9 مصاحف الكتاب الاسلامي/

الأربعاء، 24 مايو 2023

ج9وج10.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ابن دقيق العيد من كتاب الجنائز الي آخره.ثم كتاب الجهاد آخره

ج9وج10.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ابن دقيق العيد

من كتاب الجنائز

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى ، فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَعْضِ النَّعْيِ . وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ . فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّعْيِ لِغَيْرِ غَرَضٍ دِينِيٍّ ، مِثْلِ إظْهَارِ التَّفَجُّعِ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَإِعْظَامِ حَالِ مَوْتِهِ . وَيُحْمَلُ النَّعْيُ الْجَائِزُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، مِثْلُ طَلَبِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ ، تَحْصِيلًا لِدُعَائِهِمْ ، وَتَتْمِيمًا لِلْعَدَدِ الَّذِي وُعِدَ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِمْ فِي الْمَيِّتِ ، كَالْمِائَةِ مَثَلًا . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ مَاتَ بِأَرْضٍ لَمْ يُقَمْ فِيهَا عَلَيْهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ . فَيَتَعَيَّنَ الْإِعْلَامُ بِمَوْتِهِ لِيُقَامَ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَا : لَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ وَيَحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ الْحَدِيثِ . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَعْذَارٌ : مِنْهَا : مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ ، حَيْثُ مَاتَ . فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ فَرْضِهَا . وَمِنْهَا : مَا قِيلَ : إنَّهُ رُفِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَمَيِّتٍ يَرَاهُ الْإِمَامُ وَلَا يَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ . وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ يُثْبِتُهُ . وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ . وَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى الْمُصَلَّى : فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ } وَلَعَلَّ مَنْ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ يَتَمَسَّكُ بِهِ ، إنْ كَانَ لَا يَخُصُّ الْكَرَاهَةَ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ . وَيَكْرَهُهَا مُطْلَقًا ، سَوَاءً كَانَ الْمَيِّتُ فِي مَسْجِدٍ أَمْ لَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ : التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا . وَقَدْ خَالَفَ ذَلِكَ الشِّيعَةُ . وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ خَمْسًا } . وَقِيلَ : إنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعًا مُتَأَخِّرٌ عَنْ التَّكْبِيرِ خَمْسًا . وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ " أَنَّهُ يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثًا " وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّهُ .

 

 

157 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ جَابِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي ، أَوْ الثَّالِثِ } .

وَحَدِيثُ جَابِرٍ طَرَفٌ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا حَضَرَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ صَفَّهُمْ صُفُوفًا ، طَلَبًا لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِيمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ ، وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ لَا تَضِيقُ عَنْ صَفٍّ وَاحِدٍ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

158 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ ، بَعْدَ مَا دُفِنَ ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا } .

فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَالِي لَمْ يُصَلِّيَا ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْوَالِي ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ . وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ : بِأَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ صَلَّى مَعَهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، إذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرٌ لِذَلِكَ . وَفِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعٌ : مَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

159 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ } .

فِيهِ جَوَازُ التَّكْفِينِ بِمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ السَّاتِرِ لِجَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَأَنَّهُ لَا يُضَايَقُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُتَّبَعُ رَأْيُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مِنْ الْوَرَثَةِ . وَقَوْلُهَا " لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَلَا عِمَامَةٍ أَصْلًا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ ، وَالْأَوَّلُ : هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

160 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ { دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ ، فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ - بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا - أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ - فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ . فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ . وَقَالَ : أَشْعِرْنَهَا بِهِ - تَعْنِي إزَارَهُ . وَفِي رِوَايَةٍ أَوْ سَبْعًا ، وَقَالَ : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ، وَإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ } .

وَهَذِهِ الِابْنَةُ : هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ . وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ " اغْسِلْنَهَا " عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمَيِّتِ . وَبِقَوْلِهِ " ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا " عَلَى أَنَّ الْإِيتَارَ مَطْلُوبٌ فِي غَسْلِ الْمَيِّتِ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِصِيغَةِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدِي يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُصُولِيَّةٍ وَهِيَ : جَوَازُ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ قَوْلَهُ " ثَلَاثًا " غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ صِيغَةِ الْأَمْرِ . فَتَكُونَ مَحْمُولَةً فِيهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَفِي أَصْلِ الْغُسْلِ : عَلَى الْوُجُوبِ . فَيُرَادُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ : الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيتَارِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ } تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِنَّ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ . لَا إلَى رَأْيِهِنَّ بِحَسَبِ التَّشَهِّي ، فَإِنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا . فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ . وَإِذَا زِيدَ عَلَى ذَلِكَ فَالْإِيتَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنْهَاؤُهُ الزِّيَادَةَ إلَى سَبْعَةٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ " بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " أُخِذَ مِنْهُ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالسِّدْرِ تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي أَنَّ السِّدْرَ مَمْزُوجٌ بِالْمَاءِ ، وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَزْجٍ لَهُ بِالسِّدْرِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ مَجْمُوعَيْنِ فِي الْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ . غَيْرَ أَنْ يُمْزَجَا . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ ، وَخُصُوصًا الْكَافُورَ ، وَقِيلَ : إنَّ فِي الْكَافُورِ خَاصِّيَّةَ الْحِفْظِ لِبَدَنِ الْمَيِّتِ . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ فِي الْأَخِيرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِهَا أَذْهَبَهُ الْغُسْلُ بَعْدَهَا ، فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْحِفْظِ لِبَدَنِ الْمَيِّتِ . وَ " الْحَقْوُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ هُنَا : الْإِزَارُ . تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ . وَقَوْلُهُ " أَشْعِرْنَهَا " أَيْ : اجْعَلْنَهُ شِعَارًا لَهَا ، وَالشِّعَارُ : مَا يَلِي الْجَسَدَ ، وَالدِّثَارُ : مَا فَوْقَهُ . وَقَوْلُهُ " ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَمُّنِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَهُوَ مَسْنُونٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الِاغْتِسَالِ أَيْضًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى الْبُدَاءَةِ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ . وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا فُعِلَ فِي الْغُسْلِ : هَلْ يَكُونُ وُضُوءًا حَقِيقِيًّا ، أَوْ جُزْءًا مِنْ الْغُسْلِ ، خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ تَشْرِيفًا ؟ وَ " الْقُرُونُ " هَهُنَا الضَّفَائِرُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَضَفْرِهِ ، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي أَنَّ الضَّفْرَ بَعْدَ التَّسْرِيحِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يُشْعِرُ بِهِ صَرِيحًا . وَهَذَا الضَّفْرُ ثَلَاثًا مَخْصُوصُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْمَرْأَةِ . وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ : أَنْ يَجْعَلَ الثَّلَاثَ خَلْفَ ظَهْرِهَا . وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَثْبَتَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ لِذَلِكَ . وَهُوَ غَرِيبٌ وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ غَسَّلَ بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

 

161 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ : فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ . وَلَا تُحَنِّطُوهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ . فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ } .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الْوَقْصُ " كَسْرُ الْعُنُقِ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ يَبْقَى فِي حَقِّهِ حُكْمُ الْإِحْرَامِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لِانْقِطَاعِ الْعِبَادَةِ بِزَوَالِ مَحَلِّ التَّكْلِيفِ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ . لَكِنْ اتَّبَعَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ . وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْ الْحَدِيثِ مَا قِيلَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذَا الْمُحْرِمِ بِعِلَّةٍ لَا يَعْلَمُ وُجُودَهَا غَيْرُهُ . وَهُوَ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمُحْرِمِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَعُمُّ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ . وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، فَيَعُمُّ كُلَّ مُحْرِمٍ .

 

الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجِنَازَةَ ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهَا " وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا " فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ دَالَّةٌ عَلَى التَّأْكِيدِ . وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ : أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا أُبِيحَ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ . وَأَنَّ الرُّخْصَةَ : مَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ اللُّغَوِيُّ مِنْ إشْعَارِ الْعَزْمِ بِالتَّأْكِيدِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَقُومُ دَلِيلُ الْحَظْرِ عَلَيْهِ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي اتِّبَاعِ النِّسَاءِ أَوْ بَعْضِهِنَّ لِلْجَنَائِزِ ، أَكْثَرُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ . كَالْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُلُوِّ مَنْصِبِهَا . وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي عُمُومِ النِّسَاءِ أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَحْمُولَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَاتِ النِّسَاءِ . وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ اتِّبَاعَهُنَّ لِلْجَنَائِزِ ، وَكَرِهَهُ لِلشَّابَّةِ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ . وَخَالَفَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَكَرِهَهُ مُطْلَقًا ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .

 

163 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا إنْ تَكُ صَالِحَةً : فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ . وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ : فَشَرٌّ : تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } .

يُقَالُ : الْجِنَازَةُ وَالْجِنَازَةُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَيُقَالُ : بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَيِّتُ . وَبِالْكَسْرِ : النَّعْشُ ، الْأَعْلَى لِلْأَعْلَى ، وَالْأَسْفَلُ لِلْأَسْفَلِ . فَعَلَى هَذَا : يَلِيقُ الْفَتْحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَارِعُوا بِالْجِنَازَةِ } يَعْنِي بِالْمَيِّتِ . فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِأَنْ يُسْرَعَ بِهِ . وَالسُّنَّةُ الْإِسْرَاعُ . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي الْإِسْرَاعُ إلَى شِدَّةٍ يَخَافُ مَعَهَا حُدُوثَ مَفْسَدَةٍ بِالْمَيِّتِ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِلَّةُ فِي الْإِسْرَاعِ مِنْ الْحَدِيثِ . وَهُوَ قَوْلُهُ " فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً " إلَى آخِرِهِ .

 

164 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ { صَلَّيْت وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ فِي وَسَطِهَا } .

الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ عِنْدَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ . وَالْوَصْفُ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - وَهُوَ كَوْنُهَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا - وَصْفٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ أَمْرٍ وَاقِعٍ . وَأَمَّا وَصْفُ كَوْنِهَا امْرَأَةً : فَهَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ أَمْ لَا ؟ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَلْغَاهُ . وَقَالَ : يُقَامُ عِنْدَ وَسَطِ الْجِنَازَةِ ، يَعْنِي مُطْلَقًا . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ . وَقَالَ : يُقَامُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ ، وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ . ذَكَرَهُ بَعْضُ مُصَنِّفِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ سَبَبَ ذَلِكَ : أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَكُنْ يُسْتَرْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمَا يُسْتَرْنَ بِهِ الْيَوْمَ . فَقِيَامُ الْإِمَامِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا : يَكُونُ السُّتْرَةَ لَهَا مِمَّنْ خَلْفَهُ . .

 

 

165 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الصَّالِقَةُ " الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ . وَالْأَصْلُ " السَّالِقَةُ " بِالسِّينِ ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْعَوِيلِ وَالنَّدْبِ . وَقَرِيبٌ مِنْهُ : قَوْله تَعَالَى { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وَالصَّادُ قَدْ تُبَدَّلُ مِنْ السِّينِ . وَ " الْحَالِقَةُ " حَالِقَةُ الشَّعْرِ . وَفِي مَعْنَاهُ : قَطْعُهُ مِنْ غَيْرِ حَلْقٍ . وَ " الشَّاقَّةُ " شَاقَّةُ الْجَيْبِ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الرِّضَى بِالْقَضَاءِ ، وَالتَّسَخُّطِ لَهُ . فَامْتَنَعَتْ لِذَلِكَ .

 

166 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : { لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهَا : مَارِيَةُ - وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ - فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ . }

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّصْوِيرِ وَالصُّوَرِ . وَلَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْبُعْدِ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَإِنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، لِقُرْبِ عَهْدِ النَّاسِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . وَهَذَا الزَّمَانُ حَيْثُ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ وَتَمَهَّدَتْ قَوَاعِدُهُ - لَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى . فَلَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَا التَّشْدِيدِ - هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ - وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ قَطْعًا . لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ : الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ بِعَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ . وَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ " أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ " وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ } وَهَذِهِ عِلَّةٌ عَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُنَاسِبَةٌ . لَا تَخُصُّ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ . وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ فِي النُّصُوصِ الْمُتَظَاهِرَةِ الْمُتَضَافِرَةِ بِمَعْنًى خَيَالِيٍّ . يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ ، مَعَ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ التَّعْلِيلَ بِغَيْرِهِ . وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا } إشَارَةٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } .

 

167 - الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ : وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } .

هَذَا الْحَدِيثُ : يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّخَاذِ قَبْرِ الرَّسُولِ مَسْجِدًا وَمِنْهُ يُفْهَمُ امْتِنَاعُ الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِهِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِعَدَمِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ جُمْلَةً . وَأُجِيبُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ قَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ عَنْ هَذَا بِمَا فُهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا . وَبَعْضُ النَّاسِ : أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ الرَّسُولِ ، كَجَوَازِهَا عَلَى قَبْرِ غَيْرِهِ عِنْدَهُ . وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَطَابُقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ ، وَلِإِشْعَارِ الْحَدِيثِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

 

 

168 - الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .

حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ ، وَقَدْ اشْتَرَكَ - مَعَ مَا قَبْلَهُ فِي شَقِّ الْجُيُوبِ . وَانْفَرَدَ بِضَرْبِ الْخُدُودِ وَالتَّصْرِيحِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِ . وَهِيَ أَحَدُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ " الصَّالِقَةِ " فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ . وَ " دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ " يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي الْقِتَالِ مِنْ الدَّعْوَى . وَالثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ - هُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ . كَقَوْلِهِمْ : وَاجَبَلَاه . وَاسَنَدَاه ، وَاسَيِّدَاه ، وَأَشْبَاهُهَا .

 

169 - الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ . وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ . قِيلَ : وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ : مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَلِمُسْلِمٍ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ شُهُودِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ . وَعِنْدَ الدَّفْنِ ، وَأَنَّ الْأَجْرَ يَزْدَادُ بِشُهُودِ الدَّفْنِ ، مُضَافًا إلَى شُهُودِ الصَّلَاةِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : اتِّبَاعُهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا و " الْقِيرَاطُ " تَمْثِيلٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْأَجْرِ ، وَمِقْدَارٌ مِنْهُ . وَقَدْ مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ " بِأَنَّ أَصْغَرَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ " وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ، تَشْبِيهًا لِلْمَعْنَى الْعَظِيمِ بِالْجِسْمِ الْعَظِيمِ . 

انتهى كتاب الجنائز=

بسم الله الرحمن الرحيم

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

لابن دقيق العيد كتاب الجهاد

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ - انْتَظَرَ ، حَتَّى إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ : اهْزِمْهُمْ ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِتَالِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَقَدْ ، وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ أَصْرَحُ مِنْ هَذَا ، أَوْ أَثَرٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، وَلَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ وَأَصْعَبِهَا عَلَى النُّفُوسِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ، وَكَانَتْ الْأُمُورُ الْمُقَدَّرَةُ عِنْدَ النَّفْسِ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ لَهَا : خَشِيَ أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ كَمَا يَنْبَغِي فَكُرِهَ تَمَنِّي لِقَاءَ الْعَدُوِّ لِذَلِكَ ، وَلِمَا فِيهِ - إنْ وَقَعَ - مِنْ احْتِمَالِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا وَعَدَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَةِ ، وَقَدْ ، وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُطْلَقًا لِضُرٍّ نَزَلَ ، وَفِي حَدِيثٍ { لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ } ، وَفِي الْجِهَادِ زِيَادَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الْمَوْتِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ ، وَالْمَجَازِ الْحَسَنِ فَإِنَّ ظِلَّ الشَّيْءِ لَمَّا كَانَ مُلَازِمًا لَهُ ، جُعِلَ ثَوَابُ الْجَنَّةِ وَاسْتِحْقَاقُهَا عَنْ الْجِهَادِ ، وَإِعْمَالُ السُّيُوفِ : لَازِمًا لِذَلِكَ ، كَمَا يَلْزَمُ الظِّلُّ . وَهَذَا الدُّعَاءُ : لَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ ، تُطْلَبُ بِهَا الْإِجَابَةُ : أَحَدُهَا : طَلَبُ النَّصْرِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " مُنْزِلَ الْكِتَابِ " كَأَنَّهُ قَالَ : كَمَا أَنْزَلْته ، فَانْصُرْهُ ، وَأَعْلِهِ . وَأَشَارَ إلَى الْقُدْرَةِ بِقَوْلِهِ " وَمُجْرِيَ السَّحَابِ " ، وَأَشَارَ إلَى أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا : بِقَوْلِهِ " ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ " إلَى التَّفَرُّدِ بِالْفِعْلِ ، وَتَجْرِيدِ التَّوَكُّلِ ، وَاطِّرَاحِ الْأَسْبَابِ ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ ، وَحْدَهُ هُوَ الْفَاعِلُ . وَالثَّانِي : التَّوَسُّلُ بِالنِّعْمَةِ السَّابِقَةِ إلَى النِّعْمَةِ اللَّاحِقَةِ وَقَدْ ضَمَّنَ الشُّعَرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى أَشْعَارَهُمْ ، بَعْدَمَا أَشَارَ إلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ، إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } وَقَالَ الشَّاعِرُ : كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ فِيمَا مَضَى كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : لَا وَاَلَّذِي قَدْ مَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَثْلُجُ فِي فُؤَادِي مَا كَانَ يَخْتِمُ بِالْإِسَاءَةِ وَهْوَ بِالْإِحْسَانِ بَادِي .

 

 

406 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ : خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْغَدْوَةُ : خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } .

" الرِّبَاطُ " مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ فِي الثُّغُورِ الْمُتَاخِمَةِ لِبِلَادِهِ ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا " وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ الْمُغَيَّبِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ ، تَحْقِيقًا لَهُ ، وَتَثْبِيتًا فِي النُّفُوسِ فَإِنَّ مِلْكَ الدُّنْيَا ، وَنَعِيمَهَا ، وَلَذَّاتِهَا مَحْسُوسَةٌ ، مُسْتَعْظَمَةٌ فِي طِبَاعِ النُّفُوسِ فَحُقِّقَ عِنْدَهَا أَنَّ ثَوَابَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ فِي الرِّبَاطِ - وَهُوَ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ - خَيْرٌ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي عَهِدْتُمُوهَا مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ اسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُوَازَنَ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِالدُّنْيَا كُلِّهَا ، فَحَمَلَ الْحَدِيثَ أَوْ مَا هُوَ مَعْنَاهُ : عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي رُتِّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا كُلِّهَا لَوْ أُنْفِقَتْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا أَنْ تَحْصُلَ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ ثَوَابَيْنِ أُخْرَوِيَّيْنِ ، لِاسْتِحْقَارِهِ الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأُخْرَى " ، وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي : أَوْجَهُ وَأَظْهَرُ . " وَالْغَدْوَةُ " بِفَتْحِ الْغَيْنِ : السَّيْرُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ وَ " الرَّوْحَةُ " مِنْ الزَّوَالِ إلَى اللَّيْلِ وَاللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا تَكُونُ فِعْلًا وَاحِدًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَرْغِيبٍ ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ .

 

 

407 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { انْتَدَبَ اللَّهُ - ، وَلِمُسْلِمٍ : تَضَمُّنَ اللَّهُ - لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَانٌ بِي ، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ : أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } . 408 - ، وَلِمُسْلِمٍ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ : أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } .

" الضَّمَانُ ، وَالْكَفَالَةُ " هَهُنَا : عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْمَوْعُودِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّ الضَّمَانَ ، وَالْكَفَالَةَ : مُؤَكِّدَانِ لِمَا يُضْمَنُ ، وَيُتَكَفَّلُ بِهِ ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِهِمَا . وَقَوْلُهُ " لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَانٌ بِي " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الثَّوَابُ إلَّا لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَخَلَصَتْ مِنْ شَوَائِبِ إرَادَةِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُقْتَضِيَيْنِ لِلْحَصْرِ ، وَقَوْلُهُ " فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ " قِيلَ : إنَّ فَاعِلًا هَهُنَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، كَمَا قِيلَ فِي " مَاءٍ دَافِقٍ " وَ " عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ " أَيْ مَدْفُوقٍ ، وَمَرْضِيَّةٍ ، عَلَى احْتِمَالِ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ " ضَامِنًا " بِمَعْنَى ذَا ضَمَانٍ ، كَلَابِنٍ ، وَتَامِرٍ ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ لَيْسَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالْعَرَبُ تُضِيفُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ ، وَقَوْلُهُ " أَرْجِعُهُ " مَفْتُوحُ الْهَمْزَةِ مَكْسُورُ الْجِيمِ مِنْ رَجَعَهُ ، ثُلَاثِيًّا مُتَعَدِّيًا ، وَلَازِمُهُ ، وَمُتَعَدِّيه ، وَاحِدٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } قِيلَ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا مِنْ غَازِيَةٍ ، أَوْ سَرِيَّةٍ ، تَغْزُو ، فَتَغْنَمَ ، وَتَسْلَمَ ، إلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ ، وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو ، فَتُخْفِقَ أَوْ تُصَابَ إلَّا تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ } ، وَالْإِخْفَاقُ : أَنْ تَغْزُوَ فَلَا تَغْنَمَ شَيْئًا ذَكَرَ الْقَاضِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، وَعِنْدِي : أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَتِهِ مِنْهُ إلَى مُعَارَضَتِهِ ، وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يُقَالَ بِتَعَارُضِهِمَا . نَعَمْ ، كِلَاهُمَا مُشْكِلٌ . أَمَّا ذَلِكَ الْحَدِيثُ : فَلِتَصْرِيحِهِ بِنُقْصَانِ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الْغَنِيمَةِ ، وَأَمَّا هَذَا : فَلِأَنَّ " أَوْ " تَقْتَضِي أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ ، لَا مَجْمُوعَهُمَا فَيَقْتَضِي : إمَّا حُصُولُ الْأَجْرِ أَوْ الْغَنِيمَةَ ، وَقَدْ قَالُوا : لَا يَصِحُّ أَنْ تُنْقِصَ الْغَنِيمَةُ مِنْ أَجْرِ أَهْلِ بَدْرٍ ، وَكَانُوا أَفْضَلَ الْمُجَاهِدِينَ ، وَأَفْضَلَهُمْ غَنِيمَةً وَيُؤَكِّدُ هَذَا : تَتَابُعُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى أَخْذِ الْغَنِيمَةِ ، وَعَدَمِ التَّوَقُّفِ عَنْهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا - بِسَبَبِ هَذَا الْإِشْكَالِ - فِي الْجَوَابُ فَمِنْهُمْ مِنْ جَنَحَ إلَى الطَّعْنِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ ، وَزَعَمَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا الَّذِي تَعَجَّلَ مِنْ أَجْرِهِ بِالْغَنِيمَةِ : فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا ، قَالَ بَعْضُهُمْ : وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ - أَعْنِي الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ - شَرَطَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي نُقْصَانِ الْأَجْرِ : يُحْمَلُ عَلَى مَنْ قَصَدَ مَعَ الْجِهَادِ : طَلَبَ الْمَغْنَمِ فَهَذَا شِرْكٌ بِمَا يَجُوزُ لَهُ التَّشْرِيكُ فِيهِ ، وَانْقَسَمَتْ نِيَّتُهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَنَقَصَ أَجْرُهُ ، وَالْأَوَّلُ : أَخْلَصُ ، فَكَمُلَ أَجْرُهُ . قَالَ الْقَاضِي : وَأَوْجَهُ مِنْ هَذَا عِنْدِي فِي اسْتِعْمَالِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى وَجْهَيْهِمَا أَيْضًا : أَنْ نَقْصَ أَجْرِ الْغَانِمِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا ، وَحِسَابُ ذَلِكَ بِتَمَتُّعِهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، وَذَهَابِ شَظَفِ عَيْشِهِ فِي غَزْوِهِ ، وَبَعْدَهُ ، إذَا قُوبِلَ بِمَنْ أَخْفَقَ ، وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَبَقِيَ عَلَى شَظَفِ عَيْشِهِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى غَزْوِهِ فِي حَالِهِ ، وُجِدَ أَجْرُ هَذَا أَبَدًا فِي ذَلِكَ وَافِيًا مُطَّرِدًا ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَمِثْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { فَمِنَّا مَنْ مَاتَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ ، فَهُوَ يَهْدُبُهَا } ، وَأَقُولُ : أَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ : فَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بُعْدِهِ فَأَمَّا الْإِشْكَالُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي : فَظَاهِرُهُ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْأُجُورَ قَدْ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَشَقَّاتِ ، لَا سِيَّمَا مَا كَانَ أَجْرُهُ بِحَسَبِ مَشَقَّتِهِ ، أَوْ لِمَشَقَّتِهِ دَخْلٌ فِي الْأَجْرِ ، وَإِنَّمَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْمُتَّصِلُ بِأَخْذِ الْغَنَائِمِ فَلَعَلَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّمَنَ كَانَ الْإِسْلَامُ فِيهِ غَرِيبًا - أَعْنِي ابْتِدَاءَ زَمَنِ النُّبُوَّةِ - ، وَكَانَ أَخْذُ الْغَنَائِمِ عَوْنًا عَلَى عُلُوِّ الدِّينِ ، وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ، وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ عُظْمَى قَدْ يُغْتَفَرُ لَهَا بَعْضُ النَّقْصِ فِي الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ ، وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ : فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ النُّقْصَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقَابُلُ بَيْنَ كَمَالِ أَجْرِ الْغَازِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَغْنَمْ ، وَأَجْرِهِ إذَا غَنِمَ . فَيَقْتَضِي هَذَا : أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ عِنْدَ عَدَمِ الْغَنِيمَةِ : أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ عِنْدَ وُجُودِهَا ، لَا مِنْ حَالِ غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا ، فَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ . لَكِنْ لَا بُدَّ - مِنْ هَذَا - مِنْ اعْتِبَارِ الْمُعَارِضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَعَلَّهُ مَعَ اعْتِبَارِهِ لَا يَكُونُ نَاقِصًا ، وَيُسْتَثْنَى حَالُهُمْ مِنْ الْعُمُومِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي ، أَوْ حَالُ مَنْ يُقَارِبُهُمْ فِي الْمَعْنَى . وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ : فَإِشْكَالُهُ مِنْ كَلِمَةِ " أَوْ " أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْعَرُ بِأَنَّ الْحَاصِلَ : إمَّا أَجْرٌ ، وَإِمَّا غَنِيمَةٌ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا حَصَّلْنَا الْغَنِيمَةَ : يُكْتَفَى بِهَا لَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا : بِأَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ ، وَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ : بِأَجْرٍ ، وَغَنِيمَةٍ وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ - فَفِيهِ إشْكَالٌ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الْأَمْرَيْنِ : كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الضَّمَانِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ أَمْرَيْنِ لِهَذَا الْمُجَاهِدِ إذَا رَجَعَ مَعَ رُجُوعِهِ ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ ، بِأَنْ يَتْلَفَ مَا حَصَّلَ فِي الرُّجُوعِ مِنْ الْغَنِيمَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُتَجَوَّزَ فِي لَفْظَةِ " الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ " أَوْ يُقَالَ : الْمَعِيَّةُ فِي مُطْلَقِ الْحُصُولِ ، لَا فِي الْحُصُولِ فِي الرُّجُوعِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ : أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى أَهْلِهِ ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ ، وَحْدَهُ ، أَوْ غَنِيمَةٍ ، وَأَجْرٍ فَحَذَفَ " الْأَجْرَ " مِنْ الثَّانِي ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ إنَّمَا تَشْكُلُ إذَا كَانَتْ بَيْنَ مُطْلَقِ الْأَجْرِ ، وَبَيْنَ الْغَنِيمَةِ مَعَ الْأَجْرِ وَأَمَّا مَعَ الْأَجْرِ الْمُفِيدِ بِانْفِرَادِهِ عَنْ الْغَنِيمَةِ فَلَا .

 

 

409 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى : اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } .

" الْكَلْمُ " الْجُرْحُ ، وَمَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ سَيَلَانِ الْجُرْحِ فِيهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : الشَّهَادَةُ عَلَى ظَالِمِهِ بِالْقَتْلِ . الثَّانِي : إظْهَارُ شَرَفِهِ لِأَهْلِ الْمَشْهَدِ وَالْمَوْقِفِ بِمَا فِيهِ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الشَّاهِدَةِ بِالطِّيبِ ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَشْيَاءَ مُتَكَلَّفَةً ، غَيْرَ صَابِرَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْهَا : أَنَّ الْمُرَاعَى فِي الْمَاءِ : تَغَيُّرُ لَوْنِهِ ، دُونَ تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى هَذَا الْخَارِجَ مِنْ جُرْحِ الشَّهِيدِ " دَمًا " ، وَإِنْ كَانَ رِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِسْكًا فَغَلَّبَ الِاسْمَ لِلَوْنِهِ عَلَى رَائِحَتِهِ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ . وَمِنْهَا : مَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي الْمَاءِ وَالسَّمْنِ قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ حُجَّتَهُ فِيهِ الرُّخْصَةُ فِي الرَّائِحَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، أَوْ التَّغْلِيظُ بِعَكْسِ الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الدَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ بِطِيبِ رَائِحَتِهِ مِنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ إلَى الطَّهَارَةِ ، وَمَنْ حُكْمِ الْقَذَارَةِ إلَى التَّطْيِيبِ بِتَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ ، وَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمِسْكِ ، وَالطِّيبِ لِلشَّهِيدِ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْتَقِلُ إلَى الْعَكْسِ بِخُبْثِ الرَّائِحَةِ وَتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى النَّجَاسَةِ . وَمِنْهَا : مَا قَالَ الْقَاضِي : وَيَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُضَافِ ، الْمُتَغَيِّرَةِ أَوْصَافُهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، كَمَا انْطَلَقَ عَلَى هَذَا اسْمُ الدَّمِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ إلَى الطِّيبِ ، قَالَ : وَحُجَّتُهُ بِذَلِكَ ضَعِيفَةٌ . وَأَقُولُ : الْكُلُّ ضَعِيفٌ .

 

 

410 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ رَوْحَةٌ : خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ 411 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ رَوْحَةٌ : خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .

قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ مَضَى .

 

 

412 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ - ، وَذَكَرَ قِصَّةً - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ - قَالَهَا ثَلَاثًا } .

الشَّافِعِيُّ : يَرَى اسْتِحْقَاقَ الْقَاتِلِ لِلسَّلَبِ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِأَوْصَافٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَمَالِكٌ ، وَغَيْرُهُ : يَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِصَرْفِ الْإِمَامِ إلَيْهِ نَظَرًا ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَاعِدَةٍ ، وَهُوَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْثَالِ هَذَا : إذَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ التَّشْرِيعِ ، وَالْحُكْمِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ : هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّشْرِيعِ أَوْ عَلَى الثَّانِي ؟ ، وَالْأَغْلَبُ : حَمْلُهُ عَلَى التَّشْرِيعِ ، إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ قُوَّةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مِنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي التَّشْرِيعَ الْعَامَّ ، وَإِعْطَاءَ الْقَاتِلِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ السَّلَبَ تَنْفِيلًا - فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الثَّانِي : فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَغْلَبِ - وَهُوَ التَّشْرِيعُ الْعَامُّ - فَقَدْ جَاءَتْ أُمُورٌ فِي أَحَادِيثَ تُرَجِّحُ الْخُرُوجَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَمَا أَمَرَ أَنْ يُعْطَى السَّلَبُ قَاتِلًا ، فَقَابَلَ هَذَا الْقَاتِلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِكَلَامٍ - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ " لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ " فَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِأَصْلِ التَّشْرِيعِ : لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ لِخَالِدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فَلَمَّا كَلَّمَ خَالِدًا بِمَا يُؤْذِيهِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِمَنْعِهِ ، نَظَرًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ .

 

 

413 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ فِي سَفَرِهِ ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ، ثُمَّ انْفَتَلَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { فَقَالَ : مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ ؟ فَقَالُوا : ابْنُ الْأَكْوَعِ فَقَالَ : لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ } .

فِيهِ تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ الْجَاسُوسِ الْحَرْبِيِّ ، وَجَوَازِ قَتْلِهِ ، وَمَنْ يُشْبِهُهُ مِمَّنْ لَا أَمَانَ لَهُ ، وَأَمَّا كَلَامُهُمَا هَهُنَا عَلَى الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ ، وَالْمُسْلِمِ : فَلَا تَعَلُّقَ لِلْحَدِيثِ بِهِ ، وَفِيهِ أَيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ السَّلَبِ ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَرَاهُ غَيْرَ وَاجِبٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَلْ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ ، لِقَوْلِهِ " فَنَفَّلَنِيهِ " ، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ مَا ، وَفِيهِ دَلِيلٍ - إذَا قُلْنَا بِأَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ - أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَهُ ، نَعَمْ ، إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُسَمَّى سَلَبًا ، وَالْفُقَهَاءُ ذَكَرُوا صُوَرًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ ، وَتَرَدَّدُوا فِي بَعْضِهَا . فَإِنْ كَانَ اسْمُ " السَّلَبِ " مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ مَا مَعَهُ ، فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ الصُّوَرِ .

 

 

414 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا ، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا ، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا } .

415 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ : يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ ، فَيُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ } .

فِيهِ تَعْظِيمُ الْغَدْرَةِ ، وَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ كُلُّ اغْتِيَالٍ مَمْنُوعٍ شَرْعًا : إمَّا لِتَقَدُّمِ أَمَانٍ ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ ، أَوْ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الدَّعْوَةِ حَيْثُ تَجِبُ ، أَوْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَذَا الْغَدْرِ : مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ وَضْعَهُ فِي مَعْنَى الْحَرْبِ ، وَقَدْ عُوقِبَ الْغَادِرُ بِالْفَضِيحَةِ الْعُظْمَى ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الذَّنْبِ بِمَا يُنَاسَبُ ضِدَّهُ فِي الْعُقُوبَةِ ، فَإِنَّ الْغَادِرَ أَخْفَى جِهَةَ غَدْرِهِ وَمَكْرِهِ ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِهِ ، وَهُوَ شُهْرَتُهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ، وَفِي اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ هَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ النَّاسِ . وَالتَّعْرِيفُ بِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى آبَائِهِمْ ، خِلَافُ مَا حُكِيَ : أَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ فِي الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّهَاتِهِمْ .

 

 

416 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً ، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ } .

هَذَا حُكْمٌ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَنْ لَا يُقَاتِلُ ، وَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ لِغَلَبَةِ عَدَمِ الْقِتَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، وَلَعَلَّ سِرَّ هَذَا الْحُكْمِ : أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إتْلَافِ النُّفُوسِ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيه دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ ، وَمَنْ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يَتَأَهَّلُ لِلْقِتَالِ فِي الْعَادَةِ : لَيْسَ فِي إحْدَاثِ الضَّرَرِ كَالْمُقَاتِلِينَ فَرُجِعَ إلَى الْأَصْلِ فِيهِمْ ، وَهُوَ الْمَنْعُ . هَذَا مَعَ مَا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ مِنْ الْمَيْلِ ، وَعَدَمِ التَّشَبُّثِ الشَّدِيدِ بِمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا ، فَرُفِعَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ ، لِعَدَمِ مَفْسَدَةِ الْمُقَاتَلَةِ فِي الْحَالِ الْحَاضِرِ ، وَرَجَاءَ هِدَايَتِهِمْ عِنْدَ بَقَائِهِمْ .

 

417 - الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْته عَلَيْهِمَا } .

أَجَازُوا لِلْمُحَارِبِ لُبْسَ الدِّيبَاجِ الَّذِي لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ السِّلَاحِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ ، لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُصْلِحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ ، وَلَعَلَّهُ تَعَيَّنَ لِذَلِكَ فِي دَفْعِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَدْ سَمَّاهُ الرَّاوِي " رُخْصَةً " لِأَجْلِ الْإِبَاحَةِ ، مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْحَظْرِ .

 

 

418 - الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ : مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصًا ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ ، وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .

قَوْلُهُ " كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرَادُ بِذَلِكَ : أَنَّهَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَا حَقَّ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَكُونُ إخْرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُخْرِجُهُ مِنْهَا لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ تَبَرُّعًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْهَا لِغَيْرِهِ : مِنْ تَعْيِينِ الْمَصْرِفِ ، وَإِخْرَاجِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِهِ مِنْ بَابِ أَخْذِ النَّصِيبِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَصْرِفِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ ، وَرَدَتْ مَعَ الِاشْتِرَاكِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ . فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنَهُ إفَاءَةً عَلَى رَسُولِهِ ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَصْرِفِ . ، وَفِي الْحَدِيثِ : جَوَازُ الِادِّخَارِ لِلْأَهْلِ قُوتَ سَنَةٍ ، وَفِي لَفْظِهِ : مَا يُوَجِّهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ } فَيُحْمَلُ هَذَا الِادِّخَارُ لِنَفْسِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الِادِّخَارِ لِأَهْلِهِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ شَكٌّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُشَارِكًا لِأَهْلِهِ فِيمَا يَدَّخِرُهُ مِنْ الْقُوتِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّهُمْ الْمَقْصُودُونَ بِالِادِّخَارِ الَّذِي اقْتَضَاهُ حَالُهُمْ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُونُوا لَمْ يَدَّخِرْ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى غَيْرِهَا ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى لِسَانِ الطَّرِيقَةِ قَدْ جَعَلُوا - أَوْ بَعْضُهُمْ - مَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ خَارِجًا عَنْ طَرِيقَةِ التَّوَكُّلِ .

 

 

419 - الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ : مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ : مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى . قَالَ سُفْيَانُ : مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ : خَمْسَةُ أَمْيَالٍ ، أَوْ سِتَّةٌ ، وَمَنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ : مِيلٌ } .

هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْمُسَابِقَةِ بِالْخَيْلِ ، وَبَيَانِ الْغَايَةِ الَّتِي يُسَابَقُ إلَيْهَا ، وَفِيهِ إطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ ، وَالْمُسَوِّغُ لَهُ وَأَمَّا الْمُسَابِقَةُ عَلَى غَيْرِ الْخَيْلِ ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي اُشْتُرِطَتْ فِي هَذَا الْعَقْدِ : فَلَيْسَتْ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَمْرِ الْعِوَضِ ، وَأَحْكَامِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ . وَ " الْإِضْمَارُ " ضِدُّ التَّسْمِينِ ، وَهُوَ تَدْرِيجٌ لَهَا فِي أَقْوَاتِهَا إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهَا الضَّمْرُ ، وَ " الْحَفْيَاءُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَسُكُونِ الْفَاءِ ، ثُمَّ يَاءٍ آخِرِ آخِرِ الْحُرُوفِ ، وَأَلْفٍ مَمْدُودَةٍ و " ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ " مَكَانَانِ مَعْلُومَانِ و " زُرَيْقٌ " بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ قَبْلَ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ .

 

 

420 - الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، فَلَمْ يُجِزْنِي ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ ، فَأَجَازَنِي } .

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي إذَا بَلَغَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَحْتَلِمْ : حُكِمَ بِبُلُوغِهِ فَقِيلَ : سَبْعَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ : ثَمَانِ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ : خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَهُوَ إجَازَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْقِتَالِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سُنَّةً ، وَعَدَمُ إجَازَتِهِ لَهُ فِيمَا دُونَهَا ، وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ جَعَلَهُ حَدًّا فَكَانَ يَجْعَلُ مَنْ دُونَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ : فِي الذُّرِّيَّةِ . وَالْمُخَالِفُونَ لِهَذَا الْحَدِيثِ اعْتَذَرُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْقِتَالِ حُكْمُهَا مَنُوطٌ بِإِطَاقَتِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ إجَازَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ لِأَنَّهُ رَآهُ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ ، وَلَمْ يَكُنْ مُطِيقًا لَهُ قَبْلَهَا ، لَا لِأَنَّهُ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى الْبُلُوغِ وَعَدَمِهِ .

 

 

421 - الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشْرَ : وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ فِي النَّفَلِ : لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا } .

" النَّفَلُ " بِتَحْرِيكِ النُّونِ ، وَالْفَاءِ مَعًا : يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ : الْغَنِيمَةُ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِسَرِيَّةٍ ، أَوْ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ ، خَارِجًا عَنْ السُّهْمَانِ الْمَقْسُومَةِ ، إمَّا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ، أَوْ مِنْ الْخُمُسِ عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي سَرِيَّةِ نَجْدٍ { ، وَإِنَّ سُهْمَانَهُمْ كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ - أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا - ، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا } وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُتَعَرِّضٌ لِلتَّأْوِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنْ يُحْمَلَ النَّفَلُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَكُونُ الْمُعْطَى زِيَادَةً عَلَى السَّهْمَيْنِ خَارِجًا عَنْهَا : وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ " اللَّامَ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ لَا اللَّامَ الَّتِي لَلْمِلْكِ ، أَوْ الِاخْتِصَاصِ ، أَيْ : أَعْطَى الرَّجُلَ سَهْمَيْنِ لِأَجْلِ فَرَسِهِ ، أَيْ لِأَجْلِ كَوْنِهِ ذَا فَرَسٍ ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا مُطْلَقًا ، وَقَدْ أُجِيب عَنْ هَذَا بِبَيَانِ الْمُرَادِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَرِيحَةٍ ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمًا لَهُ ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ } فَقَوْلُهُ " أَسْهَمَ " اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ السَّهْمَيْنِ ، وَقَوْلُهُ " ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ " صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا " ، وَقِيلَ : إنَّهُ وَهِمَ فِيهِ ، أَيْ هَذَا الرَّاوِي ، وَهَذَا الْحَدِيثُ - أَعْنِي رِوَايَةَ أَبِي مُعَاوِيَةَ - ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا : لَهُ عَاضِدٌ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمُعَارِضٌ لَهُ لَا يُسَاوِيه فِي الْإِسْنَادِ . أَمَّا الْعَاضِدُ : فَرِوَايَةُ الْمَسْعُودِيِّ : حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ ، وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا ، وَأَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ } هَذِهِ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُد ، وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ أَبِي خَلَفِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ أَبُو دَاوُد : بِمَعْنَاهُ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ " ثَلَاثَةَ نَفَرٍ " زَادَ " ، وَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ " وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْإِسْنَادِ ، وَأَمَّا الْمُعَارِضُ فَمِنْهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَهُوَ - أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذَكَرَهُ - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقْدِمَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى أَخِيهِ فِي الْحِفْظِ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمُ : فَإِنَّهُ سَمِعَ نَافِعًا يَقُولُ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا " فَقَالَ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا " قُلْتُ : وَعُبَيْدُ اللَّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَانِ : هُمَا ابْنَا عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَقْدِمَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى أَخِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَكِنْ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ مَا يُعَضِّدُهُ ، وَيُوَافِقُهُ ، وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعٍ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ - قَالَ { شَهِدْتُ الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : مَا لِلنَّاسِ ؟ قَالَ : أُوحِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ ، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، إنَّهُ لَفَتْحٌ فَقُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشْرَ سَهْمًا ، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ ، فَأَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ ، وَأَعْطَى لِلرَّاجِلِ سَهْمًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُجَمِّعٍ ، وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَسْمِ خَيْبَرَ ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ : إنَّهُ شَيْخٌ لَا يَعْرِفُ ، قَالَ : فَأَخَذْنَا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَلَمْ نَرَ لَهُ خَبَرًا مِثْلَهُ يُعَارِضُهُ ، وَلَا يَجُوزُ خَبَرٌ إلَّا بِخَبَرٍ مِثْلِهِ .

 

 

422 - الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشْرَ : وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ فِي السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ } .

هَذَا هُوَ التَّنْفِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى النَّفَلِ ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الْإِمَامُ لِسَرِيَّةٍ ، أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ خَارِجًا عَنْ السَّهْمَيْنِ ، وَالْحَدِيثُ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مُبَيِّنًا لِكَوْنِهِ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ ، أَوْ مِنْ الْخُمُسِ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا جَمِيعًا ، وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ : أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ " كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنْ الْخُمُسِ " ، وَهَذَا مُرْسَلٌ ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ ، فَخَرَجْتُ مَعَهَا ، فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرًا فَنَفَّلَنَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ إنْسَانٍ ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَّمَ بَيْنَنَا غَنِيمَتَنَا ، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَمَا حَاسَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي أَعْطَانَا ، وَلَا عَابَ عَلَيْهِ مَا صَنَعَ ، فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا بِنَفَلِهِ } ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّنْفِيلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ ، وَرَوَى زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ : { شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ } ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنْ التَّنْفِيلَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ظَاهِرًا مَعَ احْتِمَالِهِ لِغَيْرِهِ ، وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ حَبِيبٍ هَذَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ إذَا قَفَلَ } ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ : يُنَفِّلُ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ ، أَيْ يُنَفِّلُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَا يَأْتُونَ بِهِ رِدْءَ الْغَنِيمَةِ إلَى مَوْضِعٍ فِي الْبَدْأَةِ ، أَوْ فِي الرَّجْعَةِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ " بَابَ فِيمَنْ قَالَ : الْخُمُسُ قَبْلَ النَّفَلِ " ، وَأَبْدَى بَعْضُهُمْ فِيهِ احْتِمَالًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " بَعْدَ الْخُمُسِ " أَيْ بَعْدَ أَنْ يُفْرِدَ الْخُمُسَ ، فَعَلَى هَذَا : يَبْقَى مُحْتَمِلًا لَأَنْ يُنَفِّلَ ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ الْخُمُسِ احْتِمَالًا ، وَحَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ صَرِيحٌ ، أَوْ كَالصَّرِيحِ . وَلِلْحَدِيثِ تَعَلُّقٌ بِمَسَائِلِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ ، وَمَا يَضُرُّ مِنْ الْمَقَاصِدِ الدَّاخِلَةِ فِيهَا ، وَمَا لَا يَضُرُّ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ دَقِيقُ الْمَأْخَذِ ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ : أَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّرْغِيبِ فِي زِيَادَةِ الْعَمَلِ ، وَالْمُخَاطَرَةِ وَالْمُجَاهِدَةِ ، وَفِي ذَلِكَ مُدَاخَلَةٌ لِقَصْدِ الْجِهَادِ لِلَّهِ تَعَالَى ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُمْ قَطْعًا ، لِفِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَحْضِ التَّعَبُّدِ لَا يَقْدَحُ مِنْ الْإِخْلَاصِ ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي ضَبْطِ قَانُونِهَا ، وَتَمْيِيزِ مَا يَضُرُّ مُدَاخَلَتُهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ ، وَيَقْتَضِي الشَّرِكَةُ فِيهِ الْمُنَافَاةَ لِلْإِخْلَاصِ ، وَمَا لَا تَقْتَضِيه وَيَكُونُ تَبَعًا لَا لَهُ ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهُ غَيْرُ مَا مَسْأَلَةٍ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَنَظَرِ الْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ أَصْلًا ، وَتَقْدِيرًا عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ ، عَلَى مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الرُّبُعِ ، وَالثُّلُثِ فَإِنَّ " الرَّجْعَةَ " لَمَّا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى الرَّاجِعِينَ ، وَأَشَدَّ لِخَوْفِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ كَانَ نَذِرَ بِهِمْ لِقُرْبِهِمْ ، فَهُوَ عَلَى يَقَظَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ : اقْتَضَى زِيَادَةَ التَّنْفِيلِ . وَ " الْبَدْأَةُ " لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى : اقْتَضَى نَقْصَهُ ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ مُتَقَيِّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ لَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ التَّشَهِّي حَيْثُ يُقَالُ : إنَّ النَّظَرَ لِلْإِمَامِ : إنَّمَا يَعْنِي هَذَا ، أَعْنِي أَنْ يَفْعَلَ مَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَةُ ، لَا أَنْ يَفْعَلَ عَلَى حَسَبِ التَّشَهِّي .

 

 

423 - الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ : عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } .

حَمْلُ السِّلَاحِ : يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُضَادُّ وَضْعَهُ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْقِتَالِ بِهِ ، وَأَنْ يَكُونُ حَمْلُهُ لِيُرَادَ بِهِ الْقِتَالُ ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " عَلَيْنَا " ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا ، وَهُوَ الْحَمْلُ لِلضَّرْبِ بِهِ ، أَيْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ ، وَالْقَصْدِ بِالسَّيْفِ لِلضَّرْبِ بِهِ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَتَغْلِيظِ الْأَمْرِ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " قَدْ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ : الْخُرُوجَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَمَلَ " عَلَيْنَا " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ : كَانَ قَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " كَذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هَذَا فَاحْتَاجُوا إلَى تَأْوِيلِهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَقِيلَ فِيهِ : لَيْسَ مِثْلَنَا ، أَوْ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِنَا ، أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ - اضْطَرَرْنَا إلَى التَّأْوِيلِ .

 

 

424 - الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ : عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ : يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْجِهَادِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْقِتَالَ لِلشَّجَاعَةِ وَالْحَمِيَّةِ ، وَالرِّيَاءِ : خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ . فَأَمَّا " الرِّيَاءُ " فَهُوَ ضِدُّ الْإِخْلَاصِ بِذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَكُونَ بِعَيْنِهِ لِأَجْلِ النَّاسِ ، وَأَمَّا " الْقِتَالُ لِلشَّجَاعَةِ " فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ دَاخِلًا فِي قَصْدِ الْمُقَاتِلِ ، أَيْ قَاتَلَ لِأَجْلِ إظْهَارِ الشَّجَاعَةِ ، فَيَكُونُ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي مُنَافَاتِهِ لِلْإِخْلَاصِ . وَثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِقِتَالِهِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ لَهُ فِي الْقَصْدِ بِالْقِتَالِ كَمَا يُقَالُ : أَعْطَى لِكَرْمِهِ ، وَمَنَعَ لِبُخْلِهِ ، وَآذَى لِسُوءِ خُلُقِهِ وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالسُّؤَالِ ، وَلَا الذَّمِّ فَإِنَّ الشُّجَاعَ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَقْصِدُ بِهِ إظْهَارَ الشَّجَاعَةِ ، وَلَا دَخَلَ قَصْدُ إظْهَارِ الشَّجَاعَةِ فِي التَّعْلِيلِ . وَثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا " قَاتَلَ لِلشَّجَاعَةِ " أَنَّهُ يُقَاتِلُ لِكَوْنِهِ شُجَاعًا فَقَطْ ، وَهَذَا غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ : حَالٌ يُقْصَدُ بِهَا إظْهَارُ الشَّجَاعَةِ ، وَحَالٌ يُقْصَدُ بِهَا إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَالٌ يُقَاتِلُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إعْلَاءَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا إظْهَارَ الشَّجَاعَةِ عَنْهُ ، وَهَذَا يُمْكِنُ فَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي تَدْهَمُهُ الْحَرْبُ ، وَكَانَتْ طَبِيعَتُهُ الْمُسَارَعَةَ إلَى الْقِتَالِ : يَبْدَأُ بِالْقِتَالِ لِطَبِيعَتِهِ ، وَقَدْ لَا يَسْتَحْضِرُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ، أَعْنِي أَنَّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُوضِحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا : أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ لَا يُنَافِيه وُجُودُ قَصْدٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ : قَاتَلَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ ، وَقَاتَلَ لِلرِّيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ ، فَإِنَّ الْجُبْنَ مُنَافٍ لِلْقِتَالِ ، مَعَ كُلِّ قَصْدٍ يُفْرَضُ . وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّالِثُ : فَإِنَّهُ يُنَافِيه الْقَصْدُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِيهِ الْقِتَالَ لِلشَّجَاعَةِ بِقَيْدِ التَّجَرُّدِ عَنْ غَيْرِهَا ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ : يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِذَلِكَ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : تَكُونُ فَائِدَتُهُ بَيَانَ أَنَّ الْقِتَالَ لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ مَانِعٌ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ : تَكُونُ فَائِدَتُهُ : أَنَّ الْقِتَالَ لِأَجْلِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْطٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَفْهُومَ الْحَدِيثِ الِاشْتِرَاطُ ، لَكِنْ إذَا قُلْنَا بِذَلِكَ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُضَيِّقَ فِيهِ ، بِحَيْثُ تُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهُ لِسَاعَةِ شُرُوعِهِ فِي الْقِتَالِ ، بَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ أَوْسَعَ مِنْ هَذَا . وَيُكْتَفَى بِالْقَصْدِ الْعَامِّ لِتَوَجُّهِهِ إلَى الْقِتَالِ ، وَقَصْدِهِ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا : الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي أَنَّهُ { يُكْتَبُ لِلْمُجَاهِدِ اسْتِنَانُ فَرَسِهِ ، وَشُرْبُهَا فِي النَّهْرِ } مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِذَلِكَ ، لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ إلَى الْجِهَادِ وَاقِعًا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجُزْئِيَّاتِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ، إلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْقَصْدِ بِأَوَّلِ الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ صَحِيحًا فِي الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ ، فَإِنَّ حَالَةَ الْفَزَعِ حَالَةُ دَهَشٍ . وَقَدْ تَأْتِي عَلَى غَفْلَةٍ فَالْتِزَامُ حُضُورِ الْخَوَاطِرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ . ثُمَّ إنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : مُؤْمِنٌ ، قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَالْمُجَاهِدُ لِطَلَبِ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ : مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَشْهَدُ لَهُ : فِعْلُ الصَّحَابِيِّ - وَقَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { قُومُوا إلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ } - فَأَلْقَى الثَّمَرَاتِ الَّتِي كُنَّ فِي يَدِهِ ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، وَظَاهِرُ هَذَا : أَنَّهُ قَاتَلَ لِثَوَابِ الْجَنَّةِ ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا طَافِحَةٌ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ أَعْمَالٌ صَحِيحَةٌ ، غَيْرُ مَعْلُولَةٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ ، وَمَا أَعُدْ فِيهَا لِلْعَامِلِينَ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْعَمَلِ ، وَمُحَالٌ أَنْ يُرَغِّبَهُمْ لِلْعَمَلِ لِلثَّوَابِ ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُولًا مَدْخُولًا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّ غَيْرَ هَذَا الْمَقَامِ أَعْلَى مِنْهُ ، فَهَذَا قَدْ يُتَسَامَحُ فِيهِ ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِي الْعَمَلِ فَلَا . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَأَنَّ الْمُقَاتِلَ لِثَوَابِ اللَّهِ ، وَلِلْجَنَّةِ : مُقَاتِلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ - أَعْنِي الْقِتَالَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى - مَا هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ مَا يُلَازِمُهُ ، كَالْقِتَالِ لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ مُنَافِيَةٌ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فَإِنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا وَقَعَ عَنْ الْقِتَالِ لِهَذِهِ الْمَقَاصِدِ ، وَطَلَبِ بَيَانِ أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْ لَا ؟ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَصْدِ السُّؤَالِ ، بَعْدَ بَيَانِ مُنَافَاةِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : هُوَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقِتَالَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، لَا عَلَى أَنَّ " سَبِيلَ اللَّهِ " لِلْحَصْرِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ ، كَالْقِتَالِ لِطَلَبِ الثَّوَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ، وَأَمَّا الْقِتَالُ حَمِيَّةٌ : فَالْحَمِيَّةُ مِنْ فِعْلِ الْقُلُوبِ فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْفَاعِلِ : إمَّا مُطْلَقًا ، وَإِمَّا فِي مُرَادِ الْحَدِيثِ وَدَلَالَةِ السِّيَاقِ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَادِحًا فِي الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، إمَّا لِانْصِرَافِهِ إلَى هَذَا الْفَرْضِ ، وَخُرُوجِهِ عَنْ الْقِتَالِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ ، وَإِمَّا لِمُشَارَكَتِهِ الْمُشَارَكَةَ الْقَادِحَةَ فِي الْإِخْلَاصِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمِيَّةِ : الْحَمِيَّةُ لِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ ضَعْفُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكَلَامَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِقَرَائِنِهِ وَسِيَاقِهِ وَدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْخَارِجِ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قُلْتُ : فَإِذَا حَمَلْتُ قَوْلَهُ " قَاتَلَ لِلشَّجَاعَةِ " أَيْ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ " يُقَاتِلُ رِيَاءً " ؟ قُلْتُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّيَاءِ : إظْهَارُ قَصْدِهِ لِلرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُسَارَعَةِ لِلْقُرُبَاتِ ، وَبَذْلِ النَّفْسِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالْمُقَاتِلُ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ : مُقَاتِلٌ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَحْمَدَةِ ، وَالثَّنَاءِ مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ بِالشَّجَاعَةِ ، وَالْمَقْصِدَانِ مُخْتَلِفَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهَا كَانَتْ تُقَاتِلُ لِلَّحْمِيَّةِ وَإِظْهَارِ الشَّجَاعَة ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا قَصْدٌ فِي الْمُرَاءَاةِ بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ؟ فَافْتَرَقَ الْقَصْدَانِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْقِتَالُ لِلَّحْمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِلْقِتَالِ شَجَاعَةً وَالْقِتَالِ لِلرِّيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ : يُقَاتِلُ لِطَلَبِ الْمَحْمَدَةِ بِخُلُقِ الشَّجَاعَةِ وَصِفَتِهَا وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِالْمُقَاتِلِ وَسَجِيَّةٌ لَهُ ، وَالْقِتَالُ لِلَّحْمِيَّةِ : قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَقَدْ يُقَاتِلُ الْجَبَانُ حَمِيَّةً لِقَوْمِهِ ، أَوْ لِحَرِيمِهِ " مُكْرَهٌ أَخَاكَ لَا بَطَلٌ " ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

 

كتاب الجهاد > كتاب العتق :

كِتَابُ الْعِتْقِ 425 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ : قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : صِيغَةُ " مَنْ " لِلْعُمُومِ فَيَقْتَضِي دُخُولَ أَصْنَافِ الْمُعْتِقِينَ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ ، وَمِنْهُمْ الْمَرِيضُ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ جَمِيعُ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِي ثُلُثِهِ : كَتَصَرُّفِ الصَّحِيحِ فِي كُلِّهِ ، وَنَقَلَ أَحْمَدُ : أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ فِي حَالِ الْمَرِيضِ ، وَذَكَرَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ - أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَنْ أَعْتَقَ حَظَّهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ فِي الْمَرَضِ : أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إلَّا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، إنْ صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ : لَمْ يُقَوَّمْ فِي الثُّلُثِ عَلَى حَالٍ ، وَعَتَقَ مِنْهُ حَظُّهُ وَحْدَهُ ، وَالْعُمُومُ كَمَا ذَكَرْنَا يَقْتَضِي التَّقْوِيمَ ، وَتَخْصِيصَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ : مَأْخُوذٌ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى اخْتِصَاصِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ بِالتَّبَرُّعَاتِ فِي الثُّلُثِ . الثَّانِي : الْعُمُومُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَصَرُّفٌ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الشَّرِيكَانِ ، وَالْعَبْدُ كُفَّارًا : لَمْ يُلْزَمُوا بِالتَّقْوِيمِ ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ ، وَالْعَبْدُ كَافِرًا : فَالتَّقْوِيمُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا ، وَالْآخَرُ كَافِرًا فَإِنْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ كُمِّلَ عَلَيْهِ ، كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْوِيمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : الْإِثْبَاتُ ، وَالنَّفْيُ ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا فَيَلْزَمُ التَّقْوِيمَ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا ، فَلَا يَلْزَمُ ، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا فَرِوَايَتَانِ ، وَلِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا وَجْهَانِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ نَصِيبَهُ مِنْ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ مُوسِرٌ : هَلْ يَسْرِي إلَى بَاقِيهِ ؟ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ صُوَرٍ مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ : أَحَدُهَا : إذَا كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا ، وَسَبَبُهُ : مَا دَلَّ عِنْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلْكُفَّارِ فِي خُصُوصِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ . وَثَانِيهَا : إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ هُوَ الْكَافِرُ ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنْ لَا تَقْوِيمَ ، أَوْ لَا تَقْوِيمَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَيَرَى أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِالتَّقْوِيمِ هُوَ الْكَافِرُ ، وَلَا إلْزَامَ لَهُ بِأَحْكَامِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَيَرَى أَنَّ التَّقْوِيمَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِتْقِ بِالْمُسْلِمِ ، وَثَالِثُهَا : إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ ، وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا عَلَى قَوْلٍ ، وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْلِمِ بِالْعِتْقِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ : إنْ أُخِذَتْ مِنْ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ لَا مُسْتَنَدَ فِيهَا إلَى نَصٍّ مُعَيَّنٍ ، فَتَحْتَاجُ إلَى الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا ، وَإِثْبَاتِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ بِدَلِيلٍ وَإِنْ اسْتَنَدَتْ إلَى نَصٍّ مُعَيَّنٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِي دَلَالَتِهِ مَعَ دَلَالَةِ هَذَا الْعُمُومِ ، وَوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ التَّعَارُضِ .

 

الثَّالِثُ : إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ مَرْهُونٌ ، فَفِي السِّرَايَةِ إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ اخْتِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَظَاهِرُ الْعُمُومِ : يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَرْهُونِ ، وَغَيْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ ، لَيْسَ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ : إثْبَاتُ السِّرَايَةِ إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمُعْتَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ ، لَا مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ ، فَالْمُخَالِفُ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ : يَدَّعِي قِيَامَ الْمَانِعِ مِنْ السِّرَايَةِ ، وَهُوَ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَيُقَوِّيه بِأَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لِصُوَرِ قِيَامِ الْمَانِعِ غَيْرُ قَوِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ : يُلْغِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ قَوِيَ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْقِيمَةِ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَذَلِكَ أَوْلَى ، وَإِذَا أُلْغِي الْمَانِعُ عَمِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَمَلَهُ .

 

الرَّابِعُ : كَاتَبَا عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ : فِيهِ مِنْ الْبَحْثِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْعُمُومِ ، وَالتَّخْصِيصِ بِحَالَةِ عَدَمِ الْمَانِعِ ، وَالْمَانِعُ هَهُنَا : صِيَانَةُ الْكِتَابَةِ عَنْ الْإِبْطَالِ ، وَهَهُنَا زِيَادَةُ أَمْرٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْعَبْدِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُتَنَاوِلًا لِلْمُكَاتَبِ ، وَلَا يَكْتَفِي فِي هَذَا بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَاوُلُ لَفْظِ " الْعَبْدِ لَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُتَنَاوِلًا لَلْمُكَاتَبِ وَلَا يَكْتَفِي فِي هَذَا بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ يُؤْخَذُ مِنْ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ ، وَقَدْ لَا يَغْلِبُ الِاسْتِعْمَالُ وَتَكُونُ أَحْكَامُ الرِّقِّ ثَابِتَةً ، وَهَذَا الْمَقَامُ إنَّمَا هُوَ فِي إدْرَاجِ هَذَا الشَّخْصِ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ ، وَتَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ أَقْرَبُ .

 

الْخَامِسُ : إذَا أَعَتَقَ نَصِيبَهُ ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ مُدَبَّرٌ : فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ ، وَتَنَاوُلُ اللَّفْظِ هَهُنَا أَقْوَى مِنْ الْمُكَاتَبِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ وَالْمَانِعُ هَهُنَا : إبْطَالُ حَقِّ الشَّرِيكِ مِنْ قُرْبَةٍ مَهَّدَ سَبِيلَهَا .

 

السَّادِسُ : أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ جَارِيَةٍ ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهَا فَالْمَانِعُ مِنْ إعْمَالِ الْعُمُومِ هَهُنَا : أَقْوَى مِمَّا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ تَتَضَمَّنَ نَقْلَ الْمِلْكِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَقْبَلُ نَقْلَ الْمِلْكِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهَا ، وَهَذَا أَصَحُّ وَجْهَيْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَمَنْ يَجْرِي عَلَى الْعُمُومِ يُلْغِي هَذَا الْمَانِعَ ، بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَسِرَايَتَهُ كَالْإِتْلَافِ ، وَإِتْلَافُ أُمِّ الْوَلَدِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ ، وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ سَبِيلُهُ سَبِيلُ غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِصُدُورِ أَمْرٍ يَجْعَلُهُ إتْلَافًا .

 

السَّابِعُ : الْعُمُومُ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عِتْقٍ مَأْذُونٍ فِيهِ ، أَوْ غَيْرِ مَأْذُونٍ ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَقَالُوا : لَا ضَمَانَ فِي إعْتَاقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ : أَعْتِقْ نَصِيبَكَ .

 

الثَّامِنُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَعْتَقَ " يَقْتَضِي صُدُورَ الْعِتْقِ مِنْهُ ، وَاخْتِيَارَهُ لَهُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ حَيْثُ كَانَ مُخْتَارًا ، وَيَنْتَفِي حَيْثُ لَا اخْتِيَارَ ، إمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ ، وَإِمَّا لِأَنَّ السِّرَايَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَتَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ ، وَإِمَّا لِإِبْدَاءِ مَعْنًى مُنَاسِبٍ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالِاخْتِيَارِ ، وَهُوَ أَنَّ التَّقْوِيمَ سَبِيلُهُ سَبِيلُ غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِصُدُورِ أَمْرٍ يُجْعَلُ إتْلَافًا ، وَهَهُنَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ : مَرْتَبَةٌ لَا إشْكَالَ فِي وَقْعِ الِاخْتِيَارِ فِيهَا ، وَمَرْتَبَةٌ لَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ الِاخْتِيَارِ فِيهَا ، وَمَرْتَبَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمَا . أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : فَإِصْدَارُ الصِّيغَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعِتْقِ بِنَفْسِهَا ، وَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهَا فِي مَدْلُولِ الْحَدِيثِ . وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : فَمِثَالُهَا : مَا إذَا وَرِثَ بَعْضَ قَرِيبِهِ ، فَعَتَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَلَا سِرَايَةَ ، وَلَا تَقْوِيمَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْضُ مُصَنَّفِي مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ ، لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فِي الْعِتْقِ وَسَبَبِهِ مَعًا ، وَعَنْ أَحْمَدَ : رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ ، إذَا كَانَ مُوسِرًا ، وَمَنْ أَمْثِلَتِهِ : أَنْ يَعْجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسُهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَى شِقْصًا يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّ الْمِلْكَ وَالْعِتْقَ يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ السَّيِّدِ فَهُوَ كَالْإِرْثِ . وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ الْوُسْطَى : فَهِيَ مَا إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْعِتْقِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَهَذَا أَيْضًا تَخْتَلِفُ رُتَبُهُ : فَمِنْهُ مَا يَقْوَى فِيهِ تَنْزِيلُ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ مُبَاشَرَةِ الْمُسَبِّبِ ، كَقَوْلِهِ لِبَعْضِ قَرِيبِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ ، وَصِيَّةٍ ، وَقَدْ نَزَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشِرِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الشِّرَاءِ ، وَالْهِبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ : تَمْثِيلُهُ بِعَبْدِهِ ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْعِتْقَ بِالْمُثْلَةِ ، وَهُوَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَمِنْهُ مَا يَضْعُفُ عَنْ هَذَا ، وَهُوَ تَعْجِيزُ السَّيِّدِ الْمُكَاتَبَ ، بَعْدَ أَنْ اشْتَرَى شِقْصًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ فَانْتَقَلَ إلَيْهِ الْمِلْكُ بِالتَّعْجِيزِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعِتْقِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا اخْتَارَهُ كَانَ كَاخْتِيَارِهِ لِسَبَبِ الْعِتْقِ بِالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَوَجْهُ ضَعْفِ هَذَا عَنْ الْأَوَّلِ : أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّمَلُّكَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّعْجِيزَ ، وَقَدْ حَصَلَ الْمِلْكُ فِيهِ ضِمْنًا ، إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى .

 

التَّاسِعُ : الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الِاخْتِيَارَ فِي الْعِتْقِ ، وَقَدْ نَزَّلُوا مَنْزِلَتَهُ : الِاخْتِيَارَ فِي سَبَبِ الْعِتْقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ اخْتِيَارُ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ فَفَرْقٌ بَيْنَ اخْتِيَارِهِ مَا يُوجِبُ الْعِتْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِ مَا يُوجِبُهُ ظَاهِرًا ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ : قَدْ أَعْتَقْتُ نَصِيبَك - وَهُمَا مُعْسِرَانِ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ - ثُمَّ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِ النَّصِيبِ الْمُشْتَرَى ، مُؤَاخَذَةً لِلْمُشْتَرِي بِإِقْرَارِهِ ، وَهَلْ يَسْرِي إلَى نَصِيبِهِ ؟ مُقْتَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ : أَنْ لَا يَسْرِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ مَا يُوجِبُ الْعِتْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِ ظَاهِرًا ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : يُعْتَقُ جَمِيعُهُ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .

 

الْعَاشِرُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِتْقِ عِتْقُ التَّنْجِيزِ ، وَأَجْرَى الْفُقَهَاءُ مَجْرَاهُ : التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ ، مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ ، وَأَمَّا الْعِتْقُ إلَى أَجَلٍ فَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ فَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ : أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْآنَ فَيُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ ، وَقَالَ سَحْنُونٌ : إنْ شَاءَ الْمُتَمَسِّكُ قَوَّمَ السَّاعَةَ ، فَكَانَ جَمِيعُهُ حُرًّا إلَى سَنَةٍ مَثَلًا ، وَإِنْ شَاءَ تَمَاسَكَ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ السَّنَةِ ، إلَّا مِنْ شَرِيكِهِ ، وَإِذَا تَمَّتْ السَّنَةُ : قُوِّمَ عَلَى مُبْتَدِئِ الْعِتْقِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ . الْحَادِيَ عَشْرَ : " الشِّرْكُ " فِي الْأَصْلِ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يَقْبَلُ الْعِتْقَ ، وَأُطْلِقَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ ، وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ ، تَقْدِيرُهُ " جُزْءٌ مُشْتَرَكٌ " أَوْ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي الْحَقِيقَةِ : هُوَ جُمْلَةُ الْعَيْنِ ، أَوْ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ مِنْهَا إذَا أُفْرِدَ بِالتَّعْيِينِ ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ مَثَلًا ، وَأَمَّا النَّصِيبُ الْمُشَاعُ : فَلَا اشْتِرَاكَ فِيهِ الثَّانِيَ عَشَرَ : يَقْتَضِي الْحَدِيثُ : أَنْ لَا يُفَرَّقَ فِي الْجُزْءِ الْمُعْتَقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، لِأَجْلِ التَّنْكِيرِ الْوَاقِعِ مِنْ سِيَاقِ الشَّرْطِ .

 

الثَّالِثَ عَشَرَ : إذَا أَعْتَقَ عُضْوًا مُعَيَّنًا - كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ - اقْتَضَى الْحَدِيثُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ . وَخِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّلَاقِ جَارٍ هَهُنَا . وَتَنَاوُلُ اللَّفْظِ لِهَذِهِ الصُّورَةِ : أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْجُزْءِ الْمُشَاعِ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي أُفْرِدَ بِالْعِتْقِ مُشْتَرَكٌ حَقِيقَةً .

 

الرَّابِعَ عَشَرَ : يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ جُزْءًا مِنْ الْمُشْتَرَكِ فَيَتَصَدَّى النَّظَرُ فِيمَا إذَا أُعْتِقَ الْجَنِينُ : هَلْ يَسْرِي إلَى الْأُمِّ ؟ .

 

الْخَامِسُ عَشَرَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَهُ " يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ مِنْهُ مُصَادِفًا لِنَصِيبِهِ كَقَوْلِهِ : أَعَتَقْتُ نَصِيبِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَعْتَقْتُ نَصِيبَ شَرِيكِي : لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَصِيبِهِ ، وَلَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ . فَلَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَهُ " نِصْفُك حُرٌّ " أَوْ أَعْتَقْتُ نِصْفَك ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النِّصْفِ الْمُخْتَصِّ بِهِ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النِّصْفِ شَائِعًا ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ عَتَقَ : إمَّا كُلُّ نَصِيبِهِ ، أَوْ بَعْضِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْحَدِيثِ .

السَّادِسَ عَشَرَ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ ، وَالْأَمَةُ مِثْلُهُ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا اللَّفْظِ : قِيَاسٌ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَهُ مُنْصِفٌ . غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي دُخُولَ الْأَمَةِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الرِّوَايَةِ فَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ : عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " فِي مَمْلُوكٍ " ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ : فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَفِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ ، وَابْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُ " فِي مَمْلُوكٍ " كَمَا فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ " فِي عَبْدٍ " ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عُمُومٌ . وَجَاءَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ ، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهُ ، يَقُولُ : قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ ، وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ يُخْبِرُ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ " بِذَكَرِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ " قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى ، وَفِي آخِرِهِ " رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .

 

السَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ " إنْ كَانَ بِالْفَاءِ " فَكَانَ لَهُ مَالٌ " اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْيَسَارُ مُعْتَبَرًا فِي وَقْتِ الْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْوَاوِ " وَكَانَ " اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . الثَّامِنَ عَشْرَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَهُ مَالٌ " يُخْرِجُ عَنْهُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إذَا أَوْصَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَوْتٍ فَأُعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا سِرَايَةَ ، وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ ، وَيَبْقَى الْمَيِّتُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا يُقَوَّمُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَقْتَ نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَمْلِكُ كُلَّ الْعَبْدِ فَأَوْصَى بِعِتْقِ جُزْءٍ مِنْهُ فَأَعْتَقَ مِنْهُ : لَمْ يَسْرِ ، وَكَذَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَقَالَ : إذَا مِتُّ فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ ، وَكُلُّ هَذَا جَارٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ قَالَ : إذَا مِتُّ فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ : أَنَّهُ لَا يَسْرِي وَقِيلَ : إنَّهُ يُقَوَّمُ فِي ثُلُثِهِ ، وَجَعَلَهُ مُوسِرًا بَعْدَ الْمَوْتِ .

 

التَّاسِعَ عَشَرَ : أَطْلَقَ " الثَّمَنَ " فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَالْمُرَادُ الْقِيمَةُ فَإِنَّ " الثَّمَنَ " مَا اُشْتُرِيَتْ بِهِ الْعَيْنُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ وَقَدْ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ " مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ " ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَيُّمَا عَبْدٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ، فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ - أَوْ قَالَ - قِيمَةٍ ، وَلَا ، وَكْسَ ، وَلَا شَطَطَ ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى يُقَامُ ، وَمَالُهُ قِيمَةُ الْعَدْلِ ، } وَفِي هَذَا مَا يُبَيِّنُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَنِ الْقِيمَةُ . الْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ " يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ فِي مَالٍ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ فَإِذَا كَانَ الْمَالُ لَا يَبْلُغُ كَمَالَ الْقِيمَةِ وَلَكِنْ قِيمَةَ بَعْضِ النَّصِيبِ ، فَفِي السِّرَايَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَيُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى السِّرَايَةَ بِمَفْهُومِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَيُؤَيِّدُهُ بِأَنَّ فِي السِّرَايَةِ تَبْعِيضًا لِمِلْكِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ : السِّرَايَةُ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مُوسِرٌ بِهِ ، تَحْصِيلًا لِلْحُرِّيَّةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَالْمَفْهُومُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَعِيفٌ . الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : إذَا مَلَكَ مَا يَبْلُغُ كَمَالَ الْقِيمَةِ ، إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُسَاوِي ذَلِكَ ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي السِّرَايَةِ ، وَالتَّقْوِيمِ ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي مَنْعِ الدَّيْنِ الزَّكَاةَ ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا : اشْتِرَاكُهُمَا فِي كَوْنِهِمَا حَقًّا لِلَّهِ ، مَعَ أَنَّ فِيهِمَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ لَا يَرَى الدَّيْنَ مَانِعًا هَهُنَا ، أَخْذًا بِالظَّاهِرِ ، وَمَنْ يَرَى الدَّيْنَ مَانِعًا : يُخَصِّصُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالْمَانِعِ الَّذِي يُقَيِّمُهُ فِيهَا خَصْمُهُ . وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِمْ : فِي أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَالِهِ : فَهُوَ مُعْسِرٌ . وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : يَقْتَضِي الْخَبَرُ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ لِلْمُعْتَقِ مَا يَفِي بِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ : فَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ هَذَا الظَّاهِرُ ، وَالشَّافِعِيَّةُ أَخْرَجُوا قُوتَ يَوْمِهِ ، وَقُوتَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، وَدَسْتَ ثَوْبٍ ، وَسُكْنَى يَوْمٍ ، وَالْمَالِكِيَّةُ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ : بِاعْتِبَارِ قُوتِ الْأَيَّامِ ، وَكِسْوَةِ ظَهْرِهِ ، كَمَا فِي الدُّيُونِ الَّتِي عَلَيْهِ ، وَيُبَاعُ مَنْزِلُهُ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ وَشِوَارُ بَيْتِهِ ، وَقَالَ أَشْهَبُ مِنْهُمْ : إنَّمَا يُتْرَكُ لَهُ مَا يُوَارِيه لِصَلَاتِهِ .

 

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ حُصُولِ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ السِّرَايَةِ إلَى الْبَاقِي وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ - أَنَّهُ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ . الثَّانِي : أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ إلَّا إذَا أَدَّى نَصِيبَ الشَّرِيكِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ . الثَّالِثُ : أَنْ يَتَوَقَّفَ : فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ بَانَ حُصُولُ الْعِتْقِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ ، وَإِلَّا بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ . وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ : مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الرُّوَاةِ فَفِي بَعْضِهَا قُوَّةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَفِي بَعْضِهَا ظُهُورٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي بَعْضِهَا احْتِمَالٌ مُتَقَارِبٌ ، وَأَلْفَاظُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تُشْعِرُ بِمَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي تَرْتِيبَ التَّقْوِيمِ عَلَى عِتْقِ النَّصِيبِ ، وَتَعَقُّبِ الْإِعْطَاءِ وَعِتْقِ الْبَاقِي لِلتَّقْوِيمِ ، فَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ ، وَعِتْقِ الْبَاقِي لِلتَّقْوِيمِ . فَالتَّقْوِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى تَرْتِيبٍ فِي الْوُجُودِ ، أَوْ إلَى تَرَتُّبٍ فِي الرُّتْبَةِ ، وَالثَّانِي : بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ النَّصِيبِ الْبَاقِي - عَلَى قَوْلِ السِّرَايَةِ - بِنَفْسِ إعْتَاقِ الْأَوَّلِ إمَّا مَعَ إعْتَاقِ الْأَوَّلِ ، أَوْ عَقِيبُهُ فَالتَّقْوِيمُ : إنْ أُرِيدَ بِهِ : الْأَمْرُ الَّذِي يُقَوِّمُ بِهِ الْحَاكِمُ وَالْمُقَوِّمَ : فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْوُجُودِ عَنْ عِتْقِ النَّصِيبِ وَالسِّرَايَةِ مَعًا فَلَا يَكُونُ عِتْقُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُرَتَّبًا عَلَى التَّقْوِيمِ فِي الْوُجُودِ ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ : يَقْتَضِيه ، وَإِنْ أُرِيد بِالتَّقْوِيمِ : وُجُوبُ التَّقْوِيمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَجَازِ فَالتَّقْوِيمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ : مَعَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَعِتْقِ الْبَاقِي ، فَلَا يَكُونُ عِتْقُ الْبَاقِي مُتَأَخِّرًا عَنْ التَّقْوِيمِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ ، لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّانِي تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِتْقُ الْبَاقِي رَاجِعًا إلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ ، أَيْ يَقَعُ أَوَّلًا التَّقْوِيمُ ، ثُمَّ الْإِعْطَاءُ وَعِتْقُ الْبَاقِي ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى هَذَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ " ، وَعَتَقَ " مَعْطُوفًا عَلَى " قُوِّمَ " لَا عَلَى " أَعْطَى " فَلَا يَلْزَمُ تَأَخُّرُ عِتْقِ الْبَاقِي عَلَى الْإِعْطَاءِ ، وَلَا كَوْنُهُ مَعَهُ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَعَلَيْكَ بِالنَّظَرِ فِي أَرْجَحِ الِاحْتِمَالَيْنِ ، أَعْنِي عَطْفَهُ عَلَى " أَعْطَى " أَوْ عَطْفَهُ عَلَى " قُوِّمَ " . وَأَقْوَى مِنْهُ : رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ إذْ فِيهَا { فَكَانَ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ ، أَوْ قَالَ : قِيمَةٍ لَا وَكْسَ ، وَلَا شَطَطَ ثُمَّ يُقَوَّمُ لِصَاحِبِهِ حِصَّتُهُ ثُمَّ يُعْتَقُ } فَجَاءَ بِلَفْظَةِ " ثُمَّ " الْمُقْتَضِيَةِ لِتَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوِيمِ ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ لِلشَّافِعِيِّ : فَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ } ، وَأَمَّا مَا فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَمَا جَاءَ فِيهَا { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ ، إنْ كَانَ لِلَّذِي عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ ، يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَيَدْفَعُ إلَى شُرَكَائِهِ أَنْصِبَاءَهُمْ ، وَيُخْلَى سَبِيلُهُ } فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ : مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ " فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ " فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي : تَعْقِيبَ عِتْقِ كُلِّهِ لِإِعْتَاقِ النَّصِيبِ ، وَفِي آخِرِهِ : مَا يَشْهَدُ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ " يُقَوَّمُ قِيمَةَ عَدْلٍ فَيَدْفَعُ " فَأَتْبَعَ إعْتَاقَ النَّصِيبِ لِلتَّقْوِيمِ ، وَدَفْعُ الْقِيمَةِ لِلشُّرَكَاءِ عَقِيبَ التَّقْوِيمِ ، وَذَكَرَ تَخْلِيَةَ السَّبِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوَاوِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا : أَنْ يُنْظَرَ إلَى هَذِهِ الطُّرُقِ ، وَمَخَارِجِهَا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي مَخْرَجٍ وَاحِدٍ : أَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ فَالْأَكْثَرِ ، أَوْ بِالْأَحْفَظِ فَالْأَحْفَظِ ثُمَّ نَظَرْنَا إلَى أَقْرَبِهَا دَلَالَةً عَلَى الْمَقْصُودِ فَعُمِلَ بِهَا . وَأَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ : لَفْظَةُ " ثُمَّ " ، وَأَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : رِوَايَةُ حَمَّادٍ ، وَقَوْلُهُ { مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ } لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : أَنَّ مَآلَهُ إلَى الْعِتْقِ ، أَوْ أَنَّ الْعِتْقَ قَدْ وَجَبَ لَهُ وَتَحَقَّقَ ، وَأَمَّا قَضِيَّةُ وُجُوبِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعْجِيلِ السِّرَايَةِ ، أَوْ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْأَدَاءِ : فَمُحْتَمَلٌ فَإِذَا آلَ الْحَالُ إلَى هَذَا ، فَالْوَاجِبُ النَّظَرُ فِي أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ ، وَأَظْهَرِهِمَا دَلَالَةً ، ثُمَّ عَلَى تَرَاخِي الْعِتْقِ عَنْ التَّقْوِيمِ وَالْإِعْطَاءِ ، أَوْ دَلَالَةِ لَفْظَةِ " عَتِيقٍ " عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ هَذَا بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الطُّرُقِ ، أَوْ اتِّفَاقِهَا .

 

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ يَرَى السِّرَايَةَ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ ، عَلَى عَكْسِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهُ . وَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ : لَوْ لَمْ تَحْصُلْ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ ، لِمَا تَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ جَزَاءً لِلْإِعْتَاقِ ، لَكِنْ تَعَيَّنَتْ فَالسِّرَايَةُ حَاصِلَةٌ بِالْإِعْتَاقِ . بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ : أَنَّهُ إذَا تَأَخَّرَتْ السِّرَايَةُ عَنْ الْإِعْتَاقِ ، وَتَوَقَّفَتْ عَلَى التَّقْوِيمِ فَإِذَا أَعْتَقَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ نَصِيبَهُ : نَفَذَ ، وَإِذَا نَفَذَ فَلَا تَقْوِيمَ فَلَوْ تَأَخَّرَتْ السِّرَايَةُ : لَمْ يَتَعَيَّنْ التَّقْوِيمُ ، لَكِنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ لِلْحَدِيثِ .

 

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ تَجَزِّي الْعِتْقِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى التَّجَزِّيَ فِي الْإِعْتَاقِ ، وَصَاحِبَاهُ لَا يَرَيَانِهِ ، وَانْبَنَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ لِلسَّاكِتِ أَنْ يُعْتِقَ إبْقَاءً لِلْمِلْكِ ، وَيَضْمَنُ شَرِيكَهُ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِهِ بِالْإِفْسَادِ ، وَاسْتَسْعَى الْعَبْدَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَهَذَا فِي حَالِ يَسَارِ الْمُعْتِقِ ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ إعْسَارِهِ : سَقَطَ التَّضْمِينُ ، وَبَقِيَ الْأَمْرَانِ الْآخَرَانِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ الْإِعْتَاقُ : عَتَقَ كُلُّهُ ، وَلَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهُ ، وَلَهُمَا أَنْ يَسْتَدِلَّا بِالْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَيُّنِ الْقِيمَةِ فِيهِ ، وَمَعَ تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ لَا تَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ .

 

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : الْحَدِيثُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُعْتِقِ لِلنَّصِيبِ : إمَّا صَرِيحًا ، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ ، فَيَدْفَعُ لِشُرَكَائِهِ حِصَصَهُمْ " ، وَإِمَّا دَلَالَةً سِيَاقِيَّةً لَا يُشَكُّ فِيهَا ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، وَهَذَا يَرُدُّ مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّ بَاقِيَ الْعَبْدِ يُعْتَقُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، مُقْتَضَاهُ : التَّقْوِيمُ عَلَى الْمُوسِرِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُ مَنْ أَعْتَقَ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يُعْتِقْ عَلَى نَصِيبِهِ ، يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَسْوَدِ غُلَامٌ ، شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ ، وَأَبْلَى فِيهَا فَأَرَادُوا عِتْقَهُ وَكُنْتُ صَغِيرًا فَذَكَرَ ذَلِكَ الْأَسْوَدُ لِعُمَرَ فَقَالَ : أَعْتِقُوا أَنْتُمْ وَيَكُونُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى نَصِيبِهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي مِثْلِ مَا رَغِبْتُمْ فِيهِ ، أَوْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ " ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ " كَانَ لِي ، وَلِإِخْوَتِي غُلَامٌ أَبْلَى يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَرَدْتُ عِتْقَهُ لِمَا صَنَعَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ : لَا تُفْسِدْ عَلَيْهِمْ نَصِيبَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا . فَإِنْ رَغِبُوا فِيمَا رَغِبْتُ فِيهِ ، وَإِلَّا لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِمْ نَصِيبَهُمْ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ رَأَى التَّضْمِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إفْسَادًا لِنَصِيبِهِمْ ، وَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ ، غَيْرَ أَنَّ فِي إثْبَاتِ قَوْلٍ بِعَدَمِ التَّضْمِينِ عِنْدَ الْيَسَارِ بِهَذَا نَظَرٌ مَا ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ : فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى التَّقْوِيمِ عِنْدَ الْيَسَارِ الْمَذْكُورِ فِيهِ .

 

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : " قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ " يَدُلُّ عَلَى إعْمَالِ الظُّنُونِ فِي بَابِ الْقِيَمِ هُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ النَّصِّ عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ الْقِيَمِ فِي طُولِ مُدَّةِ الزَّمَانِ .

 

 

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالْقِيمَةِ ، لَا بِالْمِثْلِ صُورَةً .

 

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : اشْتِرَاطُ قِيمَةِ الْعَدْلِ : يَقْتَضِي اعْتِبَارَ مَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْقِيمَةُ عُرْفًا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا النَّاسُ .

 

الثَّلَاثُونَ : فِيهِ التَّصْرِيحُ بِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ بَعْدَ إعْطَاءِ شُرَكَائِهِ حِصَصَهُمْ ، قَالَ يُونُسُ - هُوَ ابْنُ يَزِيدَ - عَنْ رَبِيعَةَ : سَأَلْته عَنْ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ ؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ : عِتْقُهُ مَرْدُودٌ . فَقَدْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ عِتْقَ الْمُشَاعِ . [ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : ظَاهِرُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِإِعْطَاءِ شُرَكَائِهِ حِصَصَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى الْعِتْقِ التَّقْوِيمَ بِالْفَاءِ ثُمَّ عَلَى التَّقْوِيمِ بِالْفَاءِ : الْإِعْطَاءَ وَالْعِتْقَ . وَعَلَى قَوْلِنَا : إنَّهُ يَسْرِي بِنَفْسِ الْعِتْقِ : لَا يَتَوَقَّفُ الْعِتْقُ عَلَى التَّقْوِيمِ وَالْإِعْطَاءِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ . وَالثَّانِي : يُعْتِقُ بِإِعْطَاءِ الْقِيمَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ ثَبَتَتْ السِّرَايَةُ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ لَا يُنَافِيه لَفْظُ الْحَدِيثِ ] . الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ قَوْلُهُ " وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " فُهِمَ مِنْهُ عِتْقُ مَا عَتَقَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ يَقْتَضِي عِتْقَ الْجَمِيعِ ، أَعْنِي عِتْقَ الْمُوسِرِ فَيَكُونُ عِتْقُ الْمُعْسِرِ لَا يَقْتَضِيه ، نَعَمْ يَبْقَى هَهُنَا : أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْبَاقِي مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الرِّقِّ ، أَوْ يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ ؟ فِيهِ نَظَرٌ ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ : مَنَعَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ عَلَى بَقَاءِ الرِّقِّ فِي الْبَاقِي ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِتْقِ هَذَا النَّصِيبِ فَقَطْ ، وَيُؤْخَذُ حُكْمُ الْبَاقِي مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

 

 

426 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكٍ ، فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ كُلُّهُ فِي مَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ، ثُمَّ اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ } .

" فِيهِ مَسَائِلُ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَصْحِيحِهِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا ، وَحَسْبُكَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا : إنَّ ذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ : تَعَلَّلُوا فِي تَضْعِيفِهِ بِتَعْلِيلَاتٍ لَا تَصْبِرُ عَلَى النَّقْدِ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْوَفَاءُ بِمِثْلِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فِيهَا بِأَحَادِيثَ يَرِدُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِثْلُ تِلْكَ التَّعْلِيلَاتِ ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ هَهُنَا فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى تَصْحِيحِ الشَّيْخَيْنِ ، وَنَتْرُكُ الْبَسْطَ فِيهِ إلَى مَوْضِعِ الْبَسْطِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مِنْ مَمْلُوكٍ " يَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مَعًا ، وَهُوَ أَدُلُّ مِنْ لَفْظِ " مِنْ عَبْدٍ " عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ : ادَّعَى أَنَّ لَفْظَ " الْعَبْدِ " يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، وَقَدْ نُقِلَ " عَبْدٌ وَعَبَدَةٌ " ، وَهَذَا إلَى خِلَافِ مُرَادِهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى مُرَادِهِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَعَسَّفُ مُتَعَسِّفٌ وَلَا يَرَى أَنَّ لَفْظَ " الْمَمْلُوكِ " يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَةَ . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ " قَدْ يُشْعَرُ بِأَنَّهُ لَا يَسْرِي بِنَفْسِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الْعِتْقِ سِرَايَةً : لِتَخْلُصَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ . وَاللَّفْظُ يُشْعِرُ بِاسْتِقْبَالِ خَلَاصِهِ ، إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ ، كَمَا يُقَالُ : فَعَلَيْهِ عِوَضُ خَلَاصِهِ ، أَوْ مَا يُقَارِبُ هَذَا . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ كُلُّهُ " هَذَا يُرَادُ بِهِ : الْكُلُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ ، أَعْنِي الْكُلَّ الْمَجْمُوعِيَّ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ قَدْ تَخَلَّصَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ ، وَاَلَّذِي يُخَلِّصُهُ كُلَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ : هُوَ تَتِمَّةُ عِتْقِهِ . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فِي مَالِهِ " يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى خِلَافِ مَا حُكِيَ عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَوَّلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ ، إذَا كَانَ الْأَوَّلُ مُوسِرًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَنَفَذَ ، لَمْ يَحْصُلْ الْوَفَاءُ ، يَكُونُ خَلَاصُهُ مِنْ مَالِهِ . لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ لَفْظُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ عَدَمِ صِحَّةِ عِتْقِهِ : أَنَّهُ يَسْرِي بِنَفْسِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى السِّرَايَةِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ ، وَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ } فَإِنَّ ظَاهِرَهُ : تَرَتُّبُ الْعِتْقِ عَلَى إعْطَاءِ الْقِيمَةِ ، فَأَيُّ الدَّلِيلَيْنِ كَانَ أَظْهَرَ عُمِلَ بِهِ . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ كُلُّهُ مِنْ مَالِهِ " يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ عِنْدَ يَسَارِ الْمُعْتِقِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ " ظَاهِرُهُ : النَّفْيُ الْعَامُّ لِلْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَالٌ يُؤَدِّي إلَى خَلَاصِهِ . الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ " أَيْ أُلْزِمَ السَّعْيَ فِيمَا يَفُكُّ بِهِ بَقِيَّةَ رَقَبَتِهِ مِنْ الرِّقِّ ، وَشَرَطَ مَعَ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ ، وَفِي ذَلِكَ : الْحَوَالَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ ، وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِي مِثْلِ هَذَا ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ . الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الَّذِينَ قَالُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ فِي حَالَةِ عُسْرِ الْمُعْتِقِ : هَذَا مُسْتَنَدُهُمْ . وَيُعَارِضُهُ مُخَالِفُوهُمْ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ } ، وَالنَّظَرُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ مُنْحَصِرٌ فِي تَقْدِيمِ إحْدَى الدَّلَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى ، أَعْنِي دَلَالَةَ قَوْلِهِ " عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " عَلَى رِقِّ الْبَاقِي ، وَدَلَالَةَ " اُسْتُسْعِيَ " عَلَى لُزُومِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالظَّاهِرُ : تَرْجِيحُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأُولَى .

 

 

باب بيع المدبر

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ - ، وَفِي لَفْظٍ : { بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ } .

نهاية الكتاب ... تم بحمد الله

مع تحيات مكتبة مشكاة الإسلامية

http://www.almeshkat.net/books/index.php 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق