وَالنَّوَى وَأَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْأَقْوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ فِيهَا فَيَبْتَهِجُ النَّاظِرُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَتُبَشِّرُهُ بِلِسَانِ حَالِهَا بِقُدُومِ رَبِيعِهَا وَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إلَى الِاسْتِبْشَارِ بِابْتِدَاءِ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا دَخَلْت بُسْتَانًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ تَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ يَضْحَكُ لَك وَتَجِدُ زَهْرَهُ كَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يُخْبِرُكَ بِمَا لَكَ مِنْ الْأَرْزَاقِ الْمُدَّخَرَةِ وَالْفَوَاكِهِ .

وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ إذَا ابْتَهَجَ نَوَارُهَا كَأَنَّهُ يُحَدِّثُكَ بِلِسَانِ حَالِهِ كَذَلِكَ أَيْضًا .

فَمَوْلِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ مِنْ الْإِشَارَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ وَذَلِكَ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى التَّنْوِيهِ بِعَظِيمِ قَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَحِمَايَةٌ لَهُمْ مِنْ الْمَهَالِكِ وَالْمَخَاوِفِ فِي الدِّينِ وَحِمَايَةٌ لِلْكَافِرِينَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَإِدْرَارُ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكْثُرُ عِنْدَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَنِ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَمُخَالَفَةِ الْعَدُوِّ اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى هَذَا الْوُجُودِ لَمْ يَقْدِرْ اللَّعِينُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ عَلَى الْقَرَارِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ وَلَا فِي الثَّالِثَةِ إلَى أَنْ نَزَلُوا إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَخَلَتْ

الْأَرْضُ مِنْهُمْ بِبَرَكَةِ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى خُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ هَذَا اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ يُقَيَّدُونَ فَأَيْنَ التَّقْيِيدُ مِنْ نَفْيِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ .

وَفِي هَذَا إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَبِمَنْ تَبِعَهُ .

فَإِنْ قِيلَ إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ تُقَيَّدُ الشَّيَاطِينُ فِي جَمِيعِهِ .

فَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَهُمْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى فِي يَوْمِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ إذْ فِيهِ ظُهُورُ مَزِيَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْعَدُوِّ وَجُنُودِهِ فِيهِ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَوَقَعَتْ الْبَرَكَاتُ وَإِدْرَارُ الْأَرْزَاقِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِهِدَايَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ .

أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفَنَا بَرَكَةَ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ دِينًا وَدُنْيَا وَآخِرَةً بِفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ آمِينَ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا فِي شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ شَبَهِ الْحَالِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ فَصْلَ الرَّبِيعِ أَعْدَلُ الْفُصُولِ وَأَحْسَنُهَا إذْ لَيْسَ فِيهِ بَرْدٌ مُزْعِجٌ وَلَا حَرٌّ مُقْلِقٌ وَلَيْسَ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ طُولٌ خَارِقٌ بَلْ كُلُّهُ مُعْتَدِلٌ وَفَصْلُهُ سَالِمٌ مِنْ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا النَّاسُ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي زَمَانِ الْخَرِيفِ بَلْ النَّاسُ تَنْتَعِشُ فِيهِ قُوَاهُمْ وَتَصْلُحُ أَمْزِجَتُهُمْ وَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْأَبْدَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ مِنْ إمْدَادِ الْقُوَّةِ مَا يُدْرِكُ النَّبَاتَ حِينَ خُرُوجِهِ إذْ مِنْهَا خُلِقُوا فَيَطِيبُ لَيْلُهُمْ لِلْقِيَامِ وَنَهَارُهُمْ لِلصِّيَامِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِدَالِهِ فِي الطُّولِ

وَالْقِصَرِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ شَبَهَ الْحَالِ بِالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ رَفْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَتَشَرَّفُ بِهِ الْأَزْمِنَةُ وَالْأَمَاكِنُ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ بِهَا بَلْ يَحْصُلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى وَالْمَزِيَّةُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ .

فَلَوْ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَكَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِهَا فَجَعَلَ الْحَكِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِهَا لِيَظْهَرَ عَظِيمُ عِنَايَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ وَلَمَّا أَنْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ } عُلِمَ بِذَلِكَ مَا اخْتَصَّ بِهِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَإِنْ كَانَ { يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَخْيَارِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَوَّى رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ قَالَ فِي كِتَابِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَذَكَرَ فِيهِ { أَنَّ آدَمَ خُلِقَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إلَى اللَّيْلِ انْتَهَى } ؛ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ سَاكِنُ الدَّارِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ إذْ أَنَّ الدَّارَ لَا تُرَادُ لِنَفْسِهَا بَلْ لِسَاكِنِهَا .

قَالَ وَقَدْ كَانَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذَا صَلَّتْ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَتُقْبِلُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَلَا تُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَتَقُولُ إنَّ السَّاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَتُؤْثِرُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ صَادَفَ السَّاعَةَ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْوُجُودِ ، وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا أَنَّهُ قَدْ نَجَحَ سَعْيُهُ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ .

إذْ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هُوَ خَلْقُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا بَالُكَ بِالسَّاعَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي } انْتَهَى .

وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ أُهْبِطَ آدَم وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ .

وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ خَيْرٌ كُلُّهُ وَأَمْنٌ كُلُّهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ خُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ يُخَفِّفُ فِيهِ الْأَمْرَ عَنْ أُمَّتِهِ فَلَا يُكَلِّفُهُمْ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْوُجُودِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يُكَلِّفْ الْأُمَّةَ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ بِسَبَبِ عِنَايَةِ وُجُودِهِ فِيهِ .

قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ عُمُومًا وَلِأُمَّتِهِ خُصُوصًا .

وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ .

إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ النَّبِيِّينَ بَعْدَهُ ثُمَّ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُخْتَارِينَ .

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَجَعَلَهُ فِي عَمُودٍ أَمَامَ عَرْشِهِ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيُقَدِّسُهُ ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلِقَ نُورُ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِنْ نُورِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى .

وَقَدْ أَشَارَ الْفَقِيهُ الْخَطِيبُ أَبُو الرَّبِيعِ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصُّدُورِ لَهُ أَشْيَاءُ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ .

فَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا شَاءَ الْحَكِيمُ خَلْقَ ذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَارَكَةِ الْمُطَهَّرَةِ أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِالطِّينَةِ الَّتِي هِيَ قَلْبُ الْأَرْضِ وَبَهَاؤُهَا وَنُورُهَا .

قَالَ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَلَائِكَةُ الْفِرْدَوْسِ وَمَلَائِكَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ مَوْضِعِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُنِيرَةٌ فَعُجِنَتْ بِمَاءِ التَّسْنِيمِ وَغُمِسَتْ فِي مَعِينِ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ حَتَّى صَارَتْ كَالدُّرَّةِ الْبَيْضَاءِ وَلَهَا نُورٌ وَشُعَاعٌ عَظِيمٌ حَتَّى طَافَتْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ حَوْلَ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْكُرْسِيِّ وَفِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِي الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَعَرَفَتْ الْمَلَائِكَةُ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلَهُ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَضَعَ فِي ظَهْرِهِ قَبْضَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَسَمِعَ آدَم فِي ظَهْرِهِ نَشِيشًا كَنَشِيشِ الطَّيْرِ .

فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ مَا هَذَا النَّشِيشُ .

قَالَ هَذَا تَسْبِيحُ نُورِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَخُذْهُ بِعَهْدِي وَمِيثَاقِي وَلَا تُودِعْهُ إلَّا فِي الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ .

فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ قَدْ أَخَذْتُهُ بِعَهْدِكَ وَمِيثَاقِكَ وَلَا أُودِعُهُ إلَّا فِي

الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ .

فَكَانَ نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَأْلَأُ فِي ظَهْرِ آدَمَ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ خَلْفَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ .

فَلَمَّا رَأَى آدَم ذَلِكَ .

قَالَ أَيْ رَبِّ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ يَقِفُونَ خَلْفِي صُفُوفًا .

فَقَالَ الْجَلِيلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ يَا آدَم يَنْظُرُونَ إلَى نُورِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَرِنِيهِ فَأَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَآمَنَ بِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ مُشِيرًا بِأُصْبُعِهِ .

وَمِنْ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ .

فَقَالَ آدَم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مُقَدَّمِي كَيْ تَسْتَقْبِلَنِي الْمَلَائِكَةُ وَلَا تَسْتَدْبِرَنِي فَجَعَلَ ذَلِكَ النُّورَ فِي جَبْهَتِهِ فَكَانَ يُرَى فِي غُرَّةِ آدَمَ دَائِرَةٌ كَدَائِرَةِ الشَّمْسِ فِي دَوَرَانِ فَلَكِهَا أَوْ كَالْبَدْرِ فِي تَمَامِهِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ أَمَامَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى ذَلِكَ النُّورِ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ .

ثُمَّ إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ يَا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مَوْضِعٍ أَرَاهُ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَبَّابَتِهِ فَكَانَ آدَم يَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ النُّورِ .

ثُمَّ إنَّ آدَمَ قَالَ يَا رَبِّ هَلْ بَقِيَ مِنْ هَذَا النُّورِ شَيْءٌ فِي ظَهْرِي .

فَقَالَ نَعَمْ بَقِيَ نُورُ أَصْحَابِهِ .

فَقَالَ أَيْ رَبِّ اجْعَلْهُ فِي بَقِيَّةِ أَصَابِعِي فَجَعَلَ نُورَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْوُسْطَى وَنُورَ عُمَرَ فِي الْبِنْصِرِ وَنُورَ عُثْمَانَ فِي الْخِنْصَرِ وَنُورَ عَلِيٍّ فِي الْإِبْهَامِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ تَتَلَأْلَأُ فِي أَصَابِعِ آدَمَ مَا دَامَ فِي الْجَنَّةِ .

فَلَمَّا صَارَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ انْتَقَلَتْ الْأَنْوَارُ مِنْ أَصَابِعِهِ إلَى ظَهْرِهِ انْتَهَى .

وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورُ مُحَمَّدٍ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ ذَلِكَ النُّورُ يَتَرَدَّدُ وَيَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ .

فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَرْشَ .

وَمِنْ الثَّانِي الْقَلَمَ .

وَمِنْ الثَّالِثِ اللَّوْحَ ثُمَّ قَالَ لِلْقَلَمِ اجْرِ وَاكْتُبْ .

فَقَالَ : يَا رَبِّ مَا أَكْتُبُ .

قَالَ مَا أَنَا خَالِقُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

فَجَرَى الْقَلَمُ عَلَى اللَّوْحِ وَكَتَبَ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ .

وَأَقْبَلَ الْجُزْءُ الرَّابِعُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَقْلَ وَمِنْ الثَّانِي الْمَعْرِفَةَ وَأَسْكَنَهَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَمِنْ الْجُزْءِ الثَّالِثِ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورَ الْأَبْصَارِ وَالْجُزْءُ الرَّابِعُ جَعَلَهُ اللَّهُ حَوْلَ الْعَرْشِ حَتَّى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ ، فَنُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْقَلَمِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ اللَّوْحِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ النَّهَارِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْعَقْلِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْمَعْرِفَةِ وَنُورُ الشَّمْسِ وَنُورُ الْقَمَرِ وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .

وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لِأَبِي الرَّبِيعِ .

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُقِلَ يَا أَبَا مَعْنَايَ وَيَا ابْنَ صُورَتِي .

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } انْتَهَى .

فَلَئِنْ

كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ اُخْتُصَّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَظِيمِ قَدْرِهَا الْمَشْهُورِ الْمَعْرُوفِ ، وَأَنَّ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ عَلَى الرَّاجِحِ ، وَأَنَّ قِيَامَهَا يَعْدِلُ عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي أَشَقِّ الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى .

فَعِلْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَلَ لَنَا بِإِخْبَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفَضِيلَةُ الْأَوْقَاتِ تَلَقَّيْنَاهَا مِنْهُ وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

وَشَهْرُ رَبِيعٍ وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ عَلِمْنَا فَضْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِظُهُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَوْنِ وَاَلَّذِي خُلِقَ الْوُجُودُ لِأَجْلِهِ وَاَلَّذِي فُضِّلَتْ الْأَوْقَاتُ بِبَرَكَتِهِ وَاَلَّذِي خُصَّتْ أُمَّتُهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أَجْلِهِ وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُنَاظَرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْن عَيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ يَقُولُ لَهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلَا فِي بَيْتِهِ شَيْئًا أَأَنْت الْقَائِلُ إلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .

وَمِنْ الْمُنْتَقَى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ لَضَرَبَهُ يُرِيدُ لِأَدَبِهِ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ لِاعْتِقَادِهِ تَفْضِيلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ ، أَوْ هُوَ يَرَى تَرْكَ الْأَخْذِ فِي تَفْضِيلِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِمَا شُهِرَ مِنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ دُونَ نَكِيرٍ .

فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ .

وَمِنْ كِتَابِ مُسْنَدِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِأَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَافِقِيِّ الْجَوْهَرِيِّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اُفْتُتِحَتْ الْقُرَى بِالسَّيْفِ وَافْتُتِحَتْ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ } وَمِنْهُ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ تَكَلَّمَ مَرْوَانُ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ فَقَامَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ مَالَك يَا هَذَا ذَكَرْت مَكَّةَ فَأَطْنَبْت فِي ذِكْرِهَا وَلَمْ

تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } انْتَهَى .

مَعَ أَنَّهُ قَدْ خَصَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَقَالَ إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فِي كَثْرَةِ الرِّزْقِ وَبَرَكَةِ الثِّمَارِ ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَمَعْنَى لَأْوَائِهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعِيدٌ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَثْرَةِ الثِّمَارِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُشَرِّعُ وَالْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ وَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالْأَعْلَى وَالْأَخَصُّ .

وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّصَ عُمُومُ الْحَدِيثِ وَالْمَدِينَةُ قَدْ اشْتَمَلَتْ وَاخْتَصَّتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا وَمَيِّتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْكُتُبَ الصِّحَاحَ وَذَكَرَ فِي بَابِ فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَا هَذَا لَفْظُهُ ( عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ .

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَمَا قُلْت .

فَقَالَ الرَّجُلُ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِثْلُ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا } انْتَهَى .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى

مَا احْتَوَى عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ وَالْأَسْرَارِ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ بِحُلُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الْعُظْمَى .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَابَ قَوْلَ الْقَائِلِ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ .

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِئْسَمَا قُلْت فَمَفْهُومُهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرُ مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ .

ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجَوَابِهِ حِينَ قَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

وَلَا مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ } الْآيَةَ .

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَدِدْت أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ } وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مَشْهُورَةٌ .

ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضَّلَ الدَّفْنَ فِيهَا لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ الْعُظْمَى .

هَذَا ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ظَهْرِهَا فَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ فِي جَوْفِهَا { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْصَرَ فَضِيلَةُ ذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا .

وَمِنْ الْمُوَطَّأِ أَنَّ مَوْلَاةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَتْهُ فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَتْ إنِّي أَرَدْت الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ اُقْعُدِي لَكَاعِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } انْتَهَى .

قَالَ الْبَاجِيُّ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ هُوَ شَكٌّ مِنْ الْمُحَدِّثِ وَلَأْوَاؤُهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ وَتَعَذُّرُ الْكَسْبِ وَالشِّدَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا اللَّأْوَاءَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا كُلَّ مَا يَشْتَدُّ بِسَاكِنِهَا وَتَعْظُمُ مَضَرَّتُهُ وَقَوْلُهُ شَفِيعًا الشَّفَاعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ شَفَاعَةٌ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَشَفَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ ، أَوْ شَهِيدًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ شَهِيدٌ لَهُ بِالْمَقَامِ الَّذِي فِيهِ الْأَجْرُ

وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ لِشَهَادَتِهِ فَضْلًا فِي الْأَجْرِ وَإِحْبَاطًا لِلْوِزْرِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ سُكْنَاهُ فِي الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءَ بِهَا يَثْبُتُ لَهُ وَيُوجَدُ ثَابِتًا فِي جُمْلَةِ حَسَنَاتِهِ إلَّا أَنَّ شَهَادَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ .

وَكَذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ فَضِيلَةَ اسْتِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءِ بِهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الصَّائِمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } وَإِذَا كَانَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهِ فَلَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَفِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ شَبَهٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِحُلُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَلَدِ عَمَّتْ بَرَكَتُهُ لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا وَمَنْ لَمْ يُدْفَنْ فَبَرَكَتُهُ لِلْأَحْيَاءِ مَعْلُومَةٌ وَكَذَلِكَ لِلْأَمْوَاتِ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا } فَلَمْ يَكْتَفِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فَضِيلَتِهَا بِمَا بَيَّنَهُ وَصَرَّحَ بِهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ { مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا } انْتَهَى .

وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا .

ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَعْضِ سِرِّ تَكْرَارِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْقَى أَمْرًا لَهُ خَطَرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا قَارَبَهَا وَمَا

خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ الْعَمِيمَةِ وَالْبَرَكَاتِ الشَّامِلَةِ الْعَظِيمَةِ إذْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعُزَيْرِ حَاكِيًا عَنْ حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَمَا يَفْضُلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَعْظُمُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَيُّ بَلَدٍ وَأَيُّ بُقْعَةٍ تَصِلُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ .

وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيبِ فِيهِ وَالْقَاضِي فِي الْمَعُونَةِ وَتَدَاخُلُ كَلَامِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهَا لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ } وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا } وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .

وَأَوْضَحُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاك إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ } وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الدُّعَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ الدَّاعِي .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا لَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُحَبِّبَ إلَيْهِ الْأَدْوَنَ عَلَى الْأَعْلَى .

وَمِنْهَا مَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ ثَلَاثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ تَأْكُلُ الْقُرَى إلَّا رُجْحَانُ فَضْلِهَا عَلَيْهَا وَزِيَادَتُهَا عَلَى غَيْرِهَا .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } وَتَخْصِيصُهُ إيَّاهَا بِذَلِكَ لِفَضْلِهَا عَلَى جَمِيعِ الْبِقَاعِ الَّتِي لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْلُوقٌ مِنْهَا ، وَهُوَ خَيْرُ الْبَشَرِ فَتُرْبَتُهُ أَفْضَلُ التُّرَبِ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ إلَيْهَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمُقَامِ بِهَا طَاعَةً وَقُرْبَةً وَالْمُقَامُ بِغَيْرِهَا ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا .

فَلَمَّا أَنْ عُلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَى رَبِّهِ هَذِهِ الْبُقْعَةُ أَحَبَّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ شَيْءٌ قَطُّ يُفَضِّلُهُ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَابًا لِنِسَائِهِ حِينَ تَكَلَّمْنَ مَعَهُ فِي تَفْضِيلِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَيْهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فَأَجَابَهُنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ لَمْ يُوحَ إلَيَّ فِي فِرَاشِ إحْدَاكُنَّ إلَّا فِي فِرَاشِهَا } .

فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُفَضِّلُ الْأَشْيَاءَ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ كَافٍ .

وَمَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ { ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ

مَكَّةَ بِدُونِ الْأَلْفِ ، وَأَنَّهَا تَفْضُلُ غَيْرَهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ بِالْأَلْفِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ } لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ .

وَبِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا فَإِذَنْ فَضَلَتْهَا الْمَدِينَةُ .

وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَكَفَى بِهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ أَنَّهَا مَطْلَعُ شَمْسِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِيهَا نُبِّئَ وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ وَمِنْهَا أُسْرِيَ بِهِ إلَى قَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ فَحَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

لَكِنْ جَرَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ جَعَلَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتْبُوعًا ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَشَرَّفُ بِهِ وَيَعْلُو قَدْرُهَا وَفَضْلُهَا بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى رَبِّهِ لَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ فَكَانَ انْتِقَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَخُصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبَلَدٍ وَحْدَهُ وَحَرَمٍ أَوْ مَسْجِدٍ وَرَوْضَةٍ وَوُفُودٍ تَسِيرُ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ إلَّا بِهِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ أَحَدٌ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إسْلَامٌ وَلَا إيمَانٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْحِيدُ إلَّا مَعَ الْإِقْرَارِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَضَّلَهَا بِذَلِكَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلَتَهَا فَالْوُفُودُ تَسِيرُ مِنْ كُلِّ الْآفَاقِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَكَذَلِكَ تَسِيرُ إلَى زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ حَرَمًا جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَمًا يُقَابِلُهُ .

وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَهُ فَضِيلَةً فِي الصَّلَاةِ فِيهِ جَعَلَ مَسْجِدَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ فِي تَضْعِيفِ الْأُجُورِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَشْهَدُ لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا شَهِدَ لِلَامِسِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقَابَلَتِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْمَعُونَةِ لَهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَصَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِيهَا لِفَضْلِهِ عَلَى بَقِيَّتِهَا فَكَانَ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى سِوَاهَا أَوْلَى انْتَهَى .

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هِيَ بِنَفْسِهَا فِي الْجَنَّةِ أَوْ الْعَمَلُ فِيهَا يُوجِبُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ } قَالَ وَلَا نَعْلَمُ هَذَا الْحَدِيثَ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَالَى قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .

==============

ج5. كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ-- أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

تَقَدَّمَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ إلَّا لِأَمْرٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَانَ الْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُخْرِجْهُ مَنْ اشْتَرَطَ الصِّحَّةَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ أَرْجَحُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شَرَعَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَلَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ .

فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا فَرْقَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِعَدَمِ الْجَزَاءِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ عَمَلًا ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَمَلِ قَدْ يَقَعُ بَعْضُهُمْ ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي تَرْكِهِ فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُسْرَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَرَفَعَ عَنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّقْصِيرِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ حَتَّى رَدَّ الْخَمْسِينَ إلَى خَمْسٍ بِبَرَكَةِ شَفَاعَتِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسُؤَالِهِ فِي الرِّفْقِ بِهِمْ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَالْوُفُودُ تَسِيرُ إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ بِخِلَافِ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْظُرُ أَبَدًا مَا فِيهِ الْأَفْضَلُ لِأُمَّتِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إلَيْهِ وَمَا كَانَ فِيهِ تَكْلِيفٌ يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ مُكْتَفِيًا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَا يَخُصُّ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ يُخَفِّفُهُ عَنْ أُمَّتِهِ .

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ وَشُمُولِ عِنَايَتِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .

وَمِمَّا

يُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الْأُولَى } فَكُلُّ مَقَامٍ ، أَوْ مَكَان أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أُقِيمَ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الْفَضِيلَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا يَشُكُّ وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِهِ وَأَتَمِّهَا إذْ هُوَ الْخِتَامُ وَالْخِتَامُ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ وَأَعْظَمَ مِنْهُ فَلَئِنْ كَانَتْ مَكَّةُ مَوْضِعَ شَمْسٍ مَشْرِقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْمَدِينَةُ مَوْضِعُ شَمْسِ مَغْرِبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِيهَا حَلَّ وَأَقَامَ .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِيمَانُ يَأْرِزُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ } يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا بَيْنَ مَطْلِعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَغْرِبِهِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَعْنِي بِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَمَا وَقَعَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ إخْمَادِ نَارِ فَارِسَ وَانْشِقَاقِ إيوَانِ كِسْرَى وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَنُزُولِ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ لَاكْتَفَى فِي فَضِيلَتِهِ بِوُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَمَعْنَى لَعَمْرُكَ لَحَيَاتُكَ فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِمَخْلُوقٍ إلَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَ تَعَالَى {

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ .

وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّمَا تَكُونُ لَا لِلتَّأْكِيدِ إذَا عُدِمَتْ الْفَائِدَةُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا لَفْظَةُ لَا وَالْفَائِدَةُ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } مَعْنَاهُ أَيُّ قَدْرٍ وَأَيُّ خَطَرٍ لِهَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يُقْسَمَ بِهِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ وَالْخَطَرُ لَكَ فَأَنْتَ الَّذِي يُقْسَمُ بِكَ لِعَظِيمِ جَاهِكَ وَحُرْمَتِكَ عِنْدَنَا .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى سِرِّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إذْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَكَّةُ اتِّفَاقًا ، وَمَكَّةُ قَدْ تَظَافَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى تَفْضِيلِهَا .

فَإِذَا كَانَتْ مَكَّةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْسِمُ بِهَا مَعَ وُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالشَّمْسِ لَا تَظْهَرُ الْكَوَاكِبُ مَعَهَا بَلْ هُوَ الَّذِي كُسِيَتْ الْأَكْوَانُ مِنْ بِهَاءِ نُورِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ مَنْ مَدَحَهُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةِ حَيْثُ يَقُولُ إلَى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ أَحْمَدُ قَدْ دَنَا وَنُورُهُمَا مِنْ نُورِهِ يَتَلَأْلَأُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَوْضِعُ مَقَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَائِمًا لَا يُوَازِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ بِالْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا شَابَهَهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ فَاضِلٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ أَفْضَلُ فَإِنَّك إذَا قُلْت مَثَلًا الشَّمْسُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنْ الْبَدْرِ السَّالِمِ مِنْ كُلِّ مَا يَعْتَرِيهِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ إذْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ شَارَكَهَا الْبَدْرُ فِي بَعْضِ الضِّيَاءِ لَكِنْ لِلشَّمْسِ زِيَادَةُ ضِيَاءٍ أَضْعَافُ

ذَلِكَ فَظَهَرَتْ فَضِيلَةُ الشَّمْسِ عَلَى الْبَدْرِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا فَضَلَتْ عَلَى الْبَدْرِ فَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَالْبَدْرُ يَفْضُلُ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْجُرْمِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمَدِينَةُ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ مُقَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيًّا وَمَيِّتًا الَّتِي قَدْ خُصَّتْ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْرَمُ مِنْ غَيْرِهَا بِوُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا .

أَلَا تَرَى أَنَّ مَكَّةَ مَعَ عَظِيمِ قَدْرِهَا لَمْ يُقْسِمْ بِهَا لِأَجْلِ حُلُولِهِ إذْ ذَاكَ بِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَفْضُلَ مَوْضِعًا حَلَّ فِيهِ وَأَقَامَ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَكَيْفَ يَفْضُلُهُ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فِي وُجُودِ الْفَضِيلَةِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ لِرَفِيعِ جَنَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ .

وَقَدْ رَأَيْت لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ فَضَائِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا مِنْ نَبِيٍّ دُفِنَ إلَّا وَقَدْ رُفِعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ غَيْرِي فَإِنِّي سَأَلْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَاتَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَسَوَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَصَّصَ الْمَدِينَةَ بِالذِّكْرِ وَحَضَّ عَلَى مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ بِالِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا } وَالِاسْتِطَاعَةُ هِيَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فَزِيَادَةُ عِنَايَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِفْرَادِ الْمَدِينَةِ بِالذِّكْرِ دَلِيلٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا

.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كِلَيْهِمَا سِيَّانِ فِي الْفَضِيلَةِ فِي تَعَدِّي نَفْعِهِ وَبَرَكَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمَّتِهِ أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا فَنَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عُمُومِ نَفْعِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا .

كَيْفَ لَا ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَيِّدُ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى وَكَانَ مِنْ رَبِّهِ فِي الْقُرْبِ وَالتَّدَانِي مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَابَ قَوْسَيْنِ ، أَوْ أَدْنَى .

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ ثُمَّ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِأُمَّتِهِ فَقَالَ تَعَالَى { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ فِي حَقِيقَةِ الْمَعْنَى هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُمَّتُهُ أَوْلَادُهُ .

إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ سَبَبًا لِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَالْخُلُودِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَسَلَامَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ الْعَظِيمِ .

وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ } انْتَهَى ، وَهَذَا ظَاهِرٌ قَالَ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فَحَقُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ .

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } فَقَدَّمَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَدَّمَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ .

وَمَعْنَى ذَلِكَ إذَا تَعَارَضَ لَهُ حَقَّانِ حَقٌّ لِنَفْسِهِ وَحَقٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآكَدُهُمَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبُ .

حَقُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَجْعَلُ حَقَّ نَفْسِهِ تَبَعًا لِلْحَقِّ

الْأَوَّلِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي تَتَبُّعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ .

وَإِذَا تَأَمَّلْت الْأَمْرَ فِي الشَّاهِدِ وَجَدْت نَفْعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَك أَعْظَمَ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إذْ أَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ وَجَدَك غَرِيقًا فِي بِحَارِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا الْمُوجِبَةِ لِغَضَبِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَنْقَذَك وَأَنْقَذَ آبَاءَك وَأَبْنَاءَك وَمَنْ مَشَى عَلَى مَشْيِك ، وَغَايَةُ أَمْرِ أَبَوَيْك أَنَّهُمَا أَوْجَدَاك فِي الْحِسِّ فَكَانَا سَبَبًا لِإِخْرَاجِك إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ وَمَحَلِّ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ فَأَوَّلُ ذَنْبٍ يُوقِعُهُ الْمَرْءُ فِيهَا اسْتَحَقَّ بِهِ النَّارَ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخَذَ بِالْعَدْلِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا بِالْفَضْلِ .

فَبِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ أَنْقَذَك اللَّهُ الْكَرِيمُ مِمَّا قَدْ كَانَ حَلَّ بِك وَنَزَلَ بِسَاحَتِك مِمَّا لَا طَاقَةَ لَك بِهِ فَتَنَبَّهْ لِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَرَفِيعِ مِقْدَارِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَعَظِيمِ إحْسَانِهِ وَجُودِهِ عَلَيْك قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ } انْتَهَى فَخَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بَيِّنٌ جِدًّا .

أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَآهُ ، أَوْ أَدْرَكَهُ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا فِي فَضِيلَةِ مَزِيَّةِ رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوُقُوعِ ذَلِكَ النَّظَرِ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَوْتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِأَنَّ أَعْمَالَ أُمَّتِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَقَارِبِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَمَا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَعْمَالِ حَسَنًا سُرَّ بِهِ وَدَعَا لِصَاحِبِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ

غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَغْفَرَ لِصَاحِبِهِ ، وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ فِي التَّلَطُّفِ بِك وَالْإِحْسَانِ إلَيْك بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُمْ يُسَرُّونَ ، أَوْ يَحْزَنُونَ لَيْسَ إلَّا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

اللَّهُمَّ بِحُرْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَك عَرِّفْنَا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي مَنَنْت عَلَيْنَا بِدَوَامِهَا وَلَا تُعَرِّفْهَا لَنَا بِزَوَالِهَا عَنَّا إنَّك وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ آمِينَ .

وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي مَرْوَانَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَكْرِيِّ عُرِفَ بِابْنِ السَّمَّاطِ ، وَهُوَ أَخُو الشَّيْخِ الْأَجَلِّ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السِّمَاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْأَكَابِرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ أَعَلِمْت أَنَّك يَا رَبِيعَ الْأَوَّلِ تَاجٌ عَلَى هَامِ الزَّمَانِ مُكَلَّلُ مُسْتَعْذَبُ الْإِلْمَامِ مُرْتَقَبُ اللِّقَا كُلُّ الْفَضَائِلِ حِينَ تُقْبِلُ تُقْبِلُ مَا عُدْت إلَّا كُنْت عِيدًا ثَالِثًا بَلْ أَنْتَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ وَأَجْمَلُ شَرَفًا بِمَوْلِدِ مُصْطَفًى لَمَّا بَدَا أَخْفَى الْأَهِلَّةَ وَجْهُهُ الْمُتَهَلِّلُ وَحَوَيْت مَنْ أَصْبَحْت ظَرْفَ زَمَانِهِ ظَرْفًا بِهِ فِي بُرْدِ حُسْنِك تَرْفُلُ وَمَلَكْت أَنْفُسَهَا بِلُطْفِ شَمَائِلَ بِنَسِيمِهَا نَفْسُ الْعَلِيلِ تُعَلَّلُ وَإِذَا حَدَا الْحَادِي بِمَنْزِلَةِ الْحِمَى فَالْقَصْدُ سُكَّانُ الْحِمَى لَا الْمَنْزِلُ فَضْلُ الشُّهُورِ عَلَا فَفَاخَرَهَا فَإِنْ فَخَرْت بِأَطْوَلِهَا فَأَنْتَ الْأَطْوَلُ وَاسْتَثْنِ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي أَثْنَاءَهَا نَزَلَ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَاصْغَ لِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا إنَّهَا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي الْإِبَانَةِ أَفْضَلُ وَاسْتَكْمِلْ الْبُشْرَى فَإِنَّك لَمْ تَزَلْ لَك فِي الْقُلُوبِ مَكَانَةٌ لَا تُجْهَلُ لِمَ لَا وَعَشْرُك وَاثْنَتَاك أَرَيْنَنَا قَمَرًا بِهِ شَمْسُ الضُّحَى لَا تُعْدَلُ وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّ بَدْرًا يَسْتَوِي لِتَمَامِ عَشْرٍ وَاثْنَتَيْنِ وَيَكْمُلُ وَيَفُوقُ أَقْمَارَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا لِلنَّقْصِ مِنْ بَعْدِ الزِّيَادَةِ تُنْقَلُ وَكَمَالُ هَذَا الْبَدْرِ لَا يُعْزَى إلَى نَقْصٍ وَلَا عَنْ حَالِهِ يَتَحَوَّلُ بَلْ نُورُهُ يَزْدَادُ ضَعْفًا كُلَّمَا طَفِقَ الْمَحَاقُ سَنَا الْبُدُورِ

يُبَدَّلُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَهَذَا الشَّهْرُ لَمْ نَجِدْ فِيهِ زِيَادَةً فِي الْأَعْمَالِ كَمَا نَجِدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَاللَّيَالِيِ وَالْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ تِلْكَ الْأَزْمِنَةَ حَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ فِيهَا ، وَهَذَا الشَّهْرُ حَصَلَ لَهُ التَّشْرِيفُ بِظُهُورِ مَنْ جَاءَتْ الْأَعْمَالُ وَالْخَيْرَاتُ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْفَضِيلَةُ لَتِلْكَ الْأَوْقَاتِ عَلَى يَدَيْهِ وَبِسَبَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ .

وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَكَانَ دَأْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَوَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَعَلَهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ هَذَا الشَّهْرُ اُخْتُصَّ بِظُهُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ لَمْ يُكَلِّفْ أُمَّتَهُ زِيَادَةَ عَمَلٍ فِيهِ بَلْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ .

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَقَعَتْ الضِّيَافَةُ لِأَهْلِ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَيْفَ بِالزَّمَنِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مَنْ شُرِعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْلَا أَنْتَ مَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَلَا حَجَجْنَا بَيْتَ رَبِّنَا انْتَهَى فَكَانَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ غَالِبًا وَعَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ لِأَنَّ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ فِي ضِيَافَةِ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ كَرَامَةً

لِلْحُجَّاجِ الَّذِينَ هُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْخَلِيلِ وَوَلَدِهِ الْكَرِيمِ إسْمَاعِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَلَمَّا أَنْ كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْوُجُودِ .

كَانَتْ الضِّيَافَةُ الشَّهْرَ كُلَّهُ لَكِنْ تَرَكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَّتَهُ رَحْمَةً بِهِمْ فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ وَالْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ خُصُوصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَبَقَ وَشَأْنُ الرَّحْمَةِ التَّوَسُّعَةُ أَلَا تَرَى إلَى عَدَمِ وُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

( فَصَلِّ ) فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب فَهَذَا بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوَاسِمُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَتَشَبَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ بِهِمْ فِيهَا وَشَارَكُوهُمْ فِي تَعْظِيمِهَا يَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ خُصُوصًا وَلَكِنَّك تَرَى بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعْجِبُهُ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ بِتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يُهَادُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ وَيُرْسِلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِمَوَاسِمِهِمْ فَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ كُفْرِهِمْ وَيُرْسِلُ بَعْضُهُمْ الْخِرْفَانَ وَبَعْضُهُمْ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَبَعْضُهُمْ الْبَلَحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي وَقْتِهِمْ وَقَدْ يَجْمَعُ ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ أَشْهَبُ قِيلَ لِمَالِكٍ أَتَرَى بَأْسًا أَنْ يُهْدِيَ الرَّجُلُ لِجَارِهِ النَّصْرَانِيِّ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ إذْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ هَدِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهَدَايَا التَّوَدُّدُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ } ، فَإِنْ أَخْطَأَ وَقَبِلَ مِنْهُ هَدِيَّتَهُ وَفَاتَتْ عِنْدَهُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ فِي مَعْرُوفٍ صَنَعَهُ مَعَهُ .

وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ

اللَّهُ عَنْ مُؤَاكَلَةِ النَّصْرَانِيِّ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ قَالَ تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَا يُصَادِقُ نَصْرَانِيًّا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَجْهُ فِي كَرَاهَةِ مُصَادَقَةِ النَّصْرَانِيِّ بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ .

فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ وَيُكَذِّبُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمُؤَاكَلَتُهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ تَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَوَدَّةَ فَهِيَ تُكْرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ عَلِمْت طَهَارَةَ يَدِهِ .

وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى لِأَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَهُ .

قَالَ وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُهْدِيَ إلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً لَهُ .

وَرَآهُ مِنْ تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ كُفْرِهِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا إدَامًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يُعَانُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ لِشِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى .

وَيُمْنَعُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَمَعْنَى ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَا اخْتَصُّوا بِهِ .

وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا

إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ .

وَقَدْ جَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ وَالْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِهِ طُغْيَانًا إذْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُونَهُمْ أَوْ يُسَاعِدُونَهُمْ ، أَوْ هُمَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغِبْطَتِهِمْ بِدِينِهِمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَكَثُرَ هَذَا بَيْنَهُمْ .

أَعْنِي الْمُهَادَاةَ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُهَادُونَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوَاسِمِهِمْ لِبَعْضِ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَشْكُرُونَهُمْ وَيُكَافِئُونَهُمْ .

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَغْتَبِطُونَ بِدِينِهِمْ وَيُسَرُّونَ عِنْدَ قَبُولِ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ صُوَرٍ وَزَخَارِفَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ أَرْبَابَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِمْ فِي الدِّينِ وَتَعَدَّى هَذَا السُّمُّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَسَرَى فِيهِمْ فَعَظَّمُوا مَوَاسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكَلَّفُوا فِيهَا النَّفَقَةَ .

وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ فَيُكَلِّفُهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَدَايَنَ لِفِعْلِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا ضَحِيَّةً لِجَهْلِهِ وَجَهْلِ أَهْلِهِ بِفَضِيلَتِهَا ، أَوْ قِلَّةِ مَا بِيَدِهِ فَلَا يَتَكَلَّفُ هُوَ وَلَا هُمْ يُكَلِّفُونَهُ ذَلِكَ .

مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَخَذَ بِهِ الْأُضْحِيَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا فِي الشَّرْعِ .

فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا طَعَامًا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي فِعْلِ النَّيْرُوزِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الزَّلَابِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .

فَمِنْهُمْ

مَنْ يَأْتِي بِالصَّانِعِ يَبِيتُ عِنْدَهُ فَيَقْلِيهَا لَيْلًا حَتَّى لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ إلَّا وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ فَيُرْسِلُونَ مِنْهَا لِمَنْ يَخْتَارُونَ وَيَجْمَعُونَ الْأَقَارِبَ وَالْأَصْحَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ عِيدٌ بَيْنَهُمْ .

ثُمَّ يَأْكُلُونَ فِيهِ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَالْخَوْخَ وَالْبَلَحَ إذَا وَجَدُوهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْزِمُهُ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ اكْتَسَبْنَ ذَلِكَ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ وَمُخَالَطَتِهِنَّ بِهِمْ فَأَنِسْنَ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ .

ثُمَّ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَفْعَالًا قَبِيحَةً مُسْتَهْجَنَةً شَرْعًا وَطَبْعًا .

فَمِنْ ذَلِكَ مُضَارَبَتُهُمْ بِالْجُلُودِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ أَكْلِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .

فَبَعْضُ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي بُيُوتِهِمْ ، أَوْ فِي بَسَاتِينِهِمْ .

وَبَعْضُ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ ، أَوْ لَيْسَ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ وَالْأَسْوَاقِ وَعَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُرُورِ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ صَارَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَحْكُمُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ زَهَقَتْ نَفْسُهُ بِضَرْبِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، أَوْ سُلِبَ مَا مَعَهُ كَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ فِيهِ نَهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَعْنِي مَنْ وَجَدُوهُ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ .

وَهَذَا الْيَوْمُ شَبِيهٌ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَهُمَا خَصْلَتَانِ مِنْ خِصَالِ فِرْعَوْنَ بَقِيَتَا فِي آلِهِ وَهُمْ الْقِبْطُ فَسَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ .

ثُمَّ جَرَّ ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ السَّفَلَةِ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يُخَبِّئُ لَهُ ذَلِكَ لِأَحَدِ الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَأْخُذُ جِلْدَةً ، أَوْ غَيْرَهَا فَيَجْعَلُ فِيهَا حَجَرًا ، أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِهِ فَيَضْرِبُ بِهِ عَدُوَّهُ عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ فَيَهْلِكُ فَيَذْهَبُ

دَمُهُ هَدَرًا لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِثَأْرٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ بَلْ سَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَتَرَى الْمَدَارِسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُؤْخَذُ فِيهَا الدُّرُوسُ أَلْبَتَّةَ .

وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ بَلْ تَجِدُ بَعْضَ الْمَدَارِسِ مُغْلَقَةً فَيَلْعَبُونَ فِيهَا حَتَّى لَوْ جَاءَهُمْ الْمُدَرِّسُ ، أَوْ غَيْرُهُ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَأَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي حَقِّهِ وَرُبَّمَا أَخْرَقُوا الْحُرْمَةَ وَأَلْقَوْهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ قَارَبُوا ذَلِكَ ، أَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِخْرَاقِ بِهِ بِدَرَاهِمَ يَأْخُذُونَهَا مِنْهُ تَقْرُبُ مِنْ الْغَصْبِ الَّذِي يَبْحَثُونَ فِيهِ فِي مَجَالِسِهِمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا فَيَأْكُلُونَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ ، وَهَذِهِ خِصَالٌ مُسْتَهْجَنَةٌ مِنْ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ ، أَوْ مَنْ يَزْعُمُ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمُشَارَ إلَيْهِ حَصَلَتْ لَهُ غَيْرَةُ أَهْلِ الدِّينِ كَمَا يَزْعُمُ لَغَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ إذْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ مَا فَلَوْ قَالَ امْنَعُوا هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمَدْرَسَةَ ، أَوْ أَخْرِجُوهُ مِنْهَا ، أَوْ لَا يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِي ، أَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمْ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ فِيك قِلَّةَ هَذَا الْأَدَبِ ، أَوْ أَنْتُمْ لَا تَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمُرُوءَةِ مِنْ الْعَوَامّ ، أَوْ مَنْ لَهُ حَسَبٌ وَنَسَبٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ ، أَوْ مِثْلُكُمْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ، أَوْ لَا كَثَّرَ اللَّهُ مِنْكُمْ ، أَوْ أَدَّبَ بَعْضَ أَكَابِرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَانْزَجَرَ مَنْ دُونَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَحُسْنِ التَّأَنِّي وَالتَّوَاضُعِ فِي الْعِشْرَةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الرِّيَاسَةِ

وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَتْ الرِّيَاسَةُ بِمَا تُسَوِّلُ النُّفُوسُ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَآدَابِهَا الْحَسَنَةِ وَأَخْلَاقِهَا الْجَمِيلَةِ .

وَلَوْ تَأَمَّلَ هَذَا مَنْ وَقَعَ فِيهِ لَحَقَّ لَهُ الْبُكَاءُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِ إذْ أَنَّهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْيِيرِ ، وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ لِلْأُمَرَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِاللِّسَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِالْقَلْبِ لِلْعَوَامِّ .

وَهَذَا قَدْ نَزَلَ عَنْ رُتْبَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ بَلْ تَرَكَ رُتْبَةَ الْعَوَامّ الَّتِي هِيَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } انْتَهَى .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَلِيَّةِ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقُوَّةِ سَرَيَانِ سُمِّهَا فِي الْقُلُوبِ كَيْفَ أَوْقَعَتْ هَذَا الْعَالِمَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ فَتَرَكَ التَّغْيِيرَ وَكَانَ سَهْلًا عَلَيْهِ بِأَدْنَى إشَارَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذِهِ خِصَالٌ ذَمِيمَةٌ كَمَا تَرَى .

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعِبُ الْمُؤْمِنِ فِي ثَلَاثٍ } ، وَهَذَا عَرِيَ عَنْهَا كُلِّهَا .

ثُمَّ إنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَامّ جَمَعُوا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مَفَاسِدَ جُمْلَةً مُسْتَهْجَنَةً .

فَمِنْهَا إخْرَاقُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِإِدْخَالِ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ وَوُقُوعِ الضَّرَرِ بِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنْ قَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ مَرِيضٌ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ يُلَاطِفُهُ بِهِ ، أَوْ مَيِّتٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى تَجْهِيزِهِ ، أَوْ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُ عَادَتَهُمْ الذَّمِيمَةَ ، أَوْ نَاسٍ لِمَا يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَا شَعَرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى حَصَلَ بَيْنَهُمْ فَأَوْقَعُوا

بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْخِصَالِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لَا يُنْتَجُ مِنْهَا إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ .

ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَأْبَاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُسْلِمُونَ إحْدَاهُمَا شُرْبُ الْخَمْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلنَّصَارَى لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ جِهَارًا وَتَعَدَّى ذَلِكَ لِبَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَسْتَحْيُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ .

الثَّانِيَةُ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ يَلْعَبْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ مُخْتَلَطِينَ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَبَنَاتٍ أَبْكَارًا وَيَبُلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا ابْتَلَّ ثَوْبُ أَحَدِهِمْ بَقِيَ بَدَنُهُ مُتَّصِفًا يَحْكِي النَّاظِرُ أَكْثَرَهُ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ مِنْ الْقَبَائِحِ الرَّدِيئَةِ .

وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَعْظَمُ فَسَادًا وَفِتْنَةً مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوْلِدِ مِمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمَوْلِدِ يَخْتَلِطُونَ لَكِنْ بِثِيَابِهِمْ مُسْتَتِرِينَ بِخِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَإِنَّهُمْ فِيهِ مُنْهَتِكُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ نَزَعُوا فِيهِ ثِيَابَهُمْ وَخَلَعُوا فِيهِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ عُرْيَانًا عَدَا الْمِئْزَرِ وَآخَرَ عَلَيْهِ خِلْقَةٌ أَوْ قَمِيصٌ رَفِيعٌ لِلْمُحْتَشِمِ أَوْ الْمُحْتَشِمَةِ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ صَارَ كَأَنَّهُ عُرْيَانًا وَالْغَالِبُ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ أَنَّ الْجَارَةَ لَا تَسْتَحِي مِنْ الْجَارِ ، وَأَنَّ الشَّابَّ إذَا تَرَبَّى بَيْنَهُنَّ لَا يَسْتَحْيِينَ مِنْهُ وَإِنْ صَارَ رَجُلًا وَلَا يَسْتَحْيِينَ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ وَلَا مِمَّنْ شَابَهَهُ مِنْ الْأَقَارِبِ وَكَذَلِكَ أَصْدِقَاءُ الزَّوْجِ وَأَصْدِقَاءُ الْأَبِ وَالْأَصْهَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ هَذِهِ أَحْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَزَادُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ رَفْعِ بُرْقُعِ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ مَا هُوَ شَنِيعٌ فِي ذِكْرِهِ

فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ بِفِعْلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ النَّظَرَ لِأَكْثَرِ الْبَدَنِ وَلَا تَمْنَعُ نُعُومَةَ الْبَدَنِ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ يَلْعَبُ مَعَهُ وَيُبَاسِطُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَسْتَمْتِعُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلَّهُمْ نِسَاءٌ لِعَدَمِ حَيَاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَتَصَارَعُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ وَيَدِينُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَدُثُورِ أَكْثَرِ مَعَالِمِهِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الدِّينِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْغَالِبِ إلَّا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ وُضِعَتْ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ .

فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ( فَصْلٌ ) وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ إنْسَانًا مِنْهُمْ فَيُخَالِفُونَ فِيهِ السُّنَّةَ أَعْنِي فِي تَغْيِيرِ ظَاهِرِ صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ فَيَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَيِّرَاتِ وَالْمُغَيِّرِينَ لِخَلْقِ اللَّهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُغَيِّرُونَ وَجْهَهُ بِجِيرٍ ، أَوْ دَقِيقٍ ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُ لَحَيَّةً مِنْ فَرْوَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا وَيُلْبِسُونَهُ ثَوْبًا أَحْمَرَ ، أَوْ أَصْفَرَ لِيُشْهِرُوهُ بِذَلِكَ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ثُمَّ أَشْعَلَهُ عَلَيْهِ نَارًا } انْتَهَى ثُمَّ يَجْعَلُونَ عَلَى رَأْسِهِ طُرْطُورًا طَوِيلًا ثُمَّ يُرَكِّبُونَهُ عَلَى حِمَارٍ دَمِيمٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُونَ حَوْلَهُ الْجَرِيدَ الْأَخْضَرَ وَشَمَارِيخَ الْبَلَحِ

وَيَجْعَلُونَ فِي يَدِهِ شَيْئًا يُشْبِهُ الدَّفْتَرَ كَأَنَّهُ يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمْ مِنْ السُّحْتِ وَالْحَرَامِ فَيَطُوفُونَ بِهِ فِي أَزِقَّةِ الْبَلَدِ وَشَوَارِعِهَا عَلَى الْأَبْوَابِ وَفِي الْأَسْوَاقِ عَلَى أَكْثَرِ الدَّكَاكِينِ وَالْبُيُوتِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ عَلَى شَبَهِ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ وَالتَّعَسُّفِ وَيَأْكُلُونَهُ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آذَوْهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ التُّرَابُ فَيُهِينُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالْكَلَامِ الْفَاحِشِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَإِنْ رَضِيَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالْمِزَاحِ فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا .

إذْ شَرْطُ الْمِزَاحِ وَالْبَسْطِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَمِزَاحُهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ وَذِكْرِ الْفَوَاحِشِ وَمَنْ تَحَصَّنَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتِ فَأَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَاهُمْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا كَسَرُوا بَعْضَ الْأَبْوَابِ الضَّعِيفَةِ وَرُبَّمَا صَبُّوا الْمِيَاهَ الْكَثِيرَةَ فِي الْبَابِ حَتَّى قَدْ يُمْنَعُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ وَرُبَّمَا أَخْرَجُوا صَاحِبَ الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ لَهُمْ مَا يَخْتَارُونَهُ وَإِلَّا أَخْرَقُوا حُرْمَتَهُ وَزَادُوا فِي أَذِيَّتِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِالنَّيْرُوزِ وَيَقُولُونَ لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أَحْكَامٌ تَقَعُ ، وَأَمَّا الْمُشَالِقُونَ فَأَكْثَرُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ لِشُهْرَتِهِ وَمُعَايَنَةِ مَا فِيهِ مِنْ الْمَثَالِبِ وَالْمَفَاسِدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ وَالْأَفْعَالِ الْخَسِيسَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَوِي الْعُقُولِ فَكَيْفَ بِأَهْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : وَكُلُّ هَذَا فِي ذِمَّةِ الْعَالِمِ إذَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيَنْهَ عَنْهَا وَيُقَبِّحْهَا وَيُكْثِرْ التَّشْنِيعَ عَلَى فَاعِلِهَا وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْعَالِمِ وَحْدَهُ بَلْ فِي أَرْبَابِ الْأُمُورِ أَشَدُّ كَالْمُحْتَسِبِ وَالْحَاكِمِ وَمَنْ لَهُ أَمْرٌ نَافِذٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَجَزَ

عَنْ التَّغْيِيرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ ، فَإِنْ غَيَّرُوا وَقَامُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ أُجِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ أَثِمُوا وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ مَنْ بَلَّغَهُمْ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ غَيْرِ الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ وَالرَّدْعِ الْجَمِيلِ ، أَوْ يُوصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ أَعْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَوْسِمُ الَّذِي تَشَبَّهُوا فِيهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْقَبَائِحِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَظِيعَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ لَكَانَ فِيهِ مَا فِيهِ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا تَرَى ، وَمَا بَقِيَ أَكْثَرُ مِمَّا وُصِفَ فَلَوْ كَانَ مَنْ مَعَهُ عِلْمٌ يَتَكَلَّمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اشْتَهَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَوْلَادِهِ شَهْوَةً وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْمَوَاسِمِ الَّتِي لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ .

وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا بِشَهْوَتِهِمْ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ } وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ شَرْعًا أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُتَحَرَّزَ مِنْ عَوَائِدِ الْوَقْتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُمَاكَسَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ شَرْعًا وَذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَوْسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مَا يُفْعَلُ فِيهِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا أَرَادُوهُ فَعَزَمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَتَرَكَ إجَابَتَهُمْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُوَاقَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ .

وَالثَّانِي : رُبَّمَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي فِعْلِهِ فَحُسِمَ الْبَابُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ .

فَلَوْ كَانَ

مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يَمْشُونَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ إلَّا نَادِرًا إذْ أَنَّ الْعَالِمَ هُوَ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ جَيِّدُهُمْ وَرَدِيئُهُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِ إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ ، أَوْ بِالْجَبْرِ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ

فَصْلٌ فِي خَمِيسِ الْعَدَسِ ، وَهُوَ الْمَوْسِمُ الثَّانِي مِنْ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي شَارَكَهُمْ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اُتُّخِذَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ لَا تَنْبَغِي .

فَمِنْهَا خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِرَاءِ الْبَخُورِ وَالْخَوَاتِمِ وَغَيْرِهِمَا فَتَجِدُهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ فَمَنْ يَمُرُّ بِالسُّوقِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْي فِيهِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ لِزَحْمَةِ النِّسَاءِ وَقَدْ يُزَاحِمُهُنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مَا فِي خُرُوجِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ بِالرِّجَالِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا دَوَاءَ لَهَا فِي الْغَالِبِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوَقَعَ التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ .

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ أَمْرُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ حَتَّى يَمْتَنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الصَّوَّاغِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ مَعَ أَنَّهُنَّ كُنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ السِّتْرِ الشَّرْعِيِّ وَالدِّينِ الْمَتِينِ وَكَذَلِكَ الصَّوَّاغُونَ إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِضِدِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّوَّاغِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْبَيَّاعِينَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ الْغَالِبُ أَنَّ النِّسَاءَ هُنَّ اللَّاتِي يُبَاشِرْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَلْ تَجِدُ الْمَرْأَةَ فِي الْغَالِبِ تَشْتَرِي لِزَوْجِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ لِبَاسِهِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْأُمُورِ حَتَّى يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَمَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ

اسْتِعْمَالُ الْبَخُورِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ فَيُبَخِّرُونَ بِهِ ثُمَّ يَتَخَطَّوْنَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَنْفُضُونَ عَلَيْهِ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُمْ الْعَيْنَ وَالْكَسَلَ وَالْوَعْكَةَ مِنْ الْجَسَدِ وَيَتَكَلَّمُ مِنْ يَرْقِي الْبَخُورَ بِكَلَامٍ لَا يُعْرَفُ وَلَعَلَّهُ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِيهِ الْعَدَسَ الْمُصَفَّى وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَالْبِدْعَةُ تَحَرِّيهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ تَشَوَّشَ هُوَ وَأَهْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْ ذَلِكَ صَبْغُهُمْ فِيهِ الْبَيْضَ أَلْوَانًا لِأَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَتَعَدَّى ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ إلَى أَنْ صَارَ الْمُقَامِرُونَ وَغَيْرُهُمْ يَلْعَبُونَ بِهِ جِهَارًا وَلَا أَحَدَ فِيمَا أَعْلَمُ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ .

وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ فِيهِ السَّلَاحِفَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الشَّيْطَانُ لَا يُطْرَدُ بِالِابْتِدَاعِ ، وَإِنَّمَا يُطْرَدُ بِالِاتِّبَاعِ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ وَفِيهِ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَغْبِيطُهُمْ بِدِينِهِمْ الْبَاطِلِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ أَعْنِي فِي تَعْظِيمِ مَوَاسِمِهِمْ يَقْوَى ظَنُّهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الثُّلْمَةِ مَا أَشَدَّ قُبْحَهَا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي النَّيْرُوزِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ مِثْلِهِ هُنَا إذْ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَنِ .

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ .

وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَلْيَقُ لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَوَامِّ النَّاسِ لَكِنْ تَجِدُ بَعْضَ الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى طَرَفِ عِلْمٍ ، أَوْ صَلَاحٍ ، أَوْ هُمَا مَعًا يُسَمُّونَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ تَعْظِيمٌ مِنْهُمْ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَفِي تَشَبُّهِهِمْ بِهِمْ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِمَوَاسِمِهِمْ وَتَغْبِيطٌ لَهُمْ بِدِينِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ بِسَبَبِ تَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِمَوَاسِمِهِمْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَفِي ذَلِكَ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ هُنَا .

لَكِنْ نُشِيرُ إلَى بَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْخَاصِّ ، وَمَا يُظْهِرُونَ فِيهِ مِنْ الْعَوْرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي سَحَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي أَمْسِهِ وَرَقَ الشَّجَرِ عَلَى أَنْوَاعِهَا حَتَّى الرَّيْحَانَ وَغَيْرَهُ فَيُبِيتُونَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَيَغْتَسِلُونَ بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ غَسْلِهِمْ وَيُلْقُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مَفْرِقِ الطَّرِيقِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُمْ الْأَمْرَاضَ وَالْأَسْقَامَ وَالْكَسَلَ وَالْعَيْنَ وَالسِّحْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِهِ تُصِيبُهُ تِلْكَ الْعِلَلُ وَيَنْتَقِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ إلَى مَنْ تَخَطَّاهُ مِنْ الْمَارِّينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ .

وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَصْدُهُمْ لِذَلِكَ مُحَرَّمًا إذْ فِيهِ قَصْدُ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حُفْرَةً أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهَا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } انْتَهَى فَأَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَصْدُهُمْ الْمُحَرَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } انْتَهَى وَهَؤُلَاءِ قَدْ قَصَدُوا الضَّرَرَ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ .

وَقَدْ أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَذًى وَمَعَ ذَلِكَ يَرْمُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِيُصِيبَهُمْ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } انْتَهَى عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّخْصَةُ فِي النُّشْرَةِ بِوَرَقِ الْأَشْجَارِ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَرَقَ فِي مَاءٍ يَغْمُرُهُ فَإِذَا أَصْبَحَ أَخَذَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَلَّ يَدَهُ مِنْهُ وَمَشَّاهَا عَلَى بَدَنِهِ هَذَا هُوَ النُّشْرَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَأَمَّا الْغُسْلُ بِهِ فَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا أَضَافُوا إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهِيَ لَا تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُرُوءَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ اكْتِحَالُهُمْ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالسَّذَابِ أَوْ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ يَكْتَسِبُ نُورًا زَائِدًا فِي بَصَرِهِ يَرَى بِهِ الْخِشَاش فِي طُولِ سَنَتِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُرْبَ الدَّوَاءِ فِيهِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْ

ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَشْتَكِي بِحَكَّةٍ فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ وَيَفْعَلُونَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً يَسْتَحْيِ مِنْ فِعْلِهَا أَهْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَيَعِيبُونَ عَلَى فَاعِلِهَا وَيَنْسُبُونَهُ إلَى عَدَمِ الْحَيَاءِ وَالْغَيْرَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يَتَعَرَّيْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى إنَّهُنَّ لَا يُبْقِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ السُّتْرَة بِالثِّيَابِ شَيْئًا لَا مِئْزَرًا وَلَا سَرَاوِيلَ ثُمَّ يَدَّهِنَّ بِالْكِبْرِيتِ وَيَقْعُدْنَ فِي الشَّمْسِ أَكْثَرَ يَوْمِهِنَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِنَّ بَرًّا وَبَحْرًا وَلَا يَسْتَحِينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ الرِّجَالِ أَيْضًا بِمَكَانٍ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَ آخِرُ النَّهَارِ دَخَلُوا فِي الْبَحْرِ وَاغْتَسَلُوا فِيهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْبَسُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَسْتَتِرُونَ كَأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرَ إلَيْهَا مِنْ كِلَيْهِمَا مُبَاحٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ يَخْرُجُ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَخَلَ الْحَمَّامَ فِي الْغَالِبِ فَاغْتَسَلَ فِيهِ ، أَوْ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُسْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نُشْرَةٌ حَيْثُ كَانَ وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ الْمُسْتَهْجَنَةِ لَيْسَ فِيهَا أَقْبَحُ وَلَا أَشْنَعُ مِنْ هَذَا الْمَوْسِمِ الْمَذْكُورِ إذْ كُلُّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا عَدَمُ الْحَيَاءِ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ مَا جَرَى لَكِنْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ شَيْءٌ مِنْ السُّتْرَةِ بِخِلَافِ كَشْفِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ .

وَقَرِيبٌ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَنَاشِرِ أَعْنِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَغْسِلُونَ فِيهَا الثِّيَابَ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا نِسَاءٌ وَرِجَالٌ وَأَجَانِبُ .

وَالنِّسَاءُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَرِ الثِّيَابِ فَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ هُنَاكَ مَعَ زَوْجِهَا بَلْ هَذَا أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْعَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ

، وَمَا تَقَدَّمَ يُفْعَلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ .

وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالطَّمِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَالِهَا وَتَفْصِيلِ أَمْرِهَا إذْ أَنَّ الْأَقْلَامَ تُنَزَّهُ عَنْ كَتْبِ ذَلِكَ .

وَيُنَزَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ ذِكْرِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا بَيْنَهُمْ .

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهَا وَكَثُرَتْ .

وَقَلَّ مَنْ تَحْصُلُ لَهُ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ فَيُغَيِّرُ لِمَا تَدَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَوْ بِالْكَلَامِ وَإِشَاعَةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَائِلِ لَعَلَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُغَيِّرُونَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ إلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ كَأَنَّ الْجَمِيعَ شَرِبُوا مِنْ مَنْهَلٍ وَاحِدٍ .

فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى ذَهَابِ أَكْثَرِ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ لِكَثْرَةِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ وَمَنْ يَسْكُتُ عَمَّا أُحْدِثَ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي مُوَافَقَةِ النَّصَارَى فِي مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ أَخَفُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

لَكِنَّ اتِّخَاذَ ذَلِكَ عَادَةً بِدْعَةٌ ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ يَعْمَلْنَ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَصِيدَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا لِكَثِيرٍ مِنْهُنَّ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا ، أَوْ يَأْكُلْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْبَرْدُ فِي سَنَتِهِ تِلْكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا دِفْءٌ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ وَمَعَ كَوْنِ فِعْلِهَا بِدْعَةً فَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ مَا افْتَرَيْنَهُ مِنْ قَوْلِهِنَّ الْبَاطِلَ وَالزُّورَ فَكَأَنَّهُنَّ يَشْرَعْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ

فَصْلٌ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ .

وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ اغْتَسَلَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاسِ .

فَاِتَّخَذَ النَّصَارَى ذَلِكَ سُنَّةً لَهُمْ فِي كَوْنِهِمْ يَغْتَسِلُونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ حَتَّى الرَّضِيعُ فَتَشَبَّهَ بِهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَوْسِمًا .

أَعْنِي أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ النَّفَقَةَ وَيُدْخِلُونَ فِيهِ السُّرُورَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِأَشْيَاءَ يَفْعَلُونَهَا فِيهِ .

، وَهَذَا فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ فِي غَيْرِهِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَغْطِسُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَمَا يَغْطِسُونَ .

وَمِنْ أَشْنَعِ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ يَزِفُّونَ فِيهِ بَعْضَ عِيدَانِ الْقَصَبِ وَعَلَيْهَا الشُّمُوعُ الْمَوْقُودَةُ وَالْفَاكِهَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ .

وَبَعْضُهُمْ يُهْدِي ذَلِكَ لِلْقَابِلَةِ وَيَتَهَادَوْنَ فِيهِ بِأَطْنَانِ الْقَصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَصْلٌ فِي عِيدِ الزَّيْتُونَةِ وَمِنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحَدِ أَعْيَادِ الْقِبْطِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِيدَ الزَّيْتُونَةِ فَتَخْرُجُ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْمَطَرِيَّةُ إلَى بِئْرٍ هُنَاكَ تُسَمَّى بِئْرَ الْبَلْسَمِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ .

فَيَجْتَمِعُ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْغَالِبِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْقِبْطِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ يَأْتُونَ إلَيْهَا لِلْغُسْلِ مِنْ مَائِهَا .

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُهْرَعُونَ إلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُ النَّصَارَى وَيَغْتَسِلُونَ كَغُسْلِهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .

وَهَذَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَتَعْظِيمِ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَيَزِيدُ هَذَا أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ إلَيْهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَيَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ وَيَنْهَتِكُونَ فِيهِ كَغَيْرِهِ .

وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

لَكِنْ فِي هَذَا زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نَظَرُ الذِّمِّيَّةِ إلَى جَسَدِ الْمُسْلِمَةِ ، وَهُوَ حَرَامٌ وَقَدْ مَنَعَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .

هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مُبَاحًا فِعْلُهُ لَكِنْ فِي غَيْرِ وَقْتِ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ .

فَصْل فِي بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ آلَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ إفْطَارِهِنَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ قَدْرُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ .

وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ مُبْدِنَةً وَتَخَافُ أَنَّهَا إنْ صَامَتْ اخْتَلَّ عَلَيْهَا حَالُ سِمَنِهَا فَتَفْطُرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ يُفْطِرُهُنَّ أَهْلُهُنَّ خِيفَةً عَلَى تَغَيُّرِ أَجْسَامِهِنَّ عَنْ الْحُسْنِ وَالسِّمَنِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَعْدُ فَتَتْرُكُ الصَّوْمَ خِيفَةً عَلَى بَدَنِهَا أَنْ يَنْقُصَ وَكُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .

وَهَذَا الْفَعْلُ الْقَبِيحُ مَشْهُورٌ بَيْنَهُنَّ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا خَالَفْنَ الشَّرْعَ وَارْتَكَبْنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ بَيْنَهُمْ تَوْفِيقًا فِي الْغَالِبِ إذْ التَّوْفِيقُ إنَّمَا يَنْتُجُ عَنْ الِامْتِثَالِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ أَكْثَرَهُنَّ يَشْتَكِينَ وَيَبْكِينَ وَيُكَابِدْنَ الْهُمُومَ وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ وَيَأْكُلْنَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ الْمُشَاجَرَةِ أَوْ الْوُقُوفِ إلَى الْحُكَّامِ أَوْ هُمَا مَعًا وَكَشْفُ السِّتْرِ عَنْهُنَّ بِدُخُولِ الْأَجَانِبِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْدَارٍ وَوَكِيلٍ وَأَبٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إلَى مُنْتَهَاهُ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ خَاطِرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ الْيَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ الْبَيِّنِ التَّحْرِيمِ الَّذِي يَسْتَحِي الْمَرْءُ أَنْ يَحْكِيَهُ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ

يَرُدُّهَا إلَى الْعِصْمَةِ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ ثُمَّ يَرْجِعْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْمُضَارَرَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ ذَلِكَ لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَهُمَا آثِمَانِ مَا دَامَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَقَدَ لَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى جَزَاءً وِفَاقًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَالَةِ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكَانَ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مُعَجَّلَةٌ لَا مُؤَخَّرَةٌ وَهُوَ أَنَّ التَّجْرِبَةَ قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ فِي الْوَقْتِ وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ لِمَنْ خَافَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا وَأَمَّا خَوْفُ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ لِلْمُفْلِحِينَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَتَحَلَّلْنَ بِهِ رَجُلٌ مَعْلُومٌ فَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ تَتَحَلَّلُ بِهِ ثُمَّ تَأْتِي ابْنَتَهَا تَتَحَلَّلُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّهَا وَجَدَّتُهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحَلِّلِ وَطْءُ ابْنَةِ مَنْ تَحَلَّلَتْ بِهِ وَلَا أُمِّهَا وَلَا جَدَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .

فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ وَيُشَنِّعُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَيُقَبِّحُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَأْمُرُ مَنْ حَضَرَهُ بِإِشَاعَتِهَا لَانْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ وَقَلَّ فَاعِلُهَا

فَصْلٌ فِي صَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ ثُمَّ لَا تَقْضِي تِلْكَ الْأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا حَائِضًا وَيُعَلِّلُ بَعْضُهُنَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَصْعُبُ عَلَيْهِنَّ فِي حَالِ كَوْنِ النَّاسِ مُفْطِرِينَ .

وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهَا آثِمَةٌ وَأَنَّ قَضَاءَ مُدَّةِ الْحَيْضِ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا .

وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ إذَا جَاءَهَا الْحَيْضُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَتَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ تَمَادِي الدَّمِ بِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي لَا يُصَامُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالصِّيَامُ فِيهِ وَاجِبٌ وَيُجْزِئُ .

وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ .

وَمِنْهُنَّ مَنْ تَصُومُ مُدَّةَ الْحَيْضِ وَتَقْضِيهَا بَعْدَهُ وَفَاعِلَةُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ آثِمَةٌ فِي صَوْمِهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا مُصِيبَةٌ فِي الْقَضَاءِ بَعْدَهُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ لَكِنَّهُنَّ يُجَوِّعْنَ أَنْفُسَهُنَّ فِيهِ فَتُفْطِرُ إحْدَاهُنَّ عَلَى التَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ الثَّوَابَ ، وَهَذَا بِدْعَةٌ وَهِيَ آثِمَةٌ فِي التَّدَيُّنِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا حَالُهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي رَمَضَانَ كَحَالِهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي صَوْمِ بَعْضِهِنَّ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى زَعْمِهِنَّ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ مِنْهُنَّ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ إلَّا أَنَّهُنَّ اتَّخَذْنَ ذَلِكَ عَادَةً حَتَّى لَوْ أَمَرْت إحْدَاهُنَّ بِالصَّلَاةِ يَعِزُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَتَقُولُ أَعَجُوزًا رَأَيْتنِي فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الشَّابَّةِ وَالْفَرْضُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ طَعَنَ مِنْهُنَّ فِي السِّنِّ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى

وَإِيَّاكَ أَيَّ نِسْبَةٍ بَيْنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الصَّوْمِ حَتَّى صَامَتْ أَيَّامَ حَيْضَتِهَا وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَبِهَا قِوَامُهُ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْ الْوَطْءِ مَعَهُ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَطَأَ فِيهِ .

وَهَذَا افْتِرَاءٌ وَكَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .

وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ وَالْغَبَرَةَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ أَيْضًا .

وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ جَوَازَ وَطْءِ الْمَرْأَةِ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَقَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ ، وَهَذَا شَنِيعٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْهُنَّ الدَّمُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَطْأَهَا فَقَالَ تَعَالَى { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ }

فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ أَسْبَابِ السِّمَنِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُسْتَهْجَنًا قَبِيحًا جَمَعَ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الرَّذَائِلِ : أَحَدُهُمَا : مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .

الثَّانِي : إضَاعَةُ الْمَالِ .

الثَّالِثُ : الصَّلَاةُ بِالنَّجَاسَةِ .

الرَّابِعُ : كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ اتَّخَذَ عَادَةً مَذْمُومَةً وَهِيَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَتَتْ إلَى فِرَاشِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَعَشَّتْ وَمَلَأَتْ جَوْفَهَا فَتَأْخُذُ عِنْدَ دُخُولِهَا الْفِرَاشَ لُبَابَ الْخُبْزِ فَتُفَتِّتُهُ مَعَ جُمْلَةِ حَوَائِجَ أُخَرَ فَتَبْتَلِعُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ إذْ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهِ لِكَثْرَةِ شِبَعِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَرُبَّمَا تُعِيدُ ذَلِكَ بَعْدَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَهِيَ قَدْ زَادَتْ فِي عَشَائِهَا حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مَوْضِعًا لِسُلُوكِ الْمَاءِ فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ يُرِيدُ السِّمَنَ مِنْهُنَّ ، وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ .

وَذَلِكَ مِمَّا يُحْدِثُ الْأَمْرَاضَ وَالْعِلَلَ وَالْأَسْقَامَ ضِدَّ مُرَادِهَا .

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ وَلَدَهُ أَكَلَ وَزَادَ عَلَى أَكْلِهِ الْمُعْتَادِ فَمَرِضَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَهَذَانِ وَجْهَانِ أَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، أَمَّا مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ فَلِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لَا ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا

يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } انْتَهَى .

وَأَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الشِّبَعِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ إذْ أَنَّهُ يُفْعَلُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ .

وَقَدْ أَدَّى الْأَمْرُ بِسَبَبِ تَعَاطِي السِّمَنِ إلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ فَظِيعٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَأْكُلْنَ مَرَارَةَ الْآدَمِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ اسْتَعْمَلَهَا مِنْهُنَّ يُكْثِرُ أَكْلَهَا وَقَلَّ أَنْ تَشْبَعَ فَتَسْمَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِنَّ .

وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .

الثَّالِثُ : أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَعْبِلْنَ بِكَثْرَةِ السَّمْنِ وَالشَّحْمِ حَتَّى أَنَّ يَدَهَا لَتَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ لِغَسْلِ مَا عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ مَا تَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنْ عَبَالَةِ الْبَدَنِ وَهُنَّ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ مَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَتُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ إذْ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى زَوَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .

الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ تَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُزِيلُهُ عَنْهَا فَتَقَعُ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .

وَقَدْ لَا تَكْفِيهَا الْجَارِيَةُ الْوَاحِدَةُ فَتَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ فَتَزِيدُ الْمُحَرَّمَاتُ بِكَثْرَةِ مَنْ يَكْشِفُ عَوْرَتَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ لَوْ صَلَّتْ وَالنَّجَاسَةُ مَعَهَا لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهَا ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ مُؤَكَّدٌ أَمْرُهُ ثُمَّ إنَّهُنَّ يَرْتَكِبْنَ مَعَ ذَلِكَ أَمْرًا قَبِيحًا مُحَرَّمًا أَقْبَحَ وَأَشْنَعَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ اعْتَدْنَ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَنَظَّفُ مِنْ النَّجَاسَةِ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا فَتُنَظِّفُ مَا تَصِلُ إلَيْهِ بِالْمَاءِ مَعَ يَدِهَا

وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ثُمَّ أَنَّهَا إنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ لِقِصَرِ يَدِهَا كَمَا سَبَقَ وَتَوَلَّى غَيْرُهَا مِنْهَا ذَلِكَ احْتَاجَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي دَاخِلِ فَرْجِهَا لِيَغْسِلَ لَهَا مَا هُنَاكَ مِنْ الْأَذَى ، وَهَذَا قُبْحٌ عَلَى قُبْحٍ وَذَمٌّ عَلَى مَذْمُومَاتٍ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ اشْتِغَالُ النِّسَاءِ بِالنِّسَاءِ وَلَوْ كَانَتْ صَائِمَةً أَفْطَرَتْ بِذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا بِهَا .

الْخَامِسُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي إسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِيَامُ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ فِي الْغَالِبِ فَتُصَلِّي جَالِسَةً وَهِيَ الَّتِي أَدْخَلَتْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا .

اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى شَنَاعَةِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْ زَادَ فِي أَكْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ هَذَا حَالُهُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ الْحَالُ فِيمَنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً حَتَّى وَصَلَ بِهِ السِّمَنُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سِيَّمَا وَهِيَ إذَا وَقَعَ لَهَا مَرَضٌ أَوْ مَوْتٌ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي جَلْبِ ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ بِهَا السِّمَنُ إلَى أَنْ يَصِلَ الشَّحْمُ إلَى قَلْبِهَا فَيُطْغِيَهَا فَتَمُوتَ بِهِ وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهَا فَيُشَوِّشُ عَلَى الدِّمَاغِ فَيَذْهَبَ عَقْلُهَا وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى عَيْنِهَا فَيُعْمِيهَا فَتَكُونُ هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا .

وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا تَعَاطِي مَا ذُكِرَ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ إذْ هُوَ

عَرَى مِنْ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَزِيدَ حُسْنُهَا فِي زَعْمِهَا وَيَغْتَبِطُ الرَّجُلُ بِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ السِّمَنَ فِيهِ يَقْبُحُ وَتَعَاطِي ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ مِنْ الرِّجَالِ أَقْبَحُ وَأَقْبَحُ .

وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } } انْتَهَى .

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ السِّمَنُ فِيهِ خِلْقَةً لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ فَلَا حَرَجَ إذًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فِي شَيْءٍ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَهَا .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْءَ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهِ إلَّا وَيَتَضَرَّرُ وَيَضْعُفُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَادَ عَلَى الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ زِيَادَةً بَيِّنَةً فَإِنَّ الْقُوَّةَ تَضْعُفُ بِحَسَبِ مَا زَادَ ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مُجَرَّبٌ فَالْخَيْرُ لِلْقَالَبِ وَالْقَلْبِ وَلِلدِّينِ وَلِلْمُرُوءَةِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلرُّوحِ وَلِلسِّرِّ إنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُوَافَقَةِ سُنَّتِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الشِّبَعِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُحْدِثُ ضِدَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُسْنِ وَهُوَ الْقُبْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا مَضَى .

ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُنَّ فِي ارْتِكَابِهِنَّ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي الْحُسْنِ وَتَغْتَبِطُ الرِّجَالُ بِهِنَّ ثُمَّ يَفْعَلْنَ مَا يَحْدُثُ لَهُنَّ ضِدَّ ذَلِكَ وَهُوَ أَكْلُهُنَّ لِلطَّفْلِ وَالطِّينِ وَذَلِكَ يُحْدِثُ عِلَلًا فِي الْبَدَنِ مِنْهَا صُفْرَةُ الْوَجْهِ

وَتَفَتُّحُ الْفُؤَادِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ الَّتِي يَطُولُ تَتَبُّعُهَا وَهُوَ مِمَّا يُذْهِبُ لَوْنَ الْبَدَنِ وَعَافِيَتَهُ وَيُضْطَرُّ مَعَهَا إلَى أَخْذِ الْأَدْوِيَةِ مَعَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَكْلِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .

فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ إنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ .

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْإِبَاحَةِ يَحْدُثُ مَا ذُكِرَ .

وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَا يَتَسَبَّبُ فِيمَا يَضُرُّ بَدَنَهُ أَوْ عَقْلَهُ نَقَلَ مَعْنَاهُ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ أَعْنِي فِي تَحْلِيلِ ذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ .

وَنَقَلَ ابْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُ التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إفْطَارِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جِهَارًا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مِثْلَ بَعْضِ التَّرَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا آكَدُ وَأَوْجَبُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْغَالِبِ لَا يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ بَيِّنٌ لَيْسَ فِيهِ تَأْوِيلٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إمَّا مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ وَهَؤُلَاءِ يُفْطِرُونَ وَلَيْسُوا بِمَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ أَلَمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ أَوْ يَتَوَضَّأَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إذَا كَانَ فِي عُضْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَكَانَ الْوَاجِبُ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ مَسَحَ مَا تَعَذَّرَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُعْرَفُ فِي مَذْهَبِهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُجْمَعُ بَيْنَ غَسْلِ مَا صَحَّ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ إلَّا عُضْوٌ وَاحِدٌ أَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَلْبَتَّةَ فَيَتَيَمَّمُ وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّيَمُّمَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِقِلَّةِ إشَاعَةِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ فِي الْغَالِبِ مَحْجُوبٌ عَنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَوَّابِينَ وَالنُّقَبَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ تَنْظِيفَ الْبَيْتِ وَكَنْسَهُ عَقِيبَ سَفَرِ مَنْ سَافَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ

بَعْدَ خُرُوجِهِ وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ إنْ فُعِلَ لَا يَرْجِعْ الْمُسَافِرُ .

وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مَعَهُ إلَى تَوْدِيعِهِ فَيُؤَذِّنُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثَتْ بَعْدَهَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَذْكُرُ النَّاسُ أَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ أَوْ لَمْ تُفْعَلْ يَجْرِي فِيهَا مِنْ الْأُمُورِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدْعَةِ فَعُومِلُوا بِالضَّرَرِ الَّذِي هُمْ يَتَوَقَّعُونَهُ وَقَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَكْرُوهَاتِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ فَكَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أُمِرُوا بِهِ جَزَاءً وِفَاقًا .

وَمِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَا تَكْتَالُ الْقَمْحَ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَلَا تَحْضُرُ مَوْضِعَهُ لِأَجْلِ حَيْضِهَا ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَا يَغْسِلُ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الدَّوَاءُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَبِدَعٌ أَخْتَرَعْنَهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ نَرْجِعُ لِذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَالِمُ فِي تَصَرُّفِهِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ فِي حَمْلِ سِلْعَتِهِ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ ذَلِكَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالْأَحْكَامِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الدُّرُوسِ وَيَسْتَدِلُّ وَيُجِيزُ وَيَمْنَعُ وَيَكْرَهُ فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ صَبِيًّا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ عَجُوزًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .

وَفِي السُّوقِ الْيَوْمَ مَا قَدْ عُهِدَ وَعُلِمَ مِنْ جَهْلِ أَكْثَرِ الْبَيَّاعِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ فِي سِلَعِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَفِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا جُمْلَةً .

فَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوهًا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِيهِمَا إنْ كَانَ لَحْمُ الْبَقَرِ الْيَوْمَ فَهُوَ مُمَكَّسٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شِرَائِهِ إلَّا مِنْ الْمَكَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِإِعَانَةِ الْمَكَّاسِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا إذْ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ ضَمِنَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ لَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ وَفَسَدَ عَلَى الْمَكَّاسِ مُرَادُهُ .

هَذَا إنْ كَانَ شِرَاؤُهُ فِي غَيْرِ النَّيْرُوزِ .

وَأَمَّا فِي النَّيْرُوزِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِشِرَاءِ لَحْمِ الْبَقَرِ مُطْلَقًا لِزِيَادَةِ تَعْظِيمِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى زَعْمِهِمْ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِمْ فِي النَّيْرُوزِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي مَا يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ اللَّحْمَ وَالدُّهْنَ أَكْثَرَ مِنْ الْقَمْحِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ الْقَمْحَ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَالْجَهَالَةُ فِي ذَلِكَ حَاصِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ وَزْنُ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ وَلَا كَمْ وَزْنُ الْقَمْحِ لِإِمْكَانِ إعْطَاءِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْهَرِيسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إذْ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْقَمْحَ صَارَا مَعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَلَا أَقَلَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَكِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ جِهَةِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ سَلِمَ اللَّحْمُ مِنْ

الْمَكْسِ فَهِيَ جَائِزَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّصَارَى فَيُحَذِّرُ الْعَالِمُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَالِمُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ صَارَ هَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَتَرَاهُمْ يَوْمَ النَّيْرُوزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْهُمْ بِالزُّبْدِيَّةِ فِي يَدِهِ لِشِرَاءِ الْهَرِيسَةِ وَمِنْ فَاتَتْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ فَاتَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَشْتَرِي الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْوِعَاءِ وَعَايَنْته أَخَذْته مِنْهُ جِزَافًا إذْ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجِزَافَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَمَّا أَنْ دَخَلَهُ الْوَزْنُ قَبْلَ شِرَائِهِ مِنْهُ جِزَافًا انْتَفَتْ الْجَهَالَةُ لِعِلْمِهِمَا بِحَمْلَتِهِ وَزْنًا وَبَقِيَتْ الْجَهَالَةُ وَالْمُغَابَنَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِغْرَفَةَ الَّتِي بِيَدِهِ يَعْلَمُ بِهَا مِقْدَارَهُ وَزْنًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَغْرِفَ لَهُ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ لَحْمِ السَّمِيطِ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَالشِّوَاءُ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ .

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُوَهَا مِنْ الدَّمِ انْتَهَى .

تَعْنِي بِتِلْكَ الصُّفْرَةِ فَضْلَةَ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ غَيْرُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُمْ الْيَوْمَ يَذْبَحُونَ فَيَخْرُجُ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فَتَتَخَبَّطُ الذَّبِيحَةُ فِيهِ وَيَمْتَلِئُ رَأْسُهَا وَبَعْضُ جِلْدِهَا .

فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ذَبَائِحُ جُمْلَةٌ أَلْقَوْا ذَلِكَ فِي دَسْتٍ وَاحِدٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْلِي فَيَحِلُّ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ كُلَّهُ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَكَيْ يُنْتَفَ لَهُمْ الصُّوفُ وَهُوَ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْتَلِئَ الْأَعْضَاءُ الْبَاطِنَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ مَعَ أَنَّ حَلْقَهَا مَفْتُوحٌ وَدُبُرَهَا فَتَدْخُلُ النَّجَاسَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا أَخَذُوا الصُّوفَ وَعَلَّقُوا الذَّبِيحَةَ فِي مَوْضِعٍ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ النَّجَاسَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُطَهِّرُونَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتُمَسُّ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتَجْمُدُ فِي بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ وَالْمَسَامِّ فَيَبْقَى مُتَنَجِّسًا فِي الشَّاهِدِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ ثُمَّ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَبِيعُونَهُ فِيهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ مَاءً قَرَاحًا لَكَانَ فِيهِ شَبَهُ مَا فِي

التَّطْهِيرِ فَكَيْفَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ فِي الْغَالِبِ تَرَاهُ مُتَغَيِّرًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا .

وَالشِّوَاءُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَمِيطٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَوَامُّ النَّاسِ لَكَانَ مَذْمُومًا وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيُرْسِلُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بَلْ يُبَاشِرُ بَعْضُهُمْ شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ أَمْرٌ لَكَانَ يُغَيِّرُهُ بِأَيْسَرَ شَيْءٍ إذْ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ فِي أَنْ يَغْسِلُوا الْمَنْحَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُدْلُونَهُ فِي الدَّسْتِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً لَوَجَبَ فِعْلُهَا لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَاهُلِ فِي ارْتِكَابِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ إلَّا أَنَّهَا عَادَةٌ اُتُّخِذَتْ وَوَقَعَ التَّسَامُحُ فِيهَا لِغَفْلَةِ بَعْضِ مَنْ غَفَلَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ لَهُمْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ .

وَهَذَا بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْضَ الْكَثِيرَ إذَا صُلِقَ وَوُجِدَتْ فِيهِ بَيْضَةٌ فِيهَا فَرْخٌ فَإِنَّ الْبَيْضَ كُلَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَا يُؤْكَلُ إذْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مَعَ أَنَّ قِشْرَةَ الْبَيْضِ لَيْسَ لَهَا مَسَامُّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ فَمَا بَالُك بِاللَّحْمِ الَّذِي بَاشَرَ الدَّمَ الْعَبِيطَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ غَسْلِهِمْ لَهُ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَهُ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ

أُخْرَى وَهِيَ مِمَّا تَعُمُّ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَذْبَحُونَ فِيهِ مُسْتَدْبَرٌ فَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ ذَبْحُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَمِنْ تَعَمَّدَ الذَّبْحَ إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ بِسَبَبِ تَرْكِهَا ، وَسَبَبُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا تَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكُ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ مَبْدَأِ أَمْرِهَا فَاسْتَحْكَمَتْ الْمَفَاسِدُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ فَيُطْعِمُونَ النَّاسَ الطَّعَامَ الْمُتَنَجِّسَ وَأَجَازُوا بَيْعَهُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالسُّكُوتِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ .

أَمَّا الْعَامَّةُ فَبِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَبِالْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ فِي هَذَا كَبِيرُ أَمْرٍ .

وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ خُصُوصًا عَلَى أَرْبَاب الْأُمُورِ وَعَلَى مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ .

ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ التُّرَابَ الَّذِي يَسُدُّونَ بِهِ التَّنُّورَ الَّذِي فِيهِ الذَّبَائِحُ بِالْمَاءِ الَّذِي صَارَ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ فَيَتَنَجَّسُ التُّرَابُ بِهِ إنْ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَيُضِيفُونَ نَجَاسَةً إلَى مِثْلِهَا فَإِذَا أَحَسَّ بِحَرَارَةِ النَّارِ عَرِقَ وَقَطَرَ مِنْهُ عَلَى الشِّوَاءِ وَغَيْرِهِ مَا يُنَجِّسُهُ ظَاهِرًا أَنْ لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَكَيْف وَبَاطِنُهُ مُتَنَجِّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَكَذَلِكَ يَقْطُرُ فِي نَفْسِهِ هُوَ وَالشِّوَاءُ عَلَى الْجَذَّابَةِ الَّتِي تَحْتَهُ فَتَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ مُتَنَجِّسًا ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ مَرْئِيٌّ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَهُ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .

وَكَذَلِكَ تَعَدَّتْ هَذِهِ النَّجَاسَةُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَذْبَحُونَ الدَّجَاجَ وَغَيْرَهُ وَيَأْتُونَ بِهِ إلَى الْمَسْمَطِ

فَيُدْلُونَهَا فِي الْمَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ .

وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ آخَرُ اتِّفَاقًا وَهُوَ إضَاعَةُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عُمِلَ بِتِلْكَ الدَّجَاجَةِ الْمَسْمُوطَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّمِيطِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ أَوْ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ أَوْ عِنْدَ الطَّبَّاخِينَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُتَنَجِّسًا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَيَجِبُ غَسْلُ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا نِيئًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ مَكَان أَوْ وِعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ النَّجَاسَةُ مِثْلُ السُّمِّ يَعْنِي فِي سُرْعَةِ سَرَيَانِهَا وَأَنْتَ تَرَى ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَطْهِيرِهِ ، وَاللَّحْمُ وَالْأَطْعِمَةُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَا بَيْعُهَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ اللَّحْمَ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا عُمِلَ فِيهِ وَلَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِهِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَرُدُّهُ الشَّاهِدُ ؛ لِأَنَّك إذَا عَمِلْت اللَّحْمَ فِي مَاءٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ مِلْحٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ أَوْ فُلْفُلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ تَجِدُ طَعْمَهُ فِي اللَّحْمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي قَلْبِ الْقِطْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ .

فَإِنْ قِيلَ إنَّ طَعْمَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا بَعْدَ النُّضْجِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي اللَّحْمِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ يَغْلِي فَقَدْ سَرَى إلَى بَاطِنِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ سَوَاءٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ

عَلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ مَا أُلْقِيَ فِيهِ .

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ قَدْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ بَعْدَ نُضْجِهِ وَطَبْخِهِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْمَسَامِّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ سَحْنُونَ فِي زَيْتُونِ مِلْحٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَضِجَ فِي الْمِلْحِ فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَلَا يُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ نُضْجِهِ ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللَّحْمِ سَوَاءٌ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَدَّعِي الِاضْطِرَارَ إلَى اسْتِعْمَالِ السَّمِيطِ وَالشِّوَاءِ لِوَصْفِ طَبِيبٍ لِمَرِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ إذْ أَنَّ لَحْمَ الْمَاعِزِ مَوْجُودٌ لِلْأَصِحَّاءِ نِيئًا وَمَشْوِيًّا ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ سَلِيخًا لَا سَمِيطًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ السَّمِيطِ إنْ جُعِلَ مَعَهُ فِي التَّنُّورِ أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ أَوْ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ التَّنُّورُ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ لَحْمَ الضَّأْنِ الصَّغِيرِ السَّلِيخِ مَوْجُودٌ أَيْضًا .

وَأَمَّا لَحْمُ السَّمِيطِ الطَّاهِرِ فَمَوْجُودٌ لِلْمَرْضَى وَلِمَنْ احْتَاجَهُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الشِّوَاءَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسْلِمِينَ فِي سِمْطِ ذَلِكَ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ أَجْدَرَ وَأَوْلَى فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ أَنْ يَمْتَازَ الْيَهُودُ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلرَّشَادِ بِمَنِّهِ .

فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَنَاوَلَهُ بِهِ مِثْلُ الْجَزَّارِ يَكُونُ عِنْدَهُ سَلِيخٌ أَوْ سَمِيطٌ فَإِنَّهُ إذَا مَسَّ السَّمِيطَ بِيَدِهِ أَوْ سِكِّينِهِ تَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ الْمَوْضِعُ

الَّذِي يَكُونُ فِيهِ وَاللَّحْمُ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ أَوْ سِكِّينُهُ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا مِنْ السَّمِيطِ وَبَعْضُ مَنْ يَحْتَرِزُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ السَّمِيطِ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ إلَى الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ مَا يُطْبَخُ فِيهَا أَوْ يُؤْكَلُ فِيهَا فَظَهَرَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ كَالسُّمِّ لِسُرْعَةِ سَرَيَانِهَا .

وَأَمَّا الرُّءُوسُ فَهِيَ جَائِزَةٌ إذَا سَلِمَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي السَّمِيطِ وَقَدْ جُمِعَتْ الْمَفَاسِدُ الَّتِي فِي السَّمِيطِ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الْمَكْسُ الَّذِي اُخْتُصَّتْ بِهِ دُونَ السَّمِيطِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُكَّاسِ وَالْأَكَارِعُ كَذَلِكَ تَنْجِيسُهَا وَمَكْسُهَا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا النَّقَانِقُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا لِلْجَهَالَةِ بِمَا فِي بَاطِنِهَا .

هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَشُقَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى دَاخِلَهَا كُلَّهَا وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ إذَا رَأَى وَاحِدَةً مِنْهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهَا وَأَخَذَ الْبَاقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْخُشْكِنَانِ .

هَذَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا ، وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْعُهَا بَعْدَ نُضْجِهَا ، وَأَمَّا إنْ كَانَ يَبِيعُهَا نِيئَةً وَيَزِنُهَا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَقْلِيهَا لَهُ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السَّمَكِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ مَقْلُوًّا بَعْضَ قَلْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نِيئًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَلِكَ فَفِيهِمَا وُجُوهٌ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَلَاهُ لَهُ بَعْدَ وَزْنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَعْرِفُ كَمْ وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْيِ فَهُوَ مَجْهُولٌ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ الدُّهْنَ الَّذِي قَلَاهُ لَهُ بِهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ .

الثَّالِثُ : مَا أَوْقَدَ بِهِ تَحْتَهُ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ .

الرَّابِعُ : أُجْرَةُ قَلْيِهِ مَجْهُولَةٌ .

الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَمِلُوا عَلَيْهِ الدَّقِيقَ كَثِيرًا لَمْ يُعْلَمْ كَمْ وَزْنُ الدَّقِيقِ وَلَا كَمْ وَزْنُ السَّمَكِ الَّذِي يُؤْخَذُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَوْ قَلَاهُ لَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ إذْ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ قَبْلَ الْقَلْيِ وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنْ الْمَوَانِعِ فَكَيْفَ يُرْتَكَبُ ذَلِكَ .

وَالتَّوَصُّلُ إلَى أَكْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ شَرْعًا سَهْلٌ يَسِيرٌ بِأَنْ يُنْضِجَهُ الْبَائِعُ بِالْقَلْيِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ لِلْمُشْتَرِي وَزْنًا أَوْ جِزَافًا بِشَرْطِ أَنْ

يَكُونَ الدَّقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرًا مُحْتَاجًا إلَيْهِ .

وَأَمَّا الْكُبُودُ فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ لَكَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهَا .

وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَا هُوَ مُمَكَّسٌ وَيُسْتَغْنَى بِغَيْرِهِ عَنْهُ مِثْلَ النَّشَا وَالسِّمْسِمِ الْمَقْشُورِ وَلَحْمِ الْجَمَلِ وَلَحْمِ النَّعَامِ وَأَمَّا اللِّسَانُ الْبَلَدِيُّ وَالْقُدُورُ الْبَلَدِيَّةُ وَالْكِيزَانُ الْبِيضُ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ فَكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُحَرَّمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ .

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ اتَّصَفَ بِتَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صُورَةَ الْمَكْسِ أَنْ يَحْتَكِرَ شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ سِلَعًا لَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ مَنْ يَخْتَارُهُ أَوْ يَخْتَارُونَهُ وَإِنْ كَثُرُوا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا السِّلْعَةَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ ، وَالظُّلْمُ هُوَ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ فَعَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْ شِرَائِهِ وَلَا بَيْعِهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إعَانَةٌ انْتَهَى .

وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا يُرْضِيهِ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ .

وَأَمَّا الْمَنْفُوشُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا اشْتَرَى الْفَطِيرَ عَلَى حِدَةٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَاللَّطُوخُ مِثْلُهُ .

وَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ مُخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اللَّطُوخِ أَكْثَرَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّطُوخِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُغَابَنَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ بِالْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَمْ وَزْنُ الْفَطِيرِ وَلَا كَمْ وَزْنُ اللَّطُوخِ .

وَالْبِيَاعَاتُ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ وَجُزَافٌ ، وَهَذَا غَيْرُ مَكِيلٍ وَقَدْ اشْتَرَاهُ عَلَى الْوَزْنِ وَأَخَذَهُ مَجْهُولًا وَلَوْ أَخَذَهُ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ بَعْدَ تَعْيِينِ ذَلِكَ لَهُ لَمُنِعَ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَعْرِفُ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ اللَّطُوخِ غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْمُحَبَّبَة وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا بَيْعُ الْفُقَّاعِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا وَذَلِكَ إذَا صَبَّ مَا فِي الْكُوزِ فِي وِعَاءٍ وَعَايَنَهُ الْمُشْتَرِي وَعَلِمَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ .

وَأَمَّا عَلَى مَا يَبِيعُونَهُ الْيَوْمَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ .

الْأَوَّلِ أَنَّ كُوزَ الْفُقَّاعِ مِنْ الْأَوَانِي الَّتِي نُهِيَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا مِثْلُ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ لِسُرْعَةِ التَّخْمِيرِ الَّذِي يَسْرِي إلَيْهَا بِسَبَبِ سَدِّ مَسَامِّهَا وَكُوزُ الْفُقَّاعِ كَذَلِكَ وَقَدْ يَبِيتُ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَفَقَّدُهُ وَقَدْ يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّخْمِيرُ فَيَشْتَرِيهَا الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتْ خَمْرًا هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَسُدُّ فَمَ الْكُوزِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ فَقَدْ يَكُونُ فَمُهُ لَمْ يُسَدَّ كُلُّهُ فَيَنْزِلُ مَا فِي الْكُوزِ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ فَيَظُنُّهُ مَلْآنًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ ، وَهَذَا مِنْهَا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُك وَالْمُشْتَرِي قَدْ اشْتَرَيْت أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلُوهُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بَيْنَهُمَا .

وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إذَا فَرَغَ مَا فِي الْكُوزِ وَعَايَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ مَوْضِعِ سُؤْرِ الْكُفَّارِ مَكْرُوهٌ وَالْفُقَّاعُ يَشْرَبُهُ النَّصْرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَكُونُ فَمُهُ مُتَنَجِّسًا فَيُنَجِّسُهُ وَقَدْ لَا يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ مَلْئِهِ ثَانِيًا ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْلِمُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ .

وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْفُقَّاعِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُشْبِهُهُ ، مِثْلُ السِّقَاءِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْقُونَ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمَنْ تَعَافُهُ النُّفُوسُ ، مِثْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُمَّ يَأْتِي غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَصِحَّاءِ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا فَقَدْ عَرِيَ عَنْ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا جُزَافٍ إذْ أَنَّ الْجُزَافَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا مَحْزُورًا يُحِيطُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ ، وَهَذَا غَائِبٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ وَلَا يَأْخُذُهُ حَزْرٌ فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَقَّرَاتِ وَغَيْرَهَا فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ سَوَاءٌ إلَّا مَا اُغْتُفِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهَا وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى فَتْوَى مُفْتٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ فَيَأْنَسُ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ فَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ بِسَبَبِ اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاءُ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَشِرَاءُ الْخُبْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وَزْنًا أَوْ جُزَافًا .

وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ فَيَجِدُهُ يَشِحُّ عَنْ الْوَزْنِ فَيُخْرِجُهُ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَيُعْطِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَيَدْفَع لَهُ عِوَضًا عَمَّا نَقَصَ مِنْ وَزْنِهِ كِسْرَةً جُزَافًا فَقَدْ خَرَجَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ وَزْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ نَاقِصًا وَلَا قَدْرَ الْكِسْرَةِ الَّتِي دَفَعَهَا إلَيْهِ جُزَافًا فَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَخَذَ مَجْهُولًا وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ فَلَوْ زَادَ الْكِسْرَةَ أَوْ الْخُبْزَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى حَقَّقَ كَمَالَ الْوَزْنِ لَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ رَجَحَ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَفَّى لَهُ الْوَزْنَ وَدَفَعَ لَهُ الْكِسْرَةَ جُزَافًا لَجَازَ وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي وَزْنِ الْخُبْزِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مَجْهُولًا خَاصًّا بِهِ بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي أَكْثَرِ الْبِيَاعَاتِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي الْخُبْزِ مِنْ الْمَحْذُورِ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ الثَّمَنَ مِنْ حِلِّهِ وَيَأْكُلُهُ حَرَامًا بِتَصَرُّفِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَةِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ شِرَاءِ الْمَائِعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى يَتَدَيَّنُونَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا هِيَ دَمُ الْحَيْضِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ طَاهِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يَبُولُ فِي دُكَّانِهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَائِعَ وَغَيْرَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُطَهِّرُهَا ، وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ الْمَقْلُوُّ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ لَهُ حَتَّى قَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ النَّجَاسَةِ يَقِينًا فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا مَكْرُوهٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَغْسِلَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ شِرَاءَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لَوْ كَانَ طَاهِرًا بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُمْ مَنْفَعَةً لَهُمْ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَحَقُّ بِالنَّفْعِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِإِعَانَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ .

وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ أَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبُلْدَانِ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَسْوَاقِهِمْ صَيَارِفَةً وَجَزَّارِينَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَرَى لِلْوُلَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا فِي ذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ .

قَالَ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْصِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ دِينِهِمْ مَجْزَرَةً عَلَى حِدَةٍ وَيُنْهَوْنَ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُمْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ لَا يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْيَهُودِيِّ مِثْلَ الطَّرِيفَةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ فَيُفْسَخُ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى .

وَالطَّرِيفَةُ هِيَ مَا يُوجَدُ مِنْ الرِّئَةِ مَلْصُوقَةً بِالشَّحْمِ .

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي

تَذْكِيَتِهِمْ لِهَذِهِ وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَالشُّحُومِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ .

فَحَكَى اللَّخْمِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا : قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَقِيلَ لَا يُؤْكَلَانِ وَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ انْتَهَى .

فَإِذَا تَرَكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَاشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشِّرَاءِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرُونَ الْخِرَقَ مِمَّنْ يَجْمَعُهَا مِنْ الطُّرُقِ وَالْكِيمَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مِنْ أَثَرِ مَنْ يُعَافُ أَثَرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ .

وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ سِيَّمَا الصَّلَاحِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ هُوَ أَنْظَفُ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ النَّظَافَةَ وَالْوَضَاءَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْوَضِيءِ فَالْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبْلِيَّاتِ وَالدِّكَكِ الْمُسْتَدِيمَةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَقْعُدُ فِي طَرِيقِهِمْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَمُرَّ فِي حَاجَتِهِ أَوْ يَقِفَ قَدْرَ ضَرُورَتِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ دُكَّانٌ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَا سِيَّمَا وَالطُّرُقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ ضَاقَتْ عَنْ الطَّرِيقِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَمُرَّ جَمَلَانِ مَعًا مُحَمَّلَانِ تِبْنًا فِي الطَّرِيقِ لَا يَمَسُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حَدِّ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ وَإِلَى مَا عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي وَقْتِ مُنْصَرَفِ النَّاسِ إلَى الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ أَوْ إلَى تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ بِالطَّبْلِيَّاتِ عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ فَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَهُمْ إلَى بَيْتِ رَبِّهِمْ فَهُمْ غَاصِبُونَ لِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .

وَكُلُّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْغَصْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُمْ فِي الْإِثْمِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْحَبْلَقَةِ فَإِنَّهُ يَنْضَافُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ مِنْهَا تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي السِّقَاءِ وَالْفُقَّاعِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمِلْعَقَةَ الَّتِي يَغِطُّهَا لِلنَّاسِ لَا يَرُدُّ عَنْهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ كَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّغِيرِ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللِّفْتَ وَاللُّوبِيَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهِمَا النَّشَادِرَ

حَتَّى يَخْضَرَّا بِذَلِكَ وَهُوَ نَجِسٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ غَيْرُهُمَا مِنْ الْمَائِعَاتِ فَكُلُّ مَا يُبَاشِرُهُ مِنْهَا تَنَجَّسَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَمِنْ بَابٍ أَحْرَى إذْ أَنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ فَضْلًا عَمَّا يَعْمَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَقَاعِدِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ فَشَا هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ حَتَّى قَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ يُكْرِي تِلْكَ الْمَقَاعِدَ الَّتِي تَلِي بَيْتَهُ أَوْ مِلْكَهُ أَوْ مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أُجْرَةَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَضِيَا مَعًا بِذَلِكَ فَالشَّرْعُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْمَقَاعِدِ لَيْسَ إلَّا بَلْ كُلُّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بُدٌّ كَهَذِهِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِهَا مَسَاطِبَ يَقْطَعُونَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَةً عَنْ حَوَانِيتِهِمْ قَدْ ضَاقَ الطَّرِيقُ بِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى مَا كُلِّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ وَغَفْلَةُ مَنْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَ الشِّرَاءُ مِنْ الْمُكَّاسِ مَوْجُودٌ فِي الشِّرَاءِ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إذْ أَنَّهُ لَوْ تَحَامَى الْمُسْلِمُونَ الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ غَصْبِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَنَزَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ ،

وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ غَصْبِهِمْ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْخٌ مِنْ الصُّلَحَاءِ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ يُعَظِّمُهُ لِخَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ لَيَّسَ جِدَارَ بَيْتِهِ بِالطِّينِ مِنْ الْخَارِجِ فَتَرَكَهُ الْإِمَامُ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَيْهِ أَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ وَرَحَّبَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا فَسَأَلَ الشَّيْخُ أَصْحَابَ الْإِمَامِ عَنْ سَبَبِ إعْرَاضِهِ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّك لَيَّسْت جِدَارَ بَيْتِك بِالطِّينِ مِنْ خَارِجِ فَجَاءَ الشَّيْخُ إلَى الْإِمَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ مُوجِبِ هِجْرَانِهِ لَهُ فَأَخْبَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ لِي ضَرُورَةٌ فِي تَلْيِيسِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي حَقِّ الْمَارِّينَ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ : ذَلِكَ غَصْبٌ فِي طَرِيقِهِمْ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ الْيَسِيرُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَفْعَلُ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تُزِيلَ التَّلْيِيسَ وَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَ الْجِدَارَ وَتُدْخِلَهُ فِي مِلْكِك قَدْرَ التَّلْيِيسِ فَتَبْنِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تُلَيِّسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْإِمَامُ حَتَّى امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ كَمَا قَالَ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِجَانِبِ قَمْحٍ قَدْ سَنْبَلَ فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَدَهُ عَلَى السُّنْبُلِ ثُمَّ نَزَعَهَا فِي الْوَقْتِ فَرَآهُ الشَّيْخُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَمْحِ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيرُ : يَا سَيِّدِي أَلَيْسَ السُّنْبُلُ قَدْ وَقَفَ

كَمَا هُوَ وَمَا ضَرَّهُ مَا فَعَلْت بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَّ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَفَعَلُوا مَا فَعَلْت أَكَانَ يَرْقُدُ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ لَهُ لَك فِي ذَلِكَ حِصَّةٌ مِنْ الظُّلْمِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ حَتَّى اسْتَحَلَّ مِنْهُ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَرَكَةِ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي زَمَانِهِمْ كَيْفَ يَتَلَقَّوْنَهَا بِهَذَا التَّلَقِّي الْحَسَنِ الْجَمِيلِ .

فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَوَادُّ تَنْحَسِمُ أَوْ يَقِلُّ فَاعِلُهَا وَلَكِنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَعَدَمَ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ لَهُمْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَزَايِدًا وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ .

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَبْصِرَتِهِ : وَأَمَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الدِّيَارِ مِنْ الرِّحَابِ وَالشَّوَارِعِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهَا إلَى دَارِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ وَبِأَهْلِ الْمَوَاضِعِ مُنِعَ ، وَإِنْ فَعَلَ هُدِمَ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ .

فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يُهْدَمُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ اقْتَطَعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْنِيَتِهِمْ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِكِيرِ حَدَّادٍ بِالسُّوقِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ وَقَالَ تُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ .

وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَشَاحُّوا فِي الطَّرِيقِ فَسَبْعَةُ أَذْرُعٍ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى .

فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ .

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ إنْ قَدَرَ خِيفَةً مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلِوُجُوهٍ أُخْرَى نَذْكُرُ بَعْضَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةً جَلِيَّةً لِغَيْرِ الْعَالِمِ فَكَيْفَ لِلْعَالِمِ .

فَمِنْهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَيَنْوِي بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ التَّوَاضُعِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَنِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي جُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ .

أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَفَ لِجَرِّ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنْتَ تَرَى كَثْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُعَامِلُ الْآخَرَ فَيَشْتَرِي مِنْهُ السِّلَعَ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ ثُمَّ إنْ أَعْوَزَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَمَنَ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَامِلْهُ مَا أَقْرَضَهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ السِّلْعَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ لَتَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُقْرِضُهُ ثَمَنَ ذَلِكَ إلَّا بِكُرْهٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً .

وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِثْلُ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَفِ وَالصَّرْفِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يُبَاشِرُهُمْ فِي ذَلِكَ انْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْمَفَاسِدِ وَقَلَّ وُقُوعُهَا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَهُمْ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَرْكَ

التَّكَبُّرِ وَتَرْكَ التَّجَبُّرِ وَتَرْكَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ إذْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْأَسْوَاقَ وَحَمَلَ سِلْعَتَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ .

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ إلَى السُّوقِ فِي خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا النَّبَطَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِهِ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَعَذَلَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ السُّوقَ ، فَقَالَ لَهُ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَغْنَانَا عَنْ الْأَسْوَاقِ بِمَا فَتَحَ بِهِ عَلَيْنَا ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَيَحْتَاجَنَّ رِجَالُكُمْ إلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُكُمْ إلَى نِسَائِهِمْ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَأَى النَّبَطَ يَقْرَءُونَ الْعِلْمَ يَبْكِي إذْ ذَاكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْعِلْمَ إذَا وَقَعَ لِغَيْرِ أَهْلِهِ يَدْخُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَنْتَ تَرَاهُ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا لِمَا فِيهِ السَّدَادُ بِمَنِّهِ .

وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنْ إرْشَادِ الضَّالِّ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالسَّلَامِ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّوقِ إنْ شَاءَ سِرًّا ، وَإِنْ شَاءَ جَهْرًا فَالسِّرُّ فِيهِ فَائِدَةٌ كُبْرَى وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْرُ فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلنَّاسِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ وَحَدُّ الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمِنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِحَيْثُ إنَّهُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ وَيُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّلْحِينَ وَالتَّرْجِيعَ ، وَذَلِكَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحَدُّ السِّرِّ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ بِمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَيَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

ثُمَّ يُصَلِّي

عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ التَّامَّةَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ هَذَا السُّوقِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الِامْتِثَالِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا .

وَالْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ مِنْ شِعَارِ الصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .

قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ يَخْرُجُونَ إلَى السُّوقِ وَيَقْعُدُونَ فِيهِ انْتَهَى .

وَمَا سُمِّيَ السُّوقُ سُوقًا إلَّا لِنَفَاقِ السِّلَعِ فِيهِ فِي الْغَالِبِ وَأَكْبَرُ سِلَعِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَطْلُبُ رِبْحَهَا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَإِرْشَادُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ فِي الْغَالِب مَوْجُودٌ فِي الْأَسْوَاقِ لِكَثْرَةِ وُجُودِ إخْوَانِهِ فِيهَا وَفِيهِمْ الْعَالِمُ بِمَا يُحَاوِلُهُ وَالْجَاهِلُ بِذَلِكَ .

أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الْأَسْوَاقِ يَتَّجِرُونَ وَفِي حَوَائِطِهِمْ يَعْمَلُونَ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِحَقِّ الْعِلْمِ وَنَقْصٌ لِحُرْمَةِ الْعَالِمِ وَاسْتِهَانَةٌ بِقَدْرِهِمَا وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُونَ فِي الْغَالِبِ وَبَذْلُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا سُئِلَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَالِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ وَتَرْكَ التَّعْلِيمِ مِنْ الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ

فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّلَطُّفِ لَهُمْ وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ ، وَالتَّعْلِيمُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ بَيَانًا مِنْ غَيْرِهَا لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَعًا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ الْبَائِعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ فِي السِّلَعِ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَعَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ حَتَّى يُسْأَلَ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ تِلْكَ لَا تَجُوزُ فَغَيَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .

وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنَّ يُغَيِّرَ عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ سَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْأَلَ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ مِرَارًا قَبْلَ الْإِلْقَاءِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بَعْدَهُ كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ فَأَلْقَى إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ } .

وَحِكْمَةُ تَنْبِيهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثًا أَعْنِي حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ قَدْرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الِاعْتِقَادِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَحَلُّ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ كَرَّرَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ كَرَّرَ مَا نَاسَبَهُمَا وَمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ أَمْرُهُ يَكْتَفِي فِيهِ مِنْ التَّنْبِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَنْ عَقَلَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ يَزِيدُ لَهُ فِي التَّنْبِيهِ حَتَّى يَعْقِلَ .

وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَالْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ .

وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ وَبَيَّنَهُ وَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى } وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ الْأُمَّةُ إلَى هَلُمَّ جَرًّا .

أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِلْإِمَامِ الطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا أَنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِيَحُجَّ فَلَمَّا أَنْ حَجّ وَرَجَعَ وَجَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ شَاغِرَةً مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي مَسْأَلَةٍ جِهَارًا وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمْسِكَ فِي يَدِهِ كِتَابًا لِغَلَبَةِ الْأَمْرِ مِنْ السَّلْطَنَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِبِدْعَةٍ كَانَتْ فِيهِمْ تَدَيَّنُوا بِهَا فَلَمَّا أَنْ رَأَى الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَالَ وَدَّعَ رَفِيقَهُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَرْسَلَ السَّلَامَ إلَى وَلَدِهِ بِالْمَغْرِبِ ، وَقَالَ : هَذِهِ بِلَادٌ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا لِمَا غَلَبَ فِيهَا مِنْ

الْجَهْلِ فَجَعَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ بَيَّاعٍ فَيُعَلِّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَفَرَائِضِ وُضُوئِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ ، وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُهُ وَغُسْلُهُ وَصَلَاتُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ فَيُعَلِّمُهُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَكَيْفِيَّةَ تَعَاطِيهِ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَكَيْفِيَّةَ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِ وَالسَّلَامَةَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ عَلِّمْ جَارَك ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى دُكَّانٍ آخَرَ حَتَّى قَامَ الْعِلْمُ عَلَى مَنَارِهِ وَزَالَ الْجَهْلُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَكَانَ السَّبَبَ لِانْتِشَارِ الْعِلْمِ وَظُهُورِهِ فِي الْأَسْوَاقِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يُطْلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا غَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِبَرَكَةِ التَّوَاضُعِ وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّلَفِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ وَمُرَاجَعَةِ الْعَوَامّ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .

فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْعِلْمِ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ النَّاسُ مُعْرِضِينَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ الْمُكَرَّمَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَتَّبِعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ إذْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ عِنْدَهُمْ إرْشَادُ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ أَوْ ضَالٍّ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ فَيَرُدُّونَهُمْ إلَى بَابِ مَوْلَاهُمْ وَيُوقِفُونَهُمْ عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِهِ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَأْتِينِي إذْ لَا

حَاجَةَ لَهُمْ بِي وَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمْ وَإِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ هُوَ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَأَرُدَّهُ إلَيْهِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ قَعَدَ فِي السُّوقِ ، وَلَمْ يَأْتِ الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ سِيَاسَةُ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَتَّى يُوقِفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِيَّةِ الْعُلَمَاءِ إذَا صَلُحَتْ كَيْفَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا مَعَ الْبَاعَةِ وَمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْبُعْدِ وَالْجَهْلِ فَيَرُدُّونَهُمْ بِالْعِلْمِ إلَى أَسْنَى الْأَحْوَالِ وَأَرْفَعِهَا لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُبَارَكِ انْتَفَعُوا وَنَفَعُوا وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ مَعَ أَنَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَعْدَمْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ إذْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمَغْرِبِ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ بُعْدُ الزَّمَانِ وَلَا مُخَالَطَةُ غَيْرِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ فَانْتَفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ كَافَّةَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ .

وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } وَفِي رِوَايَةٍ تَعْيِينُ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ } .

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ } فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَ الْخَيْرُ مُتَّصِلًا وَبِسَبَبِ وُجُودِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ارْتَدَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَلَّ ظُهُورُهَا وَأَهْلُهَا وَنَزَلَتْ

الْبَرَكَاتُ وَجَاءَتْ الْخَيْرَاتُ وَبَقِيَ النَّاسُ فِي خَفَارَتِهِمْ مَحْمُولِينَ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ عَكْسُ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَقْتِ فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُلُوكِ فِي الْبَوَّابِينَ وَالْحُجَّابِ وَمَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الطَّرَّادِينَ حَتَّى قَلَّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَتَحَيَّلُونَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِوَسَائِطَ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ وَهَذَا الْحَالُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ الْيَوْمَ الشُّرُودُ عَنْ الْعِلْمِ وَالنُّفُورُ عَنْ أَهْلِ الْخَيْرِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْهِمَمِ لِغَيْرِ سَبَبٍ فَكَيْفَ بِهِمْ إذَا وَجَدُوا السَّبَبَ وَيَعْسَرُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ السُّؤَالِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ فَيَقَعُ الْفِرَارُ وَالشُّرُودُ أَكْثَرُ فَكَانَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ جَمِيعُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فِي ذِمَّةِ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا مَنَعَهُمْ بِهِ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ .

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ فِعْلِ الْعَالِمِ فِي السُّوقِ وَأَدَبِهِ فَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ فَيَضَعُ بَصَرَهُ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ قَدَمَهُ وَيَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ رَفْعِ بَصَرِهِ لِئَلَّا يَقَعَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ رُؤْيَتُهُ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا رَفَعَهُ إلَّا وَيَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إذْ أَنَّ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ نِسَائِهِمْ الْجُلُوسُ فِي الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ ، وَذَلِكَ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالطَّرَقَاتِ فِي الْغَالِبِ .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ .

وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ ، فَقَالَ الصَّبِيُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ يَا سَيِّدِي أَمَا تَخَافُ أَنْ تَقْعُدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى السُّقُوطِ ، فَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ خَشَبَةٌ مَكْسُورَةٌ فِي سَقْفِهِ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ مَا أَكْثَرَ فُضُولَك لِي الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا رَأَيْت سَقْفَهُ وَأَنْتَ مِنْ حِينِك رَأَيْته أَوْ كَمَا قَالَ وَقَدْ مَكَثَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت لَهُمْ مُحِبًّا إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فَيَتَأَكَّدُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ اللَّغَطِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ، إذْ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ

الْمُسْلِمِينَ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ وَزِيَارَةِ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالدِّينُ أَهَمُّ .

وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِهَا إنْ وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا .

وَقَدْ يَجِدُ بَعْضُهُمْ فِي سُوقِهِ فَتَحْصُلُ لَهُ النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ إنْ وَجَدَهَا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَا عَلَى وُضُوءٍ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِسِلَاحِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ غَالِبًا .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَ عِدَّةً تَكُونُ مَعَهُ إذْ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ شَاةً أَوْ غَيْرَهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهَا مَا يَذْبَحُهَا بِهِ فَيُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا .

وَقَدْ يَجِدُ دَابَّةً قَدْ انْخَنَقَتْ بِحَبْلٍ فَيَقْطَعُهُ بِمَا مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلَةِ فَإِنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ هَذَا حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ .

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِنِيَّةِ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ جُيُوشِهِمْ وَمَا يَجْرِي لَهُمْ فَيُسَرُّ لِخَيْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَنْهُمْ وَيَحْزَنُ لِضِدِّهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ .

وَكَذَلِكَ يَسْأَلُ عَمَّنْ غَابَ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيُسَرُّ وَيَحْزَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْوَاقِعِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا عَمَلٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا خَرَجَ وَلَيْسَ السَّلَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ

الْآخَرِ .

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فَكَانُوا مُشْتَغِلِينَ فِي خَيْرٍ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيهِ ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي خَرْجِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ثُمَّ يَسْتَعِيذُ فَيَقُولَ ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلُ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ثُمَّ يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ خُرُوجِهِ فَإِنْ كَانَ لِلسُّوقِ طَرِيقَانِ فَلْيَخْتَرْ أَقْرَبَهُمَا يَمْشِي فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخُطَى الزَّائِدَةَ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا وَكَوْنُهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْخُطَى الزَّائِدَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيحُ بَدَنَهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ .

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ الْمَشْيِ فِي ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِ بَعْضِهِمْ فِيهَا بَلْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ فَإِنَّ فِيهَا السَّلَامَةَ ، وَإِنْ بَعُدَتْ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَنْ يَتَرَبَّصَ قَلِيلًا فِي الْبَيْتِ حَتَّى يُفَكِّرَ أَهْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِكَيْ يَكُونَ مَشْيُهُ إلَى السُّوقِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَوَائِجَ أُخَرَ فَيَحْتَاجَ أَنْ يَتَكَرَّرَ إلَى السُّوقِ مِرَارًا فَيَكُونَ ذَلِكَ ضَيَاعًا لِلْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ حُضُورِ الْأَسْوَاقِ فَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَى السُّوقِ بَعِيدَةً يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ لِبُعْدِهَا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ ، وَإِنْ قَرُبَ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ التَّوَاضُعِ ، فَإِذَا رَكِبَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْت عَلِيًّا أُتِيَ لَهُ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي

الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَك إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْت ، فَقَالَ { إنَّ رَبَّك لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ } انْتَهَى .

وَيَعْتَبِرُ عِنْدَ رُكُوبِهِ عَلَيْهَا إذْ أَنَّ الدَّابَّةَ لَا تَحْمِلُ نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَحْمِلُ غَيْرَهَا { إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } فَالْأَرْضُ مُمْسَكَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ إمْسَاكِ نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُمْسِكُ غَيْرَهَا فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا النَّظَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَيَشْهَدُ بِذَلِكَ رُؤْيَةَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ وَاسِطَةٍ فَيَقْوَى بِذَلِكَ إيمَانُهُ وَيَقِينُهُ وَيَرْجِعُ لَهُ الْإِيمَانُ حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَالًا ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَمْشِيَ بِالدَّابَّةِ عَلَى رِفْقٍ وَلَا يُزْعِجُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ } .

وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَصَّلُونَ بِذَلِكَ إلَى سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ مَعَ تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ .

ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ لِلْمُكَارِي فَيَشْتَرِطُ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمُكَارِيَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الْعَنِيفِ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى قِرْطَاسًا فِي سِكَّةِ الطَّرِيقِ

رَفَعَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يُقَبِّلْهُ وَلَا يَضَعْهُ عَلَى رَأْسِهِ إذْ إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ فَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا فَقَدْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لِذَلِكَ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ الْوَرَقَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النَّشَا ، وَإِنْ قَلَّ ، وَكَذَلِكَ يَنْوِي إذَا وَجَدَ خُبْزًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ مِمَّا يُؤْكَلُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يُقَبِّلُهُ تَحَرُّزًا مِنْ الْبِدْعَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَهُ الْقَمْحُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَعْمَلُ عَمَلًا حَتَّى يَلْتَقِطُوا مَا وَقَعَ مِنْ الْحَبِّ عَلَى الْبَابِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَهَذَا الْبَابُ مُجَرَّبٌ كُلُّ مَنْ عَظَّمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الشِّدَّةُ بِالنَّاسِ جَعَلَ اللَّهُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت ذَا حَزْمٍ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ أَنْ يَحْمِلَ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبَهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَالِامْتِثَالِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَأَحَدٌ يَمْشِي مَعَهُ إلَى السُّوقِ

أَنْ يُرْدِفَهُ خَلْفَهُ لِيَكْمُلَ لَهُ امْتِثَالُ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَاضُعُ فَيُذْهِبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِمَّنْ يَتَحَامَى ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى مَنْ يَحْمِلُ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْحَوَائِجِ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِهِ أَنْ يَحْمِلَ بِلَا أُجْرَةٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْرَارُ قَسَمِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَحْلِفَ بَعْدُ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ خَوْفًا أَيْ يَتَعَجَّلُ أَجْرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا .

وَكَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَحَرَّزُونَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرًا وَقَدْ رَأَيْت الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ التِّنِّيسِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ تِلِمْسَانَ وَكَانَ فَاضِلًا فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَعَطِشُوا وَاشْتَدَّ عَطَشُهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَاءٌ فَرَأَوْا عِمَارَةً فَجَاءُوا إلَيْهَا يَطْلُبُونَ الْمَاءَ فَإِذَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَهَبَ فَأَتَى بِلَبَنٍ فِيهِ سُكَّرٌ فَأَعْطَاهُ لِلشَّيْخِ لِيَشْرَبَ فَأَبَى عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ وَلِمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهٍ حِلٍّ ؟ فَقَالَ لَهُ ؛ لِأَنَّك قَرَأْت عَلَيَّ وَلَا يُمْكِنِّي أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا لِئَلَّا أَتَعَجَّلَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَقْضِي حَاجَةً مِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ، وَذَلِكَ خِيفَةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَرَجَ إلَى السُّوقِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي وَقْتٍ فَأَخَذَ جُمْلَةَ حَوَائِجِهِ فَأَشْغَلَ يَدَيْهِ مَعًا فَنَزَلَ الْبَيَّاعُ مِنْ الدُّكَّانِ

وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَعْطَاهُ شَيْئًا حَمَلَهُ لَهُ ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ الْبَيَّاعُ رُؤْيَا رَآهَا فَسَكَتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا سَيِّدِي أَمَا تُعَبِّرُهَا لِي ، فَقَالَ لَهُ لَا يُمْكِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتَ تَحْمِلُ لِي شَيْئًا فَيَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً عَلَى الْعِلْمِ فَرَغَّبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ حَاجَتَهُ يَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ فَمِنْ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي تَعْبِيرِ تِلْكَ الرُّؤْيَا أَعْطَاهُ حَوَائِجَهُ فَحَمَلَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَبَّرَ لَهُ رُؤْيَاهُ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى تَحَرُّزِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِيهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ مُتَيَقِّظًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْهُ إرْشَادٌ مَا أَوْ تَعْلِيمٌ مَا فَيَتَحَفَّظُ مَنْ هَذَا جَهْدَهُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ .

فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ إمَّا لِضَعْفٍ مِنْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ شَغْلٍ مَعَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ الضَّرُورِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالنِّيَابَةُ إذْ ذَاكَ لَهُ أَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي وَقْتِهِ إذْ أَنَّ إلْقَاءَ الْعِلْمِ لِأَهْلِهِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ تَوَالَتْ بِهِ الْأَشْغَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ إحْيَاءِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي الْخُرُوجَ إلَى السُّوقِ وَلَوْ مَرَّةً فِي وَقْتٍ مَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ عَلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وَطْءِ الْأَعْقَابِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا خَرَجُوا مَعَهُ إلَّا

لِضَرُورَةِ تَعْلِيمِهِمْ وَخَرَجَ هُوَ لِإِظْهَارِ سُنَّةٍ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا كَلَامُ الْبَشَرِ ، نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ .

وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَشْيِ مَعَهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ فِتْنَةِ وَطْءِ عَقِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا مِنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ فَتَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوْلَى بِهِ أَوْ يَخْرُجُ لِفِعْلِهَا وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَقْضِي لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُحَاوَلَةِ مَا خَرَجَ إلَيْهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا يُكْرَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ .

فَجُمْلَةُ مَا تَحْصُلُ فِي خُرُوجِهِ إلَى السُّوقِ مِنْ النِّيَّاتِ وَالْآدَابِ يَنُوفُ عَنْ خَمْسِينَ خَصْلَةً وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِمَا عَدَاهَا فَلْيَتَنَبَّهْ مَنْ يَتَنَبَّهُ مِمَّنْ يُوَفَّقُ لِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْجَمِيعَ بِمَنِّهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ إلَى الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ بِهِ إلَى السُّوقِ وَمَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ .

وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَجَدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ النُّورِ وَالْحُضُورِ

فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ وَمِنْهُ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ وَالتَّعَلُّمُ مِنْ عَالِمِهِمْ وَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِي خُطَاهُ إلَى الْخَلْوَةِ وَإِذَا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى أَهْلِهِ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَلَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إلَّا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْتِ الْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الْفَضَلَاتِ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ حِينَ الدُّخُولِ إلَى الْبَيْتِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ ( اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ) ثُمَّ يَتَعَوَّذُ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلَى آخِرِهَا .

وَيَنْوِي حِينَ دُخُولِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يَنْوِي بِذَلِكَ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ لِسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَطْشِهِ وَسَعْيِهِ وَحَسَدِهِ وَبَغْيِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ بَابِ رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ أَسْوَأَ ظَنًّا بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَمَّا انْعَزَلَ فِي خَلْوَتِهِ عَنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت لِسَانِي كَلْبًا عَقُورًا قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مَنْ خَالَطَهُ فَحَبَسْت نَفْسِي لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَآفَتِهِ .

وَفِي هَذِهِ النِّيَّاتِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا أَنَّهَا

تَحْتَوِي عَلَى عَدَمِ الدَّعْوَى وَعَلَى عَدَمِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ فَبِنَفْسِ هَذِهِ النِّيَّةِ تَنْدَفِعُ كُلُّهَا وَفِي الْخَلْوَةِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ تَحْصُلُ لَهُ دُونَ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ حَالِ الْمُرِيدِ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُ بِالْجَمِيعِ بِمَنِّهِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْوِيَ بِالْخَلْوَةِ سَلَامَتَهُ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاءٌ عُضَالٌ وَالْعَطَبُ فِيهِ مَوْجُودٌ إذْ أَنَّ فِيهِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِغَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا حِينَ رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بَعْضُ ذَلِكَ هُنَا زِيَادَةَ تَنْبِيهٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ، فَإِنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا خَرَجَ إلَيْهِ فَلَا يَعُودُ إلَى السُّوقِ وَيَتْرُكُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَخَافُ فَوَاتَ أَمْرٍ ، مِثْلُ مَرِيضٍ يَحْتَاجُ إلَى فَصَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غِذَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَهْمَا أَعْوَزَهُمْ شَيْءٌ يُقْضَى لَهُمْ تَكْثُرُ حَوَائِجُهُمْ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ وَقْتُهُ فَإِذَا عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً جَمَعُوا لَهُ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا فِي خُرُوجِهِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَإِذَا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَبَنِيهِ فَأَجْرُ الْخَلْوَةِ حَاصِلٌ لَهُ ، فَإِنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ مَعَ عِلْمِهِمْ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ ، وَإِنْ عُمِلَتْ فِي الْجَهْرِ وَهِيَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ إذَا مَرَّ التَّالِي بِسَجْدَةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي

سِرِّهِ فَيَسْجُدُ لَهَا بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ صَائِمًا فَدُعِيَ إلَى طَعَامٍ ، فَقَالَ إنِّي صَائِمٌ ، وَإِذَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ يَعْمَلُ عَمَلًا وَهُمْ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَا عَنْ الْخَلْوَةِ .

أَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ إذَا مَرَّ بِسَجْدَةٍ يَسْجُدُ لَهَا فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ إذْ أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ وَالرِّيَاءُ مَمْنُوعٌ فِعْلُهُ .

وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إذَا خَافَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ دَعَاهُ حَتَّى يُرْفَعَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ فَلَوْ كُلِّفَ أَنْ لَا يَعْمَلَ الْعَمَلَ إلَّا بِغَيْبَتِهِ عَنْهُمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَفَتْحُ بَابٍ لِتَرْكِ الْعَمَلِ ، لَكِنْ إذَا أَرَادَ جَمْعَ خَاطِرِهِ وَقَدَرَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْأَهْلِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي يُخِلُّ بِحَالِهِ الِاجْتِمَاعُ .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي لِفَضِيلَةِ عَمَلِ السِّرِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ أَوْ مَنْ يُفَرِّقُ خَاطِرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ انْتَهَى .

وَأَمَّا أَهْلُ التَّمْكِينِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَّرَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَرَمُوهُ كَثِيرًا فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَخْتَارُونَ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَسْمَعُ مَا نَقُولُ ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ تَنْصَرِفُ هِمَّتُهُ لِرُؤْيَةِ الْأَوْلَادِ مُمَازَجَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ .

وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَفِي بَعْضِ

الْأَوْقَاتِ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَكَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْبُكَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ فَلَا أَسْمَعُهُ وَلَا أَعْرِفُ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِي وَبَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَشْعُرُ بِهِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا بِحَسَبِ الْحُضُورِ وَالتَّفْرِقَةِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي تِلَاوَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَعْضُ الْأَيَّامِ أُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَمَا يَجِيءُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ إلَّا وَأَنَا قَدْ خَتَمْت ، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحُضُورِ فَإِنْ كُنْت حَاضِرًا كَانَ ذَلِكَ وَبِحَسَبِ التَّفْرِقَةِ يَكُونُ الْبُطْءُ فِي الْخَتْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ لَا يَسْتَوِيَانِ ، فَعَلَى هَذَا فَالْخَلْوَةُ عَنْ الْأَهْلِ مُشْتَرَطَةٌ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ وَفِي وَقْتِ التَّفْرِقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَظَّهُمْ مِنْهُ فِي وَقْتِ مَا وَيُؤَاكِلُ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَجَوَارِيَهُ وَعَبِيدَهُ مِنْ صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ خَلَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ الْخَيْرِ مِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَالتَّوَاضُعُ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ هَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَمَلٌ لِدُخُولِهَا إلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ فَالْكَلْبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَفِي الْأَكْلِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ تَرْكُ رُعُونَةِ النَّفْسِ وَتَرْكُ رِيَاسَتِهَا وَالتَّعَاظُمِ وَالْفَخْرِ وَاتِّصَافِهَا بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَنَا مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ بِفَضْلِهِ أَجْمَعِينَ .

وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَلْوَةِ مَعَ وُجُودِ

الْأَهْلِ فَهُوَ عَلَى جَادَّةِ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ آدَابِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي الْمَسْجِدِ

أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَدْرَسَةِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لِضَرُورَةٍ مَا أَعْنِي لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهَا فَأَخْذُهُ الدَّرْسَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .

فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَالْأَدَبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْتَصُّ الْبَيْتُ بِبَعْضِ الْآدَابِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ فِي الْبَيْتِ تَتَأَكَّدُ ، فَمِنْهَا كَثْرَةُ تَوَاضُعِهِ لِلدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي تَلَقِّيهمْ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي إذْ أَنَّ الْبَيْتَ مَحَلُّ انْقِبَاضِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ لَهُمْ الْأُنْسَ وَإِلَّا كَانَ سَبَبًا لِانْقِبَاضِهِمْ أَوْ عَدَمِ مَجِيئِهِمْ أَوْ يَقِلُّ فَهْمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ أَوْ التَّعْلِيمِ أَوْ لِيَسْمَعَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْخَلِيفَةِ أَدْرَكْت الْعُلَمَاءَ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ انْتَهَى .

وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ ثَوَابَ الْعِلْمِ يَكْثُرُ بِانْتِشَارِهِ ، فَكُلَّمَا انْتَشَرَ زَادَ الثَّوَابُ لِمُعَلِّمِهِ وَحَصَلَ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ .

وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ بِهِ امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ذَهَبَ بَعْضُ ثَوَابِهِ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يُحْرَمَ الْخَاصَّةُ فَهْمَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَعَانِيهَا ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ نَوْعَ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَبُخْلٍ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقُوهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَحُرِمُوا الْفَهْمَ فِيهِ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي

الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } الْآيَةَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَبِّرِينَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوا فَائِدَتَهُ وَهِيَ الْفَهْمُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَبَقِيَ الْعَوَامُّ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ .

وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنَ مَشْهُورًا مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِهَارِهِ سَبَبٌ لِقِلَّةِ انْتِشَارِ الْعِلْمِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ كَتْمٍ لَهُ .

وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أَخْذِ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ حِسٌّ وَلَا كَلَامٌ خِيفَةً مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِهَا .

وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقَعَ الضَّرَرُ بِهِ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِ إذْ أَنَّ وَقْتَ الْإِذْن بَقِيَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ لَهُمْ .

وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ فِي أَثْنَاءِ الدَّرْسِ قَطَعَ وَقَامَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ .

فَإِذَا خَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَى الْمَسْجِدِ ظَهَرَتْ بِذَلِكَ الشَّعَائِرُ وَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ لَهُمْ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِمَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .

أَلَا تَرَى إلَى وَصَفَ الْوَاصِفُ لِبَعْضِ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ فَيَحْصُلُ لِلْعَالِمِ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعَالِمِ فِي الْبَيْتِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ طَلَبَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ يَحُوزُونَ بِهَا فَضِيلَةَ الِاجْتِمَاعِ لَكِنْ يَذْهَبُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ إذَا صَلَّوْا فِي الْبَيْتِ الْفَضَائِلَ وَالْأُجُورَ

الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً إذْ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِهِمْ فِي ذَلِكَ .

وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى تَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِهَا مِنْ الْجَمَاعَاتِ .

إذْ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدَمُونَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُمْ فِي الْبُيُوتِ فَيَجِدُونَ السَّبَبَ لِلْقُدْوَةِ بِالْعَالِمِ فِي تَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِهَا فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنَّهُ مَضْرُورٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ .

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى .

وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَافِظُونَ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا .

أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ يَتَهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ لِأَجْلِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِيَشْهَدَ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِنَامَ بَرَكَتِهِمْ وَالصَّلَاةَ مَعَهُمْ وَخَلْفَهُمْ إذْ الْغَالِبُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ .

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رَغْبَةً مِنْهُ فِي فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيه ، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى آخِرِ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ أَمَّا سَبْقِي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا انْتِقَالِي إلَى مَا سِوَاهُ فَلَعَلَّ أَنْ أُصَلِّيَ خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرَ لِي سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَغْفُورُ لَهُ إمَامًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ .

فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتِهِ .

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ أَعْتَقَ رَقَبَةً .

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ لِلْعَالِمِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ فِي الْبَيْتِ عَنْ الْمَسْجِدِ فَلْيَأْذَنْ لِمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعِيرَةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُمْسِكُهُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ وَيُصَلِّي هُوَ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إنْ أَمْكَنَ فَإِذَا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعُوا إلَيْهِ إنْ كَانَ بَقِيَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ إنْ شَاءُوا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَلَّى فَذَا فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَبْرَكُ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي إذْنِهِ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالشَّعِيرَةِ كَمَا سَبَقَ .

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةَ الْمُصَلَّيْنَ فِيهَا .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ فِي الْمَحَلَّةِ الْوَاحِدَةِ .

رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ جَعَلَ كُلَّمَا خَطَا خُطْوَتَيْنِ رَأَى مَسْجِدًا ، فَقَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ كُلَّمَا كَثُرَتْ الْمَسَاجِدُ قَلَّ الْمُصَلَّوْنَ أَشْهَدُ لَقَدْ كَانَتْ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ وَكَانَ أَهْلُ الْقَبِيلَةِ يَتَنَاوَبُونَ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ فِي الْحَيِّ مِنْ الْأَحْيَاءِ .

وَاخْتَلَفُوا إذَا اتَّفَقَ مَسْجِدَانِ فِي مَحَلَّةٍ فِي أَيِّهِمَا يُصَلَّى .

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي أَقْدَمِهِمَا .

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : وَكَانُوا يُجَاوِزُونَ الْمَسَاجِدَ الْمُحْدَثَةَ إلَى الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ انْتَهَى .

فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا انْسَدَّتْ

هَذِهِ الثُّلْمَةُ فَلَمْ يُوجَدْ تَعْطِيلٌ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ .

وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ .

وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ أَوْ يَغْتَرَّ بِبَعْضِ عَوَائِدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، وَذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يُزَعْزِعُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ لِلْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَيَنْتَظِرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُصَلِّيَ مَعَهُ الْفَرْضَ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ السِّيَاسَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ دُونَ خُرُوجٍ وَحَرَكَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ وَدُونَ مُخَالَطَةِ الْعَوَامّ ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فِي الْوَقْتِ وَخَشِيَ خُرُوجَهُ صَلَّى مَعَ أَهْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَإِلَّا صَلَّى فَذًّا ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْجِدُ عَلَى بَابِهِ أَوْ بِجِوَارِهِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا لَكَانَ الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَهْرَعُ إلَيْهِ حِينَ قَرَعَ سَمْعَهُ النِّدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَكْثَرَكُمْ أَجْرًا أَبْعَدُكُمْ دَارًا } مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْجَمَاعَةِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْبَرَكَاتِ وَالْكُنُوزِ فِي الْغَالِبِ لَا يُبَادِرُ إلَيْهَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُهَا .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ ثَلَاثًا .

رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلَمْ يُجِبْ .

} انْتَهَى .

ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ تَجِدُ الْجَامِعَ الْأَعْظَمَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ يَسْتُرُهُ عَوَامُّ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ ، وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ سَهْوٌ ، فَلَا يَجِدُ مِنْ يُسَبِّحُ لَهُ وَلَا مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ إنْ جَرَى

عَلَيْهِ أَمْرٌ يُحْوِجُهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِإِفْسَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ ، ثُمَّ إنَّك إذَا نَظَرْت إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } انْتَهَى ، وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْهُمْ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ إلَى آخِرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ مِنْهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ سَبْقًا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ أُمِيتَتْ وَتُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، لَكِنْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ قَائِمَةٌ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ ، فَإِنَّك تَجِدُ بِهَا الْمَسَاجِدَ مُصَانَةً مُرَفَّعَةً عَظِيمَةً لَا تُرْفَعُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ ، وَلَا تُدْخَلُ إلَّا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّرْتِيبِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ ، فَهُمْ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ .

وَلَهُمْ عَادَةٌ حَسَنَةٌ قَدْ مَضَى ذِكْرُهَا وَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ الصُّفُوفَ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ لَكِنَّ الَّذِينَ يَسْتُرُونَ الْإِمَامَ هُمْ أَكْثَرُ امْتِيَازًا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ ، وَهُمْ مَعْلُومُونَ قَلَّ أَنْ يَغِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَإِنْ غَابَ لِضَرُورَةٍ قَدَّمُوا مَوْضِعَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ ، فَيُصَلِّي الْإِمَامُ وَهُوَ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ ، إذْ أَنَّهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ حَرَكَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسْجِدِ لَرَأَيْته بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ ، وَقَدْ

لَا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَقَدَّمُهُ السَّجَّادَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

فَهَذَا بَعْضُ الْآدَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْعَالِمِ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ .

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ فَآدَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، لَكِنَّ الْمَسْجِدَ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَالْمَدْرَسَةُ لَهَا آدَابٌ تَخُصُّهَا سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، لَكِنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ لِمَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ ، بِخِلَافِ الْمَدْرَسَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي إلَيْهَا غَالِبًا إلَّا مَنْ قَصَدَ الْعِلْمَ أَوْ الِاسْتِفْتَاءَ فَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً فِي الِانْتِشَارِ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَكْثَرُ انْتِشَارًا مِنْهُ فِي الْبَيْتِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَدْرَسَةِ إلَّا لِأَجْلِ الْمَعْلُومِ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَتِلْكَ الْآدَابِ .

بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي إخْلَاصِ نِيَّتِهِ وَيَدْفَعَ الشَّوَائِبَ عَنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِالْمَعْلُومِ أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً } .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } انْتَهَى ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمَعْلُومُ دُونَ سُؤَالٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ

إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ .

هَذَا عَلَى جَادَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ فِيمَا وَصَفَ مِنْ تَعْلِيمِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَنْهُ الْمَعْلُومَ لَا يَتْرُكُ التَّعْلِيمَ وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَتَبَرَّمُ وَلَا يَتَضَجَّرُ ، بَلْ يَكُونُ فِي وَقْتِ قَطْعِ الْمَعْلُومِ أَكْثَرَ تَعْلِيمًا وَأَشَدَّ حِرْصًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُومُ قَدْ قُطِعَ عَنْهُ اخْتِبَارًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَرَى صِدْقَهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ بِهِ ، فَإِنَّ رِزْقَهُ مَضْمُونٌ لَهُ مُطْلَقًا لَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى .

قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِ طَالِبِ الْعِلْمِ } انْتَهَى ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ، لَكِنَّ حِكْمَةَ تَخْصِيصِ طَالِبِ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ أَنَّ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَمَا سَبَقَ ، فَجَعَلَ نَصِيبَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الدَّرْسِ وَالْمُطَالَعَةِ وَالتَّفَهُّمِ لِلْمَسَائِلِ وَإِلْقَائِهَا ، وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ .

وَهَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الْعُلَمَاءِ أَعْنِي فَهْمَ الْمَسَائِلِ وَحُسْنَ إلْقَائِهَا وَالْمَعْرِفَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ فِي تَعْلِيمِهَا ، كَمَا أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا أَشْيَاءُ أُخَرُ يَطُولُ تَعْدَادُهَا مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ هَذَا الْمَنْصِبَ الشَّرِيفَ مِنْ التَّرَدُّدِ لِمَنْ يُرْجَى أَنْ يُعِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْمَعْلُومِ أَوْ التَّحَدُّثِ فِيهِ أَوْ إنْشَاءِ مَعْلُومٍ عِوَضُهُ .

وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي مَدْرَسَةٍ فَانْقَطَعَ الْمَعْلُومُ عَنْهُ وَعَنْ طَلَبَتِهِ أَوْ

نُقِصَ مِنْهُ ، فَقَالُوا لِلْمُدَرِّسِ : لَعَلَّك أَنْ تَمْشِيَ إلَى فُلَانٍ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِتَجْتَمِعَ بِهِ عَسَى أَنْ يَأْمُرَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ ، فَقَالَ : نَعَمْ مِرَارًا إلَى أَنْ عَزَمُوا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَكْذِبَ هَذِهِ الشَّيْبَةُ عِنْدَهُ ، فَقَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنِّي أُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ أَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت فَأَقُولُ هَذَا وَأَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ مَخْلُوقٍ أَسْأَلُهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهِ لَا فَعَلْته فَلَمْ يَمْشِ إلَيْهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ قَطْعَ الْمَعْلُومِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُشْهِرُهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الضَّجَرِ وَقِلَّةِ الثِّقَةِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ إلَى اطِّلَاعِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَثِقُ بِرَبِّهِ فِي الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ هُوَ عَطَاءٌ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ عَلَى مَا وُصِفَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَالْقُرْبِ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِغْلَاقُ بَابِ الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ عَنْ الْعَامَّةِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ ، وَكَذَلِكَ الْبَوَّابُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِجَابٌ عَنْ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاخْتِصَاصٌ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَلْ يَفْتَحُ الْبَابَ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الدُّخُولَ كَمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا جُعِلَ الْبَوَّابُ لِأَجْلِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ إذَا دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ تَشَوَّشَ الْمَوْضِعُ وَكَشَفُوا عَوْرَاتِهِمْ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ ، وَقَدْ يَسْرِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَقْدَامِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ يَكْثُرُ لَغَطُهُمْ .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْبَوَّابَ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَ أَخْذِهِمْ الدَّرْسَ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنْ يَقْرُبَ مِنْ نَاحِيَةِ أَقْدَامِهِمْ ، وَإِنْ رَأَى أَحَدًا يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ نَهَاهُ وَزَجَرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَّخِذَ نَقِيبًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ الْيَوْمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي لَيْسَتْ لِمَنْ مَضَى ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَفِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ وَالْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ : إمَّا مُتَكَبِّرٌ فِي نَفْسِهِ مُتَجَبِّرٌ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهُ الِاتِّسَامُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُتَكَبِّرِينَ ،

وَإِمَّا رَجُلٌ جَاهِلٌ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ بِجَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ حَالَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي تَوَاضُعِهِمْ لَتَشَبَّهَ بِهِمْ إنْ سَلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ .

وَالثَّالِث وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَعْظَمُ ثُبُوتًا فِي الصُّدُورِ وَهِيَ الْعَوَائِدُ الْمُسْتَمِرَّةُ ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْوَهْمُ فِي تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَقَدْ يَجْعَلُهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إنْ سَلِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَنِسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ فَوَجَدَهَا مَعْمُولًا بِهَا ، وَالْعُلَمَاءُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَفِي فِعْلِ مَنْ يُسْكِتُ الطَّلَبَ إخْمَادٌ لِلْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون بَعْضُ الطَّلَبَةِ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَيُرِيدُ أَنْ يَبْحَثَ فِيهَا حَتَّى تَبِينَ لَهُ ، أَوْ عِنْدَهُ سُؤَالٌ وَارِدٌ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ حَتَّى يُزِيلَ مَا عِنْدَهُ ، فَيُسْكَتَ إذْ ذَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمَقْصُودِ .

وَكَذَلِكَ الْمُدَرِّسُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْكِتَ أَحَدًا إلَّا إذَا خَرَجَ عَنْ الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ سُؤَالُهُ وَبَحْثُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَيُسْكِتُهُ الْعَالِمُ بِرِفْقٍ وَيُرْشِدُهُ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنْ السُّكُوتِ أَوْ الْكَلَامِ ، فَكَيْفَ يَقُومُ عَلَى الطَّلَبَةِ شَخْصٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْعَوَامّ النَّافِرِينَ عَنْ الْعِلْمِ فَيُؤْذِيهِمْ بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ وَزَجْرِهِ بِعُنْفٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى نُفُورِ الْعَامَّةِ أَكْثَرَ سِيَّمَا وَمِنْ شَأْنِهِمْ النُّفُورُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنُّفُوسُ فِي الْغَالِبِ تَنْفِرُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَذْمُومَ يُفْعَلُ مَعَ الطَّلَبَةِ أَمْسَكَتْ الْعَامَّةُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتْمًا لِلْعِلْمِ وَاخْتِصَاصًا بِهِ كَمَا سَبَقَ .

وَشَأْنُ الْعَالِمِ سَعَةُ الصَّدْرِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنْ سُؤَالِ الْعَامَّةِ وَجَفَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ ؛ إذْ أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَمَالِ وَالْفَضَائِلِ وَقَدْ عَلِمَ مَا فِي سَعَةِ الْخُلُقِ مِنْ الثَّنَاءِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنَاقِبِ الْعُلَمَاءِ مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ .

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } فَتَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخُلُقَ بِالذِّكْرِ فِيهِ تَخْصِيصٌ عَظِيمٌ وَإِرْشَادٌ بَلِيغٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ ، وَالِاتِّصَافِ بِهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ الْمَمْدُوحَةِ شَرْعًا .

فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِتَهُمْ فَأَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَنْ يُسْكِتُهُمْ عَنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى هَلُمَّ جَرًّا .

أَمَّا

فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَجّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ ، وَهَذَا يَسْأَلُهُ ، وَهَذَا يُحَدِّثُهُ ، وَهَذَا يُنَادِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ ثَمَّ حَاجِبٌ وَلَا طَرَّادٌ وَلَا إلَيْك إلَيْك وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ } .

وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ لِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمَنْزِلَةِ الْمُنِيفَةِ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْعُدُ لِلنَّاسِ عُمُومًا وَيَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ التَّبْلِيغِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، وَاَللَّهُ يُعْطِي } انْتَهَى .

فَأَخْلَصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطِيَّةَ وَالْهِبَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ .

وَكَلَامُهُ كَانَ عَامًّا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ بِإِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَسَاوَوْا فِي الْأَحْكَامِ وَبَقِيَتْ الْمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ فِي أَمْرٍ أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِمْ .

وَأَمَّا فِعْلُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَكَثِيرٌ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ أَنْ يَنْوِيَ بِجُلُوسِهِ إظْهَارَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ عَادَتْ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَرَكَةُ تِلْكَ النِّيَّةِ السُّنِّيَّةِ

فَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ وَيُعَانُ وَيُحْمَلُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُهُ غَيْرُهُ ، أَوْ يُصِيبُهُ مِنْ الْمَلَلِ وَالسَّآمَةِ وَالضَّجَرِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَيَحْتَمِلُهُمْ كَاحْتِمَالِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِنْ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ حَظِّ النَّفْسِ ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ لَهُ فِيهَا حَظُّ الْبَشَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ وَأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَبْوَابِهِمْ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِالْحَاجِبِ وَالنَّقِيبِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ بِفَتْوَى إلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ يَجِدُ الْحَاجِبَ وَالْبَوَّابَ وَغَيْرَهُمَا يَمْنَعُونَهُ ، بَلْ يَمْتَنِعُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْبِغَالَ وَالْغِلْمَانِ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَصِلَ الْبَابَ بَلْ يَنْصَرِفُ وَيَتْرُكُ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ .

وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّوَابِّ مَكْرُوهٌ ، بَلْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا فَمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ ، وَهُوَ صَحِيحُ الْبَدَنِ فَرُكُوبُهُ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَكَانَ أَخْذُ الدَّرْسِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَيَزِيدُ مَرَضُهُ بِهِ زِيَادَةً تَضُرُّهُ شَرْعًا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَاجِبًا .

وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَرِيبَ الدَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَشْيَ فِي حَقِّ هَذَا أَفْضَلُ ، إذْ أَنَّهُ مَاشٍ إلَى أَصْلِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَجَاءَ إلَى بَيْتِ الْمَدْرَسَةِ وَجَدَ الْحُجَّابَ أَغْلَظَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ،

وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَابِ وَجَدَ مَنْ يَمْنَعُ وُصُولَ خَبَرِهِ إلَى الْعَالِمِ حَتَّى إنَّهُ قَدْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يُوصِلَ الْفَتْوَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُكَلِّمَهُ .

وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَكَانَ النَّاسُ يَتَوَصَّلُونَ إلَى قَضَاءِ أَغْرَاضِهِمْ مِمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ عَلَى صِفَةٍ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ ، وَقَدْ يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ نَقِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهُوَ نَادِرٌ ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ، وَتَفْصِيلُ هَذَا يَطُولُ وَبِالْجُمْلَةِ فَفِيمَا أُشِيرُ إلَيْهِ غُنْيَةٌ عَنْ الْبَاقِي .

وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى أَنْ يَسْأَلَ عَمَّنْ وَقَعَتْ لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يُسَهِّلَ حُضُورَهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي فَهْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْمَعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَرَقَةَ قَدْ يُكْتَبُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ فَيُفْتِي عَلَى وَهْمٍ أَوْ غَلَطٍ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ صَوَابًا عَلَى مَا رَآهُ مَكْتُوبًا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ حُضُورُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ النَّازِلَةُ فَشَأْنُ الْعَالِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ جَهْدَهُ وَأَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَتَى بِالْفَتْوَى أَنَّهُ يُعَاوِدُ صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُفْتِيَ إلَّا بَعْدَ التَّحَرُّزِ الْكُلِّيِّ وَالتَّحَفُّظِ الْعَظِيمِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ ، ثُمَّ بَعْدَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِ الْفَتْوَى لَا يُعَجِّلُ بِالْكَتْبِ عَلَيْهَا بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الدَّرْسِ ، فَيَعْرِضُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَرَى رَأْيَهُ وَرَأْيَهُمْ فِيهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِنْ وَافَقَ مَا عِنْدَهُ مَا قَالُوهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ خَالَفُوهُ بَحَثَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَبْدَى لَهُمْ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمَسْأَلَةَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ كَتَبَ عَلَيْهَا بِمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَهُ وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَجَلَةِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيُفْتِي بِمَا تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يُسْتَدْرَكَ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَاسْتَفْتَتْهُ فَأَجَابَهَا ثُمَّ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا فَمَا هُوَ إلَّا قَلِيلٌ ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَمِهِ

وَخَرَجَ يَجْرِي حَافِيًا إلَى أَنْ لَحِقَ الْمَرْأَةَ فَأَخَذَ الْفَتْوَى مِنْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ ، فَقَالَ : ذَكَرْت أَنِّي وَهَمْت فِي جَوَابِهَا فَأَسْرَعْت لِئَلَّا تَفُوتَنِي ، فَقَالُوا لَهُ : لَوْ أَمَرْتنَا لَفَعَلْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ : مَا هِيَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَدُكُمْ يَقُومُ عَلَى هَيِّنَتِهِ ، وَحَتَّى يَلْبَسَ نَعْلَيْهِ ، وَحَتَّى يَمْشِيَ الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا ، فَقَدْ تَفُوتُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُعْلَمُ جِهَتُهَا ، وَاَلَّذِي تَتَعَلَّقُ الْمَسْأَلَةُ بِذِمَّتِهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا جَرَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ إلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ .

وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى يَقُولُ لِمَنْ أَتَى بِهَا : مَا يُمَكِّننِي أَنْ أَكْتُبَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ فَيَقَعُ مُخَالِفًا لِمَا الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُفْتِي حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ النَّازِلَةِ ، فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ فَيُخْبِرُهُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُ : إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ يَحْضُرُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ الْغَدِ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ يَقُولُ لَهُ الشَّيْخُ : أَعِدْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةَ فَإِذَا أَعَادَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ بَحَثَ فِيهَا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ ثُمَّ أَفْتَاهُ أَوْ كَتَبَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ : أَيُّمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِالْأَمْسِ أَوْ الَّذِي بِالْيَوْمِ فَيَرُدُّهَا وَلَا يُفْتِي لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ ، وَيَقُولُ لَهُ : لَا أَعْلَمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى أُفْتِيَ عَلَيْهِ ، هَكَذَا هُوَ حَالُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّحَرُّزِ عَلَى ذِمَمِهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى بَحْثٍ وَلَا تَطْوِيلِ نَظَرٍ ، فَلَا بَأْسَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ بِمَنِّهِ .

فَلَوْ مَشَى الْعَالِمُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ الْقَوِيمِ

لَحَصَلَ لَهُ فَائِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ : إحْدَاهُمَا : بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .

وَالثَّانِي : انْتِفَاعُ مَنْ حَضَرَهُ وَتَعْلِيمُهُمْ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فِي الْغَالِبِ إذْ النُّبَهَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ قَدْ طَالَعُوا عَلَيْهِ غَالِبًا ، وَهُمْ قَدْ عَرَفُوا مَأْخَذَهُ وَمُرَادَهُ وَمُشْكِلَاتِهِ وَالْجَوَابَ عَنْهَا وَحَلَّهَا وَالْفَتَاوَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا نَوَازِلُ تَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَبَاهَةُ طَلَبَتِهِ وَتَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْفَائِدَةُ الْجَمَّةُ وَالتَّثَبُّتُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ مِنْهَا .

وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ قَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ ، وَلَا سَفِيهٍ مُعْلِنٍ بِسَفَهِهِ ، وَلَا مِمَّنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ إمَامًا أَبَدًا ، ثُمَّ قَرَأَ { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } انْتَهَى ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ أَوْ يَسْعَى فِي طَلَبِ التَّدْرِيسِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ مَدْرَسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْلِسُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعَلِّمُ وَيَتَعَلَّمُ وَيُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُ لِكَيْ يَظْهَرَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ أَوْ كَرِهَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، فَمَا كَانَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا جَانَسَهَا فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلِطَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْذَارِ الدُّنْيَا .

وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَأَكْمَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ وَهُدًى لِلْمُهْتَدِينَ ، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَتَسَبَّبُ فِيمَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي طَلَبِ حُطَامِ الدُّنْيَا ، وَالْغَالِبُ أَنَّ النُّفُوسَ

تَأْنَسُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ ذَمُّهُ مَوْجُودًا فِي الْكُتُبِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكِنَّ شَأْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ فِي وَقْتِهِمْ ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ إيثَارًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ .

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ وَإِقَامَةً لِحُرْمَتِهِ ، بَلْ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلْيَتَرَبَّصْ وَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَشِرْ وَلَا يَعْجَلْ ، فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّرَاهَةِ ، وَالشَّرَاهَةُ مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } انْتَهَى .

وَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَخْذُهُ لِذَلِكَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِشْرَافٍ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَالْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَأْمُولُ ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقَلِيلِ أَغْنَتْ عَنْ الْكَثِيرِ وَأَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا سَأَلَهُ كَانَتْ يَدُهُ سُفْلَى ، وَلَيْسَ هَذَا مَنْصِبَ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعُلْيَا ، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الطَّلَبِ لِمَا ذُكِرَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ وَالْمُلَازِمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ تَقِيَّةً عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ لَمْ يُضَيِّعْ اللَّهُ الْكَرِيمُ قَصْدَهُ ، وَأَتَاهُ بِهِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْبِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ ، وَسَدَّ خَلَّتَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ ، وَلَيْسَ رِزْقُهُ بِمُنْحَصِرٍ فِي جِهَةٍ بِعَيْنِهَا .

وَعَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

يَرْزُقُ مَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ غَيْرِ بَابٍ يَقْصِدُهُ أَوْ يُؤْمَلُهُ ، بَلْ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ اعْتِنَاءٌ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ كُلَّ جِهَةٍ يُؤَمِّلُهَا أَوْ يَقْصِدُهَا ؛ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ انْقِطَاعُهُمْ إلَيْهِ وَتَعْوِيلُهُمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى الْأَسْبَابِ ، بَلْ إلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَمُدَبِّرِهَا وَالْقَادِرِ عَلَيْهَا .

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَالِمُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ الْمُرْشِدُ لِلْخَلْقِ وَالْمُوَضِّحُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلسُّلُوكِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَمَنْ تَرَكَ جِهَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى أُخْرَى فَيُبَدَّلُ عَنْهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا .

قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } انْتَهَى فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءً فِي حَقِّهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْمَعْلُومُ لَا يَتَسَخَّطُ وَلَا يَتَضَجَّرُ وَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ ، بَلْ يَزِيدُ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ لَا عَكْسَ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي كَوْنِهِ يَخَافُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ حَاسِدٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّنْ يَخْشَى أَنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَرْجُو أَحَدًا مِنْهُمْ فِي دَفْعِ شَيْءٍ مِمَّا يَخْشَاهُ ، أَوْ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْهُمْ ، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ عُذْرٌ يَنْفَعُهُ .

أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ ذَلِكَ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ خَائِفًا مِمَّا ذُكِرَ فَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ إشْرَافِ النَّفْسِ ، وَقَدْ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِ فِي مَعْلُومِهِ عُقُوبَةً لَهُ مُعَجَّلَةً .

وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ يَرْتَكِبُ أَمْرًا مَحْذُورًا مُحَقَّقًا لِأَجْلِ مَحْذُورٍ مَظْنُونٍ تَوَقُّعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْوَقْتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا ، بَلْ الْإِعَانَةُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا هُوَ الِانْقِطَاعُ عَنْ أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْقَاضِي لِلْحَوَائِجِ وَالدَّافِعُ لِلْمَخَاوِفِ وَالْمُسَخِّرُ لِقُلُوبِ الْخَلْقِ وَالْإِقْبَالُ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ كَيْفَ يَشَاءُ .

قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ خِطَابًا لِسَيِّدِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ : { لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا فِي مَعْرَضِ الِامْتِنَانِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْعَالِمُ إذَا كَانَ

مُتَّبِعًا لَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ سِيَّمَا فِي التَّعْوِيلِ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالسُّكُونِ إلَيْهِ دُونَ مَخْلُوقَاتِهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَامِلُهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي عَامَلَ بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَسْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ التَّرَدُّدِ إلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي كَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ سُمٌّ قَاتِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَحْوَالِهِمْ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ لَا غَيْرُ ، بَلْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ وَأَشْنَعُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ تَرَدُّدَهُمْ إلَى أَبْوَابِهِمْ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ أَوْ مِنْ بَابِ إرْشَادِهِمْ إلَى الْخَيْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْطِرُ لَهُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى ، وَإِذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَلَّ الرَّجَاءُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إذْ أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الْخَيْرِ .

وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا تَرَدَّدَ لِبَابِ الْقَاضِي فَإِنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَهُوَ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَالِمٌ مَجْلِسُهُ مِمَّا يَجْرِي فِي مَجَالِسِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، فَكَيْفَ التَّرَدُّدُ لِغَيْرِ الْقَاضِي ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْجَبُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَى الدَّرْسِ مَعْلُومًا ، فَإِنَّ الدَّرْسَ إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَحُضُورُ الْجِنَازَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ يَتَعَيَّنُ ، فَإِنَّ الذِّمَّةَ مَعْمُورَةٌ بِهِ وَلَا شَيْءَ آكَدُ وَلَا أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ الذِّمَّةِ ، إذْ تَخْلِيصُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، فَلَوْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ وَأَبْطَلَ الدَّرْسَ لِأَجْلِهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ الْمَعْلُومِ مَا يَخُصُّ ذَلِكَ ، بَلْ لَوْ كَانَ الدَّرْسُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ لَتَعَيَّنَ عَلَى الْعَالِمِ الْجُلُوسُ إلَيْهِ ، إذْ أَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى .

وَلَسَمَاعُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً مَبْرُورَةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فَضْلِ الْجِنَازَةِ ؟ ، وَقَدْ مَاتَ أَحَدُ أَوْلَادِ الْحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ فَخَرَجَ لِجِنَازَتِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَبَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَخْرُجُ إلَى جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ مُجِيبًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ : صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِ جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فَضَّلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ نَافِلَةً عَلَى حُضُورِهَا فَمَا بَالُكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا بَالُكَ بِإِلْقَاءِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ خَيْرُ مُتَعَدٍّ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا .

وَكَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ الدَّرْسَ لِأَجْلِ مَرِيضٍ يَعُودُهُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ الْمَشْرُوعَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْدُوبٌ ، وَإِلْقَاءُ الْعِلْمِ مُتَعَيِّنٌ إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْلُومًا بَلْ لَوْ عَرِيَ عَنْهُمَا مَعًا لَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ .

فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ مِنْ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا نُدِبَ إلَيْهِ لِأَجْلِهِ ، فَمَا بَالُكَ بِبَطَالَةِ الدَّرْسِ لِأَجْلِ بِدْعَةٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .

وَقَدْ كَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَيُبْطِلُونَ الدَّرْسَ لِأَجْلِ الصُّحْبَة لِأَجْلِ الْمَيِّتِ أَوْ الثَّالِثِ لَهُ أَوْ تَمَامِ الشَّهْرِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرَحِ كَالْعَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا كَالسَّلَامِ عَلَى الْغَائِبِ وَالتَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَنْدُوبًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الدَّرْسِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ مَعَ إظْهَارِ تَقْبِيحِهِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَهُ .

وَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ مَاشِيًا عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ انْسَدَّتْ بِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يُبْطِلُونَ الدُّرُوسَ لِبِدْعَةِ الصُّبْحَةِ أَوْ الثَّالِثِ أَوْ التَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةِ خُطَّةٍ أَوْ السَّلَامِ عَلَى غَائِبٍ قَدِمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَيَتْرُكُونَ الْوَاجِبَ وَيَصِيرُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا فِيهِ ، وَيَمْضُونَ إلَى بِدْعَةٍ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسْبِ مَا يَخْطِرُ لَهُ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ .

مِثَالُهُ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ وَيَرُوحَ إلَى تَهْنِئَةِ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَنْصِبَ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَرْجُوهُ لِمَنْصِبٍ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي الْمَدْرَسَةِ إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَلَا بَأْسَ إذَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شُبْهَةٍ فَالْعُلَمَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ .

وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ فِي حَقِّهِمْ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ ، فَإِذَا اقْتَحَمُوا الشُّبُهَاتِ اقْتَدَى بِهِمْ النَّاسُ فِي تَنَاوُلِهَا ، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَعْلُومِ الَّذِي قُرِّرَ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْغَصْبُ ، وَأَمَّا مَعَ التَّعْيِينِ فَلَا يَحِلُّ وَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَغْصِبُ الْمَوَاضِعَ ، وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ مِثْلَ الْأَعْمِدَةِ وَالرُّخَامِ وَالشَّبَابِيكِ .

وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْبُيُوتِ وَبَعْضِ الْحَمَّامَاتِ عَلَى يَقِينٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُغْضِبُونَ النَّاسَ مِنْ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ فِي بِنَائِهَا بِذَلِكَ ، ثُمَّ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ قَلَّمَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ إلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ الْخُطْبَةُ فِي طَلَبِ تَوْلِيَةِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ ، وَلَا يَصِلُ إلَى تَوْلِيَتِهَا إلَّا مَنْ لَهُ الشَّوْكَةُ الْقَوِيَّةُ فَكَيْفَ يَقَعُ السَّعْيُ فِي مَوْضِعٍ وَقَعَ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ يَقُولُ : كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ شَيْءٌ فَلْيَأْتِ لَقَامَ نَاسٌ يَدَّعُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُثْبِتُونَ ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ هَذَا الْعَالِمِ فِي مِلْكِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، وَهَذَا أَمْرٌ قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَثِيرٌ مِنْ

الْمَدَارِسِ بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَرَامًا بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ عَلَى مَدْرَسَةٍ قَدِيمَةٍ فَيَقُولُ : كُلُّ مَنْ غُصِبَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ فَلْيَأْتِ يَأْخُذُ مَا غُصِبَ مِنْهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ لِانْقِرَاضٍ صَاحِبِهَا وَانْقِرَاضِ وَرَثَتِهِ أَوْ الْجَهْلِ بِهِمْ فِي الْغَالِبِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ مَجْهُولًا لَا تُعْرَفُ جِهَاتُهُ وَلَا أَرْبَابُهُ فَيَرْجِعُ إذْ ذَاكَ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ مُرْصَدٌ فِيهِ لِمَصَالِحِهِمْ وَمِنْ أَهَمِّهَا إقَامَةُ وَظِيفَةِ إلْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَتَحْصِيلِهِ ، فَقَدْ افْتَرَقَا فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى جَوَاز التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُعَيَّنًا ، فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِهِ وَالْغَاصِبُ لَهُ مَأْمُورٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِرَدِّهِ لِمُسْتَحِقِّهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذِمَّةَ هَذَا الْغَاصِبِ مُسْتَغْرَقَةٌ لِكَثْرَةِ غَصْبِهِ وَكَثْرَةِ الْحُقُوقِ الْمُرَتَّبَةِ فِيهَا ، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَإِنْ كَثُرَتْ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَرْبَابِهَا ، وَتَبْقَى الْفَضَلَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا فِي يَدِهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ الضَّرُورَاتِ أَلْجَأَتْ إلَى أَخْذِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْمَوَاضِعِ لِكَثْرَةِ الْعَائِلَةِ وَالْمَلَازِمِ .

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَأْخُوذٌ مِمَّا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَصَرَّحَ بِهِ .

قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرَضِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى

مَنْ عَدَا الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ .

وَمَعَ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ، فَكُلٌّ فِي ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ .

وَقَدْ كَانَ عَيْشُهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاشْتُهِرَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَخَشِنِ الْمَلْبَسِ وَقِلَّةِ الْجِدَّة ، تَكْرِيمًا لَهُمْ وَتَرْفِيعًا لِمَنَازِلِهِمْ السَّنِيَّةِ .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُحِبُّونَ الْفَقْرَ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ، لَا جَرَمَ أَنَّا لَمَّا أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ وَالِاعْتِلَالِ بِالْعَائِلَةِ ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِالضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : مَا أَتَى عَلَى مَنْ أَتَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ ، فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهَا .

مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيهُ : لَا بُدَّ مِنْ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى صِفَةٍ ، لَا بُدَّ مِنْ عِمَامَةٍ عَلَى صِفَةٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كُتُبٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَابَّةٍ ، فَإِذَا جَاءَتْ الدَّابَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ غُلَامٍ وَكُلْفَةٍ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَغْلَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ لِغُلَامِهِ بَغْلَةً أَيْضًا ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْغُلَامُ إلَى زَوْجَةٍ ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا فِي ضَرُورَاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ فِي الدُّنْيَا مُتَّسِعَ الْحَالِ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَضْرُورٌ ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي الْوَقْتِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُول :

أَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ نَظَرًا مِنْهُ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الْمَسْكَنِ عَلَى صِفَةٍ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْأَوَانِي وَالْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَالْغِلْمَانِ ، فَتَأْتِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، وَهُوَ مَهْمُومٌ تَجِدُهُ يَشْكُو مِنْ كَثْرَةِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي يَدَّعِيهَا ، فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَّا شَرْعِيَّةٌ ، وَالضَّرُورَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا فِي الْغَالِبِ إلَى كُلْفَةٍ .

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّرُورَاتِ الَّتِي لَهُمْ إنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ الْقُدْوَةُ ، وَعَلَى أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ يَدُورُ أَمْرُ النَّاسِ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ آكَدُ الْأُمُورِ وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ ؛ لِأَنَّ بِهَا يَسْتَعِينُ عَلَى مَا أَخَذَ بِصَدَدِهِ ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبٌ مِنْ حِلٍّ وَكَانَ لَهُ غُنْيَةٌ عَنْهُ ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى أَخْذِهِ ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ الرِّفْقِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الدُّنْيَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِهَا .

وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ رَفْضِ الدُّنْيَا .

، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ ثَوْرٍ قُلْت لِلْحَسَنِ : يَا أَبَا سَعِيدٍ رَجُلَانِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الدُّنْيَا بِحَلَالِهَا فَأَصَابَهَا فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ وَقَدَّمَ فِيهَا لِنَفْسِهِ وَرَجُلٌ رَفَضَ الدُّنْيَا قَالَ : أَحَبُّهُمَا إلَيَّ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا ، قَالَ : فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا اعْتَدَلَ الرَّجُلَانِ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ الَّذِي جَانَبَ الدُّنْيَا انْتَهَى .

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا : بَلَى قَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى .

الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى أَعْلَى الْأُمُورِ وَأَسْنَاهَا ؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّهَا ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَنَعَمْ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ التِّنِّيسِيِّ فِي شَرْبَةِ لَبَنٍ ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَا هُنَا ، بَلْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَنْصِبُ ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَيَتْرُكَهُ إقَامَةً لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ ، وَلِكَيْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ أَهْلِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ دُونَ زِيَادَةٍ ، وَيَقْتَصِرَ عَلَيْهَا .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، انْسَدَّتْ بِهِ هَذَا الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ لَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا ، وَفِي الْأُخْرَى دُونَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ ، فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُدَرِّسِينَ لَهُ دُنْيَا كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ يَدَّعِي الضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَى الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَأْخُذُ عَلَيْهِ الْمَعْلُومَ إنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى تَعْلِيمِهِ عِوَضًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ أَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى وَأَرْفَعُ .

وَإِذَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لَا عَلَى الْعِوَضِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَخْذُهُ الرِّزْقَ لِلَّهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيَّ وَإِلَيْك الْقَوْلُ فِي الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ وَتَفْصِيلِهِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ وَتَبْيِينِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْعَوَائِدِ ، فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ إذْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالتَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ النَّاسِ مُطَالَبِينَ بِذَلِكَ .

وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلْجُلُوسِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالِازْدِرَاءِ بِمَنْ دُونَهُ غَالِبًا ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ سِيَّمَا مَنْ هُوَ جَالِسٌ لِإِلْقَائِهِ أَوْ لِسَمَاعِهِ ، وَالْعِلْمُ يَطْلُبُهُ بِتَرْكِ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ طَلَبِ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ وَالْأَمَانِي الْفَاسِدَةِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقِيَامِ أَنَّ سِمَةَ الْعَالِمِ إنَّمَا هِيَ بِوُجُودِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَازُلِ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِضِدِّهِ ، وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ لَا خَفَاءَ بِهِ ، وَالْعُلَمَاءُ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ .

أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ، وَقَالَ : أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا ، } قَالَ أَنَسٌ : فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ .

وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ فِي جِهَتِهَا وَالصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْيَسَارِ ، فَلَمْ يَضُرَّ

أَبَا بَكْرٍ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ فَضِيلَتِهِ الَّتِي أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهَا إذْ أَنَّ الْفَضِيلَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ ؛ فَإِنْ ظَهَرَتْ الْفَضْلَةُ لِلنَّاسِ وَأُمِرُوا بِتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، أَلَا تَرَى { أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَنْ أَسْتَأْذَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ } .

وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : لَمَّا أَنْ أَقْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ بَيْنَ رَجُلٍ وَوَلَدِهِ فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِلْوَلَدِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : آثِرْنِي بِهَا يَا بُنَيَّ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ : الْجَنَّةُ هَذِهِ يَا أَبَتِ لَا يُؤْثِرُ بِهَا أَحَدٌ أَحَدًا فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - كَيْفَ فَعَلَ هَذَا الصَّحَابِيُّ هَذَا الْفِعْلَ مَعَ أَبِيهِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مُتَأَكِّدٌ طَلَبُهُ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ لَا عَلَى مَا يَخْطِرُ لَنَا أَوْ يَهْجِسُ فِي أَنْفُسِنَا .

أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ الْمُوَطَّأِ وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ إلَى جَانِبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَمَرَ وَزِيرَهُ جَعْفَرًا أَنْ يُقْرَأَ ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يُؤْخَذْ إلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَأَنْ تَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ ، فَقَامَ الْخَلِيفَةُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، هَذَا وَهُوَ خَلِيفَةُ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ

أَنَّهُ فِي الْفَضِيلَةِ كَانَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ مِنْهَا ، وَلِأَجْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ انْقَادَ إلَى الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ ، وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً وَهَيْبَةً ، بَلْ ارْتَفَعَ قَدْرُهُ بِذَلِكَ وَبَقِيَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ .

وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ إذَا جَمَعَ الْعَالِمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ الصَّبْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَحُسْنُ الْخَلْقِ ، وَإِذَا جَمَعَ الْمُتَعَلِّمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْعَالِمِ الْعَقْلُ وَالْأَدَبُ وَحُسْنُ الْفَهْمِ انْتَهَى .

فَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَدْرِ النُّزُولِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا ، فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَا صَعِدَ بِك هَاهُنَا أَعْنِي فِي رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَأَنْتَ قَدْ نَزَلْت تَحْتَ أَصْلِهَا ، فَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يَقُولُ : مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِعٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَوْنُهُ يُقِيمُ أَحَدًا مِنْ مَوْضِعِهِ ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ { نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا } انْتَهَى .

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى هَذَا فَحَيْثُمَا بَلَغَ بِالْإِنْسَانِ الْمَجْلِسُ جَلَسَ فَهِيَ السُّنَّةُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْفَضِيلَةُ عِنْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّصَافِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَلَيْسَتْ بِالْمَوَاضِعِ وَلَا بِالْخُلَعِ وَلَا بِوُجُودِ الْمَنَاصِبِ ، وَلَكِنْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي التَّوَاضُعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ ، فَلَوْ جَلَسَ مَنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عِنْدَ الْأَقْدَامِ لَصَارَ

مَوْضِعُهُ صَدْرًا وَعَكْسُهُ عَكْسَهُ ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا التَّنَافُسِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا ، فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ لِفَاعِلِهِ وَلِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ ، وَهُوَ نَوْعٌ قَبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْقِيَامِ وَاللِّبَاسِ ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ قُبْحًا لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ .

فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرْفِيعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّوْقِيرِ لَهُ .

فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَلَا يُتَّبَعُ غَيْرُهُمْ وَلَا يُرْجَعُ إلَّا إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حُظُوظَ النُّفُوسِ وَمُخَالَفَةَ السُّنَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَلَا أَرْفَعَ مِنْ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاتِّبَاعِ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ هَذَا لَزَمَانٌ لَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الزَّمَانَ لِتَعْظِيمِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِأَجْلِ عِلْمِهِمْ الْغَزِيرِ وَدِيَانَتِهِمْ .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ وَالسُّنَّةَ الشَّرِيفَةَ وَرَدَا جَمِيعًا لِأَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ ، وَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَرْنًا دُونَ قَرْنٍ وَلَا قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ ، بَلْ أَتَى بِذَلِكَ عُمُومًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : { وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ } انْتَهَى .

أَيْ اعْمَلْ بِهِ فَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي يُرَاعَى حَقُّهَا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا بِالْعِلْمِ وَالِاتِّصَافِ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا

هُوَ لِتَعْظِيمِ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ خِلْعَةٌ أَوْ هَيْئَةٌ قَدَّمُوهُ فِي الْمَجَالِسِ ، وَمَنْ كَانَ رَثَّ الْحَالِ أَخَّرُوهُ عَكْسُ حَالِ السَّلَفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ عَوَائِدِ أَكْثَرِهِمْ ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ فِي ذَلِكَ .

الْغَالِبُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْإِنْصَافَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ جَائِزًا فِي الشَّرْعِ .

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا : أَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ حَظٍّ مَذْمُومٍ شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ يُوَضِّحَ الْأَمْرَ وَيُنْكِرَهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ وَيُقَبِّحَ لَهُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ اسْتِطَاعَتِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ لِلْفَتْوَى ، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، وَكَانَ لَهُ مَكَانٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ ذِكْرُ بَعْضِ آدَابِ الْعَالِمِ ، وَفِي ذِكْرِهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا ذُكِرَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي ذَلِكَ ، لَكِنْ قَدْ يَخْتَصُّ الْمُتَعَلِّمُ بِبَعْضِ نُبَذٍ يَسِيرَةٍ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي التَّعْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَأَنْ يُظْهِرَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْمُتَعَلِّمِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ فَيَحْرِصُ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِعَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْعِلْمِ ، أَوْ لِمَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ بِهِ ، أَوْ لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ ، أَوْ لَأَنْ يُشَارَ إلَيْهِ ، أَوْ لَأَنْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى ، بَلْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ اتَّصَفَ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ اذْهَبْ فَخُذْ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِي }

، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ تَخْلِيصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ ، حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا فَتَأْتِيَ الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ فَيُرْجَى خَيْرُهُ ، وَتَكْثُرَ بَرَكَتُهُ ، وَالْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَمِنْ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا ، وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا انْتَهَى هَذَا إذَا كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ النِّيَّةَ فِيهِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ أَنْ يَرْأَسَ بِهِ ، أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَقْرَأُ ، وَيَجْتَهِدُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ تَعَالَى قَبِلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ لَا لِأَجْلِ إجَارَةٍ ، أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ .

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى رَاوِيَ الْمُوَطَّأِ لَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى مَالِكٍ لِيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : اجْتَهِدْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ شَابٌّ فِي سِنِّك فَقَرَأَ عَلَى رَبِيعَةَ ، فَمَا كَانَ إلَّا أَيَّامٌ وَتُوُفِّيَ الشَّابُّ فَحَضَرَ جِنَازَتَهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ ، وَلَحَدَهُ رَبِيعَةُ بِيَدِهِ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي النَّوْمِ ، وَهُوَ فِي حَالَةٍ

حَسَنَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ : غَفَرَ اللَّهُ لِي ، وَقَالَ لِمَلَائِكَتِهِ : هَذَا عَبْدِي فُلَانٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْعُلَمَاءِ فَبَلِّغُوهُ دَرَجَتَهُمْ فَأَنَا مَعَهُمْ أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُونَ .

قَالَ فَقُلْت : وَمَا يَنْتَظِرُونَ قَالَ : الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْعَى لِطَلَبِ الْمَعْلُومِ ، وَلَا فِي زِيَادَتِهِ ، وَلَا فِي تَنْزِيلِهِ فِي الْمَدَارِسِ ، وَلَا فِي الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ يُرْجَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الذَّمُّ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَدْرَسَةِ إلَى غَيْرِهَا ، وَلَا مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ ، إمَّا لَأَنْ يَكُونَ مُدَرِّسُ الْمَدْرَسَةِ الْأُخْرَى أَعْلَمَ ، أَوْ أَفْيَدَ ، أَوْ أَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِ ، أَوْ لَأَنْ تَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْعِلْمِ ، وَتَثْبُتَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقَلَّ عِلْمًا مِنْ الْأَوَّلِ لَا لِأَجْلِ مَعْلُومٍ ، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ كَانَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَالْمُبْتَدِي يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُنْتَهِي ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَارِفٌ بِالدَّسَائِسِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ إنْ حَصَلَ لَهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُبْتَدِي

، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَخْذُ الْمَعْلُومِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَبَقَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ تَعَلُّقِ خَاطِرِهِ بِالْأَسْبَابِ ، وَيَأْخُذُ الْمَعْلُومَ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ أَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي بَحْرٍ مَخُوفٍ ، وَالْغَالِبُ فِيهِ الْعَطَبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ : { مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } أَوْ كَمَا قَالَ .

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَعَلُّمُ الْعِلْمِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى مَسْأَلَةٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ ، وَحِينَئِذٍ يَقْدُمُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا عَلِمْت عِلْمًا فَلْيُرَ عَلَيْك أَثَرُهُ ، وَسَمْتُهُ ، وَسَكِينَتُهُ ، وَوَقَارُهُ ، وَحِلْمُهُ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } .

وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَهْذِرُونَ الْكَلَامَ هَكَذَا ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ شَهْرٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ : مِنْ الْعُلَمَاءِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ : أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَلَمَّا أَنْ قَرَأَ الْعِلْمَ وَجَدَ قَوَاعِدَهُ مَاشِيَةً عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَاجِبَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا فِعْلُهُ ، وَكَذَلِكَ

الْمُحَرَّمُ عَكْسُهُ ، وَالْمَنْدُوبُ مَا لَهُ فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ ، وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّهُ ، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ ، وَفِي تَرْكِهِ فَاتَّبَعَ الْعِلْمَ ، وَبِاتِّبَاعِهِ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَوَّلًا فَوَجَدَ الْعِلْمَ يَمْنَعُهَا فَتَرَكَهَا .

وَقَدْ نَقَلَ مَعْنَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ فَقَالَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْعَمَلُ لِلَّهِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَرُدُّهُ الْعِلْمُ إلَى اللَّهِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ انْتَهَى .

هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا إنْسَانٌ غُرَّ فَسَلِمَ ، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَغُرَّ بِنَفْسِهِ ، وَيَرْجُوَ أَنْ يَسْلَمَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ ، وَهُوَ الْغَالِبُ إلَى طَلَبِ الْمَعْلُومِ ، وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَدَارِسَ جَمَّةٍ لِأَجْلِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ ، وَضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْهُ ، وَقَعَ الْخَلَلُ ، وَرَجَعَتْ أَعْمَالُ الْآخِرَةِ لِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ عَطَبٌ عَظِيمٌ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَنْ يَدُورَ عَلَى الْمَدَارِسِ ، أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهِ خُصُوصًا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } فَجَعَلَ الْمَشْيَ سَبَبًا لِلرِّزْقِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى تَمَامِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } بَانَ لَك أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ

الْكَرِيمَةِ فِيهِ التَّنْبِيهُ لِلْمُتَسَبِّبِينَ عَلَى التَّحَفُّظِ فِي مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا ، إذْ أَنَّ يَوْمَ النُّشُورِ فِيهِ الْحِسَابُ فَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْوَرَعِ فِي السَّبَبِ خِيفَةً مِنْ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ النُّشُورِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ } انْتَهَى .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا } انْتَهَى .

فَأَرْشَدَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا إلَى تَرْكِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِكِفَايَتِهِ ، فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْكَرِيمُ ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّغَفُ بِالْأَسْبَابِ فَقَالَ : طَيَرَانُ الطَّائِرِ سَبَبٌ فِي رِزْقِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ لَا يُمَاثِلُ التَّسَبُّبَ فِي الرِّزْقِ ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ فِيهِ حَبٌّ يُلْتَقَطُ ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ، وَلَا عَقْلَ لَهُ يُدْرِكُ بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الرِّزْقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَرَكَةِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ لَا حُكْمَ لَهَا ، فَيَتَرَدَّدُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يُؤْتَى بِرِزْقِهِ إلَيْهِ ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ إلَى رِزْقِهِ ، وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طَيَرَانِ الطَّائِرِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرِّزْقِ ، وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ مُتَوَكِّلًا مَعَ

طَيَرَانِهِ ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِهِ ، وَالْعَاقِلُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ مِنْهُ سِيَّمَا مَنْ دَخَلَ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنْ التَّوَكُّلِ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْيَقِينِ عِنْدَهُ فَالْأَسْبَابُ عَلَيْهِ مُتَّسِعَةٌ فَيَتَسَبَّبُ فِي شَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ أَوْسَاخَ النَّاسِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ ، وَيَكْفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ ، وَقَدْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَثِيرًا .

وَعَلَى هَذَا كَانَ حَالُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْلُومٌ عَلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْأَرْزَاقُ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ تَعَاطَى أَسْبَابَ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْدَادُ بِعِلْمِهِ بُغْضًا لِلدُّنْيَا ، وَتَرْكًا لَهَا ، فَالْيَوْمَ يَزْدَادُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ لِلدُّنْيَا حُبًّا ، وَلَهَا طَلَبًا ، وَكَانَ الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالْيَوْمَ يَكْتَسِبُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ مَالًا ، وَكَانَ يُرَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ زِيَادَةُ إصْلَاحٍ فِي بَاطِنِهِ ، وَظَاهِرِهِ ، فَالْيَوْمَ تَرَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَسَادَ الْبَاطِنِ ، وَالظَّاهِرِ انْتَهَى .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ طَالِبَ الْعِلْمِ التَّسَبُّبُ فِي الصَّنَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ سَمْتِهِ ، وَوَقَارِهِ ، وَزِيِّهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي الزِّيِّ ، وَلَا الْمَلْبَسِ لِفَقِيهٍ ، وَلَا لِغَيْرِهِ ، وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى أَنْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ أَدْنَى أَحْوَالِ النَّاسِ لِيَقْتَدِيَ بِهِمْ الْغَنِيُّ ، وَلَا يَزْرِي بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ ، وَعُوتِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لِبَاسِهِ ، وَكَانَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ مِنْ الْكَرَابِيسِ قِيمَةُ قَمِيصِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إلَى خَمْسَةٍ ، وَيَقْطَعُ مَا فَضَلَ عَنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَقَالَ : هَذَا أَدْنَى إلَى التَّوَاضُعِ ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ .

وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّنَعُّمِ ، وَقَالَ : { أَلَا إنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ } ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ شِرَارِ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ } انْتَهَى .

أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً إحْدَاهَا مِنْ أَدِيمٍ ، هَذَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ لَائِقٍ بِهِمْ ، وَهَذَا زَمَانٌ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الزَّمَانَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ سَوَاءٌ إذْ أَنَّ الْكُلَّ عَمَّهُمْ الْخِطَابُ ، وَتَنَاوَلَتْهُمْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ

=============================

ج6. كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ{أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

شَرْعًا ، أَوْ بِجُلِّهَا ، وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَوَاضُعِهِ فِي تَصَرُّفِهِ ، وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَا جَرَى لَهُ ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ فِي وَقْتِهِ ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا جَلَسَ إلَى الدَّرْسِ يَجْتَمِعُ لَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ ، أَوْ سِتِّمِائَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَحْضُرُونَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَامَ ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ ، وَأَخْرَجَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ، أَوْ فِي يَدِهِ مِنْ قَمْحٍ يَطْحَنُهُ ، أَوْ عَجِينٍ يَخْبِزُهُ ، أَوْ شِرَاءِ خُضْرَةٍ ، أَوْ حَاجَةٍ مِنْ السُّوقِ ، أَوْ حَصَادٍ لِزَرْعِهِ بِيَدِهِ ، أَوْ غَسْلِ ثِيَابٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَائِجِ ، وَلَهُ مِنْ الْهَيْبَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاقٍ لِمَنْ أَرَادَهُ ، وَتَحْصِيلُهُ مُمْكِنٌ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّوْفِيقُ فَمَنْ وُفِّقَ ، وَتَرَكَ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ ، وَالطَّبَائِعَ النَّفْسَانِيَّةَ ، فَقَدْ أَرْشَدَ ، وَجَاءَهُ الْعَوْنُ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ انْتَهَى .

مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ ، أَوْ آخِرُهُ } ، أَوْ كَمَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يَقْطَعُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْإِيَاسَ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَرَمِهِ ، وَقَدْ رَأَيْت وَبَاشَرْت بَعْضَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ الْمِسْحَاةَ ، وَيَأْتُونَ إلَى مَوَاقِفِ الْبَنَّائِينَ ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ سَبَبٌ مَشَوْا فِيهِ يَوْمَهُمْ

ذَلِكَ ، وَإِلَّا رَجَعُوا إلَى الدَّرْسِ ، وَالِاشْتِغَالِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَطُولُ ذِكْرُهُ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمُتَعَلِّمُ إلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ بِجِدٍّ ، وَاجْتِهَادٍ ، وَحُسْنِ نِيَّةٍ ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَارِضِ ، وَالْأَسْبَابِ ، وَالْعَوَائِدِ الَّتِي اُنْتُحِلَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يُقْدِمُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَتْرُكُهَا ثِقَةً بِهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَبَقَ

، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ التَّوَاضُعَ لِمَنْ يُعَلِّمُهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي الْعَالِمِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي الْمُتَعَلِّمِ الْمُحْتَاجِ إلَى التَّعْلِيمِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوَاضُعُهُ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ صَارَ أَرْضًا تُوطَأُ كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ يَطْلُبُهُ ؛ وَلِأَنَّ التَّوَاضُعَ يُقْبَلُ بِالْقُلُوبِ عَلَيْهِ ، وَيُنَشِّطُ مَنْ يُعَلِّمُهُ لِتَعْلِيمِهِ ، وَإِرْشَادِهِ ، وَالتَّوَاضُعُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ ، وَبَرَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِمَا ذُكِرَ انْتَفَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْوَقْتِ مِنْ نَظَرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْمَعْلُومِ ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : كَيْفَ يَأْخُذُ فُلَانٌ كَذَا ، وَكَذَا ، وَأَنَا أَكْثَرُ مِنْهُ بَحْثًا ، وَقَدْ حَفِظْت الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ ، وَالْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ شَنَآنٌ ، وَاتِّصَافٌ بِالْحَسَدِ ، وَمَا شَاكَلَهُ .

وَخَرَجَ ذَلِكَ إلَى بَابِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَوَقَعُوا بِسَبَبِهِ فِي الْوَعِيدِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ } إلَخْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَا يَتَّصِفُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ إلَّا أَنْ يَبْنِيَ أَمْرَهُ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ إذْ أَنَّ الْبِنَاءَ إذَا طَلَعَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَاسٍ صَحِيحٍ جَيِّدٍ يُعْمَلُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُبْنَى عَلَيْهِ .

وَالْأَسَاسُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُبْتَدِي فِي هَذَا الْفَنِّ اتِّبَاعُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ ، وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْهَرَبَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَأَسْبَابِهَا ، فَإِنْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَالُوا : ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ ضِيقٌ سُرُّوا بِذَلِكَ ، وَفَرِحُوا بِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَتَهُمْ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ

جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ ، وَيُرْجَعُ إلَى أَقْوَالِهِمْ ، وَأَحْوَالِهِمْ ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا مَعْنَاهُ يَا مُوسَى إذَا رَأَيْت الدُّنْيَا أَقْبَلَتْ فَقُلْ : ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ ، وَإِذَا رَأَيْتهَا أَدْبَرَتْ فَقُلْ : أَهْلًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ ، وَقَدْ دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى أَمَا تُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ بِغَدَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ ، وَبِعَشَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ قَالَ : هُوَ كَذَلِكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَغَدَّى عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَيَتَعَشَّى عِنْدَ آخَرَ ، وَكَانَ ذَلِكَ رِفْعَةً فِي حَقِّهِ لِتَعَدِّي النَّفْعِ إلَى عِتْقِ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِتْقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَكَابِرُ لَهُمْ أَمْوَالٌ ، وَأَسْبَابٌ فَالْجَوَابُ : أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ الْأَمْوَالَ ، وَالْعَمَلَ عَلَى الْأَسْبَابِ لَا يُمْنَعُ إذَا دَخَلَ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا ، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا سَوَاءٌ أَقْبَلَتْ ، أَوْ أَدْبَرَتْ ، فَإِنْ أَقْبَلَتْ قَابَلُوهَا بِالْإِيثَارِ ، وَالْبَذْلِ لِلَّهِ ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ قَابَلُوهَا بِالصَّبْرِ ، وَالرِّضَا ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ الْأَمْرُ بِيَدِهِ ، وَهِمَّتُهُمْ ، وَبُغْيَتُهُمْ إنَّمَا كَانَ تَحْصِيلَ زَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ فِي الْفَقْرِ ، وَالْغِنَى ، وَالْحَرَكَةِ ، وَالسُّكُونِ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الْحَالَةُ اُخْتُصَّ بِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ عَجَزَ غَيْرُهُمْ عَنْهَا انْتَهَى .

يَعْنِي فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ اشْتَغَلَ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إلَّا أَضَرَّ بِالْآخَرِ ، يَعْنِي مَنْ اشْتَغَلَ بِالدُّنْيَا

أَضَرَّ بِالْآخِرَةِ ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْآخِرَةِ أَضَرَّ بِالدُّنْيَا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَجَمْعُك بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ عَجِيبٌ فَإِذَا اتَّصَفَ الطَّالِبُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ التَّفَاوُتُ لِمَنْ زِيدَ لَهُمْ فِي الْمَعْلُومِ ، أَوْ نُقِصَ ، وَكَذَلِكَ يَتَسَاوَى عِنْدَهُ مَوَاضِعُ الْجُلُوسِ فِي الِارْتِفَاعِ ، وَالِانْخِفَاضِ ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَحَيْثُ أَجْلَسَهُ اللَّهُ جَلَسَ ، وَمَا سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ رَضِيَهُ ، وَشَكَرَهُ ، وَمَا مَنَعَهُ مِنْهُ حَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَرَآهُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَطَاءً ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشَّوَائِبُ الْمَذْمُومَةُ ، وَبَقِيَ الْعِلْمُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا صَارَ الْعِلْمُ كَذَلِكَ ، وَصَحِبَهُ الْعَمَلُ بِهِ جَاءَ مِيرَاثُهُ الْعَاجِلُ ، وَهُوَ الْخَشْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، وَإِذَا حَصَلَتْ الْخَشْيَةُ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي الْقَوْلِ ، وَأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى مِنْهَاجِ السَّلَامَةِ ، وَالْغَنِيمَةِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ ، وَعَكْسُ هَذَا الْحَالِ فِي النَّقِيضِ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِ مَنْ مَضَى ، فَالْخَيْرُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ، وَبِأَحْوَالِهِمْ فِي الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِمْ ، وَسَلَّمَ .

وَأَصْلُ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ } فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِالتَّقْوَى كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُعَلِّمَهُ ، وَهَادِيَهُ ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَلِّمَهُ ، وَهَادِيَهُ ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ

الْعَزِيزِ { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْمُتَعَلِّمِ نَفَائِسُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَا تُؤْخَذُ بِالدَّرْسِ ، وَلَا بِالشُّيُوخِ لِأَجْلِ مَا حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي التَّقْوَى اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ } ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا } فَإِذَا اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ

وَمِنْ آكَدِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ تَخْلِيصُ ذِمَّتِهِ مِنْ إخْوَانِهِ ، وَجُلَسَائِهِ ، وَمَعَارِفِهِ ، وَغَيْرِهِمْ إذْ تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ هُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْخَطِرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ عَمَّتْ بِهِمَا الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا عَلَى الْأَلْسُنِ ، وَهُمَا الْغِيبَةُ ، وَالنَّمِيمَةُ فَالنَّمِيمَةُ : أَنْ تَنْقُلَ حَدِيثَ قَوْمٍ إلَى آخَرِينَ ، وَالْغِيبَةُ : أَنْ تَقُولَ فِي غَيْبَةِ الشَّخْصِ مَا يَكْرَهُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا ، وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بَاطِلًا فَهُوَ الْبُهْتَانُ بِعَيْنِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ { أَيُّ بَلَدٍ هَذَا إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ ، وَأَمْوَالَكُمْ ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ، وَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ إلَى أَنْ قَالَ : أَلَا هَلْ بَلَّغْت أَلَا هَلْ بَلَّغْت مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا } فَأَكَّدَ الْأَمْرَ فِي الثَّلَاثِ كَمَا تَرَى ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُنْقَسِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : السَّالِمُ مِنْ الْجَمِيعِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } { ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .

الْقِسْمُ الثَّانِي : عَكْسُ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَنْ كَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ ، وَالْجِدَّةُ ، وَوَاقَعَ الْجَمِيعَ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ عَجَزَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَكَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ ، وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ ، وَوَاقَعَهُمَا مَعًا ، فَقَدْ لَحِقَهُ الْإِثْمُ فِي فِعْلِهِ ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ بِنِيَّتِهِ إذْ لَوْلَا عَجْزُهُ عَنْهُ لَفَعَلَهُ .

الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنْ عَجَزَ عَنْ الدِّمَاءِ ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ ، وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَاضِ لِقُدْرَتِهِ

عَلَيْهَا فَيَكُونُ آثِمًا فِي الثَّالِثِ لِفِعْلِهِ لَهُ مُلْحَقًا بِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِنِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ ، وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ } انْتَهَى .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ عِنْوَانُ الصِّدْقِ فِيمَنْ ادَّعَى الْوَرَعَ عَنْ الدِّمَاءِ ، وَالْأَمْوَالِ اسْتِعْفَافَهُ عَنْ الْأَعْرَاضِ ، فَإِنْ اسْتَعَفَّ عَنْهَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِي تَرْكِ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ، وَإِنْ تَعَاطَى الثَّالِثَ ، أَوْ بَعْضَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

وَاعْلَمْ أَنَّ غِيبَةَ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسْبِ حَالِهِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ غِيبَةُ الصَّالِحِينَ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا أَنْ يُذْكَرَ شَخْصٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُونَ : اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ يَقَعُونَ بِسَبَبِ غَيْرَتِهِمْ فِي الدِّينِ يَقُولُونَ : فُلَانٌ فَعَلَ كَذَا ، وَكَذَا عَلَى سَبِيلِ الْغَيْرَةِ مِنْهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ شَفَقَتُهُمْ ، وَرَحْمَتُهُمْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : مِسْكِينٌ فُلَانٌ ، وَاقَعَ كَذَا ، وَكَذَا مِمَّا يَكْرَهُ ذِكْرَهُ الْمَقُولُ فِيهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، وَعُلِمَ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ ، وَالْمُتَعَلِّمُ أَنْ يَكُونَا مُتَيَقِّظَيْنِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ ، وَمَا شَاكَلَهَا ، وَيَتَحَفَّظَانِ مِنْهَا إذْ أَنَّ بِتَحَفُّظِهِمَا يَتَحَفَّظُ كُلُّ مَنْ رَآهُمَا أَوْ عَلِمَ حَالَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُهْتَدِينَ

فَصْلٌ فِي أَوْرَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا إذْ أَنَّهَا سَبَبُ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } انْتَهَى .

) ، وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ لَا يُتْرَكُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِيَّاكَ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } فَعَمَّ الطَّرَفَيْنِ ، وَجَعَلَ مِنْ الثَّالِثِ جُزْءًا ، وَالْغُدْوَةُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ ، وَالرَّوْحَةُ مَا كَانَ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَالْمُكَلَّفُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَشْتَغِلَ فِي غُدْوَتِهِ ، أَوْ فِي رَوْحَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِقِصَّةِ { مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ الدِّينَ فَافْتَرَقَا لِذَلِكَ ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ : أَقْرَأُهُ قَائِمًا ، وَقَاعِدًا ، وَمُضْطَجِعًا ، وَأَفُوقُهُ تَفْوِيقًا ، وَلَا أَنَامُ ، وَقَالَ مُعَاذٌ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ ، وَأَنَامُ ، وَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي فَلَمْ ، يُسَلِّمْ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ حَتَّى أَتَيَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ أَفْقَهُ مِنْك يَعْنِي مُعَاذًا الَّذِي كَانَ يَحْتَسِبُ نَوْمَهُ كَقِيَامِهِ } لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا عَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ

، وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ ، وَحُسْنِ نِيَّاتِهِمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ حَسَنَةٍ إلَّا ، وَلَهَا أُخَيَّاتٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ عَوْنٌ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ .

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رِجْلِي أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي ، وَقَدْ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ انْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى يَصْفُوَ بِهَا قَلْبُهُ ، وَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمِ ، وَذَلِكَ لِطُولِ أَعْمَارِهِمْ ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَدْرَكْت النَّاسَ ، وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ إلَى أَنْ يَصِلَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَيَنْقَطِعَ لِلْعِبَادَةِ ، وَيَطْوِيَ الْفِرَاشَ انْتَهَى .

وَمَعْنَى طَيِّ الْفِرَاشِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ { ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْوِي فِرَاشَهُ ، وَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ فِي أَوَّلِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ أَنْ يَمْزُجَهُ بِالتَّعَبُّدِ ، إذْ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ عُمُرٌ طَوِيلٌ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ لَهُ بُرْهَةً مِنْهُ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ ، وَهُوَ فِي السَّبَبِ قَبْلَ وُصُولِهِ لِلْمَقْصُودِ ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَتَعَلَّمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَعْمَلُوا ؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ كَالشَّجَرَةِ ، وَالتَّعَبُّدَ كَالثَّمَرَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ الشَّجَرَةُ لَا ثَمَرَ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا فَائِدَةٌ كُلِّيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ نَاعِمَةً ، وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهَا لِلظِّلِّ وَغَيْرِهِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ قَدْ عُدِمَ

مِنْهَا ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَكَلَّمُوا بِالْحَقِّ تُعْرَفُوا بِهِ ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى .

وَلْيُحْذَرْ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْعَمَلِ مَا عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ ، أَوْ يُخِلَّ بِاشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ ، إذْ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا بَابٌ كَثِيرًا مَا يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ إذَا عَجَزَ عَنْ تَرْكِهِمْ لَهُ فَيَأْمُرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَوْرَادِ حَتَّى يَنْقُصَ اشْتِغَالُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعُدَّةُ الَّتِي يَتَلَقَّى بِهَا ، وَيُحَذِّرُ مِنْهُ بِهَا فَإِذَا عَجَزَ عَنْ التَّرْكِ رَجَعَ إلَى بَابِ النَّقْصِ ، وَهُوَ بَابٌ قَدْ يَغْمُضُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ بَابُ خَيْرٍ ، وَعَادَةُ الشَّيْطَانِ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَى الطَّالِبِ فَيُخِلُّ بِحَالِهِ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي عِلْمِهِ مِثْلَ الْمِلْحِ فِي الْعَجِينِ إنْ عُدِمَ مِنْهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يُصْلِحُهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّ يَدَهُ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ عَلَى فِعْلِ السُّنَنِ ، وَالرَّوَاتِبِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ قَبْلَهُ ، أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِظْهَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ مَا عَدَا مَوْضِعَيْنِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَفْعَلُهُمَا إلَّا فِي بَيْتِهِ ، وَهُمَا الرُّكُوعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَالرُّكُوعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ .

أَمَّا الْجُمُعَةُ فَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَمَّا أَنْ قَامَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْكَعُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ ، فَأَقْعَدَهُ عُمَرُ ، وَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ تُشْبِهُ الْجُمُعَةُ بِمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مِنْ الظُّهْرِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ } ، وَلِأَنَّهَا لَوْ صُلِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ صِحَّةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا

خَلْفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَمِنْ بَابِ اللُّطْفِ ، وَالرَّحْمَةِ ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا صِيَامًا ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ يَنْتَظِرُونَ صَاحِبَ الْبَيْتِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيَأْكُلُونَ مَعَهُ ، فَلَوْ رَكَعَ فِي الْمَسْجِدِ لَتَشَوَّفُوا إلَى مَجِيئِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ إذَا سَمِعَ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ يُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَتَنَ أُمُّهُ } سِيَّمَا فِي حَقِّ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ ؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْفَرَائِضِ ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ السُّنَنَ ، وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ

، وَكَذَلِكَ لَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الضُّحَى لِقَوْلِ عَائِشَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ نُشِرْ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتهَا ، وَمَعْنَاهُ لَوْ أُحْيِيَا لِي ، وَقَامَا مِنْ قَبْرَيْهِمَا مَا اشْتَغَلْت بِهِمَا عَنْهَا

، وَكَذَلِكَ يُحَافِظُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْهُ ، وَهُوَ خَمْسُ تَسْلِيمَاتٍ غَيْرَ الْوِتْرِ ، وَيَقْرَأُ فِيهَا بِمَا خَفَّ مِنْ الْقُرْآنِ يَكُونُ لَهُ فِي تِلْكَ الرَّكَعَاتِ حِزْبٌ مَعْلُومٌ مِنْ حِزْبَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ ، وَإِنْ قَلَّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، فَإِنْ كَانَ الْحِزْبُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَفُوتَ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ فَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ التِّلَاوَةِ يَكْفِيهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ ، وَلَا يَنْسَى الْخَتْمَةَ فِي الْغَالِبِ إذَا دَامَ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي بُيُوتِهِمْ طُولَ السَّنَةِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي يَقُومُونَ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ ، لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ جُعِلَ لَهُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ يَجْمَعُونَ فِيهِ فِي الْمَسَاجِدِ لِيَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الْخَتْمَةَ كَلَامَ رَبِّهِ ، فَإِنْ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ ، وَوَجَدَ مَعَهُ الْكَسَلَ ، وَثِقَلَ النَّوْمِ ، فَإِذَا كَانَ الْحِزْبُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ سَهُلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ ، وَأَتَى بِهِ ، وَرَجَعَ إلَى النَّوْمِ إنْ لَمْ يَطْلُعْ عَلَيْهِ الْفَجْرُ ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ مَنْ مَضَى أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنْ اللَّيْلِ : إنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَقَدْ كَانُوا يُغْلِسُونَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ ، وَذَلِكَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى خِفَّةِ الْوَرْدِ ، وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَأَمَّا مَعَ النَّشَاطِ ، وَقُوَّةِ الْعَزْمِ فَيَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ ، وَمَا وَجَدَ إلَيْهِ السَّبِيلَ فَإِنْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ فِي التِّلَاوَةِ فَلْيَمْضِ فِيهَا ، وَلَا يَقْتَصِرْ عَلَى حِزْبِهِ

الْمُعْتَادِ ، وَلَوْ خَتَمَ الْخَتْمَةَ ، وَابْتَدَأَهَا ثَانِيًا ، وَثَالِثًا ، وَهَكَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ مَثَلًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِحِزْبٍ فَالْمَشْرُوعُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِمِثْلِ الْأُولَى ، أَوْ أَقَلَّ ، فَلَوْ وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي الثَّانِيَةِ فَلْيَمْضِ لِسَبِيلِهِ مَا دَامَ يَجِدُ ذَلِكَ ، وَلَوْ طَالَ الْأَمْرُ ، فَإِنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ فَلْيَرْجِعْ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ إلَى الِاشْتِغَالِ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لَكِنْ يُكْمِلُ خَمْسَ تَسْلِيمَاتٍ مُخَفَّفَةٍ كَمَا لَوْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَإِنَّهُ يُوقِعُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ إذَا وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي شَيْءٍ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ .

مِثْلَ أَنْ يَجِدَ الْحَلَاوَةَ فِي الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يَقْطَعُهُ ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْرَادِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي الرُّكُوعِ فَلَا يَرْفَعُ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا فِي السُّجُودِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى فَوَاتِ الْفَرَائِضِ فِي الْجَمَاعَةِ فَلْيَقْطَعْ ذَلِكَ لِأَجْلِهَا .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُغْلِسُونَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُقَرِّبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَعَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْحَلَاوَةِ فِي الْمُنَاجَاةِ فِي وِرْدِهِ ، أَوْ الدُّعَاءِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْفَرْضُ فَيَفْعَلَ كَمَا سَبَقَ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ مَرَّ فِي وِرْدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فَبَقِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُكَرِّرُهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ } ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ رَحِمَهُ

اللَّهُ ، وَنَفَعَنَا بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَخَرَجَ خَلْفَهُ بَعْضُ إخْوَانِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ رَفَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ، وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ بِيَدِهِ ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ شَاخِصًا إلَى السَّمَاءِ ، فَوَقَفَ الرَّجُلُ خَلْفَهُ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ رَجَعَ أَبُو يَزِيدَ إلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ خَلْفَهُ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو يَزِيدَ ، وَإِلَى تَرْكِهِ مَا كَانَ فِيهِ ، وَإِتْيَانِهِ إلَى الْفَرْضِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ كَانَ الْقُرْآنُ يَنْفَلِتُ مِنْهُ لِقِلَّةِ حِفْظِهِ : فَلْيَقُمْ بِهِ فِي اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُثَبِّتُهُ لَهُ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي الثُّلُثِ الْآخِرِ مِنْهُ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْبَرَكَاتِ ، وَالْخَيْرَاتِ .

أَلَا تَرَى إلَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْآخِرِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } إلَخْ ، وَمَعْنَى النُّزُولِ هَاهُنَا نُزُولُ طَوْلٍ وَمَنٍّ ، وَتَفَضُّلٍ ، وَكَرَمٍ عَلَى عِبَادِهِ ، لَا نُزُولُ انْتِقَالٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَوَائِدِ جُمْلَةٌ ، فَلَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَمِنْهَا : أَنْ يَحُطَّ الذُّنُوبَ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الْعَاصِفُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ مِنْ الشَّجَرَةِ .

الثَّانِي : أَنَّهُ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُحَسِّنُ الْوَجْهَ .

الرَّابِعُ : أَنَّهُ يُذْهِبُ الْكَسَلَ ، وَيُنَشِّطُ الْبَدَنَ .

الْخَامِسُ : أَنَّ مَوْضِعَهُ تَرَاهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا يَتَرَاءَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ لَنَا فِي السَّمَاءِ .

وَقَدْ رَوَى

التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِلَالٍ ، وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ ، وَقُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ } .

وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ } ، وَلَعَلَّك تَقُولُ : إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إنْ فَعَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ تَعَطَّلَتْ عَلَيْهِ وَظَائِفُهُ مِنْ الدَّرْسِ ، وَالْمُطَالَعَةِ ، وَالْبَحْثِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ نَفْحَةً مِنْ هَذِهِ النَّفَحَاتِ تَعُودُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ بِالْبَرَكَاتِ ، وَالْأَنْوَارِ ، وَالتُّحَفِ مَا قَدْ يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ وَصْفِهِ ، وَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ أَضْعَافُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ ، مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَزِيزٌ قَلَّ أَنْ يَقَعَ إلَّا لِلْمُعْتَنِي بِهِ ، وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ إنَّمَا هُمَا وَسِيلَتَانِ لِمِثْلِ هَذِهِ النَّفَحَاتِ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ } انْتَهَى .

وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيمَا حَكَاهُ الْبَاجِيُّ ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ مَضَتْ عَلَى فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ طُولَ السَّنَةِ فِي الْبُيُوتِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِشَرٍّ ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ إنْ فُعِلَ فِي

غَيْرِ الْبُيُوتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ قِيَامَ السُّنَّةِ فِي الْبُيُوتِ فِيمَا عَدَا رَمَضَانَ مُخَالِفٌ لِقِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِهِ يُفْعَلُ بَعْدَ النَّوْمِ فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ يُفْعَلُ قَبْلَهُ ، وَيَكْفِي .

وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ قَبْلَ النَّوْمِ ، وَبَعْدَهُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ فِعْلَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَكْثَرُ ، وَلَا يَجْمَعُونَ لَهُ ، وَلَا يُشْهِرُونَهُ بِخِلَافِ قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا قَبْلَ النَّوْمِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ يَعْنِي مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَقَامَ آخِرَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ قَامَ أَوَّلَهُ فَقَطْ ، وَأَمَّا قِيَامُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَذَلِكَ أَفْضَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا فَرَغُوا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَسْتَعْجِلُونَ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ قَامَ بَعْضَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَازَ فَضْلَ اللَّيْلِ كُلِّهِ فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ كُلَّهُ ، وَلَا شَكَّ فِي فَضِيلَتِهِ ، أَوْ يَقُومَ أَوَّلَهُ ، وَآخِرَهُ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ ، أَوْ يَقُومَ آخِرَهُ دُونَ أَوَّلِهِ ، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ أَوَّلَهُ دُونَ آخِرِهِ ، وَهُوَ الْمَفْضُولُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وِرْدِ الصَّوْمِ ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِأَنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ ، إذْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ مَشَقَّةٍ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا عَلَى مَا كَانَ يَصُومُهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ ، وَيَصُومُ عَاشِرَهَا ، وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنْ وَجَدَ النَّشَاطَ ، وَالْقُوَّةَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَادَرَ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ بِسَبِيلِهِ ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ مَعَ طَلَبِ الْعِلْمِ فَيَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ ، وَيَصُومَهَا ، لِئَلَّا تَفُوتَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ } فَيَكُونُ ذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ يَكُونُ حَالُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اشْتِغَالَهُ بِالدَّرْسِ ، وَالْمُطَالَعَةِ ، وَالتَّفَهُّمِ ، وَالْبَحْثِ مَعَ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ يُرْتَجَى النَّفْعُ بِهِمْ ، وَلِقَاءِ مَشَايِخِ الْعِلْمِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ ، وَالْخَيْرِ ، وَيُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ

فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ بِرُؤْيَتِهِمْ يُحْيِي اللَّهُ الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ ، فَتَنْشَرِحُ بِهِمْ الصُّدُورُ الصُّلْبَةُ ، وَتَهُونُ بِرُؤْيَتِهِمْ الْأُمُورُ الصَّعْبَةُ إذْ هُمْ وُقُوفٌ عَلَى بَابِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ فَلَا يُرَدُّ قَاصِدُهُمْ ، وَلَا يَخِيبُ مُجَالِسُهُمْ ، وَلَا مَعَارِفُهُمْ ، وَلَا مُحِبُّهُمْ إذْ هُمْ بَابُ اللَّهِ الْمَفْتُوحُ لِعِبَادِهِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى رُؤْيَتِهِمْ ، وَاغْتِنَامِ بَرَكَتِهِمْ ؛ وَلِأَنَّهُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْفَهْمِ ، وَالْحِفْظِ ، وَغَيْرِهِمَا مَا قَدْ يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ وَصْفِهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ اتَّصَفَ بِمَا ذُكِرَ لَهُ الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ فِي عِلْمِهِ ، وَفِي حَالِهِ ، فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُحَافِظًا عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ

فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَزُورَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ ، وَمِمَّنْ لَا خَطَرَ لَهُ فِي الدِّينِ إلَّا بِالتَّمْوِيهِ ، وَبَعْضِ الْإِشَارَاتِ ، وَالْعِبَارَاتِ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَلَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يَضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْمُدَّعِينَ بَلْ قَدْ تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ مَنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ وَالْوِلَايَةَ ، وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ ، وَقَدْ تَذْهَبُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحَزِّبُ عَلَى نَفْسِهِ .

وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الصُّلَحَاءِ رَحَلَ إلَى زِيَارَةِ شَخْصٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ أَرْبَعَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ بِهِ ، وَهُوَ عُرْيَانٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضُ قُضَاةِ الْبَلَدِ ، وَرُؤَسَائِهَا ، وَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ فِي الدِّينِ ، وَقِلَّةُ حَيَاءٍ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ ، وَارْتِكَابِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ إذْ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُحَرَّمٌ ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَيْهَا ، وَإِخْرَاجُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا فَيَرْتَكِبُونَ مُحَرَّمَاتٍ جَمَّةً ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ مَا ، وَإِلَّا فَالْمَفَاسِدُ الَّتِي تَعْتَوِرَهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ، أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فِي الْغَالِبِ

فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَطْلُوبٍ ، وَيَغَارُ عَلَيْهَا إنْ تَغَيَّرَتْ مَعَالِمُهَا بِأَنْ يُنْسَبَ إلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا فَإِذَا تَعَارَضَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ ، وَزِيَارَةُ مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَا ، فَالتَّرْكُ لِزِيَارَتِهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِهِ مُخَالِفٌ مَعَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِهِ ، وَأَمَّا مَعَ الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ يَضِيقُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ ، وَيَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُخِلَّ بِجَانِبِ السُّنَّةِ ، أَوْ بَعْضِهَا فَالْهَرَبَ الْهَرَبَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِشَخْصٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ ، أَوْ يَتَأَوَّلَ لَهُ ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَكَثُرَتْ الطُّرُقُ ، وَاخْتَلَفَتْ الْأَحْوَالُ ، وَتَشَعَّبَتْ السُّبُلُ .

وَلَوْ قُلْت لِأَحَدِهِمْ مَثَلًا : السُّنَّةُ كَذَا ، وَكَذَا قَابَلَك بِمَا لَا يَلِيقُ فَيَقُولُ : كَانَ شَيْخِي يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، وَمَا هَذَا طَرِيقُ شَيْخِي ، وَكَانَ شَيْخِي يَقُولُ : كَذَا ، وَكَذَا ، وَيُصَادِمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ السُّنَّةَ الْوَاضِحَةَ ، وَالطَّرِيقَةَ النَّاجِحَةَ ، يَا لَيْتَهُمْ لَوْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ لَوْ كَانَ سَائِغًا ، بَلْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَخُوفِ ، وَهُوَ مَا بَلَغَنِي مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ ، وَنَقَلَ فِيهَا عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ نَقْلًا تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ : حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ هَذَا فَأَجَابَهُ بِأَنْ قَالَ : حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُرَادُ لِلتَّبَرُّكِ ، وَالشُّيُوخُ هُمْ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ ، وَهَذَا إنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا قَالَهُ كَانَ كَافِرًا حَلَالَ الدَّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عُظْمَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا مَعَ الْأَدَبِ الْمُوجِعِ .

وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا ، وَهُوَ مَا

أَحْدَثُوهُ مِنْ اعْتِقَادِ بَعْضِ النِّسْوَةِ ، وَزِيَارَتِهِنَّ ، وَهُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بَلْ عَدَمِ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِنَّ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَيْهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مِنْ يَتَسَمَّى بِالشَّيْخَةِ مِنْ الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِأَصْوَاتِ النِّسْوَةِ ، وَفِي أَصْوَاتِهِنَّ مِنْ الْعَوْرَاتِ مَا لَا يَنْحَصِرُ بِسَبَبِ تَرْخِيمِ أَصْوَاتِهِنَّ ، وَنَدَاوَتِهَا سِيَّمَا ، وَبَعْضُ الشَّيْخَاتِ عَلَى زَعْمِهِنَّ مِنْ شِعَارِهِنَّ إلْبَاسُ الصُّوفِ لِمَنْ تَابَتْ عَلَى يَدِهَا ، وَدَخَلَتْ فِي طَرِيقَتِهَا .

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ لِبَاسِ الصُّوفِ لِلرِّجَالِ فَقَالَ : لَا خَيْرَ فِي الشُّهْرَةِ ، وَمِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ مَا هُوَ فِي مِثْلِ ثَمَنِهِ ، وَأَبْعَدُ مِنْ الشُّهْرَةِ انْتَهَى .

فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، بَلْ لِبَاسُ ذَلِكَ لَهُنَّ مُثْلَةٌ ، وَشُهْرَةٌ ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِنِسَاءِ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِنَّ أَعْنِي فِي لِبَاسِهِنَّ الصُّوفَ ، وَالتَّخَلِّي عَنْ الْأَزْوَاجِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ ضِدُّ مُرَادِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ : { جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ } انْتَهَى .

وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ لُبْسُ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ ، وَالتَّحَلِّي وَالتَّزَيُّنُ لِزَوْجِهَا ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا مُصَادِمٌ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفٌ لَهَا فَيَنْبَغِي زَجْرُهُ وَهَجْرُهُ ، فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ ، وَأَنْتَ تَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ رِيَاسَةٌ ، وَمِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَتَحَدَّثُونَ بِفَضَائِلَ مَنْ هَذَا حَالُهَا ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ ، وَيُطَرِّزُونَ بِذِكْرِهَا مَجَالِسَهُمْ ، وَيَزُورُونَهَا فِي بَيْتِهَا ، وَيَسْتَعْمِلُونَ خُطَاهُمْ إلَى زِيَارَتِهَا ، أَوْ تَأْتِي هِيَ إلَيْهِمْ ، وَيُعَظِّمُونَهَا ، وَيُكَرِّمُونَهَا ، وَمَنْ لَا يَلْبَسُ الصُّوفَ مِنْ الشَّيْخَاتِ لَهُنَّ عَوْرَاتٌ أُخَرُ أَكْثَرُ ، وَأَشْنَعُ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا مِمَّا تُنَزَّهُ الْأَلْسُنُ

عَنْ ذِكْرِهَا ، وَالْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا .

وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قِيلَ : بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ : يَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْت إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْك شَيْئًا قَالَتْ : مَا رَأَيْت مِنْك خَيْرًا قَطُّ } ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَعَائِشَةُ } انْتَهَى .

وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ : رَحِمَهُ اللَّهُ احْذَرُوا الِاغْتِرَارَ بِالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً صَالِحَاتٍ فَإِنَّهُنَّ يَرْكَنَّ إلَى كُلِّ بَلِيَّةٍ ، وَلَا يَسْتَوْحِشْنَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ ، وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَنَفَعَنَا بِهِ : لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا شِعَارُهُ لُزُومُ بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ : كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } انْتَهَى .

فَكَيْفَ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ ، وَاعْتِقَادُ الشَّيْخَاتِ يَسْتَدْعِي خُرُوجَ رَبَّاتِ الْخُدُورِ ، وَغَيْرِهِنَّ ، وَفِي خُرُوجِهِنَّ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا قَدْ عُلِمَ ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ صَالِحَاتٌ ، وَلَا عَابِدَاتٌ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي اعْتِقَادِ بَعْضِهِنَّ فِي هَؤُلَاءِ الشَّيْخَاتِ مِنْ النِّسْوَةِ ، وَهُنَّ كَمَا قَدْ عُلِمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَمْضِينَ لِمَوْضِعٍ يَعْمَلْنَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ إطْلَاقِهِنَّ عَنْ ضَامِنَةِ الْمَغَانِي ، فَمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ ،

ثُمَّ الْعَجَبُ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ مِمَّنْ لَهُ الْحِشْمَةُ أَوْ الْمَشْيَخَةُ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ سَمَاعِ الْمَغَانِي ، وَيُعَوِّضُونَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فَتَجِيءُ بَعْدَ إطْلَاقِهَا مِنْ الضَّامِنَةِ ، وَمَعَهَا حَفَدَتُهَا ، وَيَرْفَعْنَ عَقِيرَتَهُنَّ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً لِلرِّجَالِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .

وَأَنْكَرَ مَالِكٌ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، وَفِي أَصْوَاتِهِنَّ مِنْ النَّدَاوَةِ ، وَالتَّرْخِيمِ ، وَالْفِتْنَةِ مَا قَدْ عُلِمَ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَلَامِ الْمُتَجَالَّةِ أَمَّا الَّتِي كَلَامُهَا أَحْلَى مِنْ الرُّطَبِ فَلَا انْتَهَى .

يَعْنِي أَنَّهُ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً فَكَيْفَ بِهِ فِي الشَّابَّةِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا مِنْ سَاقِطَةٍ إلَّا وَلَهَا لَاقِطَةٌ ، وَسَبَبُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا قِرَاءَةُ الرِّجَالِ جَمَاعَةً ، وَذِكْرُهُمْ جَمَاعَةً فَجَرَّ ذَلِكَ إلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسْوَةُ فِي الْفَرَحِ ، وَالْمَوْلِدِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَزِدْنَ عَلَى ذَلِكَ قِيَامَهُنَّ يَرْقُصْنَ ، وَيُعَيِّطْنَ ، وَتَأْخُذُهُنَّ الْأَحْوَالُ عَلَى زَعْمِهِنَّ ، وَفِي رَقْصِهِنَّ مِنْ الْعَوْرَاتِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْفِتَنِ ، وَفَسَادِ الْقُلُوبِ ، وَالتَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِيهِ دِينٌ ، أَوْ خَيْرٌ مَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى خَسْفِ الْقُلُوبِ ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ ، وَانْقِلَابِ الْمَقَاصِدِ ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ لِلْمَفَاسِدِ ، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا ، وَلَا عَدُّهَا فَاللَّبِيبُ مَنْ تَرَكَ هَذَا كُلَّهُ إذْ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَهُ يُحَرِّمُهُ ، وَيَأْمُرُهُ بِتَغْيِيرِهِ ،

فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يَشْهَدَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ ، وَلَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَشْهَدُهَا ، وَلَا يَرْضَى بِفِعْلِهَا ، وَلَا يَذْكُرَهَا سِيَّمَا بِحَضْرَتِهِ بَلْ يَعِيبُ ذَلِكَ ، وَيُبَيِّنُ أَمْرَ الشَّرْعِ فِيهِ .

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : لَا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً يَقُولُ : أَنَا مَعَ النَّاسِ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْت ، وَإِنْ أَسَاءُوا أَسَأْت ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا لَا تَظْلِمُوا انْتَهَى .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزْهَدَ فِي زِيَارَةِ الْأَكَابِرِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالصَّالِحِينَ إذْ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِسِيمَاهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } ، وَقَالَ تَعَالَى { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ } انْتَهَى .

فَإِنْ خَفِيَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَمْرُ أَحَدٍ مِمَّنْ يَرَاهُ فَلْيَنْظُرْ فِي تُصَرِّفْهُ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السُّنَّةِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَاقَعَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَهْرُبْ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لِصٌّ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُثْنِيَ عِنْدَهُ عَلَى شَخْصٍ كَانَ فِي وَقْتِهِ فَخَرَجَ هُوَ ، وَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ إلَى زِيَارَتِهِ ، وَدَخَلَا الْمَسْجِدَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ فَلَمْ يَجِدَاهُ فَجَلَسَا يَنْتَظِرَانِهِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ تَنَخَّمَ ، وَبَصَقَ فِيهِ ، فَخَرَجَ هَذَا السَّيِّدُ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ الشَّخْصُ الَّذِي كَانَ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : لِمَ خَرَجْت ، وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : إذَا كَانَ إنْسَانٌ لَمْ يَأْتَمِنْهُ

اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يَأْتَمِنُهُ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ ، وَنَقَلْت مِنْ الْقُوتِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ ، وَتَرْفِيعُهَا ، وَتَعْظِيمُ قَدْرِهَا إذْ أَنَّهَا أَوَّلُ بَابٍ فِي الْخَيْرِ ، وَهِيَ آخِرُهُ فَشُدَّ يَدَك عَلَيْهَا إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِهَا ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ آمِينَ بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهِ فَإِنَّ التَّرْكَ مُضِرٌّ ، وَلَوْ قَلَّ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُلُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ مَا مَعْنَاهُ إذَا تَرَكَ الطَّالِبُ الِاشْتِغَالَ يَوْمًا كَأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً : وَإِنْ تَرَكَهُ يَوْمَيْنِ كَأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّتَيْنِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ ثَلَاثًا لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ انْتَهَى .

وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَاتِبَ خَطُّهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِتَرْكِ الْكَتْبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ فَضْلٍ عَظِيمٍ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَادِرَ إلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَيَعْمَلَهَا فِيهِ ، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، لَكِنْ إنْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَدْ يُخْشَى أَنْ يَفُوتَهُ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ مِنْ وَظَائِفِ الْجُمُعَةِ مِثْلَ الْغُسْلِ ، وَقَصِّ الشَّارِبِ ، وَالْأَظَافِرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَيَحْضُرَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي الْجَامِعِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَعْنِي بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ الْمَجْلِسَ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا مَجْلِسَ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ

، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْجُلُوسِ إلَى الْقُصَّاصِ فَقَالَ : مَا أَرَى أَنْ يُجْلَسَ إلَيْهِمْ ، وَإِنَّ الْقَصَصَ لَبِدْعَةٌ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَرَاهَةُ الْقَصَصِ مَعْلُومٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ : خَرَجَ مَعَنَا فَتًى مِنْ طَرَابُلُسَ إلَى الْمَدِينَةِ فَكُنَّا لَا نَنْزِلُ مَنْزِلًا إلَّا وَعَظَنَا فِيهِ حَتَّى بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ فَكُنَّا نَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ إذَا هُوَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِنَا ، فَرَأَيْته مِنْ سِمَاطِ أَصْحَابِ التَّيَقُّظِ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُحَدِّثُهُمْ ، وَقَدْ لَهَوْا عَنْهُ ، وَالصِّبْيَانُ يَحْصِبُونَهُ ، وَيَقُولُونَ لَهُ : اُسْكُتْ يَا جَاهِلُ فَوَقَفْت مُتَعَجِّبًا مِمَّا رَأَيْت فَدَخَلْنَا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ الْفَتَى فَقَالَ مَالِكٌ : أَصَابَ الرِّجَالُ إذْ لَهَوْا عَنْهُ ، وَأَصَابَ الصِّبْيَانُ إذْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَاطِلَهُ ، وَقَالَ يَحْيَى : وَسَمِعْت مَالِكًا يُكَرِّهُ الْقَصَصَ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَإِذًا تَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا فَعَلَامَ كَانَ يَجْتَمِعُ مَنْ مَضَى ؟ فَقَالَ : عَلَى الْفِقْهِ ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ ، وَيَنْهَاهُمْ انْتَهَى .

وَقَوْلُ مَالِكٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَابَ الرِّجَالُ إذْ لَهَوْا عَنْهُ ، وَأَصَابَ الصِّبْيَانُ إذْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَاطِلَهُ إنَّمَا صَوَّبَ فِعْلَ الرِّجَالِ لِكَوْنِ الصِّبْيَانِ قَدْ كَفَوْهُمْ مُؤْنَةَ التَّغْيِيرِ ، فَلَوْ لَمْ يُغَيِّرْ الصِّبْيَانُ لَبَادَرُوا إلَى التَّغْيِيرِ ، وَمِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ الْقَصَصَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ قَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي أَدْعُو اللَّهَ ، وَأَقُصُّ ، وَأُذَكِّرُ النَّاسَ فَقَالَ عُمَرُ : لَا فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ : أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ

فَاعْرِفُونِي .

وَقَالَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ قَالَ مَالِكٌ : وَنَهَيْت أَبَا قُدَامَةَ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَقُولَ افْعَلُوا كَذَا ، وَكَذَا ، وَقَالَ أَبُو إدْرِيسَ : لَأَنْ أَرَى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ نَارًا تُؤَجَّجُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِي نَاحِيَتِهِ قَاصًّا يَقُصُّ ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَمْ يُقَصَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ ، وَظَهَرَ الْقُصَّاصُ ، وَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ أَخْرَجَ الْقُصَّاصَ مِنْهُ ، وَقَالَ : لَا يُقَصُّ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي عُلُومِ الْأَعْمَالِ فَاسْتَمَعَ إلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ .

وَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ .

وَقِيلَ لِابْنِ سِيرِينَ : لَوْ قَصَصْت عَلَى إخْوَانِك فَقَالَ : قَدْ قِيلَ : لَا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ إلَّا أَمِيرٌ ، أَوْ مَأْمُورٌ ، أَوْ أَحْمَقُ ، وَلَسْت بِأَمِيرٍ ، وَلَا مَأْمُورٍ ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ انْتَهَى .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا يَقُصُّ إلَّا أَمِيرٌ ، أَوْ مَأْمُورٌ ، أَوْ مُخْتَالٌ } انْتَهَى .

وَقَالَ الطُّرْطُوشِيُّ أَيْضًا : قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ : رَأَيْت سَيَّارًا أَبَا الْحَكَمِ يَسْتَاكُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَقَاصًّا يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْت لَهُ : يَا أَبَا الْحَكَمِ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْك فَقَالَ : الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ أَنَا فِي سُنَّةٍ ، وَهُمْ فِي بِدْعَةٍ ، وَلَمَّا أَنْ دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ الْبَصْرَةَ نَظَرَ إلَى قَاصٍّ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ

: فَتَوَسَّطَ الْأَعْمَشُ الْحَلْقَةَ ، وَجَعَلَ يَنْتِفُ شَعْرَ إبْطَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْقَاصُّ : يَا شَيْخُ أَلَا تَسْتَحِي نَحْنُ فِي عِلْمٍ ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ : الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ قَالَ : كَيْفَ فَقَالَ : لِأَنِّي فِي سُنَّةٍ ، وَأَنْتَ فِي كَذِبٍ ، أَنَا الْأَعْمَشُ ، وَمَا حَدَّثْتُك مِمَّا تَقُولُ شَيْئًا ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذِكْرَ الْأَعْمَشُ انْفَضُّوا عَنْ الْقَاصِّ ، وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ ، وَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ .

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَكْذَبُ النَّاسِ الْقُصَّاصُ ، وَالسُّؤَالُ ، وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ إلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمَوْتَ ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ قِيلَ لَهُ : أَكُنْت تَحْضُرُ مَجَالِسَهُمْ قَالَ لَا ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : وَحُضُورُ الرَّجُلِ مَجَالِسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَصَلَاتُهُ أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِهِ مَجَالِسَ الْقُصَّاصِ ، وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { حُضُورُ مَجْلِسِ عِلْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ } ، وَفِي الْخَبَرِ { لَأَنْ يَتَعَلَّمَ أَحَدُكُمْ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ ، أَوْ يُعَلِّمَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ } ، وَفِي خَبَرٍ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : وَهَلْ تَنْفَعُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إلَّا بِعِلْمٍ } فَالصَّلَاةُ إذَا عُدِمَ مَجْلِسُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ ، وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَزْكَى مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَصَصِ ، وَمِنْ الِاسْتِمَاعِ إلَى الْقُصَّاصِ ، فَإِنَّ الْقَصَصَ كَانَ عِنْدَهُمْ بِدْعَةٌ ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَ الْقُصَّاصَ ، وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قُلْت لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : أَخٌ لِي يَقْعُدُ إلَى الْقُصَّاصِ قَالَ : انْهَهُ قُلْت : لَا يَقْبَلُ قَالَ : عِظْهُ قُلْت : لَا يَقْبَلُ قَالَ : اُهْجُرْهُ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : فَأَتَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَذَكَرْت لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ : قُلْ لَهُ يَقْرَأُ فِي الصُّحُفِ ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ ، وَيَطْلُبُ

حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ : بَلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ قُلْت : فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَهْجُرُهُ قَالَ : فَتَبَسَّمَ ، وَسَكَتَ انْتَهَى .

، وَكَذَلِكَ لَا يُحْضِرُ الْكُتُبَ الَّتِي تُقْرَأُ ، وَفِيهَا الْأَحَادِيثُ الْمُشْكِلَةُ عَلَى السَّامِعِ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا ، وَمَعْنَاهَا ، وَيَحِلُّ مُشْكِلَهَا ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَحِلُّ الْمُشْكِلَ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ يَعُمُّ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ كَمَا يَعُمُّهُمْ صَوْتُ الْقَارِئِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعُمَّهُمْ ، فَالْغَالِبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُومُ ، وَعِنْدَهُ الرِّيبَةُ فِي اعْتِقَادِهِ ، وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْحَدِيثِ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي اهْتِزَازِ الْعَرْشِ ، وَعَنْ حَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } ، وَعَنْ الْحَدِيثِ فِي السَّاقِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُتَحَدَّثَنَّ بِهِ ، وَمَا يَدْعُو الْإِنْسَانَ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ ، وَهُوَ يَرَى مَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ .

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ ، وَيَخَافُهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِمِثْلِ هَذَا قِيلَ لَهُ : فَالْحَدِيثُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْحَكُ فَلَمْ يَرَهُ مِنْ هَذَا ، وَأَجَازَهُ انْتَهَى .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْعَرْشِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : { اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَأَنَّهُ قَالَ : اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } ، وَمَا رُوِيَ { مِنْ أَنَّ أُمَّهُ بَكَتْ ، وَصَاحَتْ لَمَّا أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْقَأْ دَمْعُك ، وَيَذْهَبْ حُزْنُكِ ، فَإِنَّ وَلَدَك أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ } ، وَمَا يُرْوَى مِنْ { أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَتَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ قَالَ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سَعْدُ بْنُ

مُعَاذٍ قَدْ مَاتَ } .

وَالْحَدِيثُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ مَا يُرْوَى { أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَجَلَّى لِلْخَلْقِ فَيَقُولُ : مَنْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا فَيَقُولُ : وَهَلْ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ فَيَقُولُونَ : إذَا تَعَرَّفَ إلَيْنَا سُبْحَانَهُ عَرَفْنَاهُ قَالَ : فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إلَّا خَرَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَاجِدًا } ، وَإِنَّمَا نَهَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُتَحَدَّثَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ، وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } ، وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ ، وَسَبِيلُهَا إذَا صَحَّتْ الرِّوَايَاتُ بِهَا أَنْ تَتَأَوَّلَ عَلَى مَا يَصِحُّ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ التَّشْبِيهُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، كَمَا يُصْنَعُ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ ، وَالْمَلَائِكَةُ } ، وَالْمَجِيءِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَجَاءَ رَبُّك ، وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } انْتَهَى .

وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } أَيْ عَذَابُهُ ، وَنِقْمَتُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ ، وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ ، وَجَاءَ رَبُّك .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الظُّهُورَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا الْحِجَابُ مِنَّا ، فَإِذَا كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنَّا ظَهَرَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ غَيْرِ حَدٍّ ، وَلَا تَكْيِيفٍ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ الصُّورَةِ ، وَالْكَيْفِيَّةِ .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالِاسْتِوَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْقَهْرُ ، وَالْغَلَبَةُ

تَقُولُ الْعَرَبُ : اسْتَوَى زَيْدٌ عَلَى أَرْضِ كَذَا أَيْ مَلَكَهُمْ وَقَهَرَهُمْ ، قَالَ الشَّاعِرُ : قَدْ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَهُولَةِ اكْتَفَى بِذَكَرِهِ عَمَّا دُونَهُ ، إذْ أَنَّ مَا دُونَهُ تَبَعٌ لَهُ ، وَفِي حُكْمِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا يَفْعَلُ أَيْضًا بِمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالضَّحِكِ ، وَالنُّزُولِ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَتُهَا لِتَوَاتُرِ الْآثَارِ بِهَا انْتَهَى .

أَمَّا الضَّحِكُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ مِنَّا مِنْ الرِّضَا ، وَالْإِحْسَانِ ، وَأَمَّا النُّزُولُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ سَبِيلَهَا كُلِّهَا فِي اقْتِضَاءِ ظَاهِرِهَا التَّشْبِيهَ ، وَإِمْكَانِ تَأْوِيلِهَا كُلِّهَا عَلَى مَا يَنْتَفِي بِهِ تَشْبِيهُ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، وَأَقْرَبَهَا كُلِّهَا أَنَّ عَرْشَ الرَّحْمَنِ قَدْ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَا تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالِاهْتِزَازُ ، وَإِضَافَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ لَهُ كَمَا يُقَالُ : بَيْتُ اللَّهِ ، وَحَرَمُهُ لَا أَنَّهُ مَحَلٌّ لَهُ ، وَمَوْضِعٌ لِاسْتِقْرَارِهِ ، إذْ لَيْسَ فِي مَكَان فَقَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْمَكَانُ فَلَا يَلْحَقُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاهْتِزَازِ عَرْشِهِ مَا يَلْحَقُ مَنْ اهْتَزَّ عَرْشُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ مِنْ تَحَرُّكِهِ بِحَرَكَتِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَجَازًا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِتَحْرِيكِ الْعَرْشِ حَرَكَةَ حَمَلَتِهِ اسْتِبْشَارًا وَفَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ : اهْتَزَّ الْمَجْلِسُ بِقُدُومِ فُلَانٍ عَلَيْهِ أَيْ اهْتَزَّ أَهْلُهُ لِقُدُومِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } يُرِيدُ أَهْلَهَا ، وَمِثْلَ

قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُحُدٌ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ، وَنُحِبُّهُ } أَيْ : يُحِبُّنَا أَهْلُهُ وَنُحِبُّهُمْ ، وَأَمَّا حَدِيثُ السَّاقِ فَلَمْ يُضَفْ السَّاقُ فِيهَا إلَى أَحَدٍ ، وَمَعْنَاهُ عَنْ شِدَّةٍ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَى شِدَّةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَامَتْ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى ( { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } أَيْ عَنْ شِدَّةٍ مِنْ الْأَمْرِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْله تَعَالَى ( { ، وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ } أَيْ الْتَفَّتْ سَاقُ الدُّنْيَا بِسَاقِ الْآخِرَةِ ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ : مَعْنَاهُ أَمْرُ الدُّنْيَا بِأَمْرِ الْآخِرَةِ ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْمَالُ الدُّنْيَا بِمُحَاسَبَةِ الْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } فَإِنَّهُ حَدِيثٌ يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ فِي صِحَّتِهَا لِاشْتِهَارِ نَقْلِهَا مِنْ غَيْرِ مُنْكِرٍ لَهَا ، وَلَا طَاعِنٍ فِيهَا ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَمِنْ مُصَحِّحٍ لَهَا ، وَمِنْ طَاعِنٍ فِيهَا ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ ، وَعَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ ، وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ لِبَعْضِ النَّقْلَةِ تَوَهُّمُ أَنَّ الْهَاءَ تَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَنَقَلَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَحْفُوظَةُ فَهِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى رَجُلٍ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَأَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ يَضْرِبُ وَجْهَهُ لَطْمًا ، وَيَقُولُ : قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك فَقَالَ : { إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى

صُورَتِهِ } .

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ : قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَك فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ سَبَّ آدَمَ ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عَلَى صِفَتِهِ ، وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ عَلَى صُورَتِهِ تَرْجِعُ إلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَوِّهْ خَلْقَهُ حِينَ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ .

وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَفَائِدَتُهُ إبْطَالَ قَوْلِ أَهْلِ الزَّيْغِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا إنْسَانَ إلَّا مِنْ نُطْفَةٍ ، وَلَا نُطْفَةَ إلَّا مِنْ إنْسَانٍ ، وَلَا دَجَاجَةَ إلَّا مِنْ بَيْضَةٍ ، وَلَا بَيْضَةَ إلَّا مِنْ دَجَاجَةٍ لَا إلَى أَوَّلٍ .

الثَّالِثُ - مَعْنَاهُ وَفَائِدَتُهُ إبْطَالُ قَوْلِ أَهْلِ الزَّيْغِ ، وَالْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ بِتَأْثِيرِ الْعُنْصُرِ ، وَالْفَلَكِ ، وَاللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الصُّورَةِ ، وَالتَّرْكِيبِ ، وَالْهَيْئَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِعْلُ طَبْعٍ ، وَلَا تَأْثِيرُ فَلَكٍ ، وَخَصَّ آدَمَ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُهَا ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِهِ دُونَ مُشَارَكَةِ فِعْلِ طَبْعٍ ، أَوْ تَأْثِيرِ فَلَكٍ فَوَلَدُهُ ، وَمَنْ سِوَاهُمْ عَلَى حُكْمِهِ كَذَلِكَ .

وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ : أَنَّ فَائِدَةَ الْحَدِيثِ تَكْذِيبُ الْقَدَرِيَّةِ فِيمَا زَعَمَتْ مِنْ أَنَّ صِفَاتِ آدَمَ مِنْهَا مَا خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِنْهَا مَا خَلَقَهَا آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِنَفْسِهِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبِهِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى جَمِيعِ صُورَتِهِ ،

وَصِفَتِهِ ، وَمَعَانِيهِ ، وَأَعْرَاضِهِ ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ : عَرِّفْنِي هَذَا الْأَمْرَ عَلَى صُورَتِهِ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاسْتِقْصَاءِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ .

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ ، وَهِيَ : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّقْلِ لَا يُصَحِّحُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ الرَّاوِيَ سَاقَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ مَعْنَاهُ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ تَشْرِيفٍ عَلَى طَرِيقِ التَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الْمُضَافِ ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } فَإِنَّهَا إضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ تُفِيدُ التَّحْذِيرَ ، وَالرَّدْعَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } وقَوْله تَعَالَى { ، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } ، وَقَوْلُ النَّاسِ : الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ ، وَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ .

فَشَرُفَتْ صُورَةُ آدَمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ اخْتَرَعَهَا ، وَخَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ انْتَهَى .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا قَدَمَهُ ، فَتَقُولُ : قَطُّ قَطُّ وَعِزَّتِك ، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ } ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ وُجُوهًا عِدَّةً فَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى قَدَمًا ، وَالنَّارُ مَوْعُودَةٌ بِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ تُحَصِّلْهُمْ فِي جَوْفِهَا بَقِيَتْ مَلْهُوفَةً عَلَيْهِمْ كَمَا هِيَ الْأُمُّ حِينَ تَفْقِدُ أَوْلَادَهَا ، فَإِذَا حَصَلُوا فِي جَوْفِهَا تَقُولُ : قَطُّ قَطُّ أَيْ حَسْبِي حَسْبِي ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَخَذَتْ أَوْلَادَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } ، وَالْهَاوِيَةُ : اسْمٌ لِإِحْدَى طَبَقَاتِ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ

مِنْ جَمِيعِ دَرَكَاتِهَا بِنُورِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ عِنْدَنَا مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْحَقِيرَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُبَالَى بِهِ يُدَحْرَجُ بِالْقَدَمِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْحَقَارَةِ لَهُ كَمَا الْأَمْرُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الرَّفِيعَةَ ، وَالطَّاهِرَةَ تُتَنَاوَلُ بِالْيَمِينِ ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } ، وَهُوَ حَجَرٌ مَرْئِيٌّ مَحْسُوسٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْجَارِحَةَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَادَةَ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَبَقَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَشْهَدُ لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ شَهِدَ لَهُ رُحِمَ ، وَغُفِرَ لَهُ ، فَضِدُّ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْقَدَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الصُّورَةِ ، وَالْكَيْفِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ .

وَقَدْ حَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمِثَالِ فِي الْآيِ ، وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِشْكَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعِلْمَ ، وَالْمَحَامِلِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ ، بَلْ الَّذِي لَا يَنْبَغِي : أَنْ يُعْرَجَ عَنْهُ ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَحَدَّثُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ خِيفَةً مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَنْ يَدْخُلَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ ، فَكَيْفَ يُقْرَأُ ذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْعَوَامّ ، وَالنِّسَاءُ حُضُورٌ يَسْمَعْنَ فَالْغَالِبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ فَيَخْرُجُونَ ، وَهُمْ مُفْتَتِنُونَ .

الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ إنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ

الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُوقِعُ فِي الْقَلْبِ مَعْنًى مِنْ التَّشْبِيهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْخٍ عَارِفٍ عَالِمٍ بِالسُّنَّةِ ، وَمَعَانِي مَا احْتَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ جَهِيرَ الصَّوْتِ يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ ، فَيَحِلُّ مُشْكِلَهَا ، وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهَا ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ جَالِسًا عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَنْهُمْ لِيَعُمَّ صَوْتُهُ الْجَمِيعَ كَمَا تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِ مَا هُمْ يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنَّ الْقَارِئَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ فَيَعُمُّ صَوْتُهُ الْجَمِيعَ فِي الْغَالِبِ ، وَالشَّيْخُ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ ، وَصَوْتُهُ خَفِيٌّ فَلَا يَعْرِفُ مَا قَالَ إلَّا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ عُدِمَ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي فَتُمْنَعُ قِرَاءَةُ الْكُتُبِ ، وَالْمَوَاعِيدُ الَّتِي تُفْعَلُ ، فَإِنْ فَعَلَهَا أَحَدٌ أُدِّبَ عَلَى ذَلِكَ ، وَزُجِرَ ، وَأُخْرِجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَطَالِبُ الْعِلْمِ قُدْوَةٌ ، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَوَامّ يَحْضُرُ هَذَا الْمَجْلِسَ يَقْتَدِي بِهِ فِي حُضُورِهِ فَقَدْ يَجْلِسُ فِيهِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَيَقُومُ ، وَعِنْدَهُ شَكٌّ وَرَيْبٌ فِي اعْتِقَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَكُونُ طَالِبُ الْعِلْمِ بِحَذَرٍ مِنْ هَذَا ، وَأَشْبَاهِهِ ، هَذَا وَجْهٌ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ كَرِهُوا تَرْكَ الشُّغْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَأَنْ يُخَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ خِيفَةً مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ ، وَبِالنَّصَارَى فِي الْأَحَدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيُحْذَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْرَكَ الْعَمَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يَصْنَعُوا فِيهِ كَمَا صَنَعَتْ الْيَهُودُ ، وَالنَّصَارَى فِي السَّبْتِ وَالْأَحَدِ .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ ، رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلْحِدُوا ، وَلَا تَشُقُّوا فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا ، وَالشَّقَّ لِغَيْرِنَا } أَيْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأَنَّهُ قَالَ ( { فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا ، وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ } ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ

فَصْلٌ فِي تَحَفُّظِ طَالِبِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْمَنَاصِبِ ، أَوْ التَّشَوُّفِ إلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّدْرِيسَ ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْطُبَ لَهُ ، وَيَجِدَهُ عَلَى وَجْهِهِ السَّائِغِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدِلَّ هُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِي نِيَّتِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي أَخْذِ الدَّرْسِ فَمِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فِي الْأَحْكَامِ ، بَلْ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ أَشَدُّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } انْتَهَى .

، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَبِيَّيْنِ جَاءَاهُ يَتَخَايَرَانِ فِي خَطَّيْهِمَا فَنَظَرَ فِي الْخَطَّيْنِ ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنَّهُ حُكْمٌ لَقُلْت : إنَّ أَحَدَهُمَا أَحْسَنُ مِنْ الْآخَرِ ، وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يُحْشَرُ الْحَاكِمُ ، وَيَدَاهُ مَغْلُولَتَانِ إلَى عُنُقِهِ لَا يَفُكُّهُمَا إلَّا عَدْلُهُ } ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُحْشَرَ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ ) ، أَوْ كَمَا قَالَ ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ يَهْرُبُونَ مِنْهُ الْهَرَبَ الْكُلِّيَّ حَتَّى قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ تَوَلَّاهُ فِي الظَّاهِرِ حَتَّى رُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ جَرَى لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَقَالَ : إنِّي لَا أَصْلُحُ فَقِيلَ لَهُ : لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ : هَذَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَالُوا لِمَ قَالَ : لِأَنِّي بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ أَكُونَ صَادِقًا فِيمَا قُلْته فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُوَلُّوا مَنْ لَا يَصْلُحُ ، وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُوَلُّوا كَاذِبًا فَتَرَكُوهُ .

وَحِكَايَتُهُمْ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ مِنْ الِابْتِلَاءِ ، وَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ ذَلِكَ

حَتَّى أَنَّهُمْ قَدْ يَهْجُرُونَ بَعْضَ مَنْ تَوَلَّى مِنْ مَعَارِفِهِمْ ، وَقَدْ جَرَى لِسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ مَا قَدْ ذُكِرَ ، وَقَدْ جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إفْرِيقِيَّةَ لَمَّا أَنْ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ ، وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الرِّجَالِ لِاسْتِخْلَاصِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالُوا : وَلِمَ ذَلِكَ قَالَ : لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُوصِلَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْمَذْهَبِ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ رُشْدٍ .

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ فَلَمَّا أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَمِلُوا حِسَابَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ ، فَوَجَدُوهُ مَالًا كَثِيرًا فَشَحُّوا بِإِخْرَاجِهِ فَتَرَكُوهُ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي لِمَنْ وَلِيَ أَيَّ خُطَّةٍ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَفْسِهِ فِي يَوْمِ عَزْلِهِ مِنْهَا ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى يَوْمِ تَوْلِيَتِهِ انْتَهَى .

وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى يَوْمِ تَوْلِيَتِهِ هَلَكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى يَوْمِ عَزْلِهِ سَلِمَ فِي الْغَالِبِ .

وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَجَبَرَ الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عِمْرَانَ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَاسْتَشَارَ بَعْضَ الْأَكَابِرِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ : لَا تَتَوَلَّى ، وَإِنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ قَالَ لَهُ آخَرُونَ : إنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ تَوَلَّ ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ ، وَهُمْ يَعْزِلُونَك فَسَمِعَ مِنْ الثَّانِي فَتَوَلَّى ، وَحَكَمَ بِالْعَدْلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً ، وَعَزَلُوهُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِنْ الْوِلَايَةِ ، وَأَسْبَابِهَا إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ - سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ - عَلَى حُظُوظِ

النُّفُوسِ مِنْ الرِّيَاسَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي هُوَ مُعَلَّقٌ بِالْقُلُوبِ فِي الْغَالِبِ يُبْذَلُ فِي الْمَنَاصِبِ ، وَلَا تُبْذَلُ الْمَنَاصِبُ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ : الزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَفْضَلُ ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَلْفِ زُهْدٍ فِي الْمَالِ ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ أَنْ يَمِيلَ إلَى خَاطِرِ النَّفْسِ ، وَالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، وَالْإِلْزَامِ الْمُعَيَّنَةِ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ ، فَقَدْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ ، أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ الصِّنْفِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَقَعُ بِالْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ آفَةٌ عَلَيْهِ عَاجِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ إنْ كَانَ شَابًّا إذْ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُطَالَعَةِ الْمَسَائِلِ ، أَوْ غَيْرِهَا ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ تَرْكُ الضَّرُورَاتِ كُلِّهَا إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ : { لَا يَقْضِي الْقَاضِي ، وَهُوَ غَضْبَانُ } انْتَهَى .

وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ذَا سِنٍّ فَأَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ الْأَرْبَعِينَ طَوَى الْفِرَاشَ ، وَانْعَزَلَ عَنْ النَّاسِ ، وَتَبَتَّلَ لِلْعِبَادَةِ ، وَتَرَكَ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ إذْ ذَاكَ ، فَمَا بَالُك بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ أَعْنِي : أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِيءُ لِلْإِنْسَانِ إلَّا بَعْدَ الطَّعْنِ فِي السِّنِّ حِينَ تَوَقُّعِ هُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ غَالِبًا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ : { مُعْتَرَكُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ } ، وَيَكْفِي مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْهُ مَا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ كَانَ إذَا جَلَسَ لِلْأَحْكَامِ جَلَسَ إلَى جَانِبِهِ

رَجُلٌ أَسْوَدُ الْوَجْهِ أَبْيَضُ الْبَدَنِ ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ الْحُكْمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ يَفْصِلُ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ : اسْأَلُوهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْبُشُ الْقُبُورَ فَمَاتَ قَاضِي الْبَلَدِ قَالَ : فَذَهَبْت إلَيْهِ لَيْلًا فَنَبَشْت عَلَيْهِ حَتَّى وَصَلْت إلَيْهِ ، وَجِئْت آخُذُ الْكَفَنَ ، وَإِذَا بِشَخْصَيْنِ قَدْ دَخَلَا فَرُعِبْت مِنْهُمَا فَرَجَعْت فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْقَبْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى قَدَمَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ : هَاتَانِ قَدَمَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فَرْجِهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ : هَذَا فَرْجٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى بَطْنِهِ فَشَمَّهَا فَقَالَ هَذِهِ بَطْنٌ مَا أَكَلَتْ الْحَرَامَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى يَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ : هَاتَانِ يَدَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فِيهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ : هَذَا لِسَانٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى عَيْنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ : هَاتَانِ عَيْنَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى أُذُنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَسَكَتَ ، فَقَالَ لَهُ : مَا بَالُك ؟ فَقَالَ لَهُ : هَاتَانِ أُذُنَانِ جَاءَهُ يَوْمًا خَصْمَانِ فَأَصْغَى إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ فَارْتَفَعَا يَضْرِبَانِهِ ، فَهَرَبْت فَحَصَلَ لِي هَذَا مِنْ هُوِيِّ الْمِقْمَعَةِ فَأَصْبَحَ وَجْهِي كَمَا تَرَى انْتَهَى .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ مَا أَعْجَبَهَا ، فَأَيْنَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا السَّيِّدُ هُوَ ، وَاَللَّهِ أَعَزُّ شَيْءٍ يَكُونُ ، وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْظُرُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إلَى الصَّبْرِ فَيَهْرُبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ فِي الْغَالِبِ عَاجِزَةٌ عَنْ الصَّبْرِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَارَهُ ، وَيُضْطَرَّ إلَيْهِ

فَالِاسْتِغَاثَةُ إذْ ذَاكَ بِرَبِّهِ لَعَلَّ أَنْ يُصَبِّرَهُ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ بِهِ ، فَبُعْدُهُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ أَنْ يُعَانَ ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الْمَنُوطَةِ بِهِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ : ( { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إذَا أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } انْتَهَى .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ فِي تَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا ، بَلْ يَبْذُلُ بَعْضُنَا الْمَالَ فِي تَحْصِيلِهَا فَأَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحَالِ ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ .

.

.

} الْحَدِيثَ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ بِهِ قُبْحُ تَعَاطِيهِمْ لِذَلِكَ .

فَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ فِي ذَلِكَ لِمَا يَرَاهُ مِنْ أَنَّ فِيهِ أَهْلِيَّةً لِلْمَنْصِبِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ - أَنَّ فِي هَذَا تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ .

الثَّانِي - أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْأَحْكَامِ فِيهِ إشْغَالُ الذِّمَّةِ بِأَمْرٍ لَا يُعْلَمُ هَلْ يُتَخَلَّصُ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ وَخَلَاصُ الذِّمَّةِ مُتَعَيِّنٌ ، فَإِنْ اُحْتُجَّ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ مَعْصُومُونَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مَلِكٌ ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ خَافَ عَلَى غَيْرِهِ إنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ يَهْلَكُ بِسَبَبِهِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَمِنَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ عِصْمَتِهِ ، هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ شِدَّةٌ وَغَلَاءٌ خَافَ عَلَيْهِمْ إنْ تَوَلَّى غَيْرُهُ ذَلِكَ أَنْ يَهْلَكُوا هَلَاكَ اسْتِئْصَالٍ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، فَطَلَبَ مَا طَلَبَ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِ ، وَالتَّقْصِيرُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ إذْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْوِلَايَةِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا ، وَالسَّلَامَةُ غَالِبًا إنَّمَا تُتَوَقَّعُ فِي تَرْكِ الْوِلَايَاتِ ، فَكَيْفَ تُبْذَلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ صَارَ يَطْلُبُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لَهَا ، وَلَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ فَضَاعَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ طَلَبِهَا ، وَدُخُولِ الْأَمْوَالِ فِيهَا ، وَصَارَتْ التَّوْلِيَةُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَإِذَا فُهِمَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ الْهَرَبُ مِنْ الْوِلَايَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا ، وَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ ، وَأَخْلَصُ مِنْ التَّبَعَاتِ عَاجِلًا وَآجِلًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا التَّفْرِقَةُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ ، وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ

، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ بِفَتْوَى مَنْ وَهَمَ ، وَأَلْحَقَ الرِّشْوَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ السُّحْتِ وَالْحَرَامِ بِبَابِ الْجَعَالَةِ ، وَإِلْحَاقُهَا بِبَابِ الْجَعَالَةِ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شُرُوطِ الْجَعَالَةِ فِيهَا إذْ أَنَّ الْجَعَالَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَهَا شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ مَعْلُومًا .

وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَنْقُدَهُ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْجَاعِلِ إلَّا بِتَمَامِهِ .

وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُضْرَبُ لِلْعَمَلِ الْمَجْعُولِ فِيهِ أَجَلٌ ، فَمَتَى انْخَرَمَ أَحَدُ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ تَجُزْ ، وَقَدْ فُقِدَ فِي الرِّشْوَةِ أَكْثَرُ هَذِهِ الشُّرُوطِ .

وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الِاتِّبَاعِ يَزِلُّ الزَّلَّةَ فَتُحْمَلُ عَنْهُ فِي الْآفَاقِ ، وَقَالَ آخَرُ : زَلَّةُ الْعَالِمِ مِثْلُ انْكِسَارِ السَّفِينَةِ تَغْرَقُ ، وَتُغْرِقُ الْخَلْقَ انْتَهَى .

وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْآخِذِ لِلرِّشْوَةِ لَيْسَ إلَّا ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ قَدْ تَسَبَّبَ فِي وُقُوعِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْمُحَرَّمِ فَصَارَ شَرِيكًا لَهُ فِي إثْمِ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الظَّلَمَةَ يُحْشَرُونَ وَأَعْوَانَهُمْ ، حَتَّى مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً ، فَإِذَا كَانَ مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً يُحْشَرُ مَعَهُمْ ، فَمَا بَالُك بِمَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَنْفَعَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } ، وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ ظُفْرٍ الْحَمَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْله تَعَالَى { سَمَّاعُونَ

لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } - : قَالَ الْحَسَنُ : هُمْ حُكَّامُ الْيَهُودِ يَسْتَمِعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ بِرِشْوَةٍ ، وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ : رِشْوَةُ الْحَاكِمِ مِنْ السُّحْتِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً فَأَهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَذَلِكَ السُّحْتُ فَقِيلَ : لَهُ كُنَّا نَرَى أَنَّ السُّحْتَ الرِّشْوَةُ فِي الْقَضَاءِ فَقَالَ : ذَلِكَ الْكُفْرُ ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الرِّشْوَةَ فِي الْقَضَاءِ أَكَلَ السُّحْتَ وَكَفَرَ ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ } فَالرَّائِشُ : هُوَ الَّذِي يُرْشِي الْمُرْتَشِيَ مِنْ مَالِ الرَّاشِي فَيَأْخُذُ لَهُ الرِّشْوَةَ مِنْهُ فَكُلُّ مَالٍ كَسَبَهُ ذُو الْوَجَاهَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنْ ذَوِي الْحَوَائِجِ إلَيْهِ بِجَاهِهِ ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سُحْتٌ ، وَالْقَضَاءُ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْحَابِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا رَفَعَهُ السُّلْطَانُ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَدَايَا الْعُمَّالِ مِنْ السُّحْتِ } ، وَقَالَ عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ انْتَهَى .

فَصْلٌ فِي الْعَدَالَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْهَرَبِ مِنْ الْمَنَاصِبِ فَمِنْ آكَدِهَا الْهَرَبُ مِنْ الْعَدَالَةِ ، وَتَرْكُ التَّشَوُّفِ إلَيْهَا ، إذْ أَنَّ الْخَطَرَ فِيهَا أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْقَضَاءِ ، إذْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ ، وَلَا نَهْيٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِشَهَادَتِهِمْ فَكَأَنَّهُ أَسِيرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ بِحَسْبِ مَا قَالُوهُ حَكَمَ ، فَهُمْ الْبَاعِثُونَ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ ، وَأُمُورُهَا مُتَشَعِّبَةٌ مُشْغِلَةٌ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ فِي الْغَالِبِ ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُضَيِّعُ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِهَا ، وَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَتَبُّعُهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَطُولُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } انْتَهَى .

فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ طَلَبَ الْعَدَالَةَ فَهُوَ قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ خُصُوصًا لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْقَبَائِحِ إلَّا مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهَا ، بَلْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ رَجَعَتْ إلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالِاسْتِعَانَةِ مَعَهُ بِمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا قَوِيًّا فِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَنَاصِبَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَيُحْرَمَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فِي الْغَالِبِ ، فَآلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَشْيَاءَ فَظِيعَةٍ مِنْ إبْطَالِ الْأَنْكِحَةِ ، وَالْعُقُودِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ ، إذْ أَنَّ الرَّبْطَ وَالْحَلَّ إنَّمَا هُوَ بِالْعُدُولِ ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُدُولِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَالُهُمْ مَعْلُومٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْحِهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ إذْ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْعَدَالَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَهْلُهَا لَقَلَّتْ الْمَفَاسِدُ ، بَلْ تُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ .

وَقَدْ ذَكَرْت لِبَعْضِ الْمُبَارَكِينَ

شَخْصًا ، وَأَثْنَيْت عَلَيْهِ عِنْدَهُ ، وَقُلْت لَهُ : إنَّ وَالِدَهُ يَطْلُبُ لَهُ الْعَدَالَةَ فَقَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ هُوَ الْآنَ عَدْلٌ كَيْفَ يُجَرِّحُونَهُ ، فَقُلْت لَهُ : الْعَدَالَةُ تَجْرِيحٌ فَقَالَ : نَعَمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَرْكُ الْعَدَالَةِ هِيَ الْعَدَالَةُ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى إلَى حَالِ بَعْضِهِمْ فِي الْمَكْتُوبِ إذَا كَتَبَهُ يَطْلُبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَيَتَشَاحُّ فِي ذَلِكَ ، وَلِسَانُ الْعِلْمِ يَمْنَعُهُ إذْ أَنَّ الْجَالِسَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعِ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا ، وَهِيَ أَعْلَاهَا : أَنْ يَجْلِسَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالتَّفْرِيجِ عَنْهُمْ ، وَإِرْشَادِهِمْ ، وَتَصْحِيحِ عُقُودِهِمْ طَالِبًا بِذَلِكَ الثَّوَابَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِدُنْيَا يُصِيبُهَا ، وَلَا لِثَنَاءٍ وَغَيْرِهِ ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ، فَإِذَا أَعْطَى شَيْئًا تَبَرَّمَ مِنْهُ ، وَأَغْلَظَ عَلَى فَاعِلِهِ ، وَهَذَا عَزِيزُ الْوُجُودِ ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاتِهِ النَّافِلَةَ فِي بَيْتِهِ ، وَانْقِطَاعِهِ لِلتَّعَبُّدِ ، إذْ أَنَّهُ خَيْرٌ مُتَعَدٍّ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُخْتَلَفُ أَنَّ النَّفْعَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِي ذَلِكَ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْلِسَ لِلشَّهَادَةِ فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ أَخَذَ عَلَيْهِ أُجْرَةَ نَسْخِهِ لِلْوَرَقَةِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا ، فَإِنْ زَادَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي عِزَّةِ وُجُودِهِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَدِينَةِ فَاسَ جَالِسًا فِي الْعُدُولِ ، وَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَكَتَبَ عِنْدَهُ حُجَّةً ، وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : لَا نَسْتَحِقُّهُ

فَقَالَ لَهُ : مَا عِنْدِي غَيْرُ الدِّرْهَمِ فَقَالَ : لَا آخُذُ مَا لَا أَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ لَهُ : فَكَمْ نُعْطِيكَ قَالَ : رُبْعُ دِرْهَمٍ قَالَ : مَا عِنْدِي رُبْعٌ قَالَ : هَاتِ أَرْبَعَةً مِنْ الْبِيضِ ، ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَنَزَلَ مِنْ دُكَّانِهِ لِأَدَائِهَا فَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَانْتَهَرَهُ ، وَزَجَرَهُ قَالَ : تُطْعِمُونَ النَّاسَ الْحَرَامَ ، وَمَعَ هَذَا الْحَالِ مِنْ التَّحَرُّزِ وَالِاحْتِيَاطِ لِدِينِهِ تَبَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ ، وَانْعَزَلَ فِي الْبَيْتِ فَعَلَى مِنْوَالِهِ فَانْسِجْ إنْ أَرَدْت الْخَلَاصَ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجْلِسَ فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ عَمِلَهُ ، وَلَا يَطْلُبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنْ أَعْطَاهُ قَلِيلًا رَضِيَ بِهِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ كَثِيرًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ لَمْ يَرُدَّهُ ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَدْنَى مِنْ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ مَعَ كَوْنِهَا جَائِزَةً شَرْعًا ، وَقَدْ قَلَّ وُجُودُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ .

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ، وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الشَّاهِدُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَيَمْنَعَ الْحُجَّةَ لِأَجْلِهِ ، حَتَّى يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدَّى الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ النَّاسِ الْإِشْهَادَ عَلَى حُقُوقِهِ لِأَجْلِ الْإِجْحَافِ بِهِ ، وَخَوْفًا مِنْ إعَانَتِهِمْ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ ، وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا طُلِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ الْيَوْمَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا يَتَنَاسَاهَا ، كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا ، حَتَّى إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا تَذَكَّرَهَا إذْ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ سِيَّمَا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِيهَا فِعْلًا قَبِيحًا ، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الصَّدَاقَ عِنْدَهُ ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ يَقُولُ : حَتَّى أُفَتِّشَ فَلَا يَزَالُ يُمَاطِلُ حَتَّى إذَا اُضْطُرَّتْ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ بِمَوْتِ زَوْجِهَا ، أَوْ طَلَاقِهِ إيَّاهَا ، أَوْ بِطَلَبِ حَقِّهَا الْمَذْكُورِ فِي صَدَاقِهَا ، فَيَطْلُبُ مِنْهَا إذْ ذَاكَ مَا

يَخْتَارُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْحَالِ ، وَخَشِيَتْ مِنْهُ أَيْضًا إنْ كَانَ الصَّدَاقُ عِنْدَهَا أَنْ تَقْضِيَ مَا تَزِيدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ .

وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِالْمُبَارَأَةِ ، وَأَفْعَالُهُمْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ ، وَتُنَزَّهُ الْكُتُبُ عَنْ ذِكْرِهَا ، وَالْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الْمَرْءُ مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا ، وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ بَاعَ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يُضْطَرُّ طَالِبُ الْعِلْمِ إلَى الْعَدَالَةِ وَالْجُلُوسِ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ ، وَمَا يَعْتَوِرهُ مِنْ الضَّرُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ مِمَّا يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ ، فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَا تُسْتَأْكَلُ بِهِ الدُّنْيَا ، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ ، فَلَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ اتِّسَاعٌ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَأُمُورُ الدِّينِ وَالْآخِرَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ، فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَبُّبِ فِي الْعَدَالَةِ ، وَالْجُلُوسِ لِمَا ذُكِرَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ ، وَيَجْلِسَ بِقَصْدِ أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، فَلَا بَأْسَ إذَنْ ، وَيُرْجَى لَهُ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ لِضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَضَرُورَتُهُ شَرْعِيَّةٌ .

( تَنْبِيهٌ ) ، وَلْيَحْذَرْ إذَا جَلَسَ أَنْ يَفْعَلَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ ، وَهُوَ مَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ ، وَذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّرَفِ ، وَعَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَتْبَ الصَّدَاقِ فِي خِرْقَةِ الْحَرِيرِ مِنْ بَابِ السَّرَفِ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ لَكِنْ فِيمَا يَكُونُ لُبْسًا وَتَحَلِّيًا شَرْعِيًّا ، وَأَمَّا الصَّدَاقُ فَمِنْ بَابِ الْفَخْرِ ، وَالْخُيَلَاءِ ، وَالْمُبَاهَاةِ ، وَالْمُخَالَفَةِ ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا كَتْبُهُمْ لِذَلِكَ فِي النَّصَّافِي ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِلُبْسٍ ، وَالسَّرَفُ فِيهِ مَوْجُودٌ ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَهُمْ فِي الرَّقِّ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحِ اتِّسَاعٌ ، ثُمَّ كَذَلِكَ يُحْذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ سَطْرًا أَوْ سَطْرَيْنِ ثُمَّ يَتْرُكَ بَيَاضًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ ، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالسَّرَفِ ، وَالْخُيَلَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَقٍّ ، أَوْ ، وَرَقٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مُخَالَفَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكَانَ فِعْلُهُمْ لِذَلِكَ قَبِيحًا ، فَكَيْفَ بِهِ مَعَ مُصَادَمَةِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ السَّرَفِ .

( تَنْبِيهٌ آخَرُ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَحْضُرَ كَتْبَ صَدَاقٍ فِي مَوْضِعٍ مَفْرُوشٍ بِحَرِيرٍ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ ، أَوْ يَجْلِسَ عَلَى حَرِيرٍ ، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَيْهِ ، أَوْ إلَى وِسَادَةٍ مُطَرَّزَةٍ بِحَرِيرٍ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ وُسْعِ الطِّرَازِ بِالْحَرِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْرُ الَّذِي يُبَاحُ ، وَيُتَسَامَحُ فِي إبَاحَتِهِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ تَحْتَ السَّقْفِ الْمُذَهَّبِ ، وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا تَمَاثِيلُ ، أَوْ صُوَرٌ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ الْكَتْبَ

فِي مَوْضِعٍ فِيهِ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ ، أَوْ مَعَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ جَهْرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ شُرْبُ خَمْرٍ ، أَوْ مَغَانٍ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ حُضُورِهِنَّ بِآلَاتِ الطَّرَبِ ، وَكَشْفِ الْوُجُوهِ ، وَالْمَعَاصِمِ ، أَوْ يَكُونَ ثَمَّ نِسَاءٌ مُتَبَرِّجَاتٌ سَوَاءٌ اخْتَلَطْنَ بِالرِّجَالِ أَمْ لَا .

وَكَذَلِكَ لَا يَحْضُرُ مَوْضِعًا فِيهِ مَغَانِي الرِّجَالِ بِالْآلَاتِ الْمَمْنُوعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا دُونَهَا ، وَلَا فِي مَكَان تَحْضُرُهُ الشَّيْخَةُ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْخَيْرِ ، وَالصَّلَاحِ ، وَالْعِلْمِ ، أَوْ أَحَدِهَا أَنْ لَا يُجِيبَ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي خَيْرِهِ ، وَصَلَاحِهِ ، وَعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يُجِيبَ لِمَوْضِعٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ أَجْلِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَمْنُوعًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَدْلِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا ، وَمَا شَاكَلَهُ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ : إحْدَاهُمَا : وَهِيَ أَشَدُّهُمَا : سُقُوطُ عَدَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَإِذَا سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ بَطَلَتْ الْعُقُودُ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا إنْ كَانَ النِّصَابُ لَمْ يَكْمُلْ إلَّا بِهِ .

وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قُدْوَةٌ فَيَقَعُ الْعَوَامُّ بِسَبَبِ تَعَاطِيهِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِ جَوَازِهِ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ بِزِيَادَةِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَمِّ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ : { وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } انْتَهَى .

وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ الْيَوْمَ ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ

مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

( تَنْبِيهٌ آخَرُ ) ، وَكَذَلِكَ يَحْتَرِزُ الشَّاهِدُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ قَامَ الشُّهُودُ لَهُ إذْ ذَاكَ ، وَانْحَنُوا حَتَّى يَقْرُبَ بَعْضُهُمْ مِنْ الرُّكُوعِ الْمَمْنُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَكَلَّمُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مُنَمَّقَةٍ مَمْنُوعَةٍ فِي الشَّرْعِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّزْكِيَةِ ، وَالتَّمَلُّقِ بِالْبَاطِلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْحٌ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَفِيمَنْ رَضِيَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِنْ قِيَامِهِ عِنْدَ عُطَاسٍ لِلْقَاضِي ، وَمِنْ تَشْمِيتِهِ بِأَلْفَاظِهِمْ الَّتِي اعْتَادُوهَا الْيَوْمَ ، وَلَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ .

وَقَدْ وَقَعَ بِهَذَا الَّذِي ذُكِرَ التَّنْبِيهُ بِالْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَبِالْأَصْغَرِ عَلَى الْأَكْبَرِ ، فَلْيَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ مَنْ يَتَنَبَّهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا ، وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - .

( تَنْبِيهٌ آخَرُ ) ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِتَقْيِيدِ أَلْفَاظِهِمَا ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمَا حِينَ الْمُشَاجَرَةِ ، أَوْ الرَّجُلُ وَزَوْجَتُهُ يُرِيدَانِ الْفِرَاقَ أَنْ يَكْسِرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْمَا أَمْكَنَهُ ، وَيُشِيرَ عَلَيْهِمَا بِالصُّلْحِ جَهْدَهُ ، وَيَذْكُرَ لَهُمَا مَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْخَيْرِ ، وَالْبَرَكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ، أَوْ مَعْرُوفٍ ، أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ، أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَلَا يُعْجِلُ الشَّاهِدَ عَلَيْهِمَا بِالشَّهَادَةِ إلَّا بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْ صُلْحِهِمَا ، وَيَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ خَيْرٌ لَهُمَا ، وَالشَّهَادَةَ أَوْجَبُ عَلَيْهِمَا لِمَا يَرَاهُ مِنْ حَسْمِ بَابِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمَا ، وَيُخْبِرُهُمَا بِمَا فِي التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ الْآثَامِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ لِامْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ .

وَفِيهِ تَرْكُ الِاسْتِشْرَافِ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ الْحُطَامِ ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْبَرَكَةُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ : { إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } ، وَقَدْ أَدْرَكْت بَعْضَ الشُّهُودِ بِمَدِينَةِ فَاسَ إذَا جَاءَهُمْ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لَا يُعْجِلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِشْهَادِ حَتَّى يَيْأَسُوا مِنْ صُلْحِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبَبٌ غَيْرَ مَا هُمْ فِيهِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كَانَ حَالُهُمْ أَجْمَلَ حَالٍ فِي الْيَسَارِ وَالسَّعَةِ ، فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتُ الِامْتِثَالِ لِمَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إذْ الْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْأَسْبَابِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، وَلِأَجْلِ تَرْكِ النَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ الْيَوْمَ الْأَشْغَالُ وَالشَّهَادَاتُ ، وَامْتَحَقَتْ الْبَرَكَاتُ سِيَّمَا إنْ حَصَلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي التَّحْلِيلِ ، فَإِنَّهَا كَالتِّرْيَاقِ الْمُجَرَّبِ قَدْ عُلِمَتْ بِالْعَادَةِ الْمَاضِيَةِ فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَتَعَانَّاهُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ، وَالْوَلِيِّ ، وَالشُّهُودِ سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْيَوْمِ جُمْلَةً مِنْ الْفِضَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ حَالُهُ ضَيِّقٌ ، وَتَجِدُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ ، وَيَشْتَكِي بِالْفَقْرِ ، وَالْفَاقَةِ الْكَثِيرَةِ ، وَهَذَا حَالُ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الِاسْتِشْرَافُ كَمَا تَقَدَّمَ ذَمُّهُ فِي الْحَدِيثِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الشَّاهِدَ إذَا فَعَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَقِلُّ عَلَيْهِ الشُّغْلُ ، وَقَدْ يَنْعَدِمُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَيَضِيعُ حَالُهُ ، وَحَالُ عِيَالِهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الشُّغْلَ الْقَلِيلَ مَعَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ أَبْرَكُ مِنْ الْكَثِيرِ مَعَ مُخَالَفَتِهَا ، بَلْ مَا مَعَ الْمُخَالَفَةِ بَرَكَةٌ أَصْلًا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( { لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } انْتَهَى .

فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ أُمَّتِهِ دِينًا وَدُنْيَا ، فَمَنْ حَاوَلَ الرَّاحَةَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ رَامَ شَطَطًا ، وَتَعِبَ ، وَأَتْعَبَ فَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ، فَإِنَّهُ خَطِيرٌ ثُمَّ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْأَشْغَالِ الْكَثِيرَةِ يَحْصُلُ لَهُ الْبَرَكَةُ ، وَفَرَاغُ السِّرِّ ، وَقَدْ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْمُطَالَعَةِ وَالدَّرْسِ ، وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ بِخِلَافِ حَالِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَشْغَالِ الْمَكْرُوهَةِ شَرْعًا ، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَمْتَحِقُ

مِنْهَا ، وَيَتَعَوَّقُ بِهَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ، وَأَزْكَاهَا ، وَأَبْرَكُهَا فَلْيَشُدَّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبَرْكُ مِمَّا هُوَ فِيهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ ، وَصَحَّحَهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَى حَامِلِهِ ، وَبَرَكَتِهِ ، وَالتَّنْوِيهِ بِقَدْرِهِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ } ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَمَنَارُ سَبِيلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ ، وَالْمُعِينُ عَلَى الضَّرَّاءِ ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَفَى آثَارُهُمْ ، وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهِمْ تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ ، وَسِبَاعُ الطَّيْرِ ، وَأَنْعَامُهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنْ الْجَهْلِ ، وَمِصْبَاحُ الْأَبْصَارِ مِنْ الظُّلْمَةِ بِالْعِلْمِ تُبْلَغُ مَنَازِلُ الْأَخْيَارِ ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ ، وَمُدَارَسَتُهُ الْقِيَامَ ، وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ ، وَالْحَرَامُ الْعِلْمُ إمَامٌ ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ .

فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِي ، فَإِذَا فَعَلَتْ زَوْجَةُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا نُسِبَ ذَلِكَ لِلشَّرْعِ ، وَصَارَ حُجَّةً فِي الدِّينِ غَالِبًا ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى تَصَرُّفِ أَهْلِهِ كَمَا يَتَحَفَّظُ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ } ) يَعْنِي فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ ، وَالنَّوَاهِي ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النُّعُوتِ مِنْ الذَّمِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ ، وَمَا فِي قِيَامِ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ الذَّمِّ ، وَقِيَامُ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ أَشْنَعُ إذْ أَنَّهَا عَوْرَةٌ ، وَحَرَكَتُهَا زِيَادَةٌ فِي ظُهُورِ الْعَوْرَةِ ؛ لِأَنَّ فِي قِيَامِهَا يُرَى مِنْهَا مَا لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى رُؤْيَتِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي حَقِّهَا أَشَدُّ مِنْ قِيَامِ الرَّجُلِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا لَهُ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُفَاحِشَهَا ، وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ فَكَيْفَ بِهِ فِي حَقِّهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ انْتَهَى .

وَلَهُ فِي الِانْبِسَاطِ بِمَا يَجُوزُ شَرْعًا اتِّسَاعٌ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى غَيْرِهِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَتَزَيَّنَ زَوْجَتُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي غَيْرِ مَا أُبِيحَ لَهَا ، إذْ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَجَازَ لَهُنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ عَلَى أَبْدَانِهِنَّ ، إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَتَّخِذُ الْمُكْحُلَةَ ، أَوْ الْمِيلَ ، أَوْ الْمِرْآةَ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ؛ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِينَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى

فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ بَيْنَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى زَوْجِهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا بِثَلَاثِ دِكَكٍ دِكَّةِ فِضَّةٍ ، وَدِكَّتَيْ نُحَاسٍ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِضَّةً إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ لِلْمَرْأَةِ لَكِنَّهُ قَوْلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ آثِمٌ فِي فِعْلِهِ ، وَادِّخَارِهِ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ تَمْضِي عَلَيْهِ ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ الْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ تَزْيِينِهِنَّ لِلْحَوَاجِبِ بِمَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ ، سِيَّمَا إنْ كَانَ نَجِسًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ، وَأَمَّا النَّقْشُ ، وَالتَّكْتِيبُ فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ ، وَحَائِلٌ ، وَيَزِيدُ عَلَى مَا ذُكِرَ بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِهِ إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّهَا ، وَاخْتُلِفَ فِي حَالِهَا مَعَ النِّسَاءِ مِثْلِهَا مِنْ الْمُسْلِمَاتِ فَقِيلَ : كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَقِيلَ : كَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ ، وَفِيهِ مِنْ التَّشْوِيهِ أَعْنِي فِي النَّقْشِ وَالتَّكْتِيبِ ، أَنَّهُنَّ يُغَيِّرْنَ بِهِ الْبَدَنَ ، وَيُكْسِبُهُ ذَلِكَ خُشُونَةً ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَغِّصُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ ، وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى وُقُوعِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ غَفَلَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ نَفْسِهَا قَلِيلًا بَقِيَ بَدَنُهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ .

وَالْغَالِبُ أَنَّ بَدَنَهَا يُدْمِي فَتَزِيدُ النَّجَاسَةُ ، وَيَكْثُرُ ضِدُّ مُرَادِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّبَاعُدِ عَنْهَا ، وَأَمَّا هِيَ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تُقَاسِي مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً حَتَّى تَبْرَأَ ، فَإِذَا بَرِئَتْ بَقِيَ أَثَرُهُ فِي بَدَنِهَا حُفَرًا حُفَرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَوِيًا صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الْعُيُوبِ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ

الْبِدْعَةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ فِي الْغَالِبِ ، وَهِيَ أَنَّهَا إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ لَبِسَتْ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا ، وَتَزَيَّنَتْ ، وَتَعَطَّرَتْ ، وَلَبِسَتْ مِنْ الْحُلِيِّ مَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مِنْ سِوَارٍ ، وَخَلْخَالٍ ، وَتُضِيفُ إلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَلْخَالَ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ لِكَيْ يَظْهَرَ ، وَقَدْ تَضْرِبُ بِرِجْلِهَا فِي الْغَالِبِ فَيُسْمَعُ لَهُ حِسٌّ .

وَهَذَا خِلَافُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } إلَى قَوْله تَعَالَى { ، وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ لُبْسِ هَذَا الْإِزَارِ الرَّفِيعِ الَّذِي لَوْ عُمِلَ عَلَى عُودٍ لَأَفْتَنَ بَعْضَ الرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ ، وَصِقَالَتِهِ ، وَرِقَّةِ قُمَاشِهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ أَنْ تَلْبَسَ حَشَفَ ثِيَابِهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا أَنْ تَجُرَّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ ، وَأَنْ تَمْشِيَ مَعَ الْجُدْرَانِ ، وَتَتْرُكَ وَسَطَ الطَّرِيقِ ، وَهَذَا فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ فَيَجِلُّ حَالُهُمَا أَنْ يَرْضَيَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ فَإِذَا رَأَى أَحَدٌ زَوْجَةَ الْعَالِمِ ، أَوْ الْمُتَعَلِّمِ تَعْمَلُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ ، فَكَيْفَ تُنْسَبُ إلَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ مَعَاذَ اللَّهِ ؟ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ فَإِنْ كَانَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ فَلْيَكُنْ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ لِسَانِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ .

وَيُعَلِّمُهَا السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ ، وَفِي الْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهَا إذْ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي بَيْتِهَا فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا

تَفْعَلُهُ فِي خُرُوجِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ } ، وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ التَّزَيُّنُ وَالتَّحَلِّي ، وَالتَّعَطُّرُ فِي بَيْتِهَا لِزَوْجِهَا مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأَنِّي لَهُ ، وَلَهَا فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ بِالسَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .

وَكَذَلِكَ يُحْذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَنَامُونَ فِي ثِيَابِهِمْ ، وَالسُّنَّةُ الْفِرَاشُ ، وَالتَّجْرِيدُ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْرِيدِ وَالْفِرَاشِ ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا قَامَتْ مِنْ فِرَاشِهَا قَالَتْ : فَجَعَلْت دِرْعِي فِي رَأْسِي ، وَاخْتَمَرْت ، وَتَقَنَّعْت إزَارِي إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي حِينَ رَأَيْت فَنَادَانِي فَأَخْفَيْته مِنْك ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْك ، وَقَدْ وَضَعْت ثِيَابَك } ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا جَاءَتْ إلَى الْفِرَاشِ تَأْخُذُ شَيْئًا يُعْطِيهِ لَهَا زَوْجُهَا فِي الْغَالِبِ غَيْرَ نَفَقَتِهَا بِحَسْبِ حَالِهِ ، وَحَالِهَا لِحَقِّ الْفِرَاشِ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ ، وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ ، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ يُعْطِي فِضَّةً عِنْدَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا : هُوَ شَبِيهٌ بِالزِّنَا ، وَمَنَعُوهُ ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ فَمَا بَالُك بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى بَلْ الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَغْفُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا يَسْأَلُهَا عَنْ صَلَاتِهَا ، وَلَا عَمَّا يَلْزَمُهَا فِي الشَّرْعِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَالرَّجُلُ

رَاعٍ فِي بَيْتِهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } ، فَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ صَلَاتِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَهْلِهِ ، وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ : أَنَّ الرَّجُلَ يُرَاعِي حَقَّ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِدِينِهِ فَيَطَأُ ، وَيَخْرُجُ إلَى الْحَمَّامِ ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ ، وَهُنَّ جُنُبٌ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُنَّ مَوْضِعٌ لِلْغُسْلِ ، وَلَا آلَةٌ تُعِينُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَسْتَحِي بَعْضُهُنَّ ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى الْحَمَّامِ فِي كُلِّ أَوَانٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهِ فِي تَرْكِهِنَّ الصَّلَاةَ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَمَرَهُنَّ بِهَا فَأَمْرٌ مُطْلَقٌ إذْ لَا يُفَكِّرُ لَهُنَّ فِي تَحْصِيلِ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُنَّ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ تَرْكَ صَلَاةِ الزَّوْجَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْغَالِبِ أَعْنِي الْغَفْلَةَ عَنْهَا ، وَإِيثَارَهَا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهَا فِي الْبَيْتِ مَا يُمْكِنُهَا الْغُسْلُ فِيهِ لَكِنْ تَسْتَحِي مِنْ الْعَائِلَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ أَنْ تَغْتَسِلَ ، وَهُمْ يَشْعُرُونَ بِهَا فَتَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ، وَلَا حَيَاءَ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ جَرَتْ ، وَاسْتَحْكَمَتْ ، وَصَارَ يُسْتَحَى فِي الْغَالِبِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ ، وَلَا يُسْتَحَى مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

وَالْعَجَبُ مِنْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَشْتَرِي الدَّارَ بِالْأَلْفِ ، أَوْ يَبْنِيهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِي طَسْتٍ ، وَلَا يَعْمَلُ مَوْضِعًا لِلْوُضُوءِ فَضْلًا عَنْ مَوْضِعِ الْغُسْلِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَجْلِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُسْتَهْجَنَةِ الْقَبِيحَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا فِكْرَةَ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي صَلَاحِ دُنْيَاهُمْ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَا يُفَكِّرُونَ

فِيهِ حَتَّى يَفْجَأَهُمْ إنْ كَانُوا مُتَّقِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنْ أَصَابَتْ الْجَنَابَةُ بَعْضَ الْمُتَحَفِّظِينَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي الْحَمَّامِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ .

وَكَذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهُمْ يُعْطِي فِي صَدَاقِ الْمَرْأَةِ الْمِئِينَ ، أَوْ الْآلَافَ ، وَلَا يُعِدُّ مَوْضِعًا لِلْغُسْلِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُسَاعِدُهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ اصْطَلَحُوا عَلَى فِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُتْرَكُ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهَا ، وَالصَّلَاةُ لَا تَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا قَلَّ أَنْ يَقَعَ ، وَإِنْ دَامَتْ الْأُلْفَةُ بَيْنَهُمَا فَعَلَى دَخَنٍ ، وَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا مَوْلُودٌ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ إنْ نَشَأَ الْعُقُوقُ ، وَارْتِكَابُ مَا لَا يَنْبَغِي كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَرْكِ مُرَاعَاةِ مَا يَجِبُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمَا مَعًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لَهَا زَوْجُهَا مَوْضِعًا لِلْغُسْلِ لَحَكَمَ لَهَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ فَقِيلَ لَهُ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الْغُسْلُ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ ، أَوْ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا دُخُولُ الْحَمَّامِ بِصَوَابٍ ، فَكَيْفَ يُغْتَسَلُ مِنْ مَائِهِ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُمْ كَانَ فِي بُيُوتِهِمْ ، بَلْ إنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحَمَّامَ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا : الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلُهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ ، وَامْنَعُوا مِنْهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً ، أَوْ نُفَسَاءَ } ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد ،

وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ قَالَتْ : ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوهُ بِالْمِئْزَرِ } ، وَقَالَ : ( دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ نِسْوَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَتْ : لَعَلَّكُنَّ مِنْ الْكُورَةِ الَّتِي يَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ قُلْنَ : نَعَمْ قَالَتْ : أَمَا إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حِجَابٍ } .

وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرًا مَا يُحَافِظُ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ سَأَلَهُ هَلْ عِنْدَك حَمَّامٌ فِي بَيْتِك أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ مَضَى إلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : لَا امْتَنَعَ مِنْ الْمُضِيِّ إلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى تَيْسِيرِ الطَّهَارَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ فِي الْغَالِبِ .

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْقُرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يَسَّرَ عَلَيْهِ أَسْبَابَ الطَّهَارَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ مَوْضِعٌ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَقَدْ تَيَسَّرَتْ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ لَهَا

فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ ، وَالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ ؟ أَوْ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، أَوْ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ ، وَهُنَّ قَدْ تَرَكْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَخَرَقْنَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ بِدُخُولِهِنَّ الْحَمَّامَاتِ بَادِيَاتِ الْعَوْرَاتِ ، وَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُنَّ سَتَرَتْ مِنْ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا عِبْنَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَأَسْمَعْنَهَا مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا يَنْبَغِي حَتَّى تُزِيلَ السُّتْرَةَ عَنْهَا ، ثُمَّ يَنْضَافَ إلَى ذَلِكَ مُحَرَّمٌ آخَرُ : هُوَ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ ، وَالنَّصْرَانِيَّة لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَرَى بَدَنَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ ، وَهُنَّ يَجْتَمِعْنَ فِي الْحَمَّامَاتِ مُسْلِمَاتٍ ، وَنَصْرَانِيَّاتٍ ، وَيَهُودِيَّاتٍ فَيَكْشِفُ بَعْضُهُنَّ عَلَى عَوْرَاتِ بَعْضٍ ، فَكَيْفَ يَأْذَنُ أَحَدٌ أَهْلَهُ فِي دُخُولِهَا ، فَإِنْ قَالَ : إنَّهُ يَأْخُذُ لِأَهْلِهِ الْخَلْوَةَ فَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لَا تُذْهِبُهُ الْخَلْوَةُ إذْ أَنَّهُنَّ حِينَ الدُّخُولِ فِيهَا ، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَقْطَعِ يَكْشِفْنَ عَلَى عَوْرَاتِ غَيْرِهِنَّ ، وَيُكْشَفُ عَلَيْهِنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْخَلْوَةُ خَارِجَةً عَنْ الْحَمَّامِ ، فَكَأَنَّهَا حَمَّامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ يَسْتَتِرُ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ .

وَلَا يُمَكِّنُ الْبَلَّانَةَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ ، وَهِيَ مُنْكَشِفَةٌ حَتَّى تَسْتَتِرَ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ ، فَهَذَا لِلضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْلَى لِأَهْلِهِ الْحَمَّامَ بِلَيْلٍ ، وَاسْتَتَرْنَ ، فَلَا بَأْسَ إذَنْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْخَلْوَةِ ، لَكِنْ لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا ، إذْ أَنَّ الْغُسْلَ فِي

الْبَيْتِ فِيهِ سَتْرٌ حَصِينٌ ، وَسَدٌّ لَبَاب الذَّرِيعَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا أَرَادَتْ الْحَمَّامَ اسْتَصْحَبَتْ مَعَهَا أَفْخَرَ ثِيَابِهَا ، وَأَنْفَسَ حُلِيِّهَا فَتَلْبَسُهُ حِينَ فَرَاغِهَا مِنْ الْغُسْلِ فِي الْحَمَّامِ حَتَّى يَرَاهَا غَيْرُهَا فَتَقَعُ بِذَلِكَ الْمُفَاخَرَةُ ، وَالْمُبَاهَاةُ ، وَقَلَّ أَنْ تَقْنَعَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَرَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لِزَوْجِهَا قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَتَنْشَأُ الْمَفَاسِدُ ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفِرَاقِ ، أَوْ الْإِقَامَةِ عَلَى شَنَآنٍ بَيْنَهُمَا لِطُولِ الْمُدَّةِ .

هَذَا حَالُ غَالِبِهِنَّ ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْأُلْفَةِ ، وَالْوُدِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } ، وَفِي دُخُولِ الْحَمَّامِ مَفَاسِدُ جُمْلَةً ، وَفِيمَا ذُكِرَ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ بَاقِيهَا ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ عِنْدَ الْمُتَأَمِّلِ إنْ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ

فَإِنْ قَالَ مَثَلًا : الْغُسْلُ فِي الْبَيْتِ يَصْعُبُ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ فِي خَلْوَةٍ يَعْمَلُهَا فِي الْبَيْتِ مِنْ بَعْضِ مَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ مِنْ ثَمَنِ الْمِلْكِ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ ، فَلَوْ قَالَ أَيْضًا : إنَّ الْغُسْلَ فِي الْبَيْتِ لَا يَكُونُ كَالْحَمَّامِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَيَّامَ الْبَرْدِ يُمْكِنُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْتَغْنِيَ فِيهَا عَنْ الْغُسْلِ بِالسِّدْرِ ، وَمَا شَاكَلَهُ ، إذْ أَنَّ أَيَّامَ الْبَرْدِ لَا يَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ وَلَا الْغُبَارُ كَثِيرًا ، فَإِذَا فَرَغَتْ أَيَّامُ الْبَرْدِ كَانَ الْغُسْلُ فِي الْبَيْتِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُهَيَّأِ لَهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ ، وَيَكْفِيهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْحَيْضِ كَمَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَ زَوْجَتَهُ سُرْعَةَ الْغُسْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ آمَنُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ الضَّرَرِ بِهَا ، وَذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ أَلَا تَرَى إلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ : عَلَى رِسْلِكُمْ ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ ، وَخَرَجَ ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ } فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى سُرْعَةِ غُسْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْحَمُ الْخَلْقِ بِأُمَّتِهِ ، وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهَا ، فَلَوْ كَانَ زَمَانُ الْغُسْلِ فِيهِ طُولٌ لَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ حِينَ ذَكَرَ سِيَّمَا ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ الضَّعِيفُ ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ ، وَلَنَا فِي فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ .

وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهَا إذَا اغْتَسَلَتْ فِي الْبَيْتِ أَنْ تَتْرُكَ رَأْسَهَا مُغَطًّى لَا تَكْشِفُهُ حَتَّى إذَا جَاءَتْ إلَى غَسْلِهِ كَشَفَتْهُ ، وَخَلَّلَتْ شَعْرَ رَأْسِهَا ، وَأَفَاضَتْ الْمَاءَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَشَّفَتْهُ فِي الْوَقْتِ ، وَغَطَّتْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْسِلُ سَائِرَ بَدَنِهَا ، وَإِنَّمَا

يَأْمُرُهَا بِذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ يُصِيبَهَا فِي رَأْسِهَا أَلَمٌ إنْ تَرَكَتْهُ مَكْشُوفًا حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ غُسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهَا ، وَلَهَا أَنْ تَتْرُكَ رَأْسَهَا مُغَطًّى حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ غَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهَا ، ثُمَّ تَغْسِلَ رَأْسَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا تَرْكُ التَّرْتِيبِ فِيهِ ، وَهُوَ فِي الْغُسْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُغْتَسِلُ بِهِ أَلَمٌ فِي رَأْسِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ يَغْسِلُ جَمِيعَ بَدَنِهِ ، وَيَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ، فَلَوْ كَانَ يَضُرُّهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، أَوْ الْخِمَارِ ، وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ مَا دَامَ بِهِ الْأَذَى ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَلَمُ فِي غَيْرِ رَأْسِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَيَمُّمٌ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ لِمَرَضٍ بِهِ ، أَوْ جُرْحٍ ، أَوْ لِمَا يَخْشَى أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَإِنْ طَالَ بِهِ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرْأَةِ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا ، وَهِيَ فِي سَفَرٍ مَعَ زَوْجِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمَا لِغُسْلِهِمَا مِنْ الْجَنَابَةِ بَعْدَ غُسْلِهَا مِنْ حَيْضَتِهَا فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ حَيْضَتِهَا ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُمَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَطُولَ السَّفَرُ بِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا ، وَيَتَيَمَّمَا مِنْ جَنَابَتِهِمَا ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ قَصِيرَةً لَا يَتَضَرَّرُ بِهَا الزَّوْجُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا ؛ لِعَجْزِهَا عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ، وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ

يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ بَدَنَهُ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْدَمَ الْمَاءَ ، أَوْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَهَذَا كُلُّهُ جَارٍ عَلَى الِامْتِثَالِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا فَلَوْ قَالَ مَثَلًا : الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ عَدَمُ الْجِدَةِ ، وَالسُّكْنَى بِالْكِرَاءِ ، فَلَا يَتَأَتَّى لِأَكْثَرِهِمْ عَمَلُ مَوْضِعٍ فِي الْبَيْتِ لِلِاغْتِسَالِ فِيهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبُيُوتِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا خِزَانَةٌ ، أَوْ مَوْضِعُ كَنِيفٍ فَيَتَّخِذُهُ لِلْغُسْلِ فَيَجْعَلُ فِيهِ إنَاءً يَقْعُدُ فِيهِ مِثْلَ الْمَاجُورِ وَغَيْرِهِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ صَلَاحَ دِينِهِ عَمِلَ الْحِيلَةَ فِي صَلَاحِهِ ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدَ عَنْهُ ، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ فِي تَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ أَحْكَامَ الْغُسْلِ وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلِي أَمْرَ الْمَرْأَةِ أَنْ يُعَلِّمَهَا أَحْكَامَ الْغُسْلِ ، وَمَا يَجِبُ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَالسُّنَنِ ، وَالْفَضَائِلِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، لَكِنْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِهِ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ ، وَسُنَنِهِ ، وَفَضَائِلِهِ لِتَتِمَّ الْآدَابُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُعَلِّمَهَا أَنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْإِنْزَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِمَاعٌ ، وَمِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إنْزَالٌ ، وَمِنْ دَمِ الْحَيْضِ ، وَمِنْ دَمِ النِّفَاسِ ، وَفَرَائِضَهُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَبِ ، وَهِيَ النِّيَّةُ ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ ، وَتَعْمِيمُ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ ، وَاخْتُلِفَ فِي ثَمَانٍ الْفَوْرُ ، وَالتَّدْلِيكُ ، وَالْبَدَنُ الطَّاهِرُ ، وَنَقْلُ الْمَاءِ ، وَإِمْرَارُ الْيَدِ مَعَ الْمَاءِ ، وَدَوَامُ النِّيَّةِ ، وَالْخُشُوعُ ، وَالتَّخْلِيلُ ، وَسُنَنَهُ خَمْسٌ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ، وَالِاسْتِنْثَارُ ، وَمَسْحُ الصِّمَاخَيْنِ ، وَفَضَائِلُهُ تِسْعٌ التَّسْمِيَةُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالْمَوْضِعُ الطَّاهِرُ ، وَالْبُدَاءَةُ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ ، وَالصَّمْتُ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّشَهُّدُ ، وَالدُّعَاءُ بَعْدَ الْغُسْلِ

وَاخْتُلِفَ فِي الْخَاتَمِ فِي الْغُسْلِ ، وَالْوُضُوءِ هَلْ يُحَرِّكُهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ضَيِّقًا فَيُحَرِّكَهُ ، أَوْ وَاسِعًا فَيَتْرُكَهُ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ وَهُوَ فِي يَدِهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إجَازَةُ ذَلِكَ ، لَكِنْ هِيَ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَنْ آخِرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْرَجَ عَلَيْهَا ، وَلَا يُلْتَفَتَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى آحَادِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ لِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَجَانِبِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ عَنْهُ .

فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي السِّمَنِ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ يَدُهَا إلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ غَيْرَهَا يَغْسِلُ لَهَا ذَلِكَ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْشِفَ عَلَيْهَا غَيْرُ زَوْجِهَا فَإِنْ أَمْكَنَ زَوْجَهَا أَنْ يَغْسِلَ لَهَا ذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَلَهُ الْأَجْرُ فِي ذَلِكَ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ ، وَإِنْ أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاجِبًا ، وَتُصَلِّي هِيَ بِالنَّجَاسَةِ ، وَلَا يَكْشِفُ عَلَيْهَا أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ سُتْرَةَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ ، وَكَشْفَهَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا : أَنَّ إزَالَتَهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَارْتِكَابُهُ أَيْسَرُ مِنْ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى ذَلِكَ بِيَدِهِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً تَلِي ذَلِكَ مِنْهُ ، وَإِنْ تَطَوَّعَتْ الزَّوْجَةُ بِغُسْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصَلَاتُهُ بِالنَّجَاسَةِ أَخَفُّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرْأَةِ الْمُبْدَنَةِ أَوْ الرَّجُلِ يَكُونُ مِثْلَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِلَانِ إلَيْهِ بِأَيْدِيهِمَا مِنْ ظُهُورِهِمَا إذَا اغْتَسَلَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْهُ .

الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَّخِذُ خِرْقَةً أَوْ غَيْرَهَا لِيُعَالِجَ ذَلِكَ بِهَا .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَغْمُرُهُ بِالْمَاءِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .

وَالرَّابِعُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ

ثُمَّ يُعَلِّمُهَا الشُّرُوطَ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا عَنْهَا الْوُضُوءُ ، وَالْغُسْلُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا التَّيَمُّمُ ، وَهِيَ سِتٌّ .

أَنْ تَعْدَمَ الْمَاءَ أَوْ تَعْدَمَ بَعْضَهُ ، أَوْ يَتَعَذَّرَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَوُجُودِ الْحَدَثِ ، وَوُجُودِ الصَّعِيدِ ، وَدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ .

ثُمَّ يُعَلِّمَهَا فَرَائِضَ التَّيَمُّمِ ، وَهِيَ خَمْسٌ .

النِّيَّةُ ، وَالْفَوْرُ ، وَالضَّرْبَةُ الْأُولَى بِالْأَرْضِ ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ ، وَسُنَنُهُ ثَلَاثٌ .

الضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ بِالْأَرْضِ ، وَالْمَسْحُ مِنْ الْكُوعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، وَالتَّرْتِيبُ ، وَفَضَائِلُهُ أَرْبَعَةٌ .

التَّسْمِيَةُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالصَّمْتُ ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى .

، وَيُعَلِّمَهَا مَوَانِعَ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَهْلِهِ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي بَيْتِهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِالْمُتَعَلِّمِ أَوْ الْعَالِمِ أَنْ تَسْأَلَ زَوْجَتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النِّسَاءُ فِي الدِّينِ ، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهَا عِلْمٌ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهَا ، فَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ ، وَأَرْذَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ

، فَصْلٌ فِي دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ وَلْيَحْذَرْ هُوَ أَيْضًا مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ تَرْكَهُ ، كَانَ بِهِ عِلَّةٌ أَوْ لَا ، بَلْ أَوْجَبُ إذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي حَمَّامِ النِّسَاءِ مَوْجُودَةٌ فِي الْغَالِبِ فِي حَمَّامِ الرِّجَالِ ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّتْرَةِ أَوْجَدَ مِنْ النِّسَاءِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ اسْتَتَرَ بِالْفُوطَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ نَزَعَهَا ، وَبَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى الْمَسْلَخِ أَلْقَى مَا عَلَيْهِ ، وَبَقِيَ مَكْشُوفًا حَتَّى يَتَنَشَّفَ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَسْتُورُ الْعَوْرَةِ مَعَ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ تَحْتَ سَقْفٍ ، وَاحِدٍ .

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِي مَعْنَى كَرَاهَةِ مَالِكٍ لِلْغُسْلِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ ثَلَاثُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ فَيَرَاهَا غَيْرُهُ أَوْ تَنْكَشِفَ عَوْرَةُ غَيْرِهِ فَيَرَاهَا هُوَ ، إذْ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ دَخَلَهُ مَعَ النَّاسِ لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِمْ ، وَهَذَا إذَا دَخَلَ مُسْتَتِرًا مَعَ مُسْتَتِرِينَ ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ أَوْ مَعَ مَنْ لَا يَسْتَتِرُ فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ وَمَنْ فَعَلَهُ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ ، وَقَدْحٌ فِي شَهَادَتِهِ .

الْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ غَيْرُ مُصَانٍ عَنْ الْأَيْدِي ، وَالْغَالِبُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهِ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِثْلَ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ مُضَافًا فَتَسْلُبُهُ الطُّهُورِيَّةُ .

الثَّالِثُ : أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُوقَدُ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَاتِ ، وَالْأَقْذَارِ فَقَدْ يَصِيرُ الْمَاءُ مُضَافًا مِنْ دُخَّانِهَا فَتَسْلُبُهُ الطُّهُورِيَّةُ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا حَالُ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْغَالِبِ ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ مَسْتُورُ الْعَوْرَةِ مَعَ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ

كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الْحَمَّامِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ هُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ ، وَيَصُونَ نَظَرَهُ وَسَمْعَهُ ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاغْتِسَالُ فِي النَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسَاجِدَ ، وَفِيهَا مَا فِيهَا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى زَمَنِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ، وَأَمَّا زَمَانُنَا هَذَا فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُجِيزَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ النِّسَاءَ بَادِيَاتُ الْعَوْرَاتِ كُلَّهُنَّ لَيْسَ فِيهِنَّ مَنْ تَسْتَتِرُ ، وَالسُّتْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَيْبٌ عِنْدَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَحَمَّامُ الرِّجَالِ قَرِيبٌ مِنْهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتْرُكَهُ مَا اسْتَطَاعَ جَهْدُهُ .

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغُسْلِ فِي النَّهْرِ ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَفِيهَا مَا فِيهَا ، فَغَيْرُ وَارِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا ابْتِدَاءً إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ شَاطِئَ النَّهْرِ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ مَا هُوَ مِثْلُ الْحَمَّامِ أَوْ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِ النَّوَاتِيَّةِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ كَفِعْلِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْبَرْدِ فَذَلِكَ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ لِوُرُودِ النَّاسِ لِلْغُسْلِ ، وَغَيْرِهِ ، وَقَلَّ مَنْ يَسْتَتِرُ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ لِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا ، وَمَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَلْفَاظَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلْ كُلُّ زَمَانٍ يَخْتَصُّ بِعُرْفِهِ ، وَعَادَتِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَكَذَلِكَ يَجْرِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَسَاقِي الَّتِي فِي الْمَدَارِسِ ، وَالرِّبَاطَاتِ ، إذْ أَنَّهَا مَحَلُّ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَجِدُهُ

فِي الْحَمَّامِ فِي الْغَالِبِ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي عَلَى بَابِهِ ، وَاَلَّتِي فِي جُدْرَانِهِ ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ إزَالَةُ رُءُوسِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْكَارُ ذَلِكَ ، وَالْأَخْذُ عَلَى يَدِ فَاعِلِهِ فَكَيْفَ يَدْخُلُهُ الْعَالِمُ أَوْ الْمُتَعَلِّمُ ، وَيَسْكُتَانِ ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الْحَمَّامِ لَكِنْ بِشُرُوطٍ ، وَهِيَ : أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا لِلتَّدَاوِي .

الثَّانِي : أَنْ يَتَعَمَّدَ أَوْقَاتَ الْخَلْوَةِ ، وَقِلَّةِ النَّاسِ .

الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِإِزَارٍ صَفِيقٍ .

الرَّابِعُ : أَنْ يَطْرَحَ بَصَرَهُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْحَائِطَ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى مَحْظُورٍ .

الْخَامِسُ : أَنْ يُغَيِّرَ مَا رَأَى مِنْ مُنْكَرٍ بِرِفْقٍ بِأَنْ يَقُولَ : اسْتَتِرْ سَتَرَك اللَّهُ .

السَّادِسُ : إنْ دَلَّكَهُ أَحَدٌ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ عَوْرَتِهِ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ إلَّا امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ .

السَّابِعُ : أَنْ يَدْخُلَهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ .

الثَّامِنُ : أَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ .

التَّاسِعُ : إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دُخُولِهِ وَحْدَهُ اتَّفَقَ مَعَ قَوْمٍ يَحْفَظُونَ دِينَهُمْ عَلَى كَرَاهَةٍ فِي ذَلِكَ لِمَا يُخْشَى .

الْعَاشِرُ : أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ عَذَابَ جَهَنَّمَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ بِالْفِعْلِ كَانَ أَوْلَى ؛ إذْ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ ، وَقَدْ { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى إنَّهَا لَتَقُولُ دَعْ لِي دَعْ لِي } فَكُلُّ شَيْءٍ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ بِالْفِعْلِ لِلْمُتَعَلِّمِ ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ أَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ .

، وَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ، إذْ أَنَّ مَا ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى سَائِرِ مَا يَعْتَوِرُهُمْ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي الْغَالِبِ يَتَعَلَّمْنَ مِنْهُنَّ الْأَحْكَامَ فِيمَا يَقَعُ لَهُنَّ ، فَإِذَا كُنَّ جَاهِلَاتٍ بِمَا يُسْأَلْنَ عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ كَتْمِ الْعِلْمِ .

ثُمَّ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِلْمِ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ فَيَا حَبَّذَا فَيَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ ، وَلَا يَعْرُجُ عَلَى غَيْرِهِ .

كَمَا حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ مِصْرَ ، وَتَأَهَّلَ بِهَا ، وَقَعَدَ مَعَ زَوْجَتِهِ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا فَقَالَتْ لَهُمْ : إذَا عَزَمْتُمْ فَزَوِّجُونِي عَلَى أَنِّي بِكْرٌ فَقَالُوا لَهَا : كَيْفَ وَقَدْ أَقَمْت سِنِينَ مَعَهُ ؟ فَقَالَتْ : أَوَّلُ لَيْلَةٍ دَخَلَ عَلَيَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَجَلَسَ يَنْظُرُ فِي كُتُبِهِ ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ فَقُمْت يَوْمًا ، وَلَبِسْت ، وَتَزَيَّنْت ، وَلَعِبْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، وَنَظَرَ إلَيَّ ، وَتَبَسَّمَ ، وَأَخَذَ الْقَلَمَ الَّذِي بِيَدِهِ فَجَرَّهُ عَلَى وَجْهِي ، وَأَفْسَدَ بِهِ زِينَتِي ، ثُمَّ أَكَبَّ رَأْسَهُ عَلَى كُتُبِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، حَتَّى انْتَقَلَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سُنِّيَّةٌ فَلْيَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِهِ .

وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَحْتَاجُ إلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ نَقَصَ مِنْ عِلْمِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَهِيَ هِمَّةٌ بَاعِثَةٌ ، وَذِهْنٌ ثَاقِبٌ ، وَصَبْرٌ ، وَجِدَّةٌ ، وَشَيْخٌ فَتَّاحٌ ، وَعُمْرٌ طَوِيلٌ .

فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِيحَ فَكَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ بِتِلْكَ الِاسْتِرَاحَةِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ } ، وَيَنْوِي بِذَلِكَ إدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِنَّ ، وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُنَّ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ ، أَعْنِي بِذَلِكَ فِي بَسْطِهِ لَهُمْ ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ ، وَيَنْوِي بِذَلِكَ كُلِّهِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ .

وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَا يُعَارِضُهُ مُخَالَفَةُ أَمْرٍ ، وَلَا ارْتِكَابُ نَهْيٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَحُ ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفِرَاشَ وَالتَّعَرِّي مِنْ السُّنَّةِ .

، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَفَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ فِي بَيْتِهِ جَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ إذَا عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْفِرَاشِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلنَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ثُمَّ يَرْكَعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنَامُ فِيهِ ، وَهَذَا مَا لَمْ يُوتِرْ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْتَرَ ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ نَوْمِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ رَجَاءَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إرَادَتِهِ النَّوْمَ مُحْدِثًا فَلْيَنْوِ بِوُضُوئِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ لِكَيْ يَسْتَبِيحَ بِهِ الصَّلَاةَ اتِّفَاقًا .

وَالْحِكْمَةُ فِي وُضُوئِهِ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ هِيَ أَنَّ النَّوْمَ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاضْطِرَارِ ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاخْتِيَارِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْهُ مَا هُوَ اضْطِرَارٌ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ اخْتِيَارٌ ، وَرَأْسُ مَالِ الْمُؤْمِنِ إنَّمَا هُوَ عُمُرُهُ ، فَإِنْ عَمَّرَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ رَبِحَ عُمُرَهُ ، وَزَكَا فَشَرَعَ لَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْوُضُوءَ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ ، لِكَيْ يَخْتَبِرَ بِهِ النَّوْمَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ هُوَ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ لَا يُذْهِبُهُ الْوُضُوءُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الِاخْتِيَارِ وَالرَّاحَةِ فَالْوُضُوءُ يُذْهِبُهُ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّ النَّوْمَ هُوَ الْمَوْتُ الْأَصْغَرُ فَشُرِعَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الطَّهَارَةِ كَالْمَيِّتِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ فِي ذَلِكَ النَّوْمِ فَتُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ لِكَيْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ إذَا وَقَعَ عَقِبَ

طَهَارَةٍ اجْتَزَأَ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ لِأَجْلِ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ فَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ ، وَهُوَ عُمُرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ يَقْرَأُ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي كَفَّيْهِ ، وَيَنْفُثُ فِيهِمَا ، وَيُمَشِّيهِمَا عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ يَتَعَرَّى كَمَا سَبَقَ ، وَيَدْخُلُ فِي فِرَاشِهِ فَيَضْطَجِعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَيْمَنِ ، بَلْ نَفْسُ الدُّخُولِ هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ فِيهِ التَّيَمُّنَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَقِلُ إلَى مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْأَيْمَنِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي الدُّخُولِ عَلَى الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ حِينِهِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَدْخُلَ عَلَى الْجَنْبِ الْآخَرِ ؛ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ .

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اشْتَكَى مَرَّةً بِنَزْلَةٍ نَزَلَتْ لَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ، وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةٌ ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى الْفِرَاشِ لِيَضْطَجِعَ صَعُبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى الْأَيْسَرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، ثُمَّ وَقَعَ لَهُ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ لِتَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ ثُمَّ يَنْقَلِبَ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فِي الْوَقْتِ قَالَ : فَاضْطَجَعْت عَلَى الْأَيْمَنِ بِعَزِيمَةٍ فَوَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ هَلْ الْأَلَمُ ارْتَفَعَ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِي إلَى الْوِسَادَةِ أَوْ بَعْدَ وُصُولِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ إذْ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَحَلَّتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ ، ثُمَّ يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَيُكَبِّرُ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ، وَيَجْعَلُ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْيَمِينِ ، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى وِرْكِهِ

الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَقُولُ : بِاسْمِك اللَّهُمَّ وَضَعْت جَنْبِي وَبِاسْمِك أَرْفَعُهُ اللَّهُمَّ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا ، وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك ، وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك ، وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك ، وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك رَهْبَةً مِنْك ، وَرَغْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ ، وَلَا مَنْجَا مِنْك إلَّا إلَيْك ، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت ، وَرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت ، وَمَا أَخَّرْت ، وَأَسْرَرْت ، وَأَعْلَنْت أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك انْتَهَى .

ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْفِنِي بِالْقَلِيلِ مِنْ النَّوْمِ ، وَاجْعَلْهُ لِي عَوْنًا عَلَى طَاعَتِك ، وَيَنْوِي بِنَوْمِهِ الْعَوْنَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهِمَا ، إذْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْطِ نَفْسَهُ حَظَّهَا مِنْ النَّوْمِ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ مِنْهَا التَّوْفِيَةُ بِالْمَأْمُورَاتِ عَلَى أَنْوَاعِهَا سِيَّمَا ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ فِي الطَّاعَاتِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ صَلَاةً إذْ الْحُضُورُ مَعَ النَّوْمِ مُتَعَذِّرٌ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ ، وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ ، لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ } ثُمَّ يُشْعِرُ نَفْسَهُ حِينَ الدُّخُولِ فِي الْفِرَاشِ بِالدُّخُولِ فِي قَبْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ هُوَ الْمَوْتُ الْأَصْغَرُ فَشُرِعَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ حَالَةِ الْمَوْتَى ، وَهُوَ التَّجْرِيدُ مِنْ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ ، وَالدُّخُولُ فِي ثِيَابٍ تُشْبِهُ ثِيَابَ الْمَوْتَى إذْ أَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْكَفَنِ .

فَإِذَا أَشْعَرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ قَلَّ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي النَّوْمِ ، وَخَافَ الْفَوَاتَ .

إذْ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّهُ يُنَوِّرُ الْقَبْرَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ اللَّيْلِ

شَبِيهٌ بِظُلْمَةِ الْقَبْرِ فَكَانَ الثَّوَابُ مُنَاسِبًا لِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ .

وَفِي التَّعَرِّي حِكَمٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّهُ يُرِيحُ الْبَدَنَ مِنْ حَرَارَةِ حَرَكَةِ النَّهَارِ ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ التَّقْلِيبَ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهِ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ التَّمَتُّعِ بِالْأَهْلِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَحَلِّ لَيْسَ إلَّا ، إذْ أَنَّ الرَّجُلَ ثِيَابُهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَرْأَةَ مِثْلُهُ ، وَفِيهِ التَّوَاضُعُ ، وَفِيهِ امْتِثَالُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِيهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ، وَالنَّوْمُ فِي الثَّوْبِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي عُمُرُهُ سَنَةٌ إذَا نَامَ فِيهِ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ قِلَّةُ الدَّوَابِّ ، وَفِيهِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ السُّنَّةِ ، وَهِيَ النَّظَافَةُ إذْ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يُنَامُ فِيهِ يَكْثُرُ فِيهِ هَوَامُّ بَدَنِهِ ، وَيَتَقَذَّرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ ، وَهِيَ جُمْلَةٌ

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فِي النَّوْمِ وَحَالَتِهِ فِيهِ إذْ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ حَاضِرُ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ مُتَكَلِّمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ آمِرٌ نَاهٍ مُدَبِّرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ ، ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ عَاهَةُ النَّوْمِ لَا يَشْعُرُ بِهَا مِنْ أَيْنَ أَتَتْهُ ، وَلَا يُكَيِّفُهَا فَيَتْرُكُ الْمَلِكُ مُلْكَهُ ، وَتَدْبِيرَهُ ، وَسِيَاسَتَهُ فِيهِ ، وَالْعَالِمُ عِلْمَهُ ، وَالْمُحْتَرِفُ حِرْفَتَهُ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي شَيْءٍ ، وَعَزَمَ عَلَى فِعْلِهِ تَرَكَهُ قَهْرًا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعَاهَةِ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ مُجْبَرًا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ ، وَلَا دَفْعِهِ عَنْهُ فَسُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ .

وَهَذَا مُتَكَرِّرٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ، وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ، وَهُوَ الْمُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ ، وَالدَّالُّ عَلَيْهِ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ، وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } كُلُّ ذَلِكَ تَذْكِرَةٌ ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَنْظُرُ وَيَعْتَبِرُ ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } بَيْنَمَا هُوَ مُسْتَيْقِظٌ مُدَّعٍ لِلْقُوَّةِ ، وَالسَّطْوَةِ إذْ أَتَاهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَسِيلُ لُعَابُهُ ، وَتَنْحَلُّ أَعْضَاؤُهُ ، وَيُحْدِثُ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِنَفْسِهِ ، وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَبْقَى مُثْلَةً إذْ ذَاكَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ مِنْ الْأَدَبِ فِي النَّوْمِ أَنْ لَا يَنَامَ بَيْنَ مُسْتَيْقِظِينَ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : رَحِمَهُمُ اللَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ وَالنِّسْيَانَ ثُمَّ يَتَذَكَّرُ بِهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ إذْ أَنَّ الْيَقِظَةَ فِيهَا

حَرَارَةٌ ، فَلَوْ تَمَادَتْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ لَأَهْلَكَتْهَا ، سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَهُمْ الرَّغْبَةُ فِيمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ طَلَبِ دُنْيَا ، وَالْعَمَلِ فِي أَسْبَابِهَا أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَوْ وَكَّلَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فِيهِ لَحَرَمَ نَفْسَهُ النَّوْمَ أَلْبَتَّةَ لِقُوَّةِ الْحِرْصِ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّوْمَ يَأْتِيهِ قَهْرًا رَحْمَةً بِهِ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِ حَرَارَةٌ ، وَالنَّوْمَ فِيهِ سُكُونٌ ، وَبُرُودَةٌ فَيَعْتَدِلُ مِزَاجُهُ بِذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ، وَهَذِهِ مِنْهُ يَقِظَةٌ وَنَوْمٌ حَرَارَةٌ وَبُرُودَةٌ ذَكَرٌ وَأُنْثَى صَحِيحٌ وَمَرِيضٌ طَائِعٌ وَعَاصٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً لِلْعَبْدِ بِفَضْلِهِ ، وَحَرَسَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ كَمَا حَفِظَهُ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَسُبْحَانَ الْمُنْعِمِ الْمَنَّانِ

فَصْلٌ فِي آدَابّهِ فِي الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ فَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ ، إذْ ذَاكَ .

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ أَخْرَجَ الرَّضِيعَ مِنْ الْبَيْتِ ، وَقَدْ قَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَهِرٌّ فِي الْبَيْتِ ، وَذِكْرُ الْهِرِّ مِنْهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَكُونُ سَالِمًا مِنْ عَيْنَيْنِ تَنْظُرَانِ إلَيْهِ ؛ إذْ أَنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ ، وَالْعَوْرَةُ يَتَعَيَّنُ سَتْرُهَا ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِ ذَلِكَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ آخِرَهُ لَكِنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْغُسْلِ يَبْقَى زَمَنُهُ مُتَّسِعًا بِخِلَافِ آخِرِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَضِيقُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَئُولُ إلَى تَفْوِيتِ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إلَى إخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ .

وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِ كَانَ عَقِيبَ نَوْمٍ ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ وَالْأَنْفِ شَيْءٌ مِنْ بُخَارِ الْمَعِدَةِ مِمَّا يُغَيِّرُ رَائِحَةَ الْفَمِ أَوْ الْأَنْفِ ، فَإِذَا شَمَّهَا أَحَدُهُمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَرَاهَةِ أَحَدِهِمَا فِي صَاحِبِهِ ، وَمُرَادُ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - دَوَامُ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَذَلِكَ يُنَافِيهَا .

أَلَا تَرَى إلَى نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا لَيْلًا لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّبْنَ لِلِقَائِهِ ، فَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَدْهُنَ وَتَتَطَيَّبَ وَتَتَأَهَّبَ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ ، أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ ، وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ .

أَحَدُهَا : أَنْ يَبْدَأَ بِزِيَارَةِ بَيْتِ

رَبِّهِ ، وَبِالْخُضُوعِ لَهُ فِيهِ بِالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَمِنْهَا أَنْ يُفَضِّلَ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى رَبِّهِ لِيُنَبِّهَ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ لِلَّهِ عَلَى مَا لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ حَظٌّ مَا ، وَمِنْهَا أَنَّ أَصْحَابَهُ وَمَعَارِفَهُ يَأْخُذُونَ حَظَّهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ حِينَ قُدُومِهِ ، فَإِذَا فَرَغُوا ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ " لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ يُحْوِجُهُ إلَى الْخُرُوجِ فِي الْغَالِبِ ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَهُ يَأْخُذُونَ الْأُهْبَةَ لِلِقَائِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّ لِقَاءَ الْأَحِبَّةِ بَغْتَةً قَدْ يَئُولُ إلَى ذَهَابِ النُّفُوسِ عِنْدَ اللِّقَاءِ لِقُوَّةِ مَا يَتَوَالَى عَلَى النَّفْسِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ مَاتُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاجَأَهُمْ السُّرُورُ فَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ، وَقَوْمٌ فَجَأَتْهُمْ الْمَصَائِبُ فَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّلَطُّفِ بِالِاجْتِمَاعِ بِأَبِيهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْبَشِيرَ أَوَّلًا حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْأَحْيَاءِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِ ثَانِيًا الْقَمِيصَ لِيَجِدَ رِيحَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَزَادَ أُنْسُهُ بِشَمِّ رَائِحَتِهِ وَأَثَرِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الِاجْتِمَاعُ ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا عَزَمَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ عَلَى غَفْلَةٍ ، بَلْ حَتَّى يُلَاعِبَهَا وَيُمَازِحَهَا بِمَا هُوَ مُبَاحٌ مِثْلَ الْجَسَّةِ ، وَالْقُبْلَةِ ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهَا قَدْ انْبَعَثَتْ لِمَا هُوَ يُرِيدُ مِنْهَا ، وَانْشَرَحَتْ لِذَلِكَ ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَأْتِيهَا ، وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحِبُّ مِنْ

الرَّجُلِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا ، فَإِذَا أَتَاهَا عَلَى غَفْلَةٍ قَدْ يَقْضِي هُوَ حَاجَتَهُ ، وَتَبْقَى هِيَ فَقَدْ يُشَوِّشُ عَلَيْهَا ذَلِكَ ، وَقَدْ لَا يَنْصَانُ دِينُهَا ، فَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ تَيَسَّرَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ ، وَانْصَانَ دِينُهَا .

ثُمَّ إذَا أَتَاهَا فَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ { : لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا أَتَى إلَى أَهْلِهِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا فَرُزِقَا وَلَدًا ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ ، وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ خَرَجَ وَلَدُهُ كَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُبَارَكِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ وَالِدَهُ لَوْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ مِنْ يَثْبُتُ لِامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَلَبَةِ قُوَّةِ بَاعِثِ النَّفْسِ عَلَى تَحْصِيلِ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَقَّ زَوْجَتِهِ فِي الْجِمَاعِ ، وَأَنْ يَأْتِيَهَا لَيَصُونَ دِينَهَا ، وَيَكُونَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ تَبَعًا لِغَرَضِهَا فَيَحْصُلَ إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ يَأْتِي زَوْجَتَهُ عَلَى غَفْلَةٍ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْهَا ، وَهِيَ لَمْ تَقْضِ مِنْهُ وَطَرًا ، كَمَا تَفْعَلُ الْبَهَائِمُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا فَسَادُ دِينِهَا وَإِمَّا تَبْقَى مُتَشَوِّشَةً مُتَشَوِّفَةً لِغَيْرِهِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا ، وَهُمَا مَكْشُوفَانِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ يَسْتُرُهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ

وَعَابَهُ ، وَقَالَ فِيهِ : كَمَا يَفْعَلُ الْعِيرَانِ ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُغَطِّي رَأْسَهُ إذْ ذَاكَ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ فِي بَرِيَّةٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ فَلَا يُجَامِعُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَلَا مُسْتَدْبِرَهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ فَيُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا قَضَى وَطَرَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْقِيَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهَا بَلْ يَبْقَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ انْقَضَتْ حَاجَتُهَا ، وَالْمَقْصُودُ مُرَاعَاةُ أَمْرِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوصِي عَلَيْهِنَّ ، وَيَحُضُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِنَّ ، وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلْيَجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ جَهْدَهُ ، وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ عَمَّا يَعْجِزُ الْمَرْءُ عَنْهُ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَعَابَهُ ، هُوَ النَّخِيرُ ، وَالْكَلَامُ السَّقْطُ .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ .

ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ إرَبِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَغْتَسِلَ لِيَنَامَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ لِيَنَامَ عَلَى إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ ، وَاخْتُلِفَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ أَوْ الْوُضُوءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ لَا ؟ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَنَامُ الْجُنُبُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَتَيَمَّمْ ، وَلَا يَنَامُ إلَّا بِوُضُوءٍ أَوْ تَيَمُّمٍ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ الْجِمَاعِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَكْثُرُ بِهِ الْإِسْلَامُ ، وَيَكُونُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ ، وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ لَهُ : وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا نَوَى مَا تَقَدَّمَ ، وَفَعَلَ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكِلَ ذَلِكَ إلَى مَشِيئَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْ يَفْتَقِرَ إلَيْهِ فِيهِ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ مَشِيئَةِ نَفْسِهِ ، وَتَدْبِيرِهِ ، وَحَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ إذْ ذَاكَ مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا لَعَلَّ أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلِّهِنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ .

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ ، } فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْمَرْءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى

، وَيَكِلَ الْأَمْرَ إلَيْهِ ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْ مَشِيئَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ

ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ فَيَفْعَلُ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلْيَغْسِلْ ذَكَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ غَسَلَ ذَكَرَهُ ثُمَّ عَادَ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الذَّكَرِ يُقَوِّي الْعُضْوَ وَيُنَشِّطُهُ ، وَكَثْرَةُ هَذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَتَمَدَّحُوا بِهِ ، وَيَفْتَخِرُوا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الرَّجُلِ ، وَصِحَّةِ بَدَنِهِ ، وَمِزَاجِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُعْطِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا حَتَّى خَرَجَ عَنْ مَأْلُوفِهِمْ ، وَعَادَتِهِمْ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ أَنَّ كَثْرَةَ هَذَا مَمْدُوحٌ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَوْنِهِ أُعْطِيَ مَاءَ مِائَةِ رَجُلٍ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ أُعْطِيَ مَقْصِدَهُ وَمَطْلَبَهُ ، فَنَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُلُوكِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ فَأُعْطِيَ مَا يَفُوقُ بِهِ سَائِرَ الْمُلُوكِ ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ وَإِنْ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْصِيلِ كَثْرَةِ النِّسَاءِ فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ مَاءِ مِائَةِ رَجُلٍ .

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَأُعْطِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَفْضُلُهُمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ مَاءَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَحَالُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ ، وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِإِرَبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَأْتِي لِأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ ، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى طَرِيقِ تَأْنِيسِ الْبَشَرِيَّةِ لِأَجْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ : إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ .

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ الطِّيبُ ، وَالنِّسَاءُ ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } فَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : حُبِّبَ ، وَلَمْ يَقُلْ : أَحْبَبْت ، وَقَالَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فَأَضَافَهَا إلَيْهِمْ دُونَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حُبُّهُ خَاصًّا بِمَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْعَلِيَّةِ الشَّرِيفَةِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَشَرِيَّ الظَّاهِرِ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ إلَّا تَأْنِيسًا لِأُمَّتِهِ ، وَتَشْرِيعًا لَهَا لَا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِلْجَهْلِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ ، وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ قَالَ الْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ { : مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } فَقَالَ : { لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } ، وَلَمْ يَقُلْ إنِّي مَلَكٌ ، فَلَمْ يَنْفِ الْمَلَكِيَّةَ عَنْهُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ

إلَيْهِمْ أَعْنِي فِي مَعَانِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا فِي ذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ ، إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَلْحَقُ بَشَرِيَّتَهُ مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ .

وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هُوَ بَشَرٌ لَيْسَ كَالْأَبْشَارِ كَمَا أَنَّ الْيَاقُوتَ حَجَرٌ لَيْسَ كَالْأَحْجَارِ ، وَهَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِلْأَفْهَامِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ ، وَمَنْ كَانَ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ مَلَكَ نَفْسَهُ ، وَمِنْ هَاهُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا } ؛ لِأَنَّ هَذَا ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ بَابِ التَّأْنِيسِ لِلْأُمَّةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ { : إنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ : إنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شِدَّةِ الْآلَامِ ، وَالْأَوْجَاعِ لِرِفْعَةِ مَنَازِلِ الْمُرْسَلِينَ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ } الْحَدِيثَ انْتَهَى .

وَهَذَا مِنْ بَابِ تَأْنِيسِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ } إنَّ تِلْكَ السَّكَرَاتِ سَكَرَاتُ الطَّرِبِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالَ لَهُ أَهْلُهُ ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ ، وَاكَرْبَاهُ فَفَتَحَ عَيْنَهُ ، وَقَالَ : وَاطَرَبَاهُ غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا ، وَحِزْبَهْ انْتَهَى .

فَإِذَا كَانَ هَذَا طَرَبَهُ فِي هَذَا الْحَالِ بِلِقَاءِ مَحْبُوبِهِ ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِزْبُهُ ، فَمَا بَالُك بِلِقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَوْلَى الْكَرِيمِ { : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ

أَعْيُنٍ } ، وَهَذَا مَوْضِعٌ تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْ وَصْفِ بَعْضِهِ ، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَحْوَالَ الْبَشَرِيَّةِ ، وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ فِي الظَّاهِرِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَشْغُولٌ بِرَبِّهِ مُقْبِلٌ عَلَى آخِرَتِهِ ظَاهِرُهُ مَعَ الْخَلْقِ ، وَبَاطِنُهُ مَعَ رَبِّ الْخَلْقِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَائِبٌ عَنْ أَلَمِ الظَّاهِرِ .

هَذَا تَجِدُهُ مَحْسُوسًا فِي بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ، وَهُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْأَكَلَةُ فِي رِجْلِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوا الْقَدَمَ الَّتِي خَرَجَتْ فِيهِ لِئَلَّا تَتَعَدَّى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، فَكَانَ يَأْبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُمْ زَوْجَتُهُ : إنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ حَضَرُوا فَقَطَعُوهَا لَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ رَآهُمْ مُحَدِّقِينَ بِهِ فَقَالَ لَهُمْ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقْطَعُوا لِي غَيْرَ هَذِهِ الْمَرَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالُوا لَهُ : هُوَ ذَا فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا شَعَرْت بِكُمْ ، وَكَذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي ، وَانْهَدَمَتْ أُسْطُوَانَةٌ فِيهِ ، فَهَرِعَ النَّاسُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ يَنْظُرُونَ الْخَبَرَ لِشِدَّةِ انْزِعَاجِهِمْ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَتَأَثُّرِهِمْ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي حَضْرَتِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمُوا وَلَغَطُوا ، فَسُئِلَ أَهْلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّهُ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ ، وَظَاهِرُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُشْكِلٌ ، وَبَيَانُ إشْكَالِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِمَّا

ذُكِرَ ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّوْفِيَةُ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُزِيلُ هَذَا الْإِشْكَالَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ، وَيَقُولُ : إنْ كَانَ فَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ بَعْضِ حَالِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهِ لِتَوْفِيَةِ أَرْكَانِ الْفَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْلِ فَحَقِيقَةُ الْحُضُورِ فِيهِ أَنْ يَفْنَى الذَّاكِرُ فِي الْمَذْكُورِ .

: ( فَصْلٌ ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي أَنَّ { الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ ، } فَإِذَا كَانَ فِي الْأَكْلِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي الْجِمَاعِ ، إذْ أَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَلْذُوذَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ لَهَا ذَلِكَ إذَا أَرَادَتْهُ ، وَهُوَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى إرَادَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَطْلُبُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُكِّبَ فِيهَا مِنْ الشَّهْوَةِ أَضْعَافُ مَا فِي الرَّجُلِ لَكِنْ أَعْطَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَيَاءِ مَا يَغْمُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَإِذَا رَأَى مِنْهَا أَمَارَاتِ الطَّلَبِ لِذَلِكَ فَلْيُرْضِهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَعَطَّرَ ، وَتَلْبَسَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكُونُ غَرَضُهُ تَابِعًا لِغَرَضِهَا فَيَتَّصِفُ إذْ ذَاكَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ } ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ ثَمَّ ضَرُورَةٌ أَكِيدَةٌ لِلْجِمَاعِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ فَيُرِيدُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ امْرَأَةً تُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ هَذِهِ عِنْدَ هَذِهِ } فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَا يَنْتَظِرُ أَمَارَاتِ طَلَبِهَا ، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمُلَاعَبَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ مَعَ الْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .

وَقَدْ وَرَدَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ ، وَرَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَبْدِلْ لِي عِوَضَهَا حُورِيَّةً ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْدِلُ لَهُ عِوَضَهَا حُورِيَّةً } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ الشَّنِيعَ الَّذِي أَحْدَثَهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ ، وَهُوَ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ نَسَبُوا ذَلِكَ إلَى الْجَوَازِ ، وَيَقُولُونَ : إنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عَنْهُ لَا أَصْلَ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ نَسَبَهَا إلَى مَالِكٍ إنَّمَا نَسَبَهَا لِكِتَابِ السِّرِّ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُتَقَوَّلٌ عَلَيْهِ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كِتَابُ سِرٍّ ، وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ يَجِلُّ غَيْرُ مَالِكٍ عَنْ إبَاحَتِهَا فَكَيْفَ بِمَنْصِبِهِ ، وَمَا عُرِفَ مَالِكٌ إلَّا بِنَقِيضِ مَا نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ أَنْ يَخُصَّ الْخَلِيفَةَ بِرُخَصٍ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ كَانَ يُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ ، وَيَأْخُذُهُمْ بِالسِّيَاسَةِ حَتَّى يُنْزِلَهُمْ عَنْ دَرَجَاتِهِمْ إلَى دَرَجَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَا جَرَى لَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ فِي إقْرَاءِ الْمُوَطَّأِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ قَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ مَرَّةً : يَا مَالِكُ مَا زِلْت تُذِلُّ الْأُمَرَاءَ ، فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ مَعَهُمْ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَيَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا ؟ فَقَالَ : أَمَا أَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أَيَكُونُ الزَّرْعُ حَيْثُ لَا نَبَاتَ ؟ .

وقَوْله تَعَالَى { أَنَّى شِئْتُمْ } قِيلَ : مَعْنَاهُ كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً أَوْ مُدْبِرَةً أَوْ بَارِكَةً فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَتَى شِئْتُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ كَيْفَ شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا ، وَإِنْ

شِئْتُمْ فَلَا تَعْزِلُوا .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جَوَازِ ذَلِكَ فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ أَيَفْعَلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ ؟ أَوْ قَالَ مُسْلِمٌ ، وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا } ، وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي مَحَاشِّهِنَّ ، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى النِّسَاءَ فِي غَيْرِ مَخْرَجِ الْأَوْلَادِ } ، وَقَدْ قِيلَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُتُبِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَنْتَ تُبِيحُ ذَلِكَ فَقَالَ : كَذَبَ مَنْ قَالَهُ ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : كَذَبُوا عَلَيَّ ، وَقَالَ فِي أُخْرَى : كَذَبُوا عَلَيَّ عَافَاك اللَّهُ أَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ ، وَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ ، وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِابْنِ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي مُصَنَّفِ النَّسَائِيّ قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ } ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ ، وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَعْرُجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ لَمْ تَصِحَّ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ الْمُرْشِدُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَمِنْ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ .

قَالَ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ { : مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي

دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى أَعْنِي إتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا } ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ بَدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطَ إتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ .

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُغْنِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ ، وَمِنْ كِتَابِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ ظَفَرٍ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهَا اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى .

وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ شُرْطِيَّ الْمَدِينَةِ دَخَلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا ، فَقَالَ لَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : أَرَى أَنْ تُوجِعَهُ ضَرْبًا ، فَإِنْ عَادَ إلَى ذَلِكَ فَفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، وَأَمَّا مَا حُكِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ السَّلَفِ أَجَازُوا ذَلِكَ ، فَلَا يَصْلُحُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْهِمْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى سُوءِ ضَبْطِ النَّقَلَةِ ، وَالِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ الدُّبُرَ اسْمٌ لِلظَّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } ، وَقَالَ { : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } أَيْ ظَهْرَهُ ، وَالْمَرْأَةُ تُؤْتَى مِنْ قُبُلٍ ، وَمِنْ دُبُرٍ انْتَهَى .

يَعْنِي أَنَّهَا تُؤْتَى مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا فِي قُبُلِهَا ، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا مَا اعْتَادَهُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مُقْبِلَاتٍ ، وَمُدْبِرَاتٍ ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَتْ : كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ ، وَإِلَّا

فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى سَرَى أَمْرُهُمَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أَيْ مُقْبِلَاتٍ ، وَمُدْبِرَاتٍ ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ .

وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } انْتَهَى .

مِنْ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا .

هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ ، وَأَمَّا طَرِيقُ النَّظَرِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إذَا مُنِعَ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الْأَذَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ : هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، وَهِيَ أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ مِنْ الشَّهْرِ غَالِبًا ، فَمَا بَالُك بِمَوْضِعٍ لَا تُفَارِقُهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ ، وَقَدْ قَالُوا أَيْضًا : إنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِلِاسْتِمْتَاعِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا ، وَفِيمَا تَحْتَ الْإِزَارِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ شَهْوَةَ الرَّجُلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِشَهْوَةِ الْمَرْأَةِ ، وَوَطْؤُهَا فِي الدُّبُرِ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ بَلْ تَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا تَحْرِيكُ بَاعِثِ شَهْوَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنَالَ غَرَضَهَا ، وَالثَّانِي أَنَّ الْوَطْءَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَضُرُّهَا

( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ ، وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْغَالِبِ ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ ، وَأَتَى أَهْلَهُ جَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي رَآهَا ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّنَا لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَخَذَ كُوزًا يَشْرَبُ مِنْهُ الْمَاءَ فَصَوَّرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَنَّهُ خَمْرٌ يَشْرَبُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَصِيرُ عَلَيْهِ حَرَامًا ، وَهَذَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى لَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ : إنَّهُ اسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَأَفْتَى بِأَنْ قَالَ : إذَا جَعَلَ مَنْ رَآهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ عِنْدَ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَّلَهُ بِأَنْ قَالَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَانَ دِينَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى وُجُودِ الْجَهْلِ وَالْجُهَّلِ بِالْجَهْلِ ، وَمَا ذُكِرَ لَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ بَلْ الْمَرْأَةُ دَاخِلَةٌ فِيهِ بَلْ هِيَ أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الْخُرُوجُ أَوْ النَّظَرُ مِنْ الطَّاقِ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ يُعْجِبُهَا تَعَلَّقَ بِخَاطِرِهَا ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِزَوْجِهَا جَعَلَتْ تِلْكَ الصُّورَةَ الَّتِي رَأَتْهَا بَيْنَ عَيْنَيْهَا ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الزَّانِي نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى اجْتِنَابِ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا شَرِبَ الْعَبْدُ الْمَاءَ عَلَى شَبَهِ الْمُسْكِرِ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ حَرَامًا }

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ بِأَهْلِهِ ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَا كَانَ فَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَذْكُرُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَغَيْرِهِمْ مَا كَانَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ ، وَالْمَوَارِدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَمَا لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بِمَا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ لَا يُحَدِّثُ أَهْلَهُ بِشَيْءٍ جَرَى بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا مِمَّا يَتَسَاهَلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَهُوَ قَبِيحٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُحْدِثُ بَيْنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَالنِّسَاءِ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ فَيَأْتِي الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ فَيُثْنِي لَهُمْ عَلَى مَنْ يَخْطِرُ بِبَالِهِ ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِهَتِهِ ، وَالسَّلَامُ يُحْدِثُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي السَّلَامِ نَصِيبٌ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَلِّغَ الْإِنْسَانُ لَهُنَّ السَّلَامَ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ لَهُنَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُلُوبِ ، وَدُخُولَ وَسْوَاسِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَادَةِ ، فَإِنَّهَا شَنِيعَةٌ .

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ السَّلَامَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عَلَى الْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ بِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحَدِّثَ الْمَرْءُ بِمَا جَرَى لَهُ مَعَ شَيْخِهِ أَوْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ أَوْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فِي دِينِهِ مِنْ الْآدَابِ ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَقَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى آدَابِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي بَيْتِهِ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ أَوْ الْجَارِيَةُ ،

فَالتَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِهَا ، وَالنَّاصِيَةُ مَقْدَمُ الرَّأْسِ زَوْجَةً كَانَتْ أَوْ جَارِيَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فَيُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا ، وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَمْضِيَ لِسَبِيلِهِ

فَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيُمِرَّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ يَتَشَهَّدْ ثُمَّ يَرْجِعْ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَهُ ، وَيُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْكُمِّ قَبْلَ الْيُسْرَى ، فَإِذَا لَبِسَ ثَوْبَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ جَنَابَةٍ قَرَأَ { : إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَيَدَاهُ تُعَرِّكُ النَّوْمَ عَنْ عَيْنَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ .

ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُومُ مِنْ الْفِرَاشِ فَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، أَنْتَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُك الْحَقُّ ، وَوَعْدُك الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت ، وَبِك آمَنْت ، وَعَلَيْك تَوَكَّلْت ، وَإِلَيْك أَنَبْت ، وَبِك خَاصَمْت ، وَإِلَيْك حَاكَمْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت ، وَمَا أَخَّرْت ، وَمَا أَسْرَرْت ، وَمَا أَعْلَنْت ، أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك .

هَكَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ : نَامَتْ الْعُيُونُ ، وَغَارَتْ النُّجُومُ ، وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .

فَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَلَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ ، وَغَيْرِهِ .

وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بِأَيِّ نِيَّةٍ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ ، وَكَمْ لَهُ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَ الِاسْتِفَاقَةِ مِنْ النَّوْمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { : يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ ، يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ } ، وَكَسَلُ النَّفْسِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعُقَدِ الثَّلَاثِ ، فَإِنْ هُوَ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَذْهَبُ مِنْ الْكَسَلِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ الْعُقْدَةُ الثَّانِيَةُ فَيَذْهَبُ مَعَهَا مِنْ الْكَسَلِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ صَلَّى ذَهَبَ الْكَسَلُ كُلُّهُ ، وَبَقِيَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ .

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي كَوْنِهِ شَرَعَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ مَا ذُكِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، فَشَرَعَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حَتَّى تَذْهَبَ عُقَدُ الشَّيْطَانِ كُلُّهَا ، وَيَذْهَبَ أَثَرُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَجِدَ بِسَبَبِ النَّشَاطِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ .

وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي كُمِّهِ الْيَمِينِ أَوَّلًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ ، وَتَرَجُّلِهِ ، وَتَنَعُّلِهِ } فَعَمَّتْ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِقَوْلِهَا فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ، ثُمَّ فَصَّلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخْلُو

فِعْلُهُ مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ ، فَذَكَرَتْ الطُّهُورَ لِتُشِيرَ بِهِ إلَى جِنْسِ الْوَاجِبَاتِ ، وَالتَّرَجُّلَ لِجِنْسِ الْمَنْدُوبَاتِ ، وَالتَّنَعُّلَ لِجِنْسِ الْمُبَاحَاتِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي اللُّبْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَكْسُهُ فِي النَّزْعِ ، فَإِذَا نَزَعَ ثَوْبَهُ فَيَبْدَأُ بِنَزْعِ الْكُمِّ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى قَبْلَ الْيُمْنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَزْعِ النَّعْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مَعَ شَيْخِهِ أَعْنِي فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ مُخْتَارًا لِلْأَوْقَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِهِ فِيهَا يَخِفُّ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا مِنْ أَنْ يَجِدَ لِلِاجْتِمَاعِ بِهِ كُلْفَةً ، فَيُحْرَمَ الْعِلْمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْ بَرَكَتَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا هُوَ أَهَمُّ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَجِدُهُمْ يَعْتَقِدُونَ الشَّخْصَ ، وَيَقُولُونَ بِبَرَكَتِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَخْتَارُونَ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ فَيَأْتُونَ فِيهَا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُشْغِلُونَهُ عَنْ اغْتِنَامِ بَرَكَةِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ ، فَيَصِيرُ هُوَ وَهُمْ بِالسَّوَاءِ أَعْنِي فِي بَطَالَةِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيفَةِ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ فَتَجِدُهُمْ مُخَالِفِينَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .

أَلَا تَرَى إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ تَنَاكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَنَفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى إذَا فَرَغَ اجْتَمَعُوا ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِخِلَافِ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ كَثُرَ اجْتِمَاعُهُمْ وَزِيَارَتُهُمْ فِيهِ ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَى قَرِيبِهِ أَوْ صَاحِبِهِ أَوْ مُعَلِّمِهِ يَجِدُّونَ عَلَيْهِ ، وَيَقَعُ التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْأُمُورِ وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ أَنَّهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالدِّينِ ، فَيَرَوْنَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الشَّرِيفَةِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ

فَصْلٌ فِي نُبَذٍ بَقِيَتْ لَمْ تُذْكَرْ بَعْدُ : فَمِنْهَا أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَدْرَسَةِ أَوْ الرِّبَاطِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أُمُورٍ : مِنْهَا أَنْ لَا يَدَعَ الْوُضُوءَ مِنْ مَاءِ الْفَسْقِيَّةِ أَوْ الْبِئْرِ ، وَلَا يَتَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ الصِّهْرِيجِ أَوْ الزِّيرِ الْمُعَدَّيْنِ لِلشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا عُمِلَ لِلشُّرْبِ لَا لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فَقَدْ يُقْتَدَى بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَوَضَّأَ عَلَى الْبَلَاطِ الَّذِي عَلَى السُّقُوفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْبَلَاطِ وَالْخَشَبِ ، وَهُمَا وَقْفٌ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَجْمِرَ بِالْحِجَارَةِ وَيَدَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ إذَا وَجَدَهَا هُنَاكَ رَمَاهَا فِي السَّرَبِ فَيَمْتَلِئُ بِالْحِجَارَةِ ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْوَقْفِ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَجْمِرَ بِحَائِطِ الْوَقْفِ أَوْ بِأُصْبُعِهِ ، وَيَمْسَحَ مَا أَصَابَهُ فِي الْحَائِطِ ، وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ كَثُرَ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِعَاءٌ يَتَوَضَّأُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْغُسْلِ يَكُونُ لَهُ وِعَاءٌ يَغْتَسِلُ فِيهِ لِئَلَّا يَضُرَّ بِالسَّقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا صَعِدَ أَوْ نَزَلَ أَنْ يَمْشِيَ بِرِفْقٍ إذْ أَنَّ الْمَشْيَ بِقُوَّةٍ يَضُرُّ بِالْبَلَاطِ وَالسُّقُوفِ ، وَهُمَا وَقْفٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ بِقَبْقَابٍ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ عَلَى آدَابِ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ لِيَتَنَبَّهَ بِمَا ذُكِرَ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْإِمَامِ ، وَالْمُؤَذِّنِ ، وَآدَابِهِمَا ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُشْتَرَكٌ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ ، فَالْإِمَامُ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ ، وَمِثْلُهُ الْمُؤَذِّنُ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ : أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَوْصَافٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا مُتَكَلِّمًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقِيهًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ ، وَالْمُؤَذِّنُ : شَرَطُوا فِيهِ أَيْضًا ثَمَانِيَةَ أَوْصَافٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا مُتَكَلِّمًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ سَالِمًا مِنْ اللَّحْنِ فِي الْأَذَانِ ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ ، وَهِيَ : كُلُّ صَلَاةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ فَضِيلَتُهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي غَيْرِهَا ، وَهِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ ، وَالْجَمْعُ لِلْمَطَرِ ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَأْمُومًا ، وَاسْتُخْلِفَ هَذَا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ ، فَلَا يَجِبُ لَكِنْ إذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ لَا تَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ مَنْ نَوَاهَا ، وَإِذَا نَوَاهَا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ .

وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ مَأْمُومٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، وَالْإِمَامَةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِذَا عَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَنْوِ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ حَتَّى يُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَسَارَعَ إلَيْهَا ، وَلَا يَتْرُكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ جَمَاعَةً تَرَادُّوا الْإِمَامَةَ بَيْنَهُمْ فَخُسِفَ بِهِمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ الْإِمَامَةِ ، وَهُوَ خَطَأٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يُبَادِرُ

إلَيْهَا ، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا أَعْنِي فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَنْبَغِي لِمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ أَنْ يُبَادِرَ إلَيْهَا إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ حَالَ الْإِمَامِ ، وَأَمَّا مَعَ مَعْرِفَتِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا أَخَذَك وَقْتُ الصَّلَاةِ بِمَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ ، فَإِنْ كُنْت فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَصَلِّ حَيْثُ كُنْت ، وَلَيْسَ عَلَيْك إعَادَةٌ ، وَإِنْ كُنْت فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَقَعُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ حَالَ الْإِمَامِ أَمْ لَا فَتَعْمَلَ عَلَى مَا تَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ مَضَتْ صَلَاتُك ، وَإِلَّا فَتُعِيدُهَا ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَلِّلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : إنَّ بِلَادَ الْمَغْرِبِ لَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ إلَّا مَنْ أَجْمَعَ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلَدِ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَتَقْدُمَتِهِ فِي الْعِلْمِ ، وَالْخَيْرِ ، وَالصَّلَاحِ ، وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ لَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِيهَا إلَّا مَنْ أَجْمَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَلَى فَضِيلَتِهِ عَلَيْهِمْ .

وَأَمَّا الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ وَمَا أَشْبَهَهَا ، فَإِنَّ الْإِمَامَةَ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ غَالِبًا ، وَهِيَ إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ لَا يَتَوَلَّاهَا إلَّا صَاحِبُ جَاهٍ أَوْ شَوْكَةٍ ، وَمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الدِّينِ ، فَإِذَا صَلَّى خَلْفَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَعَادَ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ فَانْظُرُوا بِمَنْ تَسْتَشْفِعُونَ } ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا تَوَلَّى الْإِمَامَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَطْلُبُ بِذَلِكَ عِوَضًا عَنْ ثَنَاءٍ ، وَلَا رَاحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ، وَلَا صُورَةٍ مُمَيَّزَةٍ بَيْنَ النَّاسِ ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِوَجْهِ رَبِّهِ خَالِصًا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ أَكْبَرِ مُهِمَّاتِ الدِّينِ .

، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ ، وَعَرْفُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْبِطُهُمْ الْأَوَّلُونَ ، وَالْآخِرُونَ عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ مَوَالِيهِ ، وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كُلَّ يَوْمٍ ، وَلَيْلَةٍ ، } فَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يَكْرَهُ إمَامَتَهُ فَتَرْكُهَا إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ لَهُ ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ حَذَرًا أَنْ يَكْرَهَ أَحَدٌ إمَامَتَهُ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ أَوْ نَفْسَانِيٍّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً فَلَا يَتَقَدَّمُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ ثَلَاثًا رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَمْ يُجِبْ } فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْإِمَامَةِ مَعْلُومٌ ، فَلَا يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْإِجَارَةِ ، بَلْ يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ الْفُتُوحِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى فِعْلِ الْإِمَامَةِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعَلَامَتُهُ أَنْ لَا يَطْلُبَهُ ، وَلَا يَجِدَ الْقَلَقَ حِينَ قَطْعِهِ عَنْهُ ، وَلَا يَتَضَجَّرَ ، وَلَا يَتْرُكَ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ أَوْ تَضَجَّرَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ إلَى بَابِ الْمَكْرُوهِ أَوْ الْمُحَرَّمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْعَالِمِ ، وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ فَذَلِكَ سَائِغٌ مَا لَمْ يَصْحَبْهُ حَظٌّ مَا فَإِنْ صَحِبَهُ فَيُكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ بِحَسَبِ الْحَالِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ

يَتَحَفَّظَ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَفُّظِ الْمُؤَذِّنِ عَلَيْهَا ، إذْ أَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ الْمُؤَذِّنُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، وَالْمُؤْمِنُ كَفِيلٌ لِأَخِيهِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَتَحَفَّظُ عَلَى الْأَوْقَاتِ فَقَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى خَطَؤُهُمَا مَعًا ، بَلْ إذَا أَخْطَأَ هَذَا أَصَابَ هَذَا فِي الْغَالِبِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ فَرْضٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُك بِمَنْ لَهُ الْإِمَامَةُ إذْ بِهِ الْحَلُّ وَالرَّبْطُ فِي الصَّلَاةِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزْرِي بِصَاحِبِهَا مِنْ الْمِزَاحِ ، وَكَثْرَةِ الضَّحِكِ سِيَّمَا مَعَ الْأَجَانِبِ ، وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزْرِي بِصَاحِبِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فِي شَيْءٍ .

وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرَقَاتِ } كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ الْبَيَّاعِ لَا لِحَاجَةٍ ، وَذَلِكَ جُلُوسٌ عَلَى الطُّرُقَاتِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ الْجَمَاعَةِ قَلَقًا وَخَوْفًا ، وَأَكْثَرَهُمْ عِلْمًا وَخَشْيَةً وَرِقَّةً ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ حَتَّى يُحَصِّلَ جَمِيعَ مَنْ خَلْفَهُ فِي صَحِيفَتِهِ ، وَفِي خِفَارَتِهِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فَضْلًا ، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَيَتَخَوَّفُ عَلَى ذِمَّتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْإِمَامُ ضَامِنٌ ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ مُهِمَّاتِهِ

التَّحَفُّظَ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ ، وَالْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ الْمَعْمُولِ بِهَا عِنْدَهُمْ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَحَدٌ الْيَوْمَ لَوَجَدُوا عَلَيْهِ ، وَقَالُوا : تَرَكَ السُّنَّةَ فَظَهَرَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ { : كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا : تَرَكَ سُنَّةً } فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ جَهْدَهُ إذْ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلْعَامَّةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْغَالِبِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا قَالَ الرَّسُولُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ التَّصَرُّفُ .

أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : { إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا } فَنَظَرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ فَوَائِدَ ، إذْ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ .

وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي هُوَ مَفْرُوشٌ بِالرَّمْلِ ، أَمَّا غَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَفْرُوشٌ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالرُّخَامِ أَوْ بِالْبَلَاطِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ : أَنْ يَبْزُقَ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَيَحُكَّهَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَبْصُقُ تَحْتَ طَرَفِ الْحَصِيرِ وَيَرُدُّ الْحَصِيرَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الدَّفْنِ لَهَا كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ كَثْرَةِ تَعْظِيمِهِمْ لِلْمَسَاجِدِ وَاحْتِرَامِهَا ، وَأَنَّ مَسَاجِدَهُمْ كَانَتْ يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهَا غَالِبًا وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّعْظِيمِ ، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فَتَعَاطِي الْقَلِيلَ مِنْهُ يُؤَدِّي إلَى الْكَثِيرِ ، وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ :

الْأَوَّلُ : أَنَّ فِيهِ اسْتِقْذَارًا لِلْمَسْجِدِ .

الثَّانِي : أَنَّ الذُّبَابَ يَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيُشَوِّشُ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ .

الثَّالِثُ : أَنَّ الْخُشَاشَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهَا .

الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا يُسَمَّى تَغْطِيَةً وَلَا يُسَمَّى دَفْنًا .

الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .

السَّادِسُ : أَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَصِيرَ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْتَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى آلَ إلَى تَقْطِيعِهِ .

السَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ فِي غَيْرِ مَا جُعِلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا .

الثَّامِنُ : أَنَّ ذَلِكَ يُكْسِبُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَطْيِيبِهِ وَهَذَا ضِدُّهُ .

التَّاسِعُ : أَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْبُصَاقِ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ نَجِسٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ مِمَّنْ بِهِ مَرَضٌ .

وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ مَا أَكَلَ إذْ أَنَّهُ إذَا عَالَجَهُ وَأَزَالَهُ فَلَا يَبْتَلِعُهُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مُخَالَطَتُهُ لِشَيْءٍ مِنْ دَمِ اللِّثَاتِ ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَا يَسْتَاكُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُ مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ .

الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا سَلِمَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَفِعْلُهُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ بُصَاقَهُ إلَى فِيهِ ، وَذَلِكَ مُسْتَقْذَرٌ ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِأَجْلِ النَّظَافَةِ ، وَهَذَا ضِدُّهُ .

هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَصِيرٌ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ رُخَامٌ أَوْ بَلَاطٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُمْنَعُ الْبُصَاقُ فِيهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا } وَدَفْنُهَا لَا

يُمْكِنُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ خَطِيئَةً .

فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ ، فَمَا كَانَ فِيهِ عَلَى مِنْهَاجِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَبْقَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَزَالَهُ بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ ، إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ .

أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ اتَّخَذَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ ، وَالْحَصِيرُ مِمَّا لَا يَتَأَبَّدُ .

وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ الصُّغْرَى لَهُ قَالَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { : كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ } الْحَدِيثَ .

هَذَا وَهُوَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِكَافِ فَمَا بَالُكَ بِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .

فَعَلَى هَذَا فَفِعْلُ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ ، وَقَدْ تَرَتَّبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ جُمْلَةُ مَفَاسِدَ .

أَوَّلُهَا : أَنَّ الْمَوْضِعَ وُقِفَ لِلصَّلَاةِ وَمَا فُعِلَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَهُوَ غَصْبٌ لِمَوَاضِعِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ .

الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ تَقْطِيعَ الصُّفُوفِ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْبَالُ الْخَطِيبِ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ وَلَا رُؤْيَتُهُ بِسَبَبِهَا ، إذْ أَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ .

وَقَدْ وَرَدَ { إذَا قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِكُمْ وَارْمُقُوهُ بِأَعْيُنِكُمْ } مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ ، فَكَانَتْ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ .

الرَّابِعُ : أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَى إلَى أَمْرٍ مُسْتَهْجَنٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَى أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ بِارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ يَتَوَارَى

فِيهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ .

الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَنَامُ فِيهَا بَعْضُ الْغُرَبَاءِ لِلضَّرُورَةِ ، فَيَجِدُ اللِّصُّ السَّبِيلَ إلَى أَخْذِ مَتَاعِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِسَبَبِهَا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا .

السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَعْضُ النَّاسِ السَّبِيلَ إلَى أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِهَا ، إذْ أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهَا فَلَا يُرَدُّ إذْ ذَاكَ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ الصِّغَارَ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ حَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ .

السَّابِعُ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ .

الثَّامِنُ : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ .

التَّاسِعُ : قَدْ يَجِيءُ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي بِتِلْكَ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي فِي الدَّرَابْزِينِ فَكَانَتْ سَبَبًا لِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ .

وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِهَا أَنَّ الْخِلَافَةَ لَمَّا رَجَعَتْ مُلْكًا وَتَخَوَّفَ الْمُلُوكُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْقَتْلِ عَمِلُوا هَذِهِ الْمَقَاصِيرَ لِيَتَحَصَّنُوا بِهَا مِمَّنْ يَثِبُ إلَى قَتْلِهِمْ ، فَلَا يَدْخُلُهَا إلَّا خَاصَّةُ الْمَلِكِ وَحُجَّابُهُ عَلَى بَابِهَا .

وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ : أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الْمَقْصُورَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ حِينَ طَعَنَهُ الْيَمَانِيُّ فَجَعَلَ مَقْصُورَةً مِنْ طِينٍ وَجَعَلَ فِيهَا تَشْبِيكًا .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْمَقْصُورَةُ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا الْأُمَرَاءُ لِلْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَاِتِّخَاذُهَا فِي الْجَوَامِعِ مَكْرُوهٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً تُفْتَحُ أَحْيَانَا وَتُمْنَعُ أَحْيَانَا فَالصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْخَارِجُ عَنْهَا اللَّاصِقُ بِهَا .

وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً غَيْرَ مَمْنُوعَةٍ فَالصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ اللَّاصِقُ بِجِدَارِ الْقِبْلَةِ فِي دَاخِلِهَا ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ .

وَقَوْلُهُ : وَجَعَلَ فِيهَا تَشْبِيكًا يُرِيدُ تَخْرِيمًا

يَرَى مِنْهُ النَّاسُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ .

ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ تُعْمَلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ زِيِّ الْمَسْجِدِ ، وَكَثُرَ هَذَا حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ مَدْرَسَةً وَيَقِفَ لَهَا وَقْفًا يَأْخُذُ مِنْ الْجَامِعِ نَاحِيَةً حَيْثُ يَخْتَارُ فِيهِ فَيُدِيرُهَا بِالدَّرَابْزِينِ وَيَجْعَلُهَا لِأَخْذِ الدَّرْسِ فِيهَا ، فَسَرَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي تُقْصَدُ لَهَا الْمَسَاجِدُ ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُطْرَدُ فِي وَقْتِ الدَّرْسِ ، وَهَذَا غَصْبٌ وَإِحْدَاثٌ وَتَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ لَا شَكَّ فِيهِ .

( فَصْلٌ )

( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْكُرْسِيُّ الْكَبِيرُ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَامِعِ وَيُؤَبِّدُونَهُ وَعَلَيْهِ الْمُصْحَفُ لِكَيْ يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُمْسَكُ بِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعٌ كَبِيرٌ وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ لِصَلَاتِهِمْ .

الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمْ التَّالِي وَمِنْهُمْ الذَّاكِرُ وَمِنْهُمْ الْمُفَكِّرُ ، فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ إذْ ذَاكَ قَطَعَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ .

وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ ، } وَهُوَ نَصٌّ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُونَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَتَشَوَّشُ مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ شَوَّشَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِوُجُودِ الضَّرَرِ .

وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا } رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ .

وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَجَّاجُ أَعْنِي الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ مَنْ مَضَى ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَرْسَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَصَاحِفَ إلَى الْأَمْصَارِ تُوضَعُ فِي الْجَوَامِعِ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِتَجْمِيعِ النَّاسِ عَلَى مَا أُثْبِتَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ ، خَاصَّةً لِيَذْهَبَ التَّنَازُعُ فِي الْقُرْآنِ وَيُرْجَعَ لِهَذَا الْمُصْحَفِ إذَا اُخْتُلِفَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَيُتْرَكَ مَا عَدَاهُ ؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْمَصَاحِفِ وَقَدْ أُمِنَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

فَلَا يُكْتَبُ مُصْحَفٌ وَيُجْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا أَحْدَثُوهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الصَّنَادِيقِ الْمُؤَبَّدَةِ الَّتِي يَجْعَلُ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ أَقْدَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ أَثَاثِهِمْ ، وَذَلِكَ غَصْبٌ لِمَوْضِعِ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .

قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ : وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّابُوتَ الَّذِي جُعِلَ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّدَقَاتِ ، وَرَآهُ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا انْتَهَى .

وَمِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْوَقْفِ وَالتَّغْيِيرِ لِمَعَالِمِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حَفْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ مَوْضِعًا كَالْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ يَعْمَلُ فِيهَا مَا يَخْتَارُ مِنْ خَتْمَةٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، فَعَلَى مَا ذُكِرَ فَقِسْ كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي الْمَسْجِدِ .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدَّكَّةُ الَّتِي يَصْعَدُ عَلَيْهَا الْمُؤَذِّنُونَ لِلْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الْأَذَانِ عَلَيْهَا ، بَلْ هِيَ أَشَدُّ مِنْ الصَّنَادِيقِ ، إذْ يُمْكِنُ نَقْلُ الصَّنَادِيقِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْلُهَا إذْ إنَّ السُّنَّةَ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ ، كَذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ الْمُؤَذِّنُونَ ثَلَاثَةً يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَذَانًا آخَرَ بِالزَّوْرَاءِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ لَمَّا أَنْ كَثُرَ النَّاسُ وَأَبْقَى الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَنَارِ ، وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذْ ذَاكَ .

ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذَ الْأَذَانَ الَّذِي فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالزَّوْرَاءِ ، وَجَعَلَهُ عَلَى الْمَنَارِ وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا يُؤَذِّنُ عِنْدَ الزَّوَالِ ، ثُمَّ

نُقِلَ الْأَذَانُ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَنَارِ حِينَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ ثَلَاثَةً فَجَعَلَهُمْ يُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً وَيَسْتَرِيحُونَ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : وَسُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ .

فَقَدْ بَانَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ بِدْعَةٌ ، وَأَنَّ أَذَانَهُمْ جَمَاعَةً أَيْضًا بِدْعَةٌ أُخْرَى فَتَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ ، وَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا تَقَدَّمَ .

ثُمَّ تَطَاوَلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا ، فَزَادُوا عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُؤَذِّنِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ ، فَهَذِهِ بِدْعَةٌ ثَالِثَةٌ ثُمَّ أَحْدَثُوا الدَّكَّةِ الَّتِي يَصْعَدُونَ عَلَيْهَا وَيُؤَذِّنُونَ ، فَهَذِهِ بِدْعَةٌ رَابِعَةٌ .

وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ .

هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ .

وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ؛ فَلِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ وَمَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ لَا مَعْنَى لِنِدَائِهِ ، إذْ هُوَ حَاضِرٌ وَمَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ إذَا كَانَ النِّدَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ، هَذَا وَجْهٌ .

الثَّانِي : أَنَّ الدَّكَّةَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا ضَيِّقَةٌ مِنْ غَيْرِ حَظِيرٍ فَقَدْ تَلْتَوِي رِجْلُ أَحَدِهِمْ أَوْ يَعْثُرُ فَيَقَعُ فَتَنْكَسِرُ ، وَقَدْ جَرَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مَسْئُولًا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِ أَلَمِهِ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهَا إذْ الْمُرَادُ إنَّمَا هُوَ إسْمَاعُ الْحَاضِرِينَ ، وَهُمْ لَوْ أَذَّنُوا فِي الْأَرْضِ لَأَسْمَعُوا مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ وَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا فَصَارَ الْمُنْكِرُ لَهَا كَأَنَّهُ يَأْتِي بِبِدْعَةٍ عَلَى زَعْمِهِمْ ، فَإِنَّا لِلَّهِ

وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ وَالْأَفْضَلُ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بِدْعَةٌ لَكَانَ أَخَفَّ أَنْ يُرْجَى لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَتُوبَ .

( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى أَمْرٍ مَخُوفٍ ، وَهُوَ وُقُوعُ الْخَلَلِ فِي الصَّلَاةِ .

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ فَعَلُوا الْأَذَانَ فِي جَمَاعَةٍ مَضَوْا عَلَى ذَلِكَ التَّبْلِيغِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ إذَا بَلَّغُوا مَشَى بَعْضُهُمْ عَلَى صَوْتِ بَعْضٍ مَعَ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ ، وَذَلِكَ يُذْهِبُ الْحُضُورَ وَالْخُشُوعَ أَوْ بَعْضَهُ وَيُذْهِبُ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ أَيْضًا .

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ وَالصَّلَاةِ بِهِ وَبُطْلَانِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : تَصِحُّ ، لَا تَصِحُّ ، الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ فَتَصِحَّ ، أَوْ لَا يَأْذَنَ فَلَا تَصِحَّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْإِمَامِ يَعُمُّهُمْ فَلَا تَصِحُّ أَوْ لَا يَعُمُّهُمْ فَتَصِحُّ .

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي تَبْلِيغِ الْوَاحِدِ فَمَا بَالُكَ فِي تَبْلِيغِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ كَمَا سَبَقَ ؟ فَأَوْلَى بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ وَبُطْلَانِهَا بِتَبْلِيغِهِمْ .

وَهَذَا إنَّمَا هُوَ إذَا أَتَوْا كُلُّهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَامِلًا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ كَبَّرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْمِعِينَ التَّكْبِيرَ كَامِلًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ جَرَى فِي صَلَاتِهِ وَالصَّلَاةِ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ .

هَذَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ مَشَى عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى .

وَأَمَّا عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ كَوْنِهِمْ يَتَوَاكَلُونَ فِي التَّكْبِيرِ وَيُدِيرُونَهُ بَيْنَهُمْ وَيَقْطَعُونَهُ وَيُوصِلُونَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ فَيَقُولُ : اللَّهُ وَيَمُدُّ صَوْتَهُ ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْآخَرُ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ نَفْسِهَا وَاصِلًا صَوْتَهُ بِصَوْتِ صَاحِبِهِ قَبْلَ انْقِطَاعِهِ مُبَالِغًا فِي رَفْعِ صَوْتِهِ عَلَى سَبِيلِ

الْعَمْدِ ، وَفَاعِلُ هَذَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى وَجْهِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي شُغُلٍ فِي الصَّلَاةِ بِزِيَادَةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ وَلَا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ الْخِلَافِ السَّابِقِ .

وَيَقَعُ أَيْضًا بِذَلِكَ التَّهْوِيشُ وَالتَّشْوِيشُ وَالتَّخْلِيطُ سِيَّمَا ، وَهُمْ لَوْ أَتَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاكُلٍ أَوْ تَوْصِيلٍ وَتَرْدِيدٍ لَأَبْطَلَ صَلَاتَهُمْ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وَضْعَ التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُ فَيَزِيدُونَ عَلَى الْهَمْزَةِ مَدَّةً ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي أَكْبَرُ ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ بَعْدَ الْبَاءِ مِنْ أَكْبَرُ أَلِفًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَنِيعُهُمْ .

وَإِنْ أَتَى بَعْضُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَامِلًا فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا وَهُوَ الْبُطْلَانُ .

وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَيَسْرِي الْخَلَلُ إلَى صَلَاةِ مَنْ صَلَّى بِتَبْلِيغِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ .

أَوَّلُهَا وَهُوَ أَعْلَاهَا : أَنْ يَرَى أَفْعَالَ الْإِمَامِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَرُؤْيَةُ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِينَ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِمْ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا إمَامَةَ .

وَفِي هَذَا نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ : أَنَّ الْإِمَامَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَبَّرُوا خَلْفَهُ إذْ ذَاكَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الصَّلَاةِ لِيُسْمِعُوا النَّاسَ ذَلِكَ فَيُعْلِمُوا بِتَكْبِيرِهِمْ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ، فَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ النَّاسِ حِينَئِذٍ سَرَى الْخَلَلُ إلَى صَلَاتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا .

ثُمَّ إنَّ تَبْلِيغَهُمْ فِي الصَّلَاةِ جَمَاعَةً

أَدَّى إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَفِي حُكْمِهِ ؛ وَفِي هَذَا الْفِعْلِ يَصِيرُ الْإِمَامُ فِي حُكْمِ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَبِّرِينَ يُطَوِّلُونَ فِي التَّكْبِيرِ وَيُمَطِّطُونَهُ ، وَالْإِمَامُ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُمْ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ إلَى الرُّكْنِ الَّذِي يَلِيهِ .

وَأَفْضَى تَسْمِيعُهُمْ جَمَاعَاتٍ أَيْضًا إلَى مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَيَرْكَعُ فَيُكَبِّرُونَ خَلْفَهُ وَيُطَوِّلُونَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ عَلَيْهِ ، فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ تَكْبِيرُهُمْ ، وَيَأْتِي الْمَسْبُوقُ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَيَرْكَعُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ بَعْدُ لِكَوْنِهِ يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُكَبِّرِينَ فِي الرُّكُوعِ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، إذْ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَتَدَارَكَ مَا وَقَعَ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ لَمْ تَصِحَّ لَهُ .

( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا الدَّكَّةُ الَّتِي تَحْتَ هَذِهِ الدَّكَّةِ الَّتِي يُؤَذِّنُونَ عَلَيْهَا لِلْجُمُعَةِ ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقَاصِيرِ وَالصَّنَادِيقِ .

وَكَذَلِكَ الدَّكَّةُ الَّتِي يُسْمِعُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا كَذَلِكَ .

ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ إذْ إنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ ، وَإِذَا كَانَتْ صِلَةً فَمِنْ شَأْنِهَا كَثْرَةُ التَّوَاضُعِ وَتَمْرِيغُ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَالتُّرَابِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ عَلَى الْحَصِيرِ الْغَلِيظِ .

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الثَّوْبِ الْكَتَّانِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مَكْرُوهَةٌ مَعَ وُجُودِ الْحَصِيرِ ، وَبِهَذِهِ النِّسْبَةِ تَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى ثَوْبِ الْقُطْنِ مَكْرُوهَةً إذَا وُجِدَ الْكَتَّانُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الثَّوْبِ الصُّوفِ مَكْرُوهَةٌ إنْ وُجِدَ الْقُطْنُ .

فَالْحَاصِلُ أَنَّ

أَعْلَى الْمَرَاتِبِ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِالسُّجُودِ ثُمَّ يَلِيهَا الْحَصِيرُ الْغَلِيظُ ثُمَّ مَا هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ ثُمَّ الْكَتَّانُ الْغَلِيظُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ الْقُطْنُ مِثْلُهُ ثُمَّ الصُّوفُ .

وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَتَصَاغُرٍ وَذِلَّةٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ .

وَفِعْلُ الدَّكَّةِ يُنَافِي ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَيْهَا يَرْتَفِعُ بِهَا عَنْ الْأَرْضِ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا وَيُصَلِّي عَلَى الْخَشَبِ ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا جُعِلَتْ الدَّكَّةُ لِلْأَذَانِ لِلْجُمُعَةِ وَلِلْخَمْسِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُ تَبْلِيغَهُمْ فِي الْغَالِبِ ، وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الدَّكَّةِ أَوْ بِالْأَرْضِ هُمْ يَسْمَعُونَهُمْ غَالِبًا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَكُونُ الْجَامِعُ كَبِيرًا وَفِيهِ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَلَا يُسْمِعُهُمْ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَوْتِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ ، بَلْ صَوْتُ الْوَاحِدِ فِي الْإِسْمَاعِ أَبْلَغُ لِكَوْنِهِ صَوَّتَ أَكْثَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ يُبَلِّغُ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى أَصْوَاتِهِمْ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُسْمِعُ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ فِي الشَّاهِدِ عَلَى بُعْدٍ وَلَا تُسْمِعُ الْجَمَاعَةُ إلَّا فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .

وَفِي جَوَامِعِ الْمَغْرِبِ تَجِدُ فِي الْجَامِعِ الْوَاحِدِ أَرْبَعَةَ مُؤَذِّنِينَ .

وَاحِدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ، وَالثَّانِي حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ صَوْتُ الْأَوَّلِ ، وَالثَّالِثُ حَيْثُ يَنْتَهِي صَوْتُ الثَّانِي ، ثُمَّ الرَّابِعُ كَذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُبَلِّغِ الْوَاحِدِ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ، وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَصِحَّةُ صَلَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَعْنِي فِي إمْسَاكِ مَوَاضِعَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَقْطِيعِ الصُّفُوفِ بِهَا اتِّخَاذُ هَذَا الْمِنْبَرِ الْعَالِي ، فَإِنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْمَسْجِدِ جُزْءًا جَيِّدًا ، وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُحْدِثَ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ تَقْطِيعُ الصُّفُوفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَقَدُّمَ الصُّفُوفِ إلَى فِنَاءِ الْمِنْبَرِ بِدْعَةٌ .

وَكَانَ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْخَارِجُ بَيْنَ يَدَيْ الْمِنْبَرِ انْتَهَى .

وَأَمَّا بِلَادُ الْمَغْرِبِ فَقَدْ سَلِمُوا مِنْ تَقْطِيعِ الصُّفُوفِ لَكِنْ بَقِيَتْ عِنْدَهُمْ بِدْعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : كِبَرُ الْمِنْبَرِ عَلَى مَا هُوَ هُنَا .

وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمِنْبَرَ فِي بَيْتٍ إذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنْ الْخُطْبَةِ ، وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْحَجَّاجِ .

وَمِنْبَرُ السُّنَّةِ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ كَانَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ لَا غَيْرُ ، وَالثَّلَاثُ دَرَجَاتٍ لَا تَشْغَلُ مَوَاضِعَ الْمُصَلِّينَ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : بَلْ تَشْغَلُ وَلَوْ مَوْضِعًا وَاحِدًا .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى بِفِعْلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَكْمَلُ الْحَالَاتِ وَمَا عَدَاهُ فَبِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ كَثُرَ النَّاسُ وَاتَّسَعَ الْجَامِعُ فَإِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ قَلَّ أَنْ يَسْمَعَ الْخُطْبَةَ الْجَمِيعُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي الْغَالِبِ .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِنْبَرٍ عَالٍ هُوَ الَّذِي لَا يُسْمِعُهُمْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْهُمْ فَكَأَنَّهُ فِي سَطْحٍ وَحْدَهُ ، فَلَا يَسْمَعُ مَنْ تَحْتَهُ وَهَذَا مُشَاهَدٌ .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَطِيبَ يَخْطُبُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ

الْعَالِي وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْمَعُونَهُ ، وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ وَاقِفًا مَعَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَفِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا عُلُوُّ الْمَنَارِ لِلْأَذَانِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا الْبِئْرُ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَأَنْ يُجْعَلَ الْمَسْجِدُ طَرِيقًا بِسَبَبِهَا حَتَّى يَدْخُلَ النِّسَاءُ إلَيْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِنَّ الْحُيَّضُ وَالْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً وَالصِّغَارُ وَمَنْ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ أَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَحَفَّظْ ، وَقَدْ امْتَنَعَ بِسَبَبِهَا مَوَاضِعُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ ، وَلَا ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الْبِئْرِ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُلْوَةٍ فَيُنْتَفَعُ بِالشُّرْبِ مِنْهَا ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَانْتَفَعَ النَّاسُ بِالشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ طَرِيقًا .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ النَّفْعُ بِهَا إلَّا لِلطَّهَارَةِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِالْآبَارِ حَتَّى فِي بَعْضِ الطُّرُقِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ .

فَأَمَّا الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا يُنْقَلُ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا كَمَا تَقَدَّمَ .

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِئْرُ قَدِيمَةً وَجَاءَ مَنْ بَنَى الْمَسْجِدَ هُنَاكَ وَتَرَكَ الْبِئْرَ فِي وَسَطِهِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالطُّرُقُ إلَى الْبِئْرِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ .

( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ وَالْحَظِيرِ الَّذِي عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الطَّبَقَةِ .

وَهِيَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمْ لَا .

فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ الْوُضُوءُ مِنْهَا .

وَقَدْ مُنِعَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ فِي الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكَشْفُ الْعَوْرَةِ هُنَا أَعْظَمُ فِي الْمَنْعِ ؛ لِحُرْمَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ سِيَّمَا وَبَعْضُ النَّاسِ يَبُولُ هُنَاكَ وَيَسْتَنْجِي ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ الْوُضُوءُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَوَضَّئُونَ هُنَاكَ فَتَمْتَلِئُ أَقْدَامُهُمْ وَيَخْرُجُونَ فَيُلَوِّثُونَ بِهَا الْمَسْجِدَ بِيَقِينٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ .

وَأَمَّا الطَّبَقَةُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيهَا ؛ لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً .

وَفِي مَوْضِعِ الْفَسْقِيَّةِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى أَكْثَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَقَاصِيرِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يَصِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ ، إذْ أَنَّهَا أَكْثَرُ سِتْرًا مِنْ الْمَقَاصِيرِ ؛ لِأَنَّهَا فِي مُؤَخِّرِ الْمَسْجِدِ ، وَالْغَالِبُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَمَا قَارَبَهُ فَيَبْقَى مُؤَخِّرُ الْمَسْجِدِ فِي الْغَالِبِ خَالِيًا ، سِيَّمَا إنْ كَانَ لَيْلًا ، وَهُمْ لَا يَقْعُدُونَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ إلَّا قَلِيلًا .===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق