9 مصاحف الكتاب الاسلامي/

الأربعاء، 24 مايو 2023

الجزء الخامس والسادس من كتاب جامع الاثار في السير

ج5

$[تكلمه صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم وصفة قراءته وصوته]$

*قال هند: "ويتكلم بجوامع الكلم فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير".

وفي رواية ابن عباس, عن هند رضي الله عنهم: «إذا تكلم تكلم بجوامع الكلام لا فضل ولا تقصير, وإذا حدث أعاد».

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأوتيت جوامع الكلم».

وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا محمد النبي الأمي, لا نبي بعدي, أوتيت جوامع الكلم وخواتمه, وعلمت خزنة النار, وحملة العرش».

وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث زكريا بن عطية, حدثنا سعيد بن خالد, حدثني محمد بن عثمان, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع العلم, واختصر لي الحديث اختصاراً».

وخرج أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في كتابه "فضائل القرآن العظيم" فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا جرير, عن

الحسن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله, إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها, فقال: «يا ابن الخطاب, أتتهودون كما يتهود اليهود والنصارى, أما والذي نفس محمد بيده, لقد جئتكم بها بيضاء نقية, ولكن أعطيت جوامع الكلم, واختصر لي الحديث اختصاراً».

وجاء معناه عن أبي قلابة, عن عمر, خرجه أبو داود في "المراسيل".

وخرج أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: حدثنا أحمد بن عبد الله بحران, حدثنا النفيلي, حدثنا زهير بن معاوية, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله رضي الله عنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام وخواتمه, أو جوامع الخير وخواتمه, وإنا كنا لا ندري ما نقول إذا جلسنا في الصلاة حتى علمنا فقال: «قولوا: التحيات لله» .... وذكر الحديث.

أخبرنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأذرعي ثم المصري – قدم علينا دمشق بقراءتي عليه – أخبرك الخطيب

أبو الفتح محمد بن محمد البكري فأقر به, أخبرنا عبد اللطيف بن أبي محمد النميري, أخبرنا عبد المنعم بن عبد الوهاب التاجر, أخبرنا علي بن أحمد العمري, أخبرنا محمد بن محمد البزار, أخبرنا إسماعيل بن محمد الملحي, أخبرنا الحسن بن عرفة العبدي, حدثنا هشيم بن بشير, عن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي, عن أبي بردة, عن أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه», فقلنا: يا رسول الله, علمنا مما علمك الله عز وجل فعلمنا التشهد في الصلاة.

وجاء قوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم» في عدة أحاديث, وفسر جوامع الكلم في هذا بالقرآن لإيجازه.

وأما قول هند: "ويتكلم بجوامع الكلم" أي بالموجز الكثير المعاني, القليل الألفاظ, المفيد المحكم من القول, يبينه قوله: "فصلاً" وهو المحكم من القول الذي لا يعاب قائله, يقال: فصل القائل القول يفصله بالكسر فصلاً إذا أحكمه.

وقوله: "لا فضول فيه ولا تقصير" يقال: فضل الشيء بالفتح يفضل بالضم, وفضل بالكسر يفضل بالفتح فضولاً, أي: صار فضلة لا يحتاج إليه, فكان كلامه صلى الله عليه وسلم عارياً عن الفضول الذي يزيد على الحاجة, خالياً من التقصير الذي يحتاج إلى إتمامه لنقصه وعدم إحكامه.

وفي "مسند أحمد بن حنبل" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسرد سردكم هذا, كان يتكلم بكلام يبينه فصلاً يحفظه من يسمعه.

وخرجه الترمذي في "الشمائل" بنحوه.

وأصله مخرج في "الصحيحين".

وفيهما عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.

وأما قول هند في رواية ابن عباس: "وإذا حدث أعاد":

ففي "الصحيحين": عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه.

وهو في "الشمائل" للترمذي, عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه.

وقال أحمد بن منيع أبو جعفر البغوي في "مسنده": حدثنا أبو أحمد – يعني: الزبيري – حدثنا مسعر, سمعت شيخنا, قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل وترتل.

ومعناهما واحد؛ أي يتمهل فيه مع البيان, وحسن التأليف.

وكذلك كانت قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن:

روي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ما رأيت إنسياً أحسن صوتاً من النبي صلىوسلم عليه       بالقرآن.

رواه أبو بكر يعقوب بن يوسف المطوعي, حدثنا أبو معمر – يعني القطيعي – حدثنا سفيان, عن مسعر, عن عدي بن ثابت, عن البراء.

وقال الخرائطي في "اعتلال القلوب": حدثنا علي بن داود القنطري, حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عبد الله بن يحيى, عن علي رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} قال: ما بعث الله عز وجل نبياً قط إلا صبيح الوجه, كريم الحسب, حسن الصوت, وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان كريم الحسب صبيح الوجه حسن الصوت ماداً ليس له ترجيع.

ورواه محمد بن إسحاق بن خزيمة, حدثنا العباس بن يزيد البحراني, حدثنا نوح بن قيس الحداني, حدثنا حسام بن المصك الأزدي, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبياً قط إلا حسن الوجه, حسن الصوت, إلا أنه كان لا يرجع.

ورواه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي, عن محمد بن أحمد الضبعي, عن العباس بن يزيد بن أبي حبيب ... فذكره.

تابعهما أبو بكر محمد بن إبراهيم الأنماطي, عن البحراني.

ورويناه في كتاب "الشمائل" تأليف الترمذي, عن قتادة من قوله نحوه. وذكره الدارقطني أنه الصواب.

$*وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان جهير الصوت:$

وفي حديث عاصم عن زر, عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فبينا نحن عنده إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري: يا محمد, فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو من صوته: «هاؤم» ... الحديث.

خرجه أحمد في "مسنده", والترمذي في "جامعه", والنسائي في

"سننه الكبرى".

قيل: إنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته رفقاً بالأعرابي حتى لا يكون صوته أرفع من صوت النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة مفسرة [حرفاً] حرفاً.

وجاء عن مخرمة بن سليمان, عن كريب قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل, فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يحفظها لفعل.

وحدث ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد, عن زياد بن نعيم, عن مسلم بن مخراق, عن عائشة رضي الله عنها قال: ذكر لها أن ناساً يقرءون القرآن في الليلة مرة أو مرتين فقالت: أولئك قرءوا ولم يقرءوا, كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة التمام, وكان يقرأ بسورة البقرة وآل عمران والنساء، ولا يمر بآية فيها تخوف إلا وعاذ الله عز وجل واستعاذه، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه.

خرجه أحمد في "مسنده".

وقال عبد الله بن أبي قيس لعائشة رضي الله عنها: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل يجهر أو يسر؟ قالت: كل ذلك كان يفعل, ربما جهر وربما أسر.

وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال جرير بن حازم: حدثنا قتادة, سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: كان يمد مداً.

وقال همام: عن قتادة, سئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت مداً, ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم, يمد ببسم الله, ويمد بالرحمة, ويمد بالرحيم.

وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: {بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}

وخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل.

وتقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه.

$[تمثله صلى الله عليه وسلم بالشعر]$

*وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بالشعر في بعض كلامه:

خرج الإمام أحمد في "مسنده" والنسائي في "عمل اليوم والليلة" والترمذي في "جامعه" و"الشمائل", واللفظ له من حديث شريك, عن المقدام بن شريح, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قال: قيل لها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل شعر ابن رواحة, ويتمثل ويقول: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

ورواه هارون بن معروف, عن سفيان بن عيينة, عن مسعر, عن المقدام.

وقال مسدد والإمام أحمد في "مسنديهما" حدثنا هشيم – زاد مسدد واللفظ له: وأبو عوانة, عن مغيرة, عن عامر, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث خبراً تعمل بعاقبة بيت طرفة: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».

وخرجه النسائي في كتاب "عمل اليوم والليلة" من حديث عبد الله بن محمد بن نفيل, عن هشيم بنحوه, ومن حديث أبي عوانة عن إبراهيم بن مهاجر, عن الشعبي به.

وقال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن الصباح, حدثنا الوليد بن أبي ثور, عن سماك, عن عكرمة قال: سئلت عائشة رضي الله عنها هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل شعراً قط؟ قالت: كان أحياناً إذا دخل بيته يقول: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».

وهو عند سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس أيضاً؛ حدث به أبو محمد عبد بن حميد في "مسنده": حدثني ابن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة, عن زائدة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».

وصدر هذا: ستبدي لك الأيام ما كانت جاهلا.

وهذا البيت لطرفة بن العبد واسمه عمرو.

وذكر أبو زرعة أحمد بن الحسن الرازي في كتاب "الشعراء" له في ترجمة طرفة هذا: أنه كان آدم أزرق أزور الصدر أفرع وكان لسانه أسود, كأنه لسان الظبي.

وقال نحوه أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني في "معجم الشعراء" له فقال: وكان آدم أزرق أوقص أفرع أكشف أزور الصدر متساوك الخلق، ويقال: إنه أخرج لسانه فإذا هو أسود كأنه لسان ظبي, فأخذه بيده ثم أومأ بيده إلى رقبته فقال: ويل لهذا مما يجني عليه هذا, فكان هو الذي جنى عليه, فقتل, وذلك أنه هجا عمرو بن هند – وكان منادمه هو والمتلمس – والمتلمس – خال طرفة – فكتب لهما كتابين إلى المكعبر يأمره فيهما بقتلهما.

وقال المرزباني: قيل: وقتلهما المكعبر بالبحرين بكتاب عمرو بن هند وله بضع وعشرون سنة, وقد روي أنه لم يبلغ العشرين. انتهى.

وبيته هذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بعجزه من أحكم ما قالته العرب, وقد دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان فقال: يا شعبي أنشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه, فأنشده أبياتاً منها هذا البيت فقال: وقول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود

رواه مطولاً أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد, حدثنا أبو عثمان, أخبرنا العتبي قال: دخل الشعبي على عبد الملك ... فذكره.

رويناه في "فوائد أبي مسلم الكاتب" محمد بن أحمد بن علي, حدث به عن أبي بكر بن دريد.

وذكر ابن عائشة أنه كان يقال: أشعر بيت قالته العرب هذا البيت.

رواه شهاب بن عطارد, عن الغلابي, عن ابن عائشة.

ولطرفة بيت آخر بمعناه وهو ما ذكره أبو عبيد في كتابه "غريب المصنف" عن الأصمعي قال: وكان جرير بن الخطفي ينشد لطرفة:

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد

يريد تشتري له. انتهى.

وبتاتاً: زاداً.

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي بن النحاس في كتابه "شرح المعلقات السبع" ومنها قصيدة طرفة التي منها البيت الأول, قال: قال الأصمعي: وأنشد جرير بيتاً لطرفة بعد هذا لم يأت به غير جرير وهو:

ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد

انتهى.

والبيت الأول الذي كان يتمثل النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه أحكم وأوجز من هذا.

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا إبراهيم بن عرعرة, حدثنا يوسف بن يزيد أبو معشر البراء, حدثني طيسلة بن صدقة – قال ابن

عرعرة: وإنما هو صدقة بن طيسلة – حدثني أبي والحي, عن أعشى بن مازن قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته:

يا مالك الناس وديان العرب

إني نكحت ذربة من الذرب

ذهبت أبغيها الطعام في رجب

فخلفتني بنزاع وحرب

أخلفت العهد ولطت بالذنب

وهن شر غالب لمن غلب

قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل ويقول: «وهن شر غالب لمن غلب, وهن شر غالب لمن غلب».

وحدث به البخاري في "تاريخه الكبير" على الصواب, فقال: قاله لي محمد بن أبي بكر, حدثنا أبو معشر يوسف البراء, حدثني صدقة بن طيسلة, حدتني معن بن ثعلبة المازني والحي بعد قال: حدثني

الأعشى المازني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته, وذكر الأبيات بنحوها.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عارم بن الفضل, حدثنا

حماد بن زيد, عن علي بن زيد, عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:

كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ...

فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ... , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً» فقال أبو بكر رضي الله عنه: نشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر ولا ينبغي لك.

وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».

وجاء من مراسيل الحسن البصري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمة نبي ألقيت على لسان شاعر: إن القرين بالمقارن يقتدي».

قلت: وصدره:

عن المرء لا تسل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي.

وهو من شعر عدي بن زيد العبادي الحيري يكنى أبا عمير نصراني, ذكره منسوباً إلى زيد مناة بن تميم: أبو عبيد الله المرزباني في "معجمه".

$[علمه صلى الله عليه وسلم بألسنة العرب ومخاطبة كل قوم بلغتهم]$

وتمثله صلى الله عليه وسلم بالأشعار المحكمة والأمثال المعلمة دال على فصاحته السنية وبلاغته القوية, ولقد كان صلى الله عليه وسلم من الفصاحة بالمكان الذي لا يلحق والغاية التي لا تدرك والمحل الأرفع والمجال الأوسع, أدب أكمل أدب, وعلم ألسنة العرب, فكان يخاطب كلا بلغته وفصاحته, ويجاريه في غريبه وبلاغته.

جاء في حديث طهفة بن أبي زهير النهدي الذي روي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير [النهدي] فقال: أتيناك يا رسول الله, من غوري تهامة على أكوار الميس ترتمي بنا العيس, نستحلب الصبير, ونستخلب الخبير, ونستعضد البرير .... الحديث بطوله, وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومزقها وفرقها, وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر, وافجر لهم الثمد, وبارك لهم في المال والولد .... » الحديث, وفي آخره فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله, نراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره, ونحن بنو أب واحد, فقال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي, وربيت في بني سعد».

رواه عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري الحارثي كربزان, حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العذري, حدثنا شريك, عن العوام بن حوشب, عن الحسن, عن عمران بطوله نحوه, وتفرد به العذري.

ورواه أبو الشيخ, عن عبد الغفار بن أحمد الحمصي, حدثنا محفوظ ابن بحر, حدثنا الوليد بن عبد الواحد التيمي, أخبرني زهير بن معاوية, عن ليث, عن حبة العرني, عن حذيفة, قال: لما اجتمعت وفود العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لهم طهفة النهدي .... وذكره بمعناه.

وقال أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي: حدثني عمارة بن زيد الأنصاري – من الأوس من ساكني تيماء – حدثني إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق, حدثني يحيى بن عروة بن الزبير, عن عروة بن الزبير, عن زبان ابن قسور الكلفي, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو نازل بوادي الشوحط ومعه رجل دونه في هديه وسمته إذا كلم رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأطال أومأ إليه أن اقتصد, وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم

رجلاً سمعه وفهمه قول النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت لبعض أصحابه: من هذا؟ قالوا: هذا صاحبه الأخص, هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن لوباً – يعني: نحلاً – كان في عيلم له طرم وشرو فجاء رجل فضرب ميتين فأنتج حياً وكفنه بالثمام فنحس فطار اللوب هارباً, ودلي مشواره في العيلم فاشتار العسل فمضى به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون ملعون من سرق شرو قوم فأضر بهم, أفلا تبعتم أثره وعرفتم خبره», قال: قلت: يا رسول الله, دخل في قوم لهم منعة وهم جيرتنا من هذيل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صبرك صبرك ترد نهر الجنة, وإن سعته كما بين اللقيقة والسحيقة يتسبسب جرياً بعسل صاف من قذاه ما تقيأه لوب, ولا مجه نوب».

فقوله العيلم: هو في أحد معانيه الركية الكثيرة الماء, والعيلم – أيضاً – البحر فيما قاله الخليل.

والطرم: في بعض اللغات: العسل, وفي بعضها: الشهد, ويطلق – أيضاً – على الزبد, وعلى الكافور, والطرم أيضاً فيما قيل: ضرب من الشجر.

والشرو: القطع من الشهد.

والثمام: نبت ضعيف معروف له خوص أو شبهه.

والمشوار: الآلة التي يشتار بها العسل, واشتاره: اجتناه, وكذلك شاره وأشاره لغة.

والميتان: الزندان, ويقال: الزندتان عودان في أحدهما فروض وهي الثقب تقدح بها النار, فالتي فيها الفروض هي الأنثى, يقال لها: الزندة, وهي السفلى, والذي يقدح بطرفه الذكر, ويقال: الزند وهو العود الأعلى, والحي الذي أنتجه منها النار.

ونحس: دخن, والنحاس في أحد معانيه الدخان.

واللقيقة والسحيقة: موضعان متباينان بعداً.

ويتسبسب: يجري متواصلاً كأنه من السبب الذي يتوصل به إلى غيره, ومعناه على هذا جريه.

والنوب: النحل؛ لأنها ترعى وتنوب إلى مكانها, وقيل: لأنها تضرب إلى السواد, ومنه قيل للأسود: نوبي, ولوبي باللام أيضاً, وكذلك النحل يقال لها: لوبي كما في الحديث, واللوب فسر في الحديث بالنحل, واللوب جمع لوبة, وهي الحرة, وأيضاً جمع لائب وهو العطشان, ونحل لوب: أي عطاش.

وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا ابن جابر,

حدثني عروة بن محمد بن عطية السعدي, حدثني أبي أن أباه أخبره, قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من بني سعد بن بكر وكنت أصغر القوم, فخلفوني في رحالهم ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى حوائجهم, قال: «هل بقي منكم أحد؟», قالوا: يا رسول الله غلام منا خلفناه في رحالنا, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعثوني إليه, فأتوني فقالوا: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني, قال: «ما أغناك الله عز وجل فلا تسأل الناس شيئاً فإن اليد العليا هي المنطية واليد السفلى هي المنطاة وإن مال الله لمسئول ومنطى» قال: فكلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا.

ورواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا ابن جابر ... فذكر نحوه.

ورواه العباس بن الوليد بن مزيد, عن أبيه, عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بنحوه.

وجاء عن يونس بن عبد الأعلى: حدثنا ابن وهب, حدثني عاصم بن عبيد الله بن نعيم, عن أبيه, عن عروة بن محمد بن عطية السعدي, عن أبيه, عن جده: أنه قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من قومه من

ثقيف .. وذكر الحديث بنحوه.

ورواه حماد بن سلمة, عن رجاء أبي المقدام, عن إسماعيل بن عبيد الله, عن عطية – رجل من بني جشم بن سعد – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس, لا تسألوا فإن مال الله مسئول ومنطى».

وقال الباغندي الكبير محمد بن سليمان محمد بن الحارث: حدثنا أبو نعيم – يعني: ضرار بن صرد – حدثنا سعيد بن عبد الجبار الزبيدي الحمصي, عن منصور بن رجاء, عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر, عن عطية بن عمرو السعدي, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الناس شيئاً ومال الله مسئول ومنطى» قال: فكلمني بلغة قومي وهمز.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري, عن صفوان بن عبد الله, عن أم الدرداء, عن

كعب بن عاصم الأشعري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من ام بر أم صيام في ام سفر».

وهو في "معجم الطبراني" عن عبد الله بن أحمد, عن أبيه كذلك.

وكعب بن عاصم الأشعري من أصحاب السفينة في هجرتهم إلى الحبشة ثم منها إلى المدينة مع أبي موسى وأصحابه, وشهد فتح مصر، وتوفي بالشام, وهو من المقلين, له من الأحاديث دون العشرة: منها هذا الحديث, وهو على لغة حمير فإنهم والأشعريين منهم يقلبون اللام من أداة التعريف ميماً يقولون: هذا امرجل أي هذا الرجل, وهي لغة مشهورة باليمن وتسمى طمطمة حمير, ويحتمل – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك على لغة كعب بن عاصم الأشعري؛ ليخاطب كل قوم بما يعرفون, كما تقدم من كلامه؟.

وقد رواه على اللغة المشهورة الطبراني – أيضاً – فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, عن عبد الرزاق ولفظه: «ليس من البر الصيام في السفر».

تابعه يزيد بن زريع, عن معمر كذلك.

وخالف أصحاب معمر بن عبد الواحد بن زياد, فرواه عن معمر, عن الزهري, عن صفوان, عن أم الدرداء, قال: ولا أعلمه إلا عن أبي الدرداء, عن كعب.

وحدث به أحمد بن حنبل في "المسند": عن سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن صفوان, عن أم الدرداء, عن كعب.

تابعه علي بن حرب الطائي والحميدي, عن سفيان, زاد الحميدي في آخره, فقال: قال سفيان: وذكر لي أن الزهري كان يقول فيه – ولم أسمعه أنا: «ليس من ام بر ام صيام في ام سفر» وهي لغة.

تابعهما محمد بن الوليد الزبيدي, وأبو سلمة محمد بن أبي حفصة – واسمه ميسرة – وإبراهيم ابن أبي عبلة, وإسحاق بن راشد, وإسماعيل بن مسلم, وداود ابن أبي هند, وزياد بن سعد, وسليمان بن كثير, وابن جريج, وعقيل بن خالد, والليث بن سعد, ومالك بن أنس, ومكحول الأزدي، والنعمان بن راشد, ويونس بن يزيد وغيرهم عن الزهري دون زيادة الحميدي التي ذكرناها.

خالفهم قرة بن عبد الرحمن بن حيويل المعافري المصري فيما رواه عبد الله بن وهب المصري عنه, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن أم الدرداء عن كعب.

وقرة فيه لين.

$[تكلمه صلى الله عليه وسلم بالفارسية وغيرها]$

وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية وغيرها من اللغات الأمم:

قال بكار بن قتيبة: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير, حدثنا ذواد بن علبة الحارثي, عن الليث بن أبي سليم, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة اشكنب درد» قال: قلت: نعم يا رسول الله, قال: «قم فصل فإن في الصلاة شفاء» قال بكار: اشكنب درد؟: أتشتكي بطنك؟

هذا الحديث حدث به أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في "سننه": عن جعفر بن مسافر, عن السري بن مسكين, عن ذواد بن علبة بنحوه.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أسود بن عامر, حدثنا ذواد أبو المنذر, عن ليث, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما هجرت إلا وجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, قال فصلى ثم قال: «اشكنب درد؟» قال: قلت: لا, قال: «قم فصل فإن في الصلاة شفاء».

كذا وقع "قلت: لا" والمعروف في الحديث "قلت: نعم".

ورواه باللفظ المعروف أيضاً أبو نعيم الأصبهاني في "الطب" من حديث جبارة بن المغلس عن ذواد.

وله طرق مدارها على ذواد, ولا يحتج به.

وقد حدث به الصلت بن الحجاج, عن ليث – وهو ابن أبي سليم – فاتهم بسرقته من ذواد.

وقال أبو أحمد ابن عدي: حديث الصلت منكر. انتهى.

والحديث بذواد معروف, فمن حدث به عن غيره فقد سرقه, والله أعلم.

ولذواد بهذا الإسناد حديث آخر بمعناه متنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم يبنون حائطاً فقال: «بند بند لكسد».

وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأبي الدرداء رضي الله عنه ولا يصح كالذي قبله.

وفي الأحاديث الصحيحة غنية عن ذلك, فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية في قصة جابر رضي الله عنه يوم الخندق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما دعاه جابر إلى ذلك الطعام: «يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سوراً فحي هلا بكم». الحديث.

"سور" - بالضم غير مهموز -: الطعام أو الضيافة بالفارسية.

وبوب على ذلك البخاري في "صحيحه".

وتكلم أيضاً بلسان الحبشة في قوله صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد رضي الله عنها لما كساها تلك الخميصة وأراها علمها: «هذا سنه سنه» وفي رواية: «سناه سناه», وفي رواية: «سنا سنا».

قال القاضي عياض: كلها بالفتح والشد إلا عند أبي ذر فإنه خفف.

قال القاضي أبو الحسين عبد الباقي بن قانع: حدثنا إبراهيم بن

هاشم, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا خالد بن سعيد بن العاص, عن أبيه, عن خالد بن سعيد وكان من مهاجرة الحبشة هو وأخوه عمرو بن سعيد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاهم حين دنوا منه – وذلك بعد بدر بعام وجزعوا أن لا يكونوا شهدوا بدراً – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن يكون للناس هجرة ولكم هجرتان» ودخل خالد ومعه ابنته أم خالد وعليها قميص أصفر فراطنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبشية, فقال: «سنه سنه» أي: حسن حسن, وقال: «أبلي وتبقي».

روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أعرب العرب».

خرجه الطبراني في "معجمه الكبير".

$[فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته]$

وجاء عن علي بن الحسين بن واقد: حدثنا أبي, عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله, مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: «كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظنيها».

خرجه الحاكم في "مستدركه".

وقال عباد بن العوام: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أبيه قال رجل: يا رسول الله, ما أفصحك, ما رأيت الذي هو أعرب منك! قال: «حق لي, وإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين».

وقد كان صلى الله عليه وسلم من فصاحته وبيانه وقوة بلاغته بين أنصاره وأعوانه يسألونه عن معنى بعض كلامه فيجيب ويوضح لهم ما أشكل من الغريب.

قال عبد الله بن روح المدائني: أخبرنا شبابة بن سوار,, حدثنا الحسام ابن مصك, عن عبد الله بن بريدة, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفصح الناس, كان يتكلم بالكلام لا يدرون ما هو حتى يخبرهم.

وقال القاسم بن ثابت في "الدلائل": حدثنا علي بن عبدك, حدثنا العباس بن عيسى, حدثنا يعقوب بن عبد الوهاب الزبيري, حدثني محمد بن عبد الرحمن الزهري, عن أبيه, عن جده, قال: قال رجل من بني سليم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, الرجل يدالك أهله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إذا كان ملفجاً» قال: فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, ما قال لك, وما قلت له؟ قال: «قال لي: الرجل يماطل أهله»؟ قال: «فقلت: نعم إذا كان مفلساً» قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك, فمن أدبك؟ قال: «أدبني ربي, ونشأت في بني سعد».

وقال أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري في كتابه

 

#37#

"الحكم والأمثال" في ترجمة قوله صلى الله عليه وسلم: «مات حتف أنفه» قال: وقد روي عن علي رضي الله عنه نحو هذا, أخبرنا به ابن دريد, حدثنا عبد الأول بن مريد – بإسناد له – قال: قال علي رضي الله عنه ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول: «مات حتف أنفه» وما سمعتها من عربي قبله.

وحدث محمد بن إسحاق, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جاهد في سبيل الله, وأين المجاهدون؟» وأشار بيده يقللهم «فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته حية, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله» والله ما سمعت هذه الكلمة من أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو قتل بعصا فقد استوجب المآب».

رواه جرير, عن ابن إسحاق.

ورواه أبو الأصبغ عبد العزيز بن يحيى الحراني, والمعافى بن سليمان الجزري الرسعني, عن محمد بن سلمة, عن ابن إسحاق بنحوه.

ورواه أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبي, حدثنا

 

#38#

يزيد بن هارون, أخبرنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن إبراهيم, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات حتف أنفه» والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقد وقع أجره على الله».

وروي عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير, عن أبيه, عن جبير بن نفير, عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قالوا: يا رسول الله, وما عسله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه».

خرجه أبو محمد دعلج في "مسند المقلين": من حديث عبد الله بن يحيى.

وخرجه أيضاً من حديث موسى بن عبد الرحمن المسروقي, حدثنا زيد بن الحباب, عن معاوية بن صالح, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي, عن أبيه أنه سمع عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه (أنه) سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قيل: وما عسله, قال: «يفتح له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله وجيرانه».

 

#39#

تابعه عبد بن حميد فحدث به في "مسنده": عن زيد بن حباب العكلي وهو في "مكارم الأخلاق" للخرائطي: حدث به عن حميد بن الربيع الخزاز, حدثنا زيد بن الحباب .... فذكره, ولفظه: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قيل وما عسله؟ قال: «يحببه إلى جيرانه».

وحدث بنحوه عباس بن محمد الدوري، وقال عباس الدوري في "تاريخ يحيى بن معين" الذي ألفه: سمعت يحيى بن معين يقول: قال ابن مهدي، وقال أهل مصر في حديث معاوية بن صالح: «إذا أراد الله بعبد خيرا غسله»، لم يقولوا: «عسله».

قلت: الرواية بالمهملة وما سواه تصحيف, والله أعلم.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أبي تقي هشام بن عبد الملك الحمصي, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني محمد بن زياد الألهاني, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قيل: يا رسول الله وما عسله؟ قال: «يفتح الله له عملاً صالحاً ثم يقبضه عليه».

وقال أحمد بن عمير بن جوصا: حدثنا عمرو بن عثمان, وكتب ابن عبيد وابن حنان – يعني: محمد بن عمرو – وقالوا: حدثنا بقية بن الوليد, عن محمد بن زياد, عن أبي عنبة الخولاني, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا

 

#40#

أراد الله بعبد خيراً عسله» الحديث بنحوه.

أبو عنبة مختلف في صحبته, أدرك الجاهلية والإسلام, قيل: اسمه عبد الله.

 

#41#

$[عود إلى شرح حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه]$

*قال هند: "دمثاً ليس بالجافي ولا المهين":

فقوله: "دمثاً" أي لين الخلق سهله حسنه, وفسره بقوله: "ليس بالجافي ولا المهين".

و"الجافي": المعرض المتباعد عن الناس, وأصله من الجفاء وهو ترك الصلة والبر, وقيل: الجافي: الغليظ الخلقة والطبع. وقد جفا أصحابه يجفوهم إذا قاطعهم, أو خشن عليهم.

و"المهين" يروى بفتح الميم وهو المشهور وبضمها, وبالفتح: من المهانة وهي الحقارة والصغر, وبالضم: من الإهانة والإذلال والإطراح, أي لا يهين أحداً من أصحابه, أو من الناس.

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في تفسير: "ليس بالجافي ولا المهين" قال: لا يجفو الناس, ولا يهينهم.

 

#42#

وفي حديث علي رضي الله عنه قال: كان أجود الناس صدراً, وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثبت أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.

وحسن الخلق لفظ جامع للخصال الحميدة والآداب الشريفة, وكلها بكمالها كانت خلق نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وروي من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القرآن, يرضى برضاه ويسخط بسخطه.

وخرج مسلم في "صحيحه": عن سعد بن هشام بن عامر الأنصاري, عن عائشة رضي الله عنها أنه قال لها: يا أمير المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى, قالت: فإن خلف نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ... الحديث.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: "لم يخرجاه" فوهم.

 

#43#

وخرجه أبو داود والنسائي في "سننهما".

وعن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: القرآن.

خرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم".

وهو في "سنن النسائي" لجبير بن نفير مطول.

وقال أبو الشيخ في الكتاب: حدثنا عمرو بن نصير بن ثابت, حدثنا حميد بن مسعدة, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا أبو عمران الجوني, عن يزيد بن بابنوس قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين, ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, ثم قالت أتقرءون سورة المؤمنين؟ قلنا: نعم, قالت: أقرأه, فقرأت: {قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون . والذين هم لفروجهم حافظون} حتى بلغ {والذين هم على صلواتهم يحافظون} فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#44#

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» رواه سعيد بن منصور, حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن محمد بن عجلان, عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق».

ورواه مصعب, عن عبد العزيز.

قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي: حديث غريب من حديث أبي عبد الله محمد بن عجلان المدني, لا نحفظه إلا من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عنه.

قلت: تابعه يحيى بن أيوب, فقال: حدثني محمد بن عجلان, وذكر مثله, وهو في "مسند أحمد" وفي "مستدرك الحاكم", وقال: صحيح على شرط مسلم, وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بعض أخلاقه الشريفة في هذا الحديث – حديث هند رضي الله عنه وما يندرج فيه من ذلك في شواهده.

 

#45#

*قال هند: "يعظم النعمة وإن دقت":

أي: لا يستصغر ما أوتيه وإن كان صغيراً.

وحدث الشعبي عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعندك شيء»؟ فقلت: لا, إلا خبز يابس وخل, فقال: «يا أم هانئ ما أفقر بيت من أدم فيه خل».

وفي معناه ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أهدي إلي ذراع لقبلت, ولو دعيت إلى كراع لأجبت».

 

#46#

*قال هند: "لا يذم شيئاً غير أنه لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه":

وفي حديث علي رضي الله عنه: "كان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه".

"الذواق" – بالفتح – من قولهم: ما ذقت ذواقاً – بالفتح – أي شيئاً, والذواق: الذوق, يقال: ذاق الشيء ذوقاً: تعرف طعمه.

وقول هند هذا موافق لما في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط, إن اشتهاه أكله وإلا تركه.

وفيه أيضاً من حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب أحرام هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه».

وفي "مسند أحمد بن حنبل" من حديث جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً بعث فضله إلى أبي أيوب, فأتي يوماً بقصعة فيها ثوم فبعث بها, فقال: يا رسول الله, أحرام هو؟ قال: «لا ولكن أكره ريحه» قال: فإني أكره ما تكره.

وقول هند: "لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه" فسره أبو بكر محمد بن هارون الروياني فقال: يريد أنه كان لا يصف الطعام بطيب ولا فساد إن كان فيه.

 

#47#

قلت: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "ولا يمدحه" إذا قربه إلى ضيف ونحوه, وإلا فقد سأل صلى الله عليه وسلم أهله الأدم, فقالوا: ما عندنا إلا خل, فجعل يأكل منه ويقول: «نعم الأدم الخل» قاله جبراً لقلب أهله حين قربوا الخل إليه.

وقد صح من رواية أبي موسى الأشعري, وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

وورد مدحه صلى الله عليه وسلم للأشياء مما تذاق كاللبن والعسل والتمر واللحم تنبيهاً على فضل ذلك, والله أعلم.

*قال هند: "لا تغضبه الدنيا وما كان لها, فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له, لا يغضب لنفسه, ولا ينتصر لها":

شواهد هذا كثيرة, منها: ما صح عن مالك, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة, نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته, ثم قال: يا محمد, مر لي من مال الله

 

#48#

الذي عندك, فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء.

وفي رواية ثابتة أيضاً عن همام, عن إسحاق بن عبد الله, عن أنس قال: فجاذبه حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عكرمة بن عمار, عن إسحاق بنحوه, وعنده قال: ثم جبذه إليه – يعني: الأعرابي – جبذة, رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي.

وفي بعض طرقه عن أنس رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد, احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك, فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك, فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده», ثم قال: «ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟» قال: لا, قال: «لم؟» قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.

 

#49#

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله, وما ضرب بيده شيء قط إلا أن يجاهد في سبيل الله, وما ضرب خادماً ولا امرأة.

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في "أخلاق النبي صلىالله عليه وسلم ": من حديث علي بن زيد بن جدعان, عن سعيد بن المسيب, عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين فما سبني سبة قط, ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي, ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه, فإن عاتبني أحد من أهله قال: «دعوه, فلو قدر شيء كان»,

وقال كثير بن هشام: حدثنا جعفر, حدثنا عمران القصير, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين .... الحديث بنحوه.

ذكره أبو الفداء إسماعيل بن كثير – رحمه الله وإيانا – في كتابه "جامع المسانيد والسنن" في ترجمة عمران, عن أنس ثم قال: تفرد به.

وليس كذلك بل تابعه عليه سعيد بن المسيب كما قدمناه وغيره.

 

#50#

وقال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق": حدثنا نصر بن داود, حدثنا محمد بن بكار, حدثني أبو المليح الرقي, حدثني فرات بن سلمان, عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثماني سنين فما لامني على شيء يوماً يتوي على يدي, فإن لامني لائم, قال: «دعوه فإنه لو قضي شيء لكان».

وخرج – أيضاً – من حديث بدل بن المحبر: حدثنا عبد السلام – وهو ابن عجلان – سمعت ثابتاً البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سنة ما قال لي قط: ألا فعلت هذا, ولم فعلت هذا؟

قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة, إنه كما قال الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وقال: حدثنا علي بن حرب, حدثنا أبو مسعود, عن معمر, عن ثابت, عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما سبني سبة قط, ولا قال لي أف, ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته, ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته.

ورواه يونس بن محمد المؤدب, حدثنا سلام بن مسكين, سمعت ثابتاً, سمعت أنساً ... فذكره بنحوه.

 

#51#

وهو عند يزيد بن هارون, عن حميد, عن أنس بنحوه, وفي أوله قصة.

وله طرق غير ما ذكرنا: منها ما قال مسلم في "صحيحه": حدثني أبو معن الرقاشي – زيد بن يزيد – حدثنا عمر بن يونس, حدثنا عكرمة – وهو ابن عمار – قال: قال إسحاق: قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة, فقلت: والله لا أذهب, وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان [هم] يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك, فقال: «يا أنيس, ذهبت حيث أمرتك», قال: قلت: نعم, أنا أذهب يا رسول الله, قال [أنس]: والله لقد خدمته صلى الله عليه وسلم تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا, أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا.

وخرج أبو العباس الدغولي في كتاب "الآداب": عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين, وليس كل أمري ما يشتهي صاحبي ما قال لي: أف ولا تف, ولا قال: ما لك فعلت وما لك لم تفعل هذا.

وخرج أبو بكر ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" عن أنس رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعلمه عاب علي شيئاً قط.

 

#52#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت أبا إسرائيل, سمعت جعدة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: «لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك».

قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لم ترع, ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي».

جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي مولى أبي إسرائيل.

وروى هذا الحديث عبيد الله بن معاذ: حدثني أبي, عن شعبة بنحوه.

وخرج الإمام أحمد أيضاً من حديث الأعمش, عن يزيد بن حيان, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود, قال: فاشتكي لذلك أياماً فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا, فأرسل إليها من يجيء بها, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فاستخرجها فجاء بها فحللها, قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال, قال: فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط حتى مات.

وهو في "مسند أبي محمد عبد بن حميد", قال: حدثني أحمد بن

 

#53#

يونس, حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن يزيد بن حيان, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود, قال: فاشتكى فأتاه جبريل عليه السلام فنزل عليه بالمعوذتين, وقال: إن رجلاً من اليهود سحرك, والسحر في بئر فلان, قال: فأرسل علياً رضي الله عنه فجاء به قال: فأمره أن يحل العقد, ويقرأ آية, قال: فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال, قال: فما ذكر رسول الله صلىالله عليه وسلم  لذلك اليهودي شيئاً مما صنع به, ولا رآه في وجهه.

وجاء عن زيد بن أرقم بلفظ آخر:

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا موسى بن مسعود, حدثنا سفيان الثوري, عن الأعمش, عن ثمامة المحلمي, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: عقد رجل من الأنصار – يعني: للنبي صلىالله عليه وسلم  – عقداً, وكان يأمنه ورمى به في بئر كذا وكذا, فجاء الملكان يعودانه فقال أحدهما لصاحبه: تدري ما عقد له فلان الأنصاري, ورمى به في بئر كذا وكذا, ولو أخرجه لعوفي, فبعثوا إلى البئر فوجدوا الماء قد اخضر (فأخرجوه فرموا به) فعوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما حدث به ولا رؤي في وجهه.

وقال أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "الأخلاق الشريفة النبوية": حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سليمان بن قيس,

 

#54#

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة, قال: فرأوا من المسلمين غرة, فجاء رجل حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف, فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله» قال: فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف, فقال: «من يمنعك مني؟», فقال: كن خير آخذ قدر, قال: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟), قال: لا, غير أني لا أقاتلك, ولا أكون معك, ولا أكون مع قوم يقاتلونك, فخلى سبيله فجاء أصحابه, فقال: جئتكم من عند خير الناس.

أصل هذا مخرج في "الصحيحين", ولهذا علة قال البخاري في

 

#55#

"التاريخ": وروى أبو بشر, وقتادة, والجعد أبو عثمان, عن كتاب سليمان, ومات سليمان قبل جابر بن عبد الله.

 

#56#

*قال هند: "إذا أشار أشار بكفه كلها, وإذا تعجب قلبها, وإذا تحدث اتصل بها, وضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى":

هكذا في روايتنا من طريق أبي عيسى الترمذي.

وكذلك رواه أبو عبد الله محمد بن محمد بن جعفر الماليني, عن أبي علي أحمد بن محمد بن رزين, عن سفيان بن وكيع شيخ أبي عيسى.

وساقه القاضي عياض: من حديث موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين, عن آبائه, فقال في هذه اللفظة: "وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى".

ومعنى قوله "وإذا تحدث اتصل بها": أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بكفه إلى حديثه وما بعده يفسره.

*قال هند: "وإذا غضب أعرض وأشاح":

وفي رواية ابن عباس عن هند: وإذا خولف أعرض وأشاح: أي صرف وجهه صيانة له عما غصب منه, وقيل: مال وانقبض, وقيل: أشاح بالغ في الإعراض وجد فيه, والمشيح المبالغ في كل أمر, وأشاح لها معان: جد وبالغ, وعزم، وحاد وصدي, وإعراض النبي

 

#57#

صلى الله عليه وسلم حين غضبه وكراهيته للأمر أحد حالاته في الغضب.

وخرج أبو الشيخ ابن حيان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته. وقد قدمناه.

 

#58#

وقال الزاهد أبو بكر محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي في كتابه "المعاني": حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الفقيه, حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن علي, حدثنا أبو سفيان الغنوي, حدثنا أحمد بن الحارث, حدثتني أمي أم الأزهر, عن سدرة مولاة ابن عامر قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلىلمله عليه و     كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس صعداء, وقال: «حسبي الله ونعم الوكيل» فيعرف بذلك شدة غمه.

وخرجه القاسم بن ثابت في "الدلائل", فقال: وحدثونا عن أبي سفيان الغنوي .... فذكره بنحوه.

وجاء من طريق (سهل) مولى المغيرة بن أبي الغيث, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم

 

#59#

أدخل يده في لحيته.

وخرجه أبو نعيم في كتاب "الطب": من حديث سعيد بن أبي مريم: حدثنا رشدين بن سعد, حدثني عقيل, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم  كان إذا اهتم أكثر من مس لحيته ما أدري يقبض عليها أو يخللها.

وقال القاسم بن ثابت في "الدلائل": حدثنا عبد الله بن علي, حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا سعيد بن أبي مريم, أخبرنا رشدين, أخبرنا عقيل بن خالد, عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبر سعد بن معاذ وإن الدموع تجري على وجنته وهو قابض على لحيته.

وتقدم قول هند: "بينهما عرق يدره الغضب", وحديث أم سلمة رضي الله عنها كان إذا غضب احمر وجهه.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا الثوري, عن جابر, عن عامر, عن عبد الله بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه جوامع من التوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: مررت على حبر بني قريظة فكتبت جوامع من التوراة أعرضها عليك يا رسول الله, فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قبح الله

 

#60#

عملك أما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً, فسري [عن] النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: «والذي نفس محمد بيده, لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم لأنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من الأنبياء».

*قال هند: "وإذا فرح غض طرفه":

وهذه علامة لرضاه؟, وغض الطرف عند الفرح دليل على نفي البطر والأشر.

وقد صح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر.

وفي بعض ألفاظه: إذا سره الأمر استنار وجهه كأنه دارة القمر.

 

#61#

وفي "الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه.

الأسارير: خطوط الجبهة, وهو جمع الجمع الذي هو أسرار، واحدها سر وسرر.

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم: حدثنا أبو الحكم يزيد بن عياش [بن الحكم بن يزيد بن عياض] حدثني جدي, عن أبيه، عن الزهري, عن سالم [عن أ] بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف رضاه وغضبه بوجهه, كان إذا رضي فكأنما تلاحك الجدر وجهه .... وذكر الحديث.

قال ابن أبي عاصم: سمعت أبا الحكم الليثي يقول: هي – يعني: "تلاحك الجدر" – المرأة توضع في الشمس فيرى ضوؤها على الجدار.

*وقال هند: "جل ضحكه التبسم":

التبسم: ضحك ليس بالشديد, وقيل هو أقل الضحك وأدناه.

خرج الترمذي في "جامعه" من حديث الليث بن سعد, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً.

وقال: هذا حديث صحيح غريب.

وخرجه أيضاً في "جامعه" و "الشمائل", والإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث جابر بن سمرة قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يضحك إلا تبسماً.

وصح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم.

وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضحكاً حتى أرى لهواته, إنما كان يتبسم.

قولها: "لهواته" جمع لهاة بفتح اللام, ولم يذكر ابن فارس في "مجمله" في جمع لهاة سوى لهى.

و"اللهاة" اللحمة المشرفة على الحلق, وذكر الأصمعي أنها لحمة حمراء معلقة في أعلى الحنك على عكرة اللسان, وقيل اللهاة أقصى الفم.

وقول عائشة: "حتى أرى لهواته" وإنما هي لهاة واحدة هو من مجاز المجاورة, كأنها أطلقت اللهوات على اللهاة وما حولها كقولهم: مذاكير لما يلي الذكر, والله أعلم.

وقد قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا": ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على التبسم.

قلت: قد صح ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المجامع أهله في نهار رمضان, قال في آخره: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.

وفي لفظ في "الصحيح" أيضاً: قد بدت أنيابه.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض خبزة واحدة يتكفؤها الجبار عز وجل بيده كما تكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة» فأتاه رجل من اليهود, فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: «بلى» قال: تكون

الأرض خبزة واحدة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه .... الحديث.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً: رجل يخرج من النار حبواً) ... وذكر الحديث, وفيه قال: «إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا, فيقول: أتسخر بي, أو أتضحك مني وأنت الملك» قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.

والأحاديث في ذلك كثيرة, والجمهور على أن المراد بالنواجذ هنا: الأنياب, وقيل: الضواحك, وقيل: الأضراس, وهذا على الخلاف في النواجذ لغة, فالناجذ السن بين الضرس, والناب أواخر الأضراس وهو ضرس الحلم لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل وللإنسان أربعة نواجذ, وقيل: الأضراس كلها نواجذ, واستدلوا بقول الشماخ:

نواجذهن كالحداء الوقيع

وقال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة": حدثنا أحمد بن داود, عن أبي زيد قال: للإنسان أربع ثنايا وأربع رباعيات, الواحدة رباعية مخففة, وأربعة أنياب وأربع ضواحك, واثنا عشر رحى ثلاث في كل شق, وأربعة نواجذ وهي أقصاها.

وقد قيل: التبسم هو أول الضحك, وآخره بدو النواجذ, وقيل: يكون معه القهقهة, وعلى كل حال من الأقوال إن بدو النواجذ في

الضحك زيادة على التبسم, وكان هذا نهاية ضحكه صلى الله عليه وسلم ولم يكن بقهقهة.

وحدث حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري – وتكلم فيه – عن جدته عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة, سألت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه؟ قالت: كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان أكرم الناس, وأحسن الناس خلقاً, وكان ضاحكاً بساماً.

رواه أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي, فقال: حدثنا محمد بن خليل المخرمي, حدثنا أبو بدر, عن حارثة بن محمد ... فذكره بنحوه.

تابعة يعلى بن عبيد, عن حارثة, وأبو بدر شجاع بن الوليد بن قيس السكوني.

قال الخطيب البغدادي: هذا حديث غريب من حديث عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية, عن عائشة أم المؤمنين, لا أعلم رواه عنها إلا ابن ابنها حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة

رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضحك الناس وأطيبه نفساً.

وحدث به ابن أبي الدنيا في كتابه "مداراة الناس": عن محمد بن سهل التميمي, عن سعيد بن أبي مريم, عن يحيى بن أيوب به, وفي لفظه: من أضحك الناس وأطيبهم نفساً.

وقال في الكتاب المذكور أيضاً: حدثنا علي بن حرب الطائي, حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن ابن لهيعة, عن عمارة بن غزية, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.

$[مطلب فيما يفعله نساء الزمان إذا اجتمعن بلطخ وجوههن بالعدس المطحون، له أصل كما تراه مروياً عن عائشة رضي الله عنها  ]$

وقال أيضاً: حدثنا المؤمل بن هشام, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن محمد بن عمرو, عن يحيى بن عبد الرحمن, قال: قالت عائشة رضي الله عنها دخلت على سودة بنت زمعة فجلست ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها وقد صنعت خزيرة فجئت بها فقلت: كلي, فقالت: ما أنا بذائقتها, قالت: قلت: والله لتأكلين منها أو لألطخن منها بوجهك, قالت: ما أنا بذائقتها, فتناولت منها شيئاً فمسحت بوجهها فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك وهو بيني وبينها, فتناولت منها شيئاً لتمسح بها وجهي, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفض عنها ركبته – وهو يضحك – لتستقيد مني فأخذت شيئاً فمسحت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.

وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا وكيع, عن زمعة بن صالح, عن الزهري, عن وهب بن عبد بن زمعة, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر رضي الله عنه في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام, وخرج معه نعيمان وسويبط بن حرملة وكانا شهدا بدراً وكان نعيمان على الزاد فقال له سويبط – وكان رجلاً مزاحاً -: أطعمني. قال: حتى يجيء أبو بكر. قال: أما إني لأغيظنك.

قال: فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم, قال: فإنه عبد وله كلام, وهو قائل لكم: إني حر, فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي. قالوا: بل نشتريه منك. قال: فاشتروه بعشرة قلائص. قال: فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة (وحبلاً), فقال نعيمان: [إن هذا] يستهزئ بكم وإني حر لست بعبد. قالوا: قد أخبرنا بخبرك. قال: فانطلقوا به فجاء أبو بكر فأخبروه فاتبعهم فرد عليهم القلائص وأخذه, فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه فضحك النبي صلى الله عليه وسلم منهما هو وأصحابه حولاً.

وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذه الضحك

 

#68#

وضع يده على فيه.

وأما ما قال أبو الشيخ ابن حيان: أخبرنا أحمد بن موسى الأنصاري, أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي, أخبرنا عبد الله بن صالح, أخبرنا الليث, حدثني جرير بن حازم, عن الحسن – يعني: ابن عمارة – عن سلمة بن كهيل, عن عبد الرحمن هو ابن شبابة, سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أتاني ثلاثة نفر يختصمون في غلام من امرأة وقعوا عليها جميعاً في طهر واحد كلهم يدعي أنه ابنه, فأقرعت بينهم فألحقته بالذي أصابته القرعة, ونصيبه لصاحبيه ثلثاً دية الحر فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فضحك حتى ضرب برجليه الأرض, ثم قال: «حكمت فيهم بحكم الله تعالى» أو قال: «لقد رضي الله عز وجل حكمك فيهم» فهذا حديث لا يعتد به.

والحسن بن عمارة بن مضرب الكوفي رماه شعبة بالكذب والوضع.

وقال الحافظ زكريا الساجي: أجمعوا على ترك حديثه.

وخرج نحو هذه القصة أبو داود في "سننه" فقال: حدثنا خشيش بن

 

#69#

أصرم, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوري, عن صالح الهمداني, عن الشعبي, عن عبد خير, عن زيد بن أرقم قال: أتى علي رضي الله عنه بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد, فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا, حتى سألهم جميعاً فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا, فقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة وجعل عليه ثلثي الدية, قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه.

وقال: حدثنا عبيد الله بن معاذ, حدثنا شعبة, عن سلمة, سمع الشعبي, عن الخليل أو ابن الخليل قال: أتي علي بن أبي طالب رضي الله في امرأة ولدت من ثلاثة ... نحوه, لم يذكر اليمن ولا النبي صلى الله عليه وسلم ولا قوله: طيباً بالولد.

وقد ذكره الشافعي من بلاغاته, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل, سمعت الشعبي يحدث عن أبي الخليل أو ابن الخليل: إن ثلاثة نفر اشتركوا .... وذكر الحديث بنحوه, فقد تختلف في إسناده ورفعه.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" ولم يذكر اللفظة المنكرة التي في حديث الحسن بن عمارة: "فضحك حتى ضرب برجليه الأرض".

وقال الحاكم: أخبرني علي بن محمد بن دحيم الشيباني, حدثنا أحمد بن حازم الغفاري, حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي, حدثنا

 

#70#

الأجلح, عن الشعبي, عن عبد الله بن الخليل, عن زيد بن أرقم: أن علياً رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فارتفع إليه ثلاثة يتنازعون ولداً, كل واحد يزعم أنه ابنه, قال: فخلا باثنين فقال: أتطيبان نفساً لهذا الباقي بالولد؟ قالا: لا, وخلا باثنين فقال لهما مثل ذلك, فقالا: لا, فقال: أراكم شركاء متشاكسين وأنا مقرع بينكم, فأقرع بينهم فجعله لأحدهم وأغرمه ثلثي الدية للباقين, قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه.

قال الحاكم عقب هذا: قد أعرض الشيخان رضي الله عنهما عن الأجلح بن عبد الله الكندي أصلاً, وليس في رواياته بالمتروك, فإن الذي ينقم عليه به مذهبه.

قلت: مذهبه شيعي معدود في شيعة الكوفة يقال اسمه يحيى فيما ذكره البخاري في "تاريخه الكبير" والأجلح لقب وكنيته أبو حجبة, روى عنه الثوري وابن المبارك وغيرهما.

ورواه يحيى بن سعيد القطان, عن الأجلح متابعة لأبي غسان النهدي, خرجه أبو داود, عن مسدد, حدثنا يحيى .. فذكره.

 

#71#

*وقال هند: "ويفتر عن مثل حب الغمام":

وفي رواية ابن عباس عن هند: "ويتبسم" مكان "ويفتر" وهما بمعنى واحد, أفتر الرجل تبسم حكاه الزبيدي في "مختصر العين" وأصله من فررت عن سن الدابة فراً إذا كشفت شفتها لتعرف مقدار سنها. وفي "غريب المصنف" لأبي عبيد عن بعضهم: الافترار الضحك الحسن.

وحب الغمام هو البرد. وورد: يفتر عن مثل سنا البرق, والسنا – بالقصر ضوء البرق. وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه, وأنه كان أشنب الأسنان. وفي حديث أم معبد: "وإن تكلم سما وعلاه البهاء".

*قال الحسن رضوان الله عليه: فكتمتها الحسين بن علي رضي الله عنهما زماناً: يعني: الصفات الشريفة التي ذكرها له هند رضي الله عنه.

*قال: ثم حدثته فوجدته قد سبقني فسأله عما سألت عنه, ووجدته قد سأل أباه عن مدخله صلى الله عليه وسلم ومخرجه – وفي رواية: ومجلسه وشكله – فلم يدع منه شيئاً.

المراد بشكله هنا سيرته وطريقته – ذكره بعضهم – و"الشكل": المثل يقال: فلان شكل فلان أي مثله في حالاته قال الله تعالى: {وءاخر من شكله أزواج}.

 

#72#

$[حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نعت النبي صلى الله عليه وسلم]$

*قال الحسن: قال الحسين: فسألت أبي رضي الله عنهم عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك".

هذا أول حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي رواه عنه ولده الحسين رضي الله عنهما وعنده انتهى وصف هند رضي الله عنه.

لكن الحديث كله يعرف بهذا, ولهذا والله أعلم وهم فيه من وهم من نسبة كلام علي رضي الله عنه إلى هند رضي الله عنه على ما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.

وغفل عنه أبو القاسم ابن عساكر فلم يذكره في "الأطراف" في حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

واستدركه الحافظ أبو الحجاج المزي فذكره في جملة أحاديث الحسين عن أبيه رضي الله عنهما فأجاد, والله أعلم.

*وقول علي رضي الله عنه "مأذوناً له":

يحتمل أن دخوله صلى الله عليه وسلم كان بإذن ربه عز وجل كما كانت أحواله كلها لله عز وجل

 

#73#

وبأمر الله عز وجل ويحتمل أنه كان يستأذن في دخوله فيؤذن له فيدخل, والله أعلم.

*قال علي: رضي الله عنه: "وكان إذا أوى إلى منزله":

يقال: أوى الإنسان إلى منزله – بالقصر – يأوي أوياً: رجع, وحكي: يأوي إواء, وأويته أنا بالمد أويه إيواء, وهذا هو الأفصح فيها, وبه جاء القرآن وحكي في كل منهما اللغتان.

*قال علي رضي الله عنه: "جزأ دخوله ثلاثة أجزاء":

أي قسمه ثلاثة أقسام بحيث إنه صلى الله عليه وسلم لم ير فارغاً في بيته.

وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن شمعون: حدثنا أبو بكر المطري – يعني: محمد بن جعفر – حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد, حدثنا بشر بن مهران, حدثنا محمد بن دينار, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رفع للنبي صلى الله عليه وسلم قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء, ولا اتخذ من شيء زوجين ولا قميصين ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال ولا رؤي قط فارغاً في بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوباً لأرملة.

 

#74#

وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا يعمر بن بشر, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا الحجاج بن فرافصة, عن عقيل, عن ابن شهاب: أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت وأكثر ما يعمل الخياطة.

*قال علي رضي الله عنه: "جزء لله, وجزء لأهله, وجزء لنفسه":

فجزء الله عز وجل يخلو فيه بمناجاة الله وعبادته من صلاة أو تلاوة أو ذكر أو استغفار أو تفكر وما أشبه ذلك من أنواع العبادات, وإلا فقد كانت أوقاته كلها لله ومعمورة بذكر الله تعالى وأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وإن كان منها دنيوي فهي ملتحقة بالأخروية التي هي لله عز وجل, صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عمرو بن عطار, عن نعيم المجمر, عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فما أزال أسمعه يقول: «سبحان الله, سبحان الله وبحمده» حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد .... الحديث.

 

#75#

ربيعة بن كعب هو ابن مالك الأسلمي أبو فراس, وسيأتي – إن شاء الله تعالى – ذكره في خدام النبي صلى الله عليه وسلم الأحرار.

وأما جزء أهله فهو الوقت الذي يصحبهن فيه ويعاشرهن ويعمل مصالحهن الأخروية والدنيوية, فكان صلى الله عليه وسلم هاديهن ومعلمهن ومؤدبهن وقائماً بحقوقهن مما يحتجن إليه حتى كان يدخر لهن نفقة سنة, صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم.

قال أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يشبع من خبز بر مرتين, وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنتهم كيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة فتنزل به النازلة فيقسمه فيبقى بلا شيء.

وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله.

 

#76#

وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لكل من نسائه يومها وليلتها خلا ملك اليمين, وتارة يطوف على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار, وهن إحدى عشرة, كما رواه هشام الدستوائي, عن قتادة, عن أنس.

وروى سعيد, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة.

وجمع بين هذا الحديث والذي قبله ابن حبان في "صحيحه" بأن أنساً حكى ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة حيث كان تحته إحدى عشرة نسوة, وخبر سعيد أنه حكاه أنس في آخر قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة؛ لأن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم كان مراراً كثيرة لا مرة واحدة.

 

#77#

وهذا غلط من ابن حبان رحمه الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده إحدى عشرة زوجة في وقت قط, بل وجه الجمع والله أعلم أن قوله "إحدى عشرة" بالتسع اللاتي توفي عنهن وريحانه ومارية سريتيه, وأن قوله: "وله يومئذ تسع نسوة" أراد به الزوجات فقط, والله أعلم.

وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين.

وقال صفوان بن سليم: أعطي قوة أربعين رجلاً في الجماع.

وكذا روي عن معمر, عن ابن طاووس, عن أبيه.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث سويد بن عبد العزيز, عن المغيرة بن قيس, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت قوة أربعين في البطش والنكاح ... » الحديث.

وقال الزبير بن بكار في كتابه "ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم": حدثني محمد بن حسن، عن حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد، عن صفوان بن سليم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيني جبريل عليه السلام بقدر فأكلت

 

#78

منها فأعطيت الكفيت وقاع أربعين رجلاً»

وقال: حدثني محمد بن حسن, عن مالك بن أنس, عن رجل من آل أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي من الجماع ما شاء الله تعالى فلما كانت الليلة التي أعطي فيها ما أعطي طاف على سائه, فكلما فرغ من امرأة اغتسل .... الحديث.

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد.

وفي رواية: "وله يومئذ تسع نسوة".

وحديث معمر, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أصب لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من نسائه أجمع.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أهله ويعود, ولا يمس ماء. خرجه الإمام أحمد في "مسنده".

 

#79#

وخرج أيضاً عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في يوم فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه, فقيل: يا رسول الله, لو جعلت غسلاً واحداً, قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر».

وخرجه أبو داود وقال: حديث أنس أصح من هذا.

وخرجه النسائي وابن ماجه.

وروي نحوه عن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم رواه الواقدي: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع, عن أبيه, عن جدته سلمى – مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه ليلة التسع اللاتي توفي وهن عنده, وكلما خرج من عند امرأة قال لسلمى: «صبي لي غسلاً» فيغتسل قبل أن يأتي الأخرى, قلت: يا رسول الله, أما يكفيك غسل واحد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أطهر وأطيب».

وفي بعض طرقه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف في ليلة على نسائه, ويغتسل من كل واحدة غسلاً, فسئل عن ذلك, فقال: «إنه أذكر», قال أبو عبيد: يعني: أنه أحد. انتهى.

مأخوذ من رهبت ذكرة السيف والرجل أي حدتهما.

 

#80#

وذكر أبو نعيم في كتاب "الطب النبوي": أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها من الرمد، هذا مع استناره وغض بصره عند الجماع.

وخرج الترمذي في "الشمائل" من حديث منصور، عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن مولى لعائشة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.

وخرجه أحمد في "مسنده" وابن ماجه في "سننه" من حديث منصور هو ابن المعتمر.

وقال ابن ماجه عن شيخه أبي بكر ابن أبي شيبة، قال أبو بكر: كان أبو نعيم يقول: عن مولاة لعائشة. انتهى.

ورواه بركة بن محمد الحلبي، عن يوسف بن أسباط، عن الثوري، عن محمد بن جحادة، عن قتادة، عن أنس: أن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت عورة رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.

 

#81#

وحدث به أحمد بن عبد الله بن شابور، عن بركة بنحوه، إلا أنه جعل مكان "الثوري": "حماد بن سلمة".

وبركة الحلبي كذاب يضع الحديث، قاله الدارقطني، وبركة لقبه، واسمه حسين.

وخرج أبو الشيخ ابن حبان قال: أخبرنا أبو يعلى، أخبرنا مجاهد ابن موسى، أخبرنا محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا كامل أبو العلاء، عن أبي صالح أراه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه إلا متقنعا يرخي الثوب على رأسه، وما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه مني.

وخرجه القاضي أحمد بن علي بن سعيد المروزي في كتابه "مسند عائشة رضي الله عنها" فقال: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي .. فذكره بنحوه.

وإسناده واه، الأسدي كذبه أحمد بن حنبل وغيره، وشيخه كامل

 

#82#

ضعيف جدا.

وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب من حديث منصور بن عمار، حدثني معروف أبو الخطاب، سمعت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه سمعت أم سلمة رضي الله عنها تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى امرأة من نسائه غمض عينيه وقنع رأسه الحديث، وهو حديث منكر، ومعروف بالمناكير معروف.

وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه.

وخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".

وقال أبو أحمد ابن عدي: لا أعلم لا رواه غير الكديمي، وقد اتهم بوضع الحديث.

 

#83#

قلت: ورواه إبراهيم بن راشد فقال: حدثنا علي بن حبان الحوري، حدثنا سفيان الثوري.. فذكره بنحوه.

ومع قيامه صلى الله عليه وسلم بحقوقهن وبكسبه لنفقاتهن لم يشغلنه عن الله عز وجل بل فيما خرجه النسائي في "سننه" من حديث عفان بن مسلم، عن سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة».

تابعه علي بن الجعد، عن سلام بن سليمان هو أبو المنذر القارئ البصري.

ورواه النسائي أيضا من حديث سيار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس مرفوعا به، ولفظه: «حبب إلي النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة».

ورواه أبو كامل الجحدري، عن سلام، عن ثابت، عن أنس.

وسلام هذا غير الأول هو ابن أبي الصهباء البصري الفزاري،

 

#84#

وكنيته أبو المنذر أيضا.

وبعضهم يروي هذا الحديث «حبب إلي من ديناكم ثلاث» وهو غلط ليس فيه "ثلاث"؛ لأن الصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها، فكان النساء والطيب أحب شيء إليه صلى الله عليه وسلم.

 

#85#

قال القاضي عياض: وكان حبه لهاتين الخصلتين - يعني: النساء والطيب – لأجل غيرته وقمع شهوته، وكان حبة الحقيقي المختص بذاته صلى الله عليه وسلم في مشاهدة جبروت مولاه ومناجاته، ولذلك ميز بين الحالين وفصل بين الحالين فقال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». انتهى.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» اخبر أن في الصلاة ما تقر به عينه، ولم يقل) وجعلت قرة عيني الصلاة. والصلاة هي صلاته صلى الله عليه وسلم لله عز وجل هذا هو المشهور عند الجمهور.

وقيل: المراد بالصلاة: صلاة الله عليه في قول عز وجل: {إن الله وملائكة يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. الآية، والله أعلم.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا زكريا بن إبراهيم، (عن إبراهيم) عن أبيه، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصبنا من دنياكم هذه إلا نساءكم».

تفرد به ابن أبي فديك، قاله الطبراني.

وحدث به أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" عن إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن الوليد بن برد، حدثنا ابن

 

#86#

أبي فديك، عن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه قال:

سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعطيت من دنياكم هذه إلا نساؤكم».

وقال ابن سعد في "الطبقات" أخبرنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو بشر صاحب البصري، عن يونس، عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحببت من عيش الدنيا إلا الطيب والنساء».

وقال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: ما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عيش الدنيا إلا النساء والطيب.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجل حدثني عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلىملله عليه وس    يعجبه من الدنيا ثلاثة: الطعام، والنساء، والطيب، فأصاب ثنتين ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام.

*وأما جزء نفسه صلى الله عليه وسلم بل قال علي رضي الله عنه في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "ثم جزء جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا".

 

#87#

أي يعتمد على أن الخاصة ترفع إلى العامة علومه، قاله ابن الجوزي.

وقيل: يجعل منه جزءا للخاصة، ثم يشتركون مع العامة في جزئها.

وقيل: يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة.

وفسره أبو بكر محمد بن هارون الروياني فقال: يريد أن العامة كانت لا تصل إليه في منزله في هذا الوقت، ولكنه كان يوصل إليها حظها من ذلك الجزء بالخاصة التي تصل إليه فتوصله إلى العامة.

*قال علي رضي الله عنه: "فكان من سيرته صلى الله عليه وسلم في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه":

أي يؤثر بالإذن في الدخول عليه أهل الفضل.

 

#88#

قال علي رضي الله عنه: "وقسمه على قدر فضلهم في الدين فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول: «ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانا حاجه من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة» "لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره".

هذا صفة دخول الخاصة عليه وقسمته بينهم على مراتبهم في الفضل لديه، وكيف كان يشتغل بقضاء حوائجهم تامة ويشغلهم بما به صلاحهم خاصة وصلاح الأمة عامة من الموعظة والتذكير، والتخويف، والتحذير والترغيب، والترهيب، والحث على تبليغ الغائب، وإبلاغ حاجه الجائع واللائب، ليس يذكر عنده سوى ما ورد، ولا يقبل غيره من أحد.

قال أحمد بن عمير بن يوسف بن جوصا: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن ابن عبد الله بن يزيد بن تيم، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، أخبرني أبو زرعة يحيى بن [أبي] عمرو السيباني، حدثني عمرو بن عبد الله الحضرمي أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع قال: خرجت مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم

 

#89#

أقبل الناس بين خارج وقائم فجعل رسول الله صلىالله عليه وسلم  لا يرى قاعدا إلا دنا إليه فسأله: «هل لك حاجة»؟ فبدأ بالصف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث حتى دنا إلي فقال: «ألك حاجة»؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما حاجتك؟» قلت: الإسلام، قال: «هو خير لك» الحديث بطوله.

*قال علي رضي الله عنه: "يدخلون روادا":

أي محتاجين طالبين يقال: راد الشيء روادا وارتاده: طلبه، فهو رائد، وجمعه رواد يقال: بعثنا رائد يرود لنا الكلأ أي ينظر ويطلب، ورواد هنا مثل لما يلتمسون عنده صلى الله عليه وسلم من العلم والنفع في دينهم ودنياهم، ذكره أبو بكر الروياني.

*قال علي رضي الله عنه: "ولا يتفرقون إلا عن ذواق":

قيل: الذواق هنا ما يقدم للضيف مما يعد ذواقا، وهذا من بعض جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقري الضيف وهذه كانت صفته قبل الإسلام، كما قالته خديجة رضي الله عنها وصفته في الإسلام كما هو المعروف من سيرته قبل وبعد.

قال سويد بن سعيد الحدثاني: حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا

 

#90#

نوح بن ذكوان، عن أخيه أيوب بن ذكوان، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم عن الأجود الأجود، الله الأجود الأجود، وأنا أجود ولد آدم» الحديث.

وقال أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ: حدثنا عبد الرحيم بن عبد الباقي بحلب، حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، حدثنا خالد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني: ابن أبي خالد – عن بيان - يعني ابن بشر عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان أكرم الناس. وقيل: قوله "عن ذواق" عن معرفة استفادوها، وعلم تعلموه، وهذا أشبه؛ لأنه قال بعده: ويخرجون أدلة.

 

#91#

ويحتمل أنهم كانوا يتفرقون عن الأمرين جميعا، والأحاديث الصحيحة جاءت بذلك صريحة.

حدث الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فحلبنا له من شاة داجن، وشيب له من بئر في الدار، وأعرابي عن يمينه، وأبو بكر عن يساره، وعمر تجاهه، فشرب رسول الله صلىالله عليه وسلم  فقال عمر: أعط أبا بكر، فناول الأعرابي، وقال: «الأيمن فالأيمن».

وخرج أبو الشيخ ابن حيان من حديث يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه فقالوا: يا رسول الله، لو شربت، فقال: «ساقي القوم آخرهم».

*ومعنى قوله: "ويخرجون أدلة" أي يدلون الناس على الخير الذي تعلموه منه صلى الله عليه وسلم في دخولهم عليه.

وري: "ويخرجون أذلة" – بالذال المعجمة - بدل المهملة، أي يخرجون من عنده بما سمعوه وتعلموه متواضعين متخشعين كما في قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين}.

 

#92#

*قال الحسين رضي الله عنه: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟

(تنبيه تقدم الوعد به)

هذا الفصل مما وهم فيه أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا" وقبله أبو الفضل عياض في كتابه "الشفا" فجعلاه من كلام هند بن أبي هالة رضي الله عنه.

أما ابن الجوزي، فروى في باب مخالطته صلى الله عليه وسلم الناس وهو الباب الرابع والعشرون من أبواب آدابه وسمته وهديه صلى الله عليه وسلم بإسناده إلى الترمذي في "الشمائل": أخبرنا سفيان بن وكيع، حدثني جميع، حدثني أبو عبد الله التميمي، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان يخزن لسانه ... وذكر الحديث.

وإنما هذا الوصف من كلام علي (بن أبي طالب) رضي الله عنه كما تقدم, سأله عنه ولده الحسين رضي الله عنهما وهو مبين في سياق الحديث.

وقد قطعه الترمذي في أماكن منها أنه ذكر طرفاً منه إلى قوله: "يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر" ثم قال: فذكر الحديث بطوله.

قال الحسن: فكتمتها الحسين زماناً, ثم حدثته, فوجدته قد سبقني إليه, فسأله عما سألته عنه, ووجدته قد سأل أباه عن مدخله وعن مخرجه وشكله فلم يدع منه شيئاً. قال الحسين: فسألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#93#

وذكر أبو عيسى بقية الحديث من مدخله ومخرجه ومجلسه.

وأما القاضي عياض فقال في فصل حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلى الله عليه وسلم: وكان صلى الله عليه وسلم يؤلفهم ولا ينفرهم ويكرم كريم كل قوم, وذكره إلى قوله: وصاروا عنده في الحق سواء, ثم قال: بهذا وصفه ابن أبي هالة, ثم قال القاضي (عياض): قال: وكان دائم البشر سهل الخلق .... وذكر بقيته.

وهذا وهم بين وغلط ظاهر لم أر أحداً تعرض له, ولا نبه.

وقد وهم قبلهما في ذلك الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتابه "طرق حديث نزول الرب عز وجل" فقال فيه: فكان كلامه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – مع الناس على قدر معرفتهم, وينزل الناس منازلهم في العلم والمعرفة فكان يكلم كل قوم بلغتهم, وكان كما وصفه هند ابن أبي هالة للحسن بن علي رضي الله عنهم حين استوصفه عن مدخله ومجلسه فقال: كان جزأ نفسه ثلاثة أجزاء: جزءاً لله عز وجل وجزءاً لأهله, وجزءاً لنفسه.

وهذا ليس من وصف هند للحسن رضي الله عنهما بل من وصف علي لولده الحسين رضي الله عنهما بيناه قبل, ولله الحمد.

*قال علي رضي الله عنه حين سأله ابنه الحسين رضي الله عنه عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصنع فيه فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه»:

 

#94#

وفي رواية: "إلا فيما يعنيهم".

تقدم قول هند: "ولا يتكلم في غير حاجة".

وحدث أبو داود في "سننه" عن محمد بن يحيى بن فارس, عن محمد بن يوسف الفريابي, عن إسرائيل, عن الوليد – قال أبو داود: ونسبه لنا زهير بن حرب – عن حسين بن محمد, عن إسرائيل في هذا الحديث قال: الوليد ابن أبي هشام, عن زيد بن زائد.

عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».

وخرجه الترمذي عن محمد بن يحيى هذا به, ومن طريق عبيد الله بن موسى, وحسين بن محمد, عن إسرائيل, عن السدي, عن الوليد بن أبي هشام به, وقال: غريب من هذا الوجه.

ومن أفعاله صلى الله عليه وسلم في مخرجه: أنه كان يتبدى إذا اخضرت الأرض, قال أبو حنيفة – صاحب كتاب "النبات" -: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتبدى إذ هو بمكة قبل كثرة الأشغال ومقاساة أعباء الرسالة والنهوض بها, إذا اخضرت الأرض فأعشبت.

وهذا الذي قاله أبو حنيفة جاءت ببعضه الرواية, وذلك فيما رواه

 

#95#

إبراهيم بن سعد الزهري, عن شريك, عن بريد, عن أبي بردة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبدى.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا ابن نمير, حدثنا شريك, عن المقدام بن شريح الحارثي, عن أبيه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدو؟ قالت: نعم, كان يبدو إلى هذه التلاع, فأراد البداوة مرة فأرسل إلى نعم من إبل الصدقة فأعطاني منها ناقة محرمة, ثم قال: «يا عائشة, عليك بتقوى الله عز وجل والرفق؛ فإن الرفق لم يك في شيء قط إلا زانه, ولم ينزع من شيء قط إلا شانه».

وحدث به أبو داود في "سننه" عن أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزار، عن شريك بنحوه.

وقال أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأديب: حدثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي, حدثنا سعيد بن سيف الكريزي, عن سفيان بن عيينة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم بدى.

 

#96#

غريب المتن والإسناد:

وجاء من رواية الحسن بن عمرو بن سيف, عن القاسم بن مطيب, عن منصور بن صفية, عن أبي معبد, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن ينظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري.

وخرجه أبو نعيم في "الطب النبوي".

*قال علي رضي الله عنه: "ويؤلفهم ولا ينفرهم":

وفي رواية "ولا يفرقهم":

صح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.

ومن تأليفه صلى الله عليه وسلم ما حدث به إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا عبد الرحمن بن محمد الحارثي, حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العذري، حدثنا مالك بن أنس, عن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه قال: جاء رجل من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أرضاً بين جبلين, فكتب له بها, فأسلم, ثم أتى قومه, فقال لهم: أسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطية لا يخاف الفاقة.

 

#97#

هذا من أفراد العذري, عن مالك, والمعروف ما رواه أبو حفص عمرو بن علي الفلاس فقال: حدثنا خالد بن الحارث, حدثنا حميد – هو الطويل – عن موسى بن أنس, عن أبيه رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه, فجاءه رجل, فسأله فأمر له بغنم بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء لا يخاف الفاقة.

وحدث به مسلم, عن عاصم بن النضر, عن خالد بن الحارث.

وهو في "مسند أحمد بن حنبل" ولفظه: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه, فأتاه رجل, فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة قال: فرجع إلى قومه, فقال: يا قوم, أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.

وخرجه مسلم أيضاً من طريق حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بنحوه.

 

#98#

وعند مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن وهب, أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين, وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم, ثم مائة, ثم (مائة).

قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان رضي الله عنه قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي, فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من حديث إبراهيم بن الحكم بن أبان, حدثني أبي, عن عكرمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء فأعطاه شيئاً ثم قال: «أحسنت إليك»؟ فقال الأعرابي: لا, ولا أجملت, قال: فغضب المسلمون, وقاموا إليه, فأشار صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا, ثم قام, فدخل منزله, ثم أرسل إلى الأعرابي, فدعاه إلى البيت – يعني: فأعطاه, فرضي, فقال: «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك, وقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك» قال: نعم, فلما كان الغد أو العشي جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم هذا كان جاء يسألنا فأعطيناه فقال

 

#99#

ما قال, وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه رضي أكذاك؟» قال الأعرابي: نعم, فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كان له ناقة فشردت / عليه, فأتبعها الناس, فلم يزيدوها إلا نفوراً, فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي, فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض, فجاءت فاستناخت, فشد عليها رحلها واستوى عليها, وإني لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار».

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا أبو المغيرة: ح.

قال: وحدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد, حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قالا: حدثنا حريز بن عثمان, عن سليم بن عامر أن أبا أمامة رضي الله عنه حدثه أن غلاماً شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا, فصاح الناس, فقال: مه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقروه, أدن مني» فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟» قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم, أتحبه لابنتك؟» فقال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم, أتحبه لأختك؟»

 

#100#

قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم, أتحبه لعمتك؟» قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم, أتحبه لخالتك؟» قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم» فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره, فقال: «اللهم كفر ذنبه, وطهر قلبه, وحصن فرجه».

وخرجه الطبراني أيضاً من حديث محمد بن عائذ, حدثنا الهيثم بن حميد, عن العلاء بن الحارث, عن القاسم, عن أبي أمامة بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده".

وقد جاءت الرواية بما يشعر أن الذي استأذن في الزنا هو أبو كبير الهذلي الشاعر الذي تقدم (ذكر) نسبه, ولهذه القصة قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

سالت هذيل رسول الله فاحشة ... صلت هذيل بما سالت ولم تصب

سألوا نبيهم ما ليس معطيهم ... حتى الممات وكانوا عرة العرب

 

#101#

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة: منها: ما قال إبراهيم بن طهمان, عن أبي سعيد – وهو عمر بن سعيد أخو سفيان – عن الأعمش, عن عمرو بن مرة الجملي, عن أبي البختري قال: جاء أعرابي فبال في المسجد, فأخذوه فسبوه, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فصب على مكان البول الماء, ثم قال: «إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين, كونوا معلمين, ولا تكونوا معانتين, أرشدوا الرجل» قال: ثم جاء من الغد فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد صلى الله عليه وسلم ولا تغفر لأحد غيرنا, قال: ففعلوا به مثل ذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين, كونوا معلمين, ولا تكونوا معانتين, أرشدوا الرجل».

رواه أبو عبيد الله محمد بن يحيى بن منده, عن أحمد بن معاوية, عن الحسين بن حفص, حدثنا إبراهيم – يعني: ابن طهمان ... فذكره.

*قال علي رضي الله عنه: "ويكرم كريم كل قوم, ويوليه عليهم":

هذا كفعله صلى الله عليه وسلم مع رؤساء الوفود التي وفدت عليه فإنه كان يكرم نزلهم ويجيز كلا منهم بما يليق به ويؤمر عليهم كريمهم.

 

#102#

من ذلك تأميره صلى الله عليه وسلم الحارث بن عوف على ذي مرة لما وفد عليه في ثلاثة عشر رجلاً وأمر بلالاً فأجازهم كل واحد بعشر أواق فضة, وفضل الحارث بن عوف فأعطاه اثنتي عشرة أوقية.

وكذلك تأميره صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على وفد ثقيف, وكان من أحدثهم سناً وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن, ومالك بن النمط – ذي الشعار – على همدان.

وفي قصة إسلام جرير رضي الله عنه قال: فألقى – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – إلي كساءه ثم أقبل على أصحابه ثم قال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه».

خرجه الطبراني بطوله في "المعجم".

وجاء عن القاسم, عن عائشة أن الأسود بن وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خال, أدخل» فدخل فبسط له رداءه, وقال: «اجلس عليه» قال: حسبي, قال: «اجلس على ما أنت عليه», قال: «إن الخال والد, يا خال من أسدي إليه معروف فلم يشكر فليذكر, فإنه إذا ذكر فقد شكر».

 

#103#

*قال علي رضي الله عنه: "ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشرة ولا خلقه":

في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة» أو «بئس ابن العشيرة» فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه, فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله, حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا, ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة, متى عهدتيني فحاشاً؟! إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركته الناس اتقاء شره».

وقد جاءت الرواية بأن هذا الرجل هو مخرجه بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة أبو المسور, أحد المؤلفة قلوبهم.

قال أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا أبو عامر الخزاز, عن أبي يزيد المدني, عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء مخرمة بن نوفل فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال: «بئس أخو العشيرة» فلما جاء أدناه ... وذكر الحديث بنحوه.

 

#104#

رواه ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" من طريق الهيثم.

وقد حدث الحارث بن أبي أسامة, عن الخليل بن زكريا, حدثنا هشام الدستوائي, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل رجل فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بئس أخو العشيرة, وبئس الرجل» فلما دنا منه أدنى مجلسه فلما قام وذهب قالوا: يا رسول الله, حين أبصرته قلت: بئس أخو العشيرة وبئس الرجل, ثم أدنيت مجلسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه منافق أداريه عن نفاقه وأخشى أن يفسد علي غيره».

حديث غريب تفرد بن الخليل بن زكريا البصري, وقد ضعفه أبو جعفر العقيلي, وأبو الفتح الأزدي, وأبو أحمد ابن عدي.

وقال القاسم بن زكريا المطرز: وهو والله كذاب, ووثقه جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ أحد الرواة عنه, فقال أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي: سمعت جعفراً الصائغ يقول: سمعت الخليل بن زكريا –

 

#105#

وكان ثقة مأموناً.

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً بشيء يكرهه.

خرجه أبو داود في "سننه", والترمذي في "الشمائل", والنسائي في "عمل اليوم والليلة".

*قال علي رضي الله عنه: "ويتفقد أصحابه".

حدث أبو محمد ابن حيان أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" عن أبي يعلى, حدثنا الأزرق بن علي, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا عباد بن كثير, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له, وإن كان شاهداً زاره, وإن كان مريضاً عاده.

قال حذيفة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده.

خرجه أحمد في "مسنده".

وخرج دعلج في كتابه "مسند المقلين" من حديث أحمد بن شبيب,

 

#106#

حدثنا أبي, عن يونس, عن ابن شهاب, أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعود مرضى مساكين المسلمين ويشيع جنائزهم, ولا يصلي عليهم أحد غيره .... الحديث.

ورواه محمد بن أبي حفصة وسفيان بن حسين, عن الزهري, عن أبي أمامة بن سهل مرسلاً (ورواه إسحاق بن راهويه فقال: أخبرنا الوليد ابن مسلم, عن الأوزاعي, عن أبي أمامة بن سهل) كذلك.

ورواه عيسى بن يونس, عن الأوزاعي, عن الزهري, عن أبي أمامة ابن سهل, عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح برءوسهم.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث محمد بن عقبة السدوسي, حدثنا مسكين بن عبد الله – أبو فاطمة الأزدي – سمعت أبا عطية البكري – بكر بن وائل – قال: انطلق [بي] أهلي إلى

 

#107#

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام شاب فمسح يده على رأسي قال: فرأيت أبا عطية أسود الرأس واللحية وكانت قد أتت عليه مائة سنة.

تفرد به محمد بن عقبة.

وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أسباط – هو ابن نصر الهمداني – عن سماك, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله, وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً قال: وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار.

وقال أبو السري هناد بن السري في كتابه "الزهد" والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش, عن أبي إسحاق, عن عبد الرحمن بن زيد الفائشي, عن ابنة لخباب قالت: خرج خباب في سرية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزاً لنا في جفنة لنا. قالت: فكان يحلبها حتى تطفح أو تفيض فلما رجع خباب حلبها فرجع حلابها إلى ما كان, فقلنا له: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلبها حتى تفيض. وقال مرة: حتى تمتلئ, فلما حلبتها رجع حلابها.

 

#108#

وحدث به أحمد بن حنبل أيضاً عن خلف بن الوليد, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الرحمن بن مالك الأحمسي, عن ابنة خباب بن الأرت قالت: خرج أبي في غزاة ولم يترك لنا إلا شاة .... فذكره نحوه.

*قال علي رضي الله عنه: "ويسأل الناس عما في أيديهم":

من ذلك ما صح عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً أقمنا عنده عشرين ليلة, فظن أنا قد اشتقنا أهلنا, فسألنا عمن تركنا, فأخبرناه فقال: «رجعوا إلى أهاليكم فأقيموا فيهم ..» الحديث.

*قال علي رضي الله عنه: "ويحسن الحسن ويقويه – وفي رواية: ويصوبه – ويقبح القبيح ويوهنه":

هذا كمدحه صلى الله عليه وسلم العبادات المفروضات والنوافل والطاعات وسائر أنواع الخيرات, وكذمه المعاصي المهلكات والسيئات الموبقات وسائر الأقوال والأفعال الموجبة لصاحبها النكال, والأحاديث الواردة في معناه كثيرة.

*قال علي رضي الله عنه: "معتدل الأمر غير مختلف":

كان صلى الله عليه وسلم معتدل الأمر في القول والفعل, مجبولاً على الإنصاف والعدل, معتدل الخلق والخلق, ولد بالعدل, ورضع بالعدل, ونشأ بالعدل, ونبئ بالعدل, وقضى بالعدل, وأمر بالعدل, إلى أن مضى لسبيله وترك الناس على أعدل محجة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وسلم.

 

#109#

*قال علي رضي الله عنه: "لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا – وفي رواية يملوا – لكل حال عنده عتاد":

العتاد: العدة والشيء تعده لأمر ما.

ومعنى قول علي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الأمة وإرشادهم إلى كل خير وإنقاذهم من كل شر, لا يغفل عن تعليمهم وتذكيرهم وإرشادهم للخير وتحذيرهم من الشر مخافة غفلتهم عن ذلك, بل كان يعد لكل من الموعظة والتذكير والدعاء إلى الإسلام ما يقتضيه الوقت والحال.

روى عبد الله بن عمر بن أبان, عن محمد بن فضيل, عن أبي حيان, عن عطاء, عن (ابن) عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر, فأقبل أعرابي, فلما دنا منه قال: «أين تريد؟» قال الأعرابي: إلى أهلي, قال «وهل لك إلى خير» قال: وما هو؟ قال: «تسلم» قال: هل من شاهد؟ قال: «هذه الشجرة» فدعاها فأقبلت تخد الأرض خداً, فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت له, قال: ثم رجعت إلى منبتها, ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني آتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك.

تابعه محمد بن طريف, عن ابن فضيل, حدث به الدارمي في "مسنده" عن ابن طريف.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحة الأمة على أحوال:

 

#110#

فتارة يبشرهم كما في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلىعليه وسلم       في قبة فقال: «ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» قلنا: نعم, قال: «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟» قلنا: نعم, قال: «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟» قلنا: نعم, قال: «والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة, وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة, وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود, أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر».

وخرج ابن ماجه في "سننه" من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها, هي ورب الكعبة نور يتلألأ, وريحانه تهتز, وقصر مشيد, ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سليمة, وفاكهة خضرة, وحبرة, ونعمة, في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله, نحن المشمرون لها, قال: «قولوا: إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله.

وكان صلى الله عليه وسلم تارة ينذرهم ويخوفهم كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً».

 

#111#

وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم».

وتارة يجمع لهم البشارة والنذارة في وقت واحد, كما صح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله, قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد, ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد».

وخرج أبو بكر الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق" فقال: حدثنا القنطري, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا الليث, حدثني أسامة بن زيد أنه سمع أبا حازم وحفص بن عبيد الله بن أنس يقولان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه عن أمر الآخرة, فإذا رآهم قد كسلوا وعرف ذلك فيهم, أخذ بهم في بعض أحاديث الدنيا حتى إذا نشطوا وأقبلوا أخذ بهم في حديث الآخرة.

 

#112#

وحدث به أيضاً في كتابه "اعتلال القلوب" عن علي بن داود القنطري هذا بنحوه مختصراً.

وأحاديثه صلى الله عليه وسلم في وعظ الأمة وترغيبها وترهيبها وتخويفها وتحذيرها لا تحصى ولا تحصر.

وفي رواية ابن عباس عن هند رضي الله عنهم: "وإذا وعظ جد وماد".

فمعنى "جد" اجتهد, و"ماد": أي أعطى المستمع للوعظ ما ينفعه, والله أعلم؛ لأن هذه المادة يقال فيها: ماد السكران وغيره ميداً تعطف, والأرض اضطربت, والرجل أعطيته، ومنه المائدة.

*قال علي رضي الله عنه: "لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه إلى غيره":

هذا في جميع أحواله صلى الله عليه وسلم المبنية على العدل.

صح عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك, وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها, وما أريد بها وجه الله, فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته فقال: «من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله, رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

*قال علي رضي الله عنه: "الذين يلونه من الناس خيارهم":

صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم قد دعوا الله لعمر رضي الله عنه وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: يرحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني

 

#113#

كثيراً مما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر, وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ...». الحديث.

وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة, ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم, ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ...» الحديث.

*قال علي رضي الله عنه: "أفضلهم عنده أعمهم نصيحة, وأعظمهم عنده أحسنهم مساواة ومؤازرة":

من كانت نصيحته من الذين يلونه عامة كان عنده المقدم المفضل, ومن كان أحسنهم مواساة ومؤازرة كان عنده المعظم المبجل, كالعمرين – يعني: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب – ونحوهما من المهاجرين, والسعدين – يعني: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة – وشبههما من الأنصار المؤثرين.

*قال الحسين رضي الله عنه: فسألته عن مجلسه – وفي رواية: - كيف كان يصنع فيه؟ فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر»:

تقدم حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

 

#114#

وجاء عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو .... الحديث وسيأتي إن شاء الله تعالى بتمامه.

وخرج أبو داود في "المراسيل" من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن عمر بن عبد العزيز بن وهب, عن خارجة بن زيد بن ثابت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه.

*قال علي رضي الله عنه: "ولا يوطن الأماكن, وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك":

الوطن: محل الإنسان, وطنت الأرض: اتخذتها وطناً.

وقال أبو أحمد حميد بن زنجويه النسوي في كتابه "الترغيب والترهيب": حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان, عن أبي العاتكة, عن علي بن يزيد, عن القاسم أبي عبد الرحمن: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة العصر, ثم قام فدخل بيت عائشة, فمكث ساعة, ثم خرج إلى المسجد, فإذا برجل قاعد يقص على الناس ويذكرهم, والناس مقبلون

 

#115#

عليه بوجوههم, فلما نظر الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً قطع قصصه, وقام من مجلسه للنبي ؟, فأشار إليه بيده أن اثبت مكانك, وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى الناس ولم يتخط أحداً, فلما فرغ الرجل من قصصه قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه والتفت الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو خلفهم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقم من مجلسك, ولا تقطع قصصك, فإني أمرت أن أصبر نفسي مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه, ولئن أصبر نفسي مع قوم يذكرون الله من حين يصلون الصبح إلى أن ترتفع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل». قال عثمان: بلغني أن الرجل الذي كان يقص: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.

وخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من حديث جرير, عن أبي فروة – يعني: عروة بن الحارث – عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل, فطلبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه, فبنينا له دكاناً من طين فكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه.

وخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي فروة, بنحوه.

 

#116#

$[ما روي في تواضعه صلى الله عليه وسلم]$

ومن عادة أصحابه رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى إليهم لم يقوموا إليه لكراهيته صلى الله عليه وسلم لذلك.

قال الإمام أحمد في "مسنده": وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن حماد بن سلمة, عن حميد, عن أنس رضي الله عنه قال: ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته صلى الله عليه وسلم لذلك.

وحدث به الترمذي في "جامعه": عن عبد الله بن عبد الرحمن, عن عفان, عن حماد بنحوه, وقال: حسن صحيح غريب. انتهى.

تابعهما إبراهيم بن الحجاج, عن حماد, حدث به أبو بكر ابن السني في كتابه "رياضة المتعلمين": عن أبي يعلى الموصلي, حدثنا إبراهيم ابن الحجاج ... فذكره.

وخرج أبو داود من حديث أبي غالب, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصى فقمنا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً».

 

#117#

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" ولفظه: عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عصى, فلما رأيناه قمنا إليه فقال: «لا تفعلوا كما تفعل الأعاجم يقوم بعضها لبعض» قلنا: اشتهينا أن تدعو لنا, فقال: «اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا وتقبل منا, وأدخلنا الجنة ونجنا من النار, وأصلح شأننا كله», قال: فكأنا اشتهينا أن تزيدنا, فقال: «أوليس قد جمعت الخير».

وكراهيته صلى الله عليه وسلم لقيام أصحابه له من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم على علو منصبه.

والأحاديث في معنى تواضعه صلى الله عليه وسلم كثيرة:

منها ما قال أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي: أخبرنا الحجاج, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت سيدنا وابن سيدنا, وخيرنا وابن خيرنا فقال: «يا أيها الناس, قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان, قولوا: محمد بن عبد الله».

وحدث به النسائي في (كتابه) "عمل اليوم والليلة" عن أبي بكر بن نافع وهو محمد بن أحمد بن نافع البصري، عن بهز بن أسد, عن حماد.

وقال أبو مسعود الرازي – أيضاً -: أخبرنا محمد بن الفضل, حدثنا مهدي بن ميمون, عن غيلان بن جرير, عن مطرف بن عبد الله, عن أبيه

 

#118#

قال: وفدنا على النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر فسلمنا عليه, فقالوا: أنت والدنا, وأنت سيدنا, وأنت أفضلنا فيها فضلاً, وأطولنا علينا فيها طولاً, فقال: «قولوا بقولكم ولا يستجري» – يعني: - الشيطان, أو قال: «الشيطان».

ومنها ما خرج محمد بن فضيل بن غزوان الضبي في كتاب "الزهد" له عن عمارة, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل عليه السلام (إلي النبي صلى الله عليه وسلم), فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل, فقال له جبريل عليه السلام إن هذا الملك ما نزل قبل منذ يوم خلق قبل الساعة, فلما نزل قال: يا محمد, أرسلني إليك ربك, فملكاً نبياً يجعلك ربك أم عبداً رسولاً؟ فقال جبريل: تواضع لربك يا محمد, فقال: «بل عبداً رسولاً».

حدث به الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن فضيل.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" مطولا فقال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى (حدثني أبي، عن ابن أبي ليلى) عن الحكم بن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل عليه السلام يناجيه إذ انشق أفق السماء،

 

#119#

فأقبل جبريل يدنو من الأرض ويتمايل، فإذا ملك قد مثل بين يدي النبي صلىالله عليه وسلم  فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يأمرك أن تختار بين نبي عبد أو ملك نبي، قال: «فأشار جبريل عليه السلام إلي بيده أن تواضع، فعرفت أنه لي ناصح، فقلت: عبد نبي» فعرج ذلك الملك إلى السماء، فقال «يا جبريل قد كنت أردت أن أسأل عن هذا، فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة، فمن هذا يا جبريل؟» قال: هذا إسرافيل، خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه، وبيه وبين الرب تعالى سبعون نورا ما منها نور يكاد يدنو منه إلا احترق.. وذكر الحديث، وفيه أن جبريل قال: وما الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة.

تابعه محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن عمران، تفرد به ابن أبي ليلى، عن الحكم، والحكم عن مقسم، والله أعلم.

وحدث بنحوه أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، عن عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي أبو تقي، حدثنا عبد الله بن سالم الحمصي، عن الزبيدي، حدثنا الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس: أن (ابن) عباس كان يحدث: أن الله تعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة معه جبريل عليه السلام. وذكر الحديث.

ورواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثني أبو العباس

 

#120#

حيوة بن شريح، أخبرنا بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، فذكره بنحوه.

وحدث به ابن المبارك في "الزهد" عن معمر، عن الزهري من بلاغاته.

وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني وحميد، عن الحسن: أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنبي عبد أم نبي ملك؟ قال: «لا بل نبي عبد» قال جبريل عليه السلام: إن الله عز وجل يشكرك على ذلك، أنك أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول من يدخل الجنة.

وقال أيضا: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا المعلى، عن الحسن، قال: وحدثنا المهاجر مولى أبي بكر، عن أبي العالية، قال: نزل إسرافيل ولم ينزل قبلها، فقال: يا محمد، إن ربك أرسلني إليك يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا، وبين أن تكون ملكا،

 

#121#

فأشار إليه جبريل عليه السلام بيده، قال حماد: وسمعت غير المعلى يقول: وكان جبريل له ناصحا، قال: «فقلت: نبيا عبدا» قال: «فشكمني عز وجل أن تواضعت له، وجعلني سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع».

قوله: "فشكمني" أي: أعطاني وأثابني، والشكم: العطاء والثواب.

وخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء" من حديث يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت أبا حازم، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل عليه السلام فقال: السلام عليك يا محمد، وقال: أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا فنظر إلي جبريل عليه السلام فأومأ إلي أن تواضع» فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «نبيا عبدا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أني قلت: نبيا ملكا ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا».

هذا حديث غريب من حديث أبي حازم، عن ابن عمر، تفرد به أيوب بن نهيك، وأبو حازم مختلف فيه، فقيل: سلمة بن دينار، وقيل محمد بن قيس (المدني. قاله أبو نعيم، ومحمد بن قيس) أشبه بل الصواب.

 

#122#

قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا أبو شعيب – عبد الله بن الحسن الحراني - حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت محمد بن قيس المدني – أبا حازم -، يقول: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يوم الأربعاء، ويوم الخميس، ويوم الجمعة ثم تصدق يوم الجمعة بما قل من ماله أو كثر غفر له كل ذنب علمه حتى يصير كيوم ولدته أمه من الخطايا».

ثم قال عقب هذا: حدثنا أبو شعيب، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت محمد بن قيس المدني، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد من بعدي وهو إسرافيل» وعنده جبريل عليهما السلام، فقال: السلام عليك يا محمد، ثم قال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، «فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأومأ جبريل إلي أن تواضع» فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «نبيا عبدا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أني قلت: نبيا ملكا (ثم شئت) لسارت الجبال معي ذهبا».

قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا أبو معشر،

 

#123#

عن سعيد - يعني: المقبري – عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا»، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا، يقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».

وقال ابن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا الأوزاعي، عن عبد الله بن عبيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام بمفاتيح خزائن الدنيا، فوالذي نفسي بيده ما بسطت إليها يدي»، قال عبد الله بن عبيد: لو علم صلى الله عليه وسلم أن فيها خيرا لبسط إليها يده.

عبد الله هو: ابن عبيد بن عمير الليثي أبو هاشم، من أعيان التابعين.

وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا عبد الله بن صالح البخاري – ببغداد - حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرني الحسين بن واقد، حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس».

وحدث به أبو بكر ابن أبي عاصم، عن محمد بن علي بن شقيق، عن أبيه، ولفظه: «أوتيت بمفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق جاءني به

 

#124#

جبريل عليه السلام».

وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، و إن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة».

خرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وخرجه الترمذي في "جامعه" من حديث ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدثنا الحارث بن النعمان الليثي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة».

وقال المسعودي – عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود - عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر بجلده، فجعلت أمسحه عنه، وأقول: بأبي وأمي ألا آذنتنا فنبسط لك، قال: «مالي وللدنيا إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».

 

#125#

وحدث به وكيع في كتابه في "الزهد" دون القصة فقال: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم بن علقمة، عن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في أصل الشجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها».

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: لما قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين»

خرجه الطبراني في "الطولات".

وخرجه أبو سعيد الخليل بن أحمد السجزي في كتابه "الآداب" من حديث حفص بن عمرو – هو ابن الصباح - عن العلاء بن هلال الرقي، حدثنا طلحة بن زيد، عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة، قال: (قدم وفد النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم فقام النبي) صلىالله عليه وسلم  يخدمهم، فقلنا: يا رسول الله، نحن نكفيك، فقال «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وأحب أن أكافئهم».

تفرد به طلحة بن زيد عن الأوزاعي.

 

#126#

تابعه علي بن الحسن النسائي وهلال بن العلاء بن هلال، عن أبيه.

قال أبو نعيم الأصبهاني عن هلال بن العلاء بن هلال، والحديث به اشتهر.

وقال أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا دليل بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا جعفر بن عون، عن إسماعيل، عن قيس - يعني: ابن أبي حازم – عن أبي مسعود رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكلمه فأرعد فقال: «هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».

وخرجه ابن ماجه بنحوه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث محمد بن كعب الحمصي، حدثنا شقران، حدثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».

لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير إلا عيسى بن يونس، تفرد به شقران، قاله الطبراني.

وعد الدارقطني حديث جرير هذا وحديث أبي مسعود قبله

 

#127#

وهما قال: والصواب، عن إسماعيل – يعني: ابن أبي خالد – عن قيس مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن أنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا والله ما كانت تغلق

 

#128#

دونه الأبواب ولا تقوم دونه الحجبة (ولا يغدى عليه بالجفان)، ولا يراح عليه بها، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان بارزا، من أراد [أن] يلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم لقيه، وكان – والله - يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار ويردف بعده، ويلعق - والله – يده صلى الله عليه وسلم.

وحدث عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت ما كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ فقالت: كان بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه.

تابعه الليث بن معاوية.

ورواه ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن مجاهد، عن عائشة.

ورواه غيره عن يحيى فأدخل بينه وبين مجاهد حميد بن قيس المكي الأعرج.

وخرج أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء" من حديث الحماني، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أنس بن مالك

 

#129#

رضي الله عنه قال: النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف، وينام على الأرض، ويأكل من الأرض، ويركب الحمار ويردف خلفه، ويعقل البعير (كذا) فيحلبها ويجيب دعوة العبد.

تفرد به الحسن بن عمارة فيما ذكره أبو نعيم.

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليهوسلم " من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله كل – جعلني الله فداك – متكئا فإنه أهون عليك.

قالت: فأصغى برأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ثم قال: «لا، بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».

وقال الإمام أحمد في كتابه في "الزهد": حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن جرير بن حازم، سمعت الحسن يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أمر به فألقي على الأرض، وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».

 

#130#

وقال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، حدثنا عبدة بن أيمن، عن عطاء بن أبي رباح، قال: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على وسادة، وبين يديه طبق عليه رغيف، قال: فوضع الرغيف على الأرض ونحى الوسادة، فقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد».

وجاء من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد على الطعام استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى، ثم قال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأفعل كما يفعل العبد».

وتقدم عن أنس مثله.

وله شاهد عن ابن عمر وغيره.

وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل وهو مقع من الجوع. خرجه النسائي.

وقال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه "المواعظ

 

#131#

والوصايا": أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي بن زياد, حدثنا الهيثم بن خلف الدوري – ببغداد – حدثنا يحيى بن عثمان, حدثنا بقية بن الوليد دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه فأتيت فجلس هكذا, ووضع رجله اليسرى تحت أليته ونصب رجله اليمنى ووضع يده عليها وقال: يا أبا محمد تعرف هذه الجلسة.؟ قلت: لا.

قال: هذه جلسة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يجلس جلسة العبيد ويأكل أكل العبيد, كل باسم الله, وذكر بقيته.

وخرجه الدينوري في "المجالسة" فقال: حدثنا محمد بن عمرو, عن يحيى بن عثمان, عن بقية بن الوليد ..... فذكره مختصراً.

وقال أبو الحسن علي بن المهدب الحموي الطبيب في كتابه "الطب النبوي": روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس عند الأكل متوركاً على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى؛ تواضعاً لربه عز وجل وأدباً, وهذه الهيئة أحمد؛ لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي التي خلقت عليه. انتهى.

وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان كيفما تيسر تارة يجلس القرفصاء وهي أن يجلس على إليتيه ويلصق بطنه بفخذيه, وتارة يستلقي في المسجد على قفاه, وتارة يتكئ على جنبه.

قال أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الذكواني:

 

#132#

حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي – هو أبو عبد الله – حدثنا هشام بن علي بن هشام, حدثنا عبد الله بن رجاء, أخبرنا الحسن بن صالح بن حي, عن مسلم الأعور, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد هذه القعدة ووضع ذراعيه على ركبتيه وقبض بكفه اليمنى على ذراعه اليسرى, واليسرى على اليمنى.

وخرج الترمذي في "الشمائل": عن عبد بن حميد, عن عفان بن مسلم, عن عبد الله بن حسان, عن جدتيه, عن قيلة بنت مخرمة أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو قاعد القرفصاء.

قالت: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق.

هذا الحديث مختصر من حديث قيلة بنت مخرمة العنبرية التميمية وفيه طول.

وروى بعضه الترمذي في "جامعه" بهذا الإسناد.

ورواه بطوله أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر", وأبو القاسم الطبراني من طريق أبي الجنيد عبد الله بن حسان العنبري, وتفرد هو بالحديث عن جدتيه وهما صفية ودحيبة بنتا عليبة

 

#133#

وكانتا ربيبتي أبي قيلة, وكانت قيلة جدة أبيهما.

وفي بعض طرقه عن جدتيه أن قيلة حدثتهما أنها كانت تحت حبيب ابن أزهر أخي بني جناب, فولدت له النساء, ثم توفي فانتزع بناتها منها أثوب بن أزهر عمهن, فخرجت تبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام, فبكت جويرية منهن هي أصغرهن حديباء كانت قد أخذتها الغرصة فرحمتها فاحتملتها معها ... الحديث.

وفيه: قالت: ثم انطلقت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فبينما أنا عندها ليلة تحسب عني نائمة, إذ دخل زوجها من السامر, فقال: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحباً صاحب صدق حريث بن حسان الشيباني غادياً وافد بكر بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا صباح .... الحديث إلى أن قالت: فخرجت معه صاحب صدق حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة, وقد أقيمت حين انشق الفجر والنجوم شابكة في السماء, والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل, فصففت مع الرجال وامرأة كانت حديثة عهد بجاهلية, فقال الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أو رجل؟

 

#134#

قلت: لا, بل امرأة, فقال: إنك قد كدت تفتنيني فصلي في النساء وراءك.

وإذا صف من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته (حين دخلت فكنت فيهن) حتى إذا طلعت الشمس دنوت, فكنت إذا رأيت رجلاً ذا رواء, وذا قشر طمح إليه بصري لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الناس حتى جاء رجل، وقد ارتفعت الشمس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام ورحمة الله», وعليه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم - أسمال مليتين وقد كانتا بزعفران وقد نفضتا, وبيده عسيب نخلة مقش غير خويصتين من أعلاه, وهو قاعد القرفصاء, فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق, فقال جليسه: يا رسول الله, أرعدت المسكينة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره: «يا مسكينة عليك السكينة».

وفي رواية أبي بكر الروياني قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق وأنا قاعدة عند ظهره.

فقالت له عائشة: يا رسول الله, أرعدت المسكينة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده من خلفه ولم ينظر إلي: «يا مسكينة عليك السكينة».

فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أذهب الله تعالى ما كان دخل قلبي من الرعب .... الحديث بطوله.

 

#135#

وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن عفان بن مسلم, حدثنا عبد الله بن حسان أخو بني كعب من بلعنبر, حدثته جدتاه صفية بنت عليبة ودحيبة بنت عليبة فذكرتاه مطولاً بنحوه.

وحدث به بطوله أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": عن أبي إسحاق أحمد بن إسحاق الحضرمي, وموسى بن إسماعيل المنقري قالا: حدثنا عبد الله بن حسان. فذكره.

وذكر في آخره, فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه, عن أبيه, عن سلمويه, عن ابن المبارك, عن عبد الله بن حسان بحديث قيلة هذا, وجعله في كتاب الأمراء – يعني: ابن المبارك – والله أعلم.

تابعهم عبد الله بن سوار العنبري, وعلي بن عثمان اللاحقي, وغيرهما عن عبد الله بن حسان العنبري بطوله.

وحدث ببعضه أبو داود في "سننه": عن حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل كلاهما, عن عبد الله بن حسان.

قولها: "تحسب عني نائمة" على لغة تميم, يبدلون العين من الهمزة, وتسمى العنعنة, أي: تحسب أني نائمة.

ورواه بعضهم: تحسب عيني نائمة, والأول أحفظ وأشهر.

والرواء: المنظر الحسن الجميل, والقشر: اللباس النفيس.

والأسمال: الأخلاق من الثياب, واحدها سمل.

ومليتين: تصغير ملاءتين تثنية ملاءة وهي الثوب الذي يتشح به ويؤتزر.

 

#136#

وخرج الترمذي في "الشمائل": من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس احتبى بيديه.

وصح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا.

وذكر البخاري: أن الاحتباء باليد هي القرفصاء.

 

#137#

وصح عن خباب رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة, فقلت: ألا تدعو الله, فقعد ... وذكر الحديث.

وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه في الكبائر, قال: وكان متكئاً فجلس وقال: «ألا وقول الزور».

وعن عباد بن تميم, عن عمه أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد رافعاً إحدى رجليه على الأخرى.

وفي لفظ: مستلقياً في المسجد.

وحدث محمد بن أسلم الطوسي, عن عبد الحكم بن ميسرة, حدثنا ابن جرير, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماداً رجليه بين أصحابه.

وخرج أبو داود في "سننه" من طريق محمد بن إسحاق, عن يعقوب بن عتبة, عن عمر بن عبد العزيز, عن يوسف بن عبد الله بن

 

#138#

سلام, عن أبيه رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء.

 

#139#

$[عود إلى شرح حديث علي رضي الله عنه]$

*قال علي رضي الله عنه: "يعطي كل جلسائه بنصيبه, لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه":

هذا من عدله الكثير وإنصافه الخطير, مساواته صلى الله عليه وسلم بين جلسائه الصغير والكبير, حتى لا يحتقر أحد نفسه لديه, ولا يحسب أن أحداً أكرم منه عليه.

خرج الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "الدلائل": من حديث يزيد بن هارون, أخبرنا جعفر بن سليمان الضبعي, حدثنا المعلى – يعني: ابن زياد – عن العلاء بن بشير المازني, حدثنا أبو الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالساً, وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري, وقارئ لنا يقرأ علينا, فكنا نستمع إلى كتاب الله عز وجل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم», قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا, وقال: «أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة, تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم, وذلك خمسمائة عام».

وخرجه أبو داود في "سننه" عن مسدد, عن جعفر بن سليمان

 

#140#

بنحوه.

وحدث به الإمام أحمد بن حنبل في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا المعلى بن زياد, حدثنا العلاء بن بشير المزني, وكان – والله – ما علمت شجاعاً عند اللقاء بكاء عند الذكر, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في حلقة من الأنصار, إن بعضنا ليستتر ببعض .... وذكر الحديث بنحوه.

وخرجه أبو بكر ابن السني في كتابه "رياضة المتعلمين: فقال: أخبرنا أبو يعلى, حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق, حدثنا جعفر بن سليمان .... فذكره.

وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا المعلى بن زياد, حدثني العلاء بن بشير, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ونحن جلوس, ورجل يقرأ علينا ويدعو لنا – ناس من ضعفاء المسلمين – وإن بعضنا ليتوارى ببعض من العري والجهد وسوء الحال, فجلس إلينا ثم قال بيده هكذا, فاستدارت له الحلقة وما أظنه يعرف منهم أحداً, ما هم إلا من ضعفاء المسلمين, فأمسكوا, فقال: «ما كنتم تراجعون؟» قالوا: كان هذا يقرأ علينا, ويدعو لنا, قال: «فعودوا لما كنتم تراجعون» ثم قال: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر

 

#141#

نفسي معه» ثم قال: «أبشروا ضعفاء المسلمين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة عام, هؤلاء ينعمون وهؤلاء يحاسبون».

وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث حجاج بن أبي زينب, حدثني أبو سفيان: طلحة بن نافع, سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:

 

#142#

كنت جالساً في داري فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي فقمت إليه, فأخذ بيدي فانطلقنا حتى أتينا بعض حجر نسائه, فدخل ثم أذن لي فدخلت الحجاب عليها فقال: «هل من غداء؟» فقالوا: نعم, فأتى بثلاثة أقرصة, فوضعن على بني, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصاُ, فوضعه بين يديه, وأخذ قرصاً آخر فوضعه بين يدي, ثم أخذ الثالث فكسره باثنتين, فجعل نصفه بين يديه, ونصفه بين يدي, ثم قال: «هل من أدم؟» قالوا: لا, إلا شيء من خل قال: «هاتوه, فنعم الأدم هو».

*قال علي رضي الله عنه: "من جالسه أو أقامه لحاجة – وفي رواية: أو قاومه لحاجة – صابره حتى يكون هو المنصرف".

خرج الترمذي: من حديث عمران بن زيد التغلبي, عن زيد العمي, عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لم ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع, ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه, ولم ير صلى الله عليه وسلم مقدماً ركبتيه أمام جليس له.

 

#143#

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "الأخلاق النبوية" من طريق أبي الوليد خلف بن الوليد, حدثنا أبو جعفر الرازي, عن أبي درهم, عن يونس بن عبيد, عن مولى لأنس – قد سماه ونسيته – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين, وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته, وكان إذا لقيه أحد من أصحابه قام معه ولم ينصرف عنه, حتى يكون الرجل هو ينصرف عنه, وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناولها إياه, (فلم ينزع منه حتى يكون الرجل ينصرف عنه, وإذا لقيه أحد من أصحابه فيناوله أذنه ناوله إياه) فلم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها منه.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عبد الله بن صالح بن مسلم, عن مندل, عن الحسن بن الحكم, عن أنس رضي الله عنه بنحوه.

وقال أبو علي أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة: حدثنا الحارث بن محمد, حدثنا عبد الرحيم بن واقد, حدثنا عدي بن الفضل, عن يونس بن عبيد, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك

 

#144#

رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفاً بالناس, والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء البارد فيغسل وجهه وذراعيه, والله ما سأله سائل قط أذنه إلا أصغى إليه, فلم ينصرف حتى كان هو الذي ينصرف, ولا (تناول أحد) يده قط إلا ناولها إياه, فلم ينزعها من يده حتى يكون هو الذي يدعها.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث روح بن صلاح, حدثنا سفيان الثوري, عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصافحه, فلم ينزع النبي صلى الله عليه وسلم يده من يد الرجل حتى انتزع الرجل يده ... الحديث.

وهو من أفراد روح عن سفيان.

وخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتابه "الأخلاق الشريفة النبوية": من طريق غندر, عن شعبة, عن علي بن زيد, قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إن كانت الوليدة من ولائد المدينة تجيء فتأخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.

وخرجه مرة من طريق أخرى عن علي بن زيد, عن أنس قال: إن

 

#145#

كانت الأمة من إماء (أهل) المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدور بها في حوائجها حتى تفرغ, ثم يرجع.

وعلقه البخاري في "صحيحه": عن أنس بنحوه.

وخرجه ابن ماجه في "سننه" موصولاً من طريق شعبة.

وخرج مسلم في "صحيحه": من حديث حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء, فقالت: يا رسول الله, إن لي إليك حاجة فقال: «يا أم فلان, أنظري أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك» فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها.

وخرجه أبو داود في "سننه" لحماد.

وخرج أبو الشيخ في كتاب "الأخلاق": من حديث حسين بن واقد, عن يحيى بن عقيل, سمعت ابن أبي أوفي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو, ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة, وكان

 

#146#

لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين, فيقصي له حاجته.

وخرجه النسائي في "سننه": من طريق حسين.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث أبي مسلم – قائد الأعمش – عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الليل على خبز الشعير فيجيب.

وهو في "المعجم الكبير" أيضاً.

وفي "صحيح مسلم": من حديث سلمان بن المغيرة, عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء, فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها, فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها.

 

#147#

 

#148#

$[ما روي في جوده وسخائه صلى الله عليه وسلم]$

*قال علي رضي الله عنه: "ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول".

أحاديث جوده صلى الله عليه وسلم وكرمه وسماحته وسخائه لا تستقصى.

قال عبد الله بن عامر بن سعد الأنصاري: حدثنا هشام بن عروة بن هشام بن عروة, عن جده, عن عروة بن الزبير, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أنشد أبو بكر رضي الله عنه قول لبيد:

أخ لي أما كل شيء سألته ... فيعطي وأما كل ذنب فيغفر

 

#149#

فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد صح من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا.

قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا جعفر بن محمد الفريابي, حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني, قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله, استغفر لي, فسكت عني, فقلت: يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا, عن محمد بن المنكدر, عن جابر أنك ما سئلت شيئاً قط فقلت: لا, قال: فتبسم في وجهي, فقال: «اللهم اغفر له».

وخرج أبو محمد الدارمي في "مسنده": من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيياً لا يسأل شيئاً إلا أعطى.

وصح عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس, وأجود الناس, وأشجع الناس.

ورواه أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد, حدثنا محمد بن زنبور,

 

#150#

حدثنا حماد بن زيد حدثنا ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وجهاً, وأجودهم كفاً وأسمحهم, وفزع أهل المدينة فخرج على فرس لأبي طلحة عري وقال: «لن تراعوا, لن تراعوا ....» الحديث.

حدث به النسائي عن ابن زنبور.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون, أخبرنا مسعر, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما رأيت أحداً أجود, ولا أنجد, ولا أشجع ولا أوضأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدث الحاكم أبو أحمد – محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق – إملاء, عن أبي الجهم – أحمد بن الحسين القرشي الدمشقي – قال: حدثنا العباس – يعني: ابن الوليد بن صبح الخلال – حدثنا مروان بن محمد, حدثنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الناس بأربع: في السخاء، والشجاعة, وكثرة الجماع, وشدة البطش».

ولا أعلم أحداً حدث به غير سعيد, قاله الحاكم أبو أحمد.

 

#151#

وهو في "معجم الطبراني الأوسط" من حديث محمد بن هارون بن محمد بن بكار, عن العباس.

وقال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: حدثنا داود بن عمرو, حدثنا شريك بن عبد الله القاضي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب وأجر زغب, فأعطاني ملء كفيه أو كفه حلياً أو ذهباً.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن الأسود بن عامر, وإسحاق بن عيسى قالا: حدثنا شريك ... فذكره.

وقال أبو عمرو ابن السماك: قال القاسم بن منبه: سمعت بشراً – يعني: ابن الحارث الحافي – يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: لو شئنا أن نشبع شبعنا, ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يؤثر على نفسه.

 

#152#

وخرج الترمذي في "الشمائل": عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما عندي شيء, ولكن اتبع علياً, فإذا جاءني شيء قضيته», فقال عمر: يا رسول الله قد أعطيته وما كلفك الله ما لا تقدر عليه, فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر, فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعرف البشر في وجهه؛ لقول الأنصاري ثم قال: «بهذا أمرت».

وروي أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل أنصاري أربعين صاعاً, فاحتاج الأنصاري, فأتاه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما جاءنا من شيء بعد» فقال الرجل, وأراد أن يتكلم فقال: «لا تقل إلا خيراً, فأنا خير من تسلف» فأعطاه أربعين فضلاً وأربعين بسلفه, فأعطاه ثمانين, ذكره البزار.

وخرج الترمذي من حديث يزيد بن هارون, عن أيوب, عن سعيد المقبري: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فعوضه منها بست بكرات .... الحديث.

 

#153#

قال الترمذي: ويزيد يروي عن أيوب أبي العلاء – وهو أيوب بن مسكين – ويقال: ابن أبي مسكين, ولعله هذا.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا وكيع, حدثنا إسماعيل, عن قيس, عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعون وأربعمائة نسأله الطعام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «قم فأعطهم», فقال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية.

قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر, قال: «قم فأعطهم» قال عمر: يا رسول الله سمعاً وطاعة, قال: فقام عمر وقمنا معه, فصعد بنا إلى غرفة له, فأخرج المفتاح من حجرته ففتح الباب, قال دكين: فإذا في الغرفة من التمر شبيه بالفصيل الرابض قال: شأنكم, قال: فأخذ كل منا حاجته ما شاء, قال: ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنا لم نرزأ منه تمرة.

وخرجه أبو داود: عن عبد الرحيم بن مطرف, عن عيسى بن يونس, عن إسماعيل بن أبي خالد, بنحوه.

 

#154#

وهو عند قتيبة عن سفيان, عن إسماعيل. علقه البخاري مختصراُ عن قتيبة في "تاريخه الكبير".

وسعيد والد دكين: بفتح أوله وكسر ثانيه على الأصح. وكذا ذكره البخاري فيما حكاه ابن الجوزي, وقال: قال ابن سعد: وبعضهم يقول سعيد بضم السين، وقال البرقي بن مسعدة: قال أبو عبد الله الصوري الذي أحفظه: سعيد, وقال الإسماعيلي: سعيد بضم السين, فوهم في ذلك, انتهى قول ابن الجوزي. وحكي في أبي دكين قول رابع وهو سعد.

والحديث له شاهد من حديث النعمان بن مقرن فما خرجه من حديث هشيم, عن حصين, عن ذكوان – أبي صالح – عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة من مزينة فلما أردنا أن ننصرف, قال: «يا عمر زود القوم», فقال عمر: ما عندي إلا شيء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعاً, قال: «انطلق فزودهم» فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله, ثم أصعدهم إلى علية له, فلما دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق, فأخذ القوم منه حاجتهم, قال النعمان: فكنت آخر من خرج فالتفت فإذا فيها من التمر مثل الذي كان.

 

#155#

وقال أبو حاتم – محمد بن إدريس الرازي -: حدثنا أبو توبة – يعني: الربيع بن نافع – حدثنا معاوية بن سلام, عن زيد بن سلام: أنه سمع أبا سلام, حدثني عبد الله الهوزني – يعني: أبا عامر الهوزني – قال: لقيت بلالاً مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بحلب, فقلت: يا بلال, حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء [من ذلك], إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه الله عز وجل إلى أن توفي, فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فرآه عارياً يأمرني فأنطلق وأستقرض وأشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه, حتى اعترضني رجل من المشركين, فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني, ففعلت, فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة؛ فإذا المشرك في عصابة من التجار, فلما رآني قال: يا حبشي, قال: قلت: يا لبيه, فتجهمني, وقال قولاً غليظاً, فقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب, قال: إنما بينك وبينه أربع ليال فآخذك بالذي لي عليك, فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ولا من كرامة صاحبك, ولكن أعطيتك لتجب لي عبداً فأدرك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك, فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس, فانطلقت, ثم أذنت بالصلاة, حتى إذا صليت العتمة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه, فأذن لي, فقلت: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, إن

 

#156#

المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه قد قال لي كذا وكذا, وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي, وهو فاضحي, فأذن لي أن آتي إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا, حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني, فخرجت حتى أتيت منزلي, فجعلت سيفي وحرابي ورمحي ونعلي عند رأسي, واستقبلت بوجهي الأفق, وكلما نمت انتبهت, فإذا رأيت علي ليلاً نمت حتى انشق عمود الصبح الأول, فأردت أن أنطلق, فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب النبي صلى الله عليه وسلم.

فانطلقت حتى أتيته صلى الله عليه وسلم, فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنت, فقال (لي) النبي صلى الله عليه وسلم: «[أبشر] فقد جاءك الله بقضائك» فحمدت الله عز وجل, وقال: «ألم تمر على الركائب المناخاة الأربع؟» قال: فقلت: بلي, قال: «فإن لك رقابهن وما عليهن», فإذا عليهن كسوة وطعام, أهداهن له عظيم فدك, «فاقبضهن إليك, ثم اقض دينك» قال: ففعلت فحططت عنهن أحمالهن, ثم عقلتهن, ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح, حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع, فجعلت أصبعي في أذني فناديت وقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً فليحضر, فما زلت أبيع وأقضي وأعرض وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الأرض حتى فضل عندي

 

#157#

أوقيتان أو أوقية ونصف, ثم انطلقت إلى المسجد, وقد ذهب عامة النهار, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده, فسلمت عليه فقال لي: «ما فعل ما قبلك؟» قلت: قد قضى الله عز وجل كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء, قال: «فضل شيء؟» قال: قلت: نعم ديناران. قال: «انظر أن تريحني منهما, فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما» [قال]: فلم يأتنا أحد حتى أمسينا, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني, فقال: «ما فعل [ما] قبلك؟» قلت: هو معي لم يأتنا أحد, فبات في المسجد, حتى أصبح, وظل في المسجد اليوم الثاني, حتى كان في آخر النهار جاء راكبان, فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما, حتى إذا صلى العتمة دعاني فقال: «ما فعل الذي قبلك؟» قلت: قد أراحك الله منه, فكبر الله وحمد الله شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك, ثم اتبعته صلى الله عليه وسلم, حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة [امرأة] حتى أتى صبيه فهذا الذي سألتني عنه.

تابعه أبو داود فحدث به في "سننه": عن أبي توبة.

 

#158#

وحدث به أبو القاسم الطبراني في كتابه "الطوالات": عن أحمد ابن خليد الحلبي, حدثنا أبو توبة – الربيع بن نافع ... فذكره.

وخرجه أبو حاتم – محمد بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام, حدثنا محمد بن خلف الداري, حدثنا معمر بن يعمر, حدثنا معاوية بن سلام أنه سمع أبا سلام.. فذكره بطوله.

وأحاديث جوده عليه الصلاة والسلام وآثار كرمه وسخائه كثيرة.

قال أبو الشيخ [عبد الله بن] محمد بن جعفر بن حيان: حدثنا محمد بن السمط الجرجاني, حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا أبو نعيم, حدثنا مسعر, عن علي بن الأقمر سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل تمراً فإذا مرت به حشفة أمسكها في يده, فقال له قائل: أعطني هذا الذي نقيته. قال: «إني لست أرضى لكم ما أسخطه لنفسي».

 

#159#

$[عود إلى شرح حديث علي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]$

*قال علي رضي الله عنه: "قد وسع الناس بسطه وخلقه, فصار لهم أباً, وصاروا عنده في الحق سواء":

وفي رواية: وصاروا عنده في الحق متقاربين, متفاضلين فيه بالتقوى.

خرج البيهقي في "سننه الكبرى": من حديث يوسف بن يعقوب, حدثنا محمد بن أبي بكر, حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن عجلان, حدثني القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم» وذكر الحديث.

وحدث به الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني في كتابه "رياضة المتعلمين" فقال: أخبرنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي أخبرنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا يحيى بن سعيد, عن محمد بن عجلان, عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد الرحيم أعلمكم».

وهكذا أخرجه النسائي في "سننه": عن يعقوب الدورقي.

وحدث به أبو داود في "سننه": عن عبد الله بن محمد النفيلي, عن عبد الله بن المبارك, عن ابن عجلان.

 

#160#

وخرجه ابن ماجه في "السنن": عن محمد بن الصباح, عن سفيان بن عيينة.

وعن يعقوب بن حميد بن كاسب المخزومي, عن المغيرة بن عبد الرحمن المكي, كلاهما عن محمد بن عجلان – طوله ابن عيينة.

وهو في "صحيح ابن حبان".

وصح عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها, فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه».

وقال الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" وهو أول حديث فيه: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم, حدثنا جعفر بن مهران, حدثنا عبد الوارث, عن أبي التياح, عن أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.

وقال: حدثنا أحمد بن جعفر بن نصر الجمال, حدثنا جرير بن يحيى, حدثنا حسين بن علوان الكوفي, حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال له: «لبيك» فلذلك

 

#161#

أنزل الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وقال: حدثنا أحمد بن جعفر, حدثنا جرير بن يحيى, حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن عدي بن الفضل, عن إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله. قال: «يا لبيك».

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": عن محمد بن حاطب أن أمة قالت: يا رسول الله فقال: «يا لبيك, وسعديك» .... الحديث.

وقال الحارث بن أبي أسامة في "مسنده": حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير, وكان علي بن أبي طالب وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا إذا كانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالا: يا رسول الله اركب حتى نمشي عنك, قال: «ما أنتما بأقوى مني, ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».

 

#162#

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": من حديث نصر بن علي, حدثنا المقرئ هو أبو عبد الرحمن, حدثنا الليث, حدثني الوليد بن أبي الوليد, أن سليمان بن خارجة حدثه, عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق دخلوا على زيد بن ثابت فقالوا: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خيثمة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأحمد بن إبراهيم الدورقي, قالوا: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ, عن ليث بن سعد, حدثني أبو عثمان – الوليد بن أبي الوليد – أن سليمان بن خارجة بن زيد بن ثابت حدثه عن أبيه خارجة, قال: دخل نفر على زيد بن ثابت فقالوا: حدثنا عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت جاره, فإذا نزل عليه الوحي أرسل إلي فكتبت له, وكان إذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا وكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا المقرئ أبو عبد الرحمن, حدثنا الليث بن سعد ... فذكره.

 

#163#

وحدث به أبو بكر محمد (بن) جعفر الخرائطي في كتاب "اعتلال القلوب" عن علي بن حرب, حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ..فذكره.

تابعه أبو الهيثم خالد بن القاسم المدائني الضعيف, عن ليث.

*قال علي رضي الله عنه: "مجلسه مجلس حلم وحياء, وصبر وأمانة":

أي: مجلسه صلى الله عليه وسلم يشتمل على (الحلم) وهو الأناة والتثبت في الأمور وترك الطيش, وهو من شعار العقلاء.

وعلى "الحياء" وهو خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في الحق.

وقوله: "وصبر": أي على الطاعة, وقيل: على الشدة, وقيل: عن المعصية.

والأمانة: يحتمل أنه قيامهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم والتكليفات, أو يأمن بعضهم بعضاً, ويحتمل الأمرين معاً وهو الأقوى.

*قال علي رضي الله عنه: "لا ترفع فيه الأصوات, ولا تؤبن فيه الحرم":

وفي رواية: ولا تنثى.

وفي رواية: فلا تنتثل فلتاته.

 

#164#

هذا من خشوع جلسائه الذين أمروا يخفض أصواتهم عنده, واستعمالهم الأدب معه قبل لقيه وبعده, كانوا يجلسون معه مقتبسين الخير متخشعين كأنما على رءوسهم الطير.

قال دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": حدثنا أبو مسلم الكجي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبه، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك هو الثعلبي الذبياني العامري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأن على رءوسهم الطير .. الحديث.

وقد ذكرنا له فيما تقدم طريقا آخر غير هذا.

وقوله: (ولا تؤبن فيه الحرم) أي: لا تذكر بقبيح ولا ترمى بعيب ولا تقذف بفعل ولا قول غير مرضيين، كما يحدث في مجالس عديمي المروءة وأهل العصيان.

 

#165#

و(الحرم) جمع حرمة وهي المرأة، وهي أيضا ما يلزم الإنسان صونه وحفظه.

وقوله: "ولا تنثى فلتاته": من قولهم نثوت الكلام نثوا إذا أظهرته، والفلتات جمع فلتة وهي هنا السقطة من الكلام من غير تدبر، ومعنى هذا أنه لا يتحدث عن مجلسه بسقطة ولا بهفوة إن حدثت فيه من بعض القوم.

وقيل: معناه أنه لم يكن في مجلسه فلتة فتظهر، بل كان خاليا عن الفلتات، معمورا بالأقوال المحكمات.

ومعنى الرواية الأخرى: لا تنتثل، أي: لا تستخرج ولا تعاد.

*قال علي: رضي الله عنه: "يتعاطفون فيه بالتقوى" وفي رواية: "متعادلين يتفاضلون منه بالتقوى"، "متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة".

وفي رواية: "ويرقدون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب".

وفي رواية: "ويرحمون الغريب".

 

#166#

قوله: "يتعاطفون فيه بالتقوى" أي: يميل بعضهم إلى بعض بالتقوى التي هي وقاية بين العبد وبين ما نهى الله عنه.

وفي الرواية الأخرى "متعادلين" أي: مستقيمين على سمت واحد، وطريقة واحدة.

وقوله: (يتفاضلون منه بالتقوى): أي من مجلسه صلى الله عليه وسلم يكسبون بالتقوى ما يفضلون به غيرهم.

وقوله: (متواضعين): لما كانوا يأخذون به أنفسهم من السكينة والوقار في مجلسه صلى الله عليه وسلم.

خرج الترمذي: من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم فلا يرفع منهم إليه بصره، إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما. وهذان من تواضع الصحابة رضي الله عنهم الذي هو خفض أبصارهم واستعمالهم السكينة والوقار في مجلسه صلى الله عليه وسلم.

وأما في غير مجلسه فأخبارهم بالتواضع قد اشتهرت وآثارهم بالسهولة والبشر قد انتشرت، من طالع سيرهم تيقن ذلك وعرفه، وحفظ لكل منهم منزلته وشرفه.

 

#167#

وقوله: (يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير) لما هم عليه من الشفقة والرحمة، وامتثالا لقول المؤيد بالعصمة صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه محمد بن فضيل، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال رسول الله صلىه عليه وسلم    : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا».

خرجه الترمذي لابن فضيل، وذكر أنه حديث حسن صحيح.

ورواه أبو ميسرة محمد بن الحسين بن أبي العلاء الزعفراني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح [...]، عن عبد الله بن عمرو يرويه، قال: »ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا».

 

#168#

 

#169#

الشافعي هذا هو: إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان المكي ابن عم الإمام أبي عبد الله الشافعي، لأن أبا ميسرة لم يرو عن الإمام ولم يلقه.

وجاء من حديث أنس رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يوسعوا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا».

خرجه الترمذي من حديث عبيد بن واقد، عن زربي، عن أنس.

وحدث عبد الله بن وهب المصري، عن مالك، عن أبي قبيل، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لا يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا».

 

#170#

تابعه زيد بن الحباب عن مالك بن الخير، بنحوه.

ومالك هذا ليس بابن أنس الإمام، ولكنه مالك بن الخير الزبادي التجيبي من بني زياد بفتح الزاي بعدها موحدة، وهم حي من أحياء اليمن.

قال بعضهم عن مالك هذا: وقد تفرد بهذا الحديث عن أبي قبيل.

قلت: لم ينفرد به، بل رواه عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل، واسمه حيي بن هانئ بن ناضر – بالمعجمة – بن يمتع المعافري من خيار أهل مصر.

وقوله: (ويؤثرون ذا الحاجة) وفي الرواية الأخرى: (ويرفدون ذا الحاجة)، و "يؤثرون" أبلغ من "يرفدون" في الرواية الأخرى، لأن رتبة الإيثار أعظم من رتبة الرفد، وعلى كلتا الروايتين وكل من الأمرين: يفوز ذو الحاجة منهم بقضاء المآرب، ويرى من كرمهم ومساعدتهم في ذلك العجائب.

صح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل، فقال: إني أبدع بي يا رسول الله، فاحملني، فقال: «ما عندي ما أحملك عليه» فقال رجل: أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله».

 

#171#

وخرجه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم (رجل يستحمله فلم يجد عنده ما يحمله، فدله آخر – يعني: على آخر – فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم) فأخبره، فقال: «الدال على الخير كفاعله».

قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: فسألته – يعني: أباه عليا رضي الله عنه – عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر".

تقدم عن جرير رضي الله عنه أنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.

وجاء من حديث عبد الله بن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه لناس.

خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "المداراة" لابن لهيعة، وتقدم.

*قال علي رضي الله عنه: "سهل الخلق":

روي عن الفضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} قال: على أدب القرآن.

 

#172#

وحدث حسين بن علوان الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال له: «لبيك» فلذلك أنزل الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم} وقد تقدم.

وروي عن أنس رضي الله عنه قال: ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، واخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له.

وتقدم بلفظ غير هذا.

وجاء أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: كان خدم المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها، وربما كان في الغداة الباردة يريدون به التبرك.

خرجه مسلم في "صحيحه".

وتقدم حديث أنس رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم سنين فما سبني سبة قط

 

#173#

ولا ضربني ضربة قط، ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد من أهله قال: «دعوه فلو قدر شيء لكان».

*قال علي رضي الله عنه: "لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب».

(لفظ): السيئ الخلق، الخشن الكلام، يقال: فظ يفظ بالفتح فظاظة: تجهم، وأغلظ في منطقه، والغليظ من قولهم غلظ الخلق غلظة وغلظة بالضم والكسر وغلاظة إذا كان فيه شكاسة وصعوبة

و(سخاب): فعال من السخب وهو على البدل من الصخب كالتعب وزنا وهو الضجة واضطراب الأصوات والخصام.

وتقدم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة بذلك مع شواهده، ولله الحمد..

قال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه, لأنظر إلى زفن الحبشة حتى كنت التي مللت, فانصرفت عنهم.

وبالإسناد إلى عبد الرحمن عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلىلم عليه و       يومئذ: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة, إني أرسلت بحنيفية سمحة».

*قال علي رضي الله عنه: "ولا فحاش ولا عياب ولا مداح":

الفحاش والعياب: فعال للمبالغة من الفحش في القول وعيب الناس والوقيعة فيهم.

وتقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «متى عهدتيني فحاشاً».

وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً.

وثبت عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سباباً ولا فاحشاً ولا لعاناً, كان يقول لأحدنا عند المعتبة: «ما له ترب جبينه».

وثبت أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله, ادع على المشركين, قال: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة».

انفرد بإخراجه مسلم دون باقي الستة.

وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة», حدث به أبو علي – الحسن بن عبد الله بن سعيد الكندي البعلبكي – حدثنا محمد بن تمام, حدثنا مؤمل – يعني: ابن إهاب – حدثنا مالك بن سعير, حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة .... فذكره.

تابعه زياد بن يحيى الحساني, عن مالك بن سعير.

وخالفه وكيع بن الجراح فرواه عن الأعمش, عن أبي صالح, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة» فأرسله.

حدث به ابن سعد في "الطبقات" عن وكيع هكذا.

خالفه في المتن الإمام أحمد فحدث به في "العلل" فقال: حدثنا وكيع وعبد الله بن داود, عن الأعمش, عن أبي صالح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت مهداة ورحمة».

وفي "صحيح مسلم" من حديث بكر بن سوادة, عن عبد الرحمن بن جبير, عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني} الآية وقول عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}

فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى, فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال – وهو أعلم – فقال الله عز وجل: يا جبريل (ذاهب) إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.

وحدث عن الفضل بن دكين, حدثنا مسعر, عن معبد بن خالد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلمون أني رحمة مهداة» الحديث.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع, حدثنا حماد, حدثنا أيوب, عن أنس رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان استرضع لابنه إبراهيم في أقصى المدينة, وكان زوجها قيناً, فيأتيه الغلام وعليه أثر الغبار فيلتزمه ويقبله ويشمه.

*وقوله: (ولا مداح) أي: لمن لا يسوغ مدحه, وإلا فقد أثنى على غير واحد من أصحابه, كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر في الإزار ما ذكر قال أبو بكر: يا رسول الله إن إزاري يسقط أحد شقيه قال: «إنك لست منهم».

وكذلك شهادته صلى الله عليه وسلم للعشرة رضي الله عنهم بالجنة ولغيرهم, وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل».

وقد روي بدل هذه اللفظة: و"لا مزاح" بالزاي من المزاح الذي هو الدعابة, وهذا أيضاً يكون نفياً للمزاح الباطل, لأنه صلى الله عليه وسلم مازح بالحق وداعب بالصدق.

$[ما روي في مزاحه صلى الله عليه وسلم]$

خرج الترمذي في "جامعه" و "الشمائل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله, إنك تداعبنا, قال: «إني لا أقول إلا حقاً».

وقال أبو عبد الله الزبير بن بكار في كتابه "الفكاهة": حدثني علي ابن محمد, حدثني المبارك بن فضالة, عن بكر بن عبد الله المزني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أمزح ولا أقول إلا الحق».

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني: من حديث طفيل بن سنان, عن عبيد بن عمير, قال: كنت قاعداً عند عائشة رضي الله عنها [فذكر قصة ذكر فيها أن عائشة رضي الله عنها] قالت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا».

وروى المعافى بن زكريا من حديث يوسف بن الضحاك, حدثنا أبي,

حدثنا خالد الحذاء, عن أبي قلابة, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزاحاً, وكان يقول: «إن الله لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه».

وقال الزبير بن بكار: حدثني حمزة بن عتبة, عن نافع بن عمر, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها أنها مزحت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه بعض دعابات بهذا الحي من بني كنانة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل بعض مزحنا بهذا الحي من قريش» حمزة مجهول, والحديث منكر.

وخرج أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": من حديث عبد الله بن يزيد, حدثنا ابن لهيعة, عن عبيد الله بن المغيرة, سمعت عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه يقول: ما رأيت أحداً أكثر مزاحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أكثر تبسماً منه .... الحديث. وقد قدمنا آنفاً قول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.

وحدث عبد الرزاق, عن معمر, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً فكان يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من البادية فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم, (وقال: «إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته» وكان دميماً (بالدال المهملة), فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً) وهو يبيع متاعه فاحتضنه النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه – وهو لا يبصره – فقال: أرسلني من هذا؟ والتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري مني العبد؟» فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسداً, فقال: «لكن أنت عند الله غال».

صحيح غريب, قاله الذهبي.

وخرج الترمذي في "جامعه" و "الشمائل": من حديث أبي أسامة, عن شريك, عن عاصم الأحول, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ذا الأذنين» قال أبو أسامة: يعني: يمازحه.

ورواه لوين وإسحاق بن [أبي] إسرائيل وغيرهما, عن شريك بنحوه.

وخرجه أبو داود في "سننه": عن إبرهيم بن مهدي, حدثنا شريك ... فذكره.

تابعهم شعبة والصلت بن الحجاج, عن عاصم.

ويشبهه ما رواه موسى بن مروان, حدثنا يحيى بن سعيد العطار – يعني: الحمصي – عن الصلت بن الحجاج – عن عاصم الأحول, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها ذات يوم: «ما أكثر بياض عينيك!».

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: (وحدثني) أبو جعفر المديني, عن علي بن محمد القرشي, عن عبد الله بن سهم الفهري, قال: دخلت امرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من زوجك؟» فسمته فقال: «الذي في عينيه بياض» فرجعت – أي: تنظر إلى زوجها – فقال: ما لك؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك فلان؟ قلت: نعم قال: «الذي في عينيه بياض», قال: أوليس البياض في عيني أكثر من السواد.

وقال الزبير بن بكار في كتابه "الفكاهة": حدثني عبد الله بن نافع الصائغ, عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم: أن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك قال: «من هو؟ (هو) الذي بعينه بياض؟», فقالت: إي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعينه بياض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلي إن بعينه بياضاً» فقالت: لا والله, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد إلا وبعينه بياض».

قال: وجاءته امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله, احملني على بعير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احملوها على ابن البعير» فقالت: ما أصنع به, لا تحملني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل من بعير إلا ابن بعير» وكان يمزح معها.

وخرج الترمذي في "جامعه" و "الشمائل" من حديث خالد بن عبد الله الطحان, عن حميد, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني حاملك على ولد الناقة» فقال: يا رسول الله, ما أصنع بولد الناقة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل تلد الإبل إلا النوق؟!» قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب.

وخرجه أبو داود في "سننه", وأحمد بن حنبل في "مسنده" لخالد الطحان.

وقال ابن سعد في "طبقاته الكبرى": أخبرنا الفضل بن دكين, حدثنا أبو معشر, عن محمد بن قيس قال: جاءت أم أيمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: احملني, فقال: «أحملك على ولد الناقة» فقالت: يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريدها, فقال: «لا أحملك إلا على ولد الناقة». يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يمازحها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً, والإبل كلها ولد النوق.

وخرج الترمذي في "الشمائل" أيضاً من حديث المبارك بن فضالة, عن الحسن قال: أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, ادع الله لي أن يدخلني الجنة, فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز» قالت: فولت تبكي, فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز, إن الله عز وجل يقول: {إنا أنشأنهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا . عرباً أتراباً}».

وخرجه أبو سعيد – الخليل بن أحمد السجزي – في كتابه "الآداب": من حديث سفيان, حدثنا جرير, حدثنا الحسن .... فذكره بنحوه.

والمرأة هي عمته صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب.

ومن حديث جرير بن حازم, عن الحسن خرجه الزبير بن بكار في "الفكاهة" وهو من مراسيل الحسن.

وحدث به سلمة بن شبيب, عن عمر بن عثمان, حدثنا سعيد بن يونس, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها سئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح؟ قالت: نعم, كان عندي عجوز فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: ادع الله أن يجعلني من أهل الجنة فقال: «إن الجنة لا تدخلها العجائز» وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم النداء فخرج ودخل وهي تبكي فقال: «ما لها؟» قالوا: إنك حدثتها أن الجنة لا تدخلها العجائز, فقال: «إن الله يحولهن أبكاراً عرباً أتراباً».

حدث به أبو بكر ابن أبي الدنيا, عن سلمة.

ورواه الزبير بن بكار في كتاب "الفكاهة والمزاح" أيضاً متصلاً من طريق أخرى: من حديث خارجة من مصعب, وهو متروك, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه أن عجوزاً دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء فقال لها ومازحها: «إنه لا يدخل الجنة عجوز» وحضرت الصلاة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فبكت بكاء شديداً حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا نبي الله إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها: «إنه لا يدخل الجنة عجوز» فضحك صلى الله عليه وسلم, وقال: «أجل لا يدخل الجنة عجوز, ولكن قال الله عز وجل: {إنا أنشأنهن

إنشاء . فجعلناهن أبكاراً . عرباً أتراباً} وهن العجائز الرمص».

وجاء عن الأسود بن عامر, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي جعفر الخطمي: أن رجلاً يكنى أبا عمرة, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أم عمرة» فضرب الرجل يده إلى مذاكيره, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مه», قال: والله ما ظننت إلا أني امرأة لما قلت لي: «يا أم عمرة» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم أمازحكم».

وهذا مرسل.

ومما يقرب من هذا الباب: توريته صلى الله عليه وسلم, كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها.

فقيل: هو أن يريد جهة فيسأل عن غيرها: كيف طريقها؟ وكيف مياهها صلى الله عليه وسلم وكيف مسلكها؟ وهو يريد غيرها.

وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عثمان بن خالد بن عمر السلفي,

حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري, حدثنا الحكم بن الوليد, سمعت عبد الله بن بسر رضي الله عنهما يقول: بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب فأكلته, فقالت أمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتاك عبد الله بقطف من عنب؟ قال: «لا» فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآني قال: «غدر, غدر».

هذا حديث حمصي الإسناد, والحكم تكلم فيه.

*قال علي رضي الله عنه: "يتغافل عما لا يشتهي".

(أي: يتركه) فلا يؤيس منه.

وفي رواية: ولا يوحش منه, ولا يحبب فيه.

فقوله: (يتغافل عما لا يشتهي): أي: يتركه على ذكر منه له؛ يدل عليه قوله: (فلا يؤيس منه), كقوله في الرواية الأخرى: (ولا يوحش منه) أي: لا ينفر منه, أو يكون من قولهم: توحش للدواء. أي: أخل جوفك له من الطعام, أو من قولهم: وحش الرجل بسلاحه إذا رمى به مخافة أن يلحق.

$[ما روي في زهده صلى الله عليه وسلم]$

*قال علي رضي الله عنه: "قد ترك نفسه من ثلاثة: الرياء والإكثار وما لا يعنيه".

فالرياء: التزين للناس بالعمل أو القول, وفي رواية: "المراء" بدل "الرياء", وهو الجدل, وفسر المراء أيضاً بالمخالفة وجحد الحق, والتلون على الناس.

والإكثار: أي من الأشياء الدنيوية, حتى كان صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغد, ثبت ذلك من حديث أنس بن مالك وغير واحد.

ومن الغرائب ما قال أبو زكريا يحيى بن معين: حدثنا مروان بن معاوية, حدثنا هلال بن معاوية, حدثنا هلال بن سويد الأحمري, سمعت أنساً رضي الله عنه يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له ثلاثة طوائر فأطعمه

خادمه طيراً, فلما كان الغد أتاه به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أنهك أن تخبئ شيئاً لغد, فإن الله عز وجل يأتي برزق كل غد».

تفرد به مروان عن هلال, قاله أبو القاسم ابن عساكر.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة قال: قال لنا الإمام أبو سهل محمد بن سليمان: كان – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – يعامل فيما بينه وبين مولاه على حسن الظن والانتظار, دون الحبس والادخار, وكان لا يحتجز لنفسه ليومه من أمسه.

وقد صح أنه لم يكن يدخر أشياء لغد, فإن احتبس عنده شيء فلا على نية الغد, ولكن للظفر من يجود به – يعني: عليه – أو يصرفه في نائبة من نوائب الدين.

وقيل: لا يدخر تملكاً بل يدخره تمليكاً.

وقيل: لم يكن يدخره على أمل البقاء إلى غد.

وقال أبو السري هناد بن السري في كتابه "الزهد": حدثنا وكيع, عن مسعر, عن أبي حصين, قال: أصبح عند بلال رضي الله عنه تمر قد دخره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «أمنت أن يصبح له بخار من بخار جهنم, أنفق بلال, ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».

وقال الإمام أحمد في "الزهد": حدثنا وكيع, حدثنا إسرائيل [عن] أبي إسحاق, عن مسروق, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفق بلال, ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».

وقال زائدة بن قدامة: حدثنا عبد الملك بن عمير, عن ربعي بن حراش, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساهم الوجه, فحسبت ذلك من وجع, فقلت: يا رسول الله مالي أراك ساهم الوجه, قال: «من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس ولم تنفقهن فكن في خمل الفراش».

وقال حماد بن إسحاق في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن خيثمة بن عبد الرحمن, قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعطه أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك, ولا ينقصك من الآخرة شيئاً, قال: «اجمعوها لي في الآخرة», فنزلت: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً}.

تابعه أبو نعيم, عن سفيان مثله.

وجاء عن الوضين بن عطاء, حدثني (عطاء) بن أبي رباح, قال: دعي أبو سعيد الخدري إلى وليمة وأنا معه, فدخلنا فرأى صفرة وخضرة, فقال: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش, وإذا تعشى لم يتغد.

وقال حماد أيضاً: حدثنا أحمد بن منصور, حدثنا ابن أبي مريم, أخبرنا يحيى بن أيوب, حدثني ابن زحر, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض علي ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً؛ فقلت: لا يا رب, ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً, فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك, وإذا شبعت حمدتك وشكرتك».

ورواه عبد الله بن صالح, عن يحيى بن أيوب بنحوه.

وحدث به يحيى الحماني, عن ابن المبارك, عن يحيى بن أيوب،

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير".

وقال حماد أيضاً: حدثنا (عارم), حدثنا ثابت بن يزيد, حدثنا هلال بن خباب, عن عكرمة, عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم على حصير قد أثر في جنبه, فقال له: يا رسول لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟! فقال: «مالي وللدنيا, ومالي وللدنيا, ومالي وللدنيا, والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها».

وهو في "مسند أحمد بن حنبل", عن عبد الصمد – هو ابن عبد الوارث – وعفان وغيرهما, عن ثابت بن يزيد.

وخرجه في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا عبد الصمد وأبو سعيد – المعنى واحد – قالا: حدثنا ثابت ..... فذكره.

وقال في "الزهد" أيضا: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا المسعودي, عن عمرو بن مرة, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله

ألا أذنتنا فنبسط تحتك ألين منه؟ فقال: «مالي وللدنيا, إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف فقال تحت شجرة, ثم راح وتركها».

تفرد به المسعودي عن عمرو بن مرة متصلاً مرفوعاً فيما ذكره أبو نعيم.

وقال في "مسنده" أيضاً: حدثنا يحيى بن (عيلان, حدثنا يحيى ابن) إسحاق, حدثنا ليث بن سعد, عن يزيد بن أبي حبيب, عن علي بن رباح, سمعت عمرو بن العاص يقول: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان يزهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله ما أتت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له, فقال له بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسلف.

وقال غير يحيى: والله ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له.

وقال الحسن بن عرفة: حدثنا عباد بن عباد, عن شعبة بن الحجاج, عن سماك بن حرب, عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر الدنيا وما أعطوا, وقال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.

وهو في "صحيح مسلم" ليحيى بن آدم, عن زهير, عن سماك، بنحوه, ولم يذكر عمر.

وله طرق بألفاظ غير ما ذكر:

منها: طريق شعبة, عن سماك سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكر ما فتح الله على هذه الأمة, لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يلتوي ما يجد ما يملأ بطنه من الدقل, وما ترضون إلا بألوان الطعام, وألوان الثياب.

وحدث به مسلم في "صحيحه": عن أبي موسى وبندار, عن غندر, عن شعبة.

وقال الإمام أحمد في كتاب "الزهد": حدثنا أبو عبد الصمد العمي, حدثنا مالك بن دينار, عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشبع من الخبر واللحم إلا على ضفف.

وقال مالك: لم أدر ما (الضفف), فسألت أعرابياً فقال: عربية والأكلة – يجتمع القوم على الطعام فيتناولونه تناولاً.

وخرج دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": من حديث بقية, حدثني سعيد بن سنان الكندي, عن أبي الزاهرية, عن جبير بن نفير (عن) ابن البجير – وكانت له صحبة رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه ذات يوم جوع, فوضع حجراً على بطنه, ثم قال: «ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة, ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة, ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين, ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم, ألا يا رب متخوض يتنعم فيما أفاء الله على رسوله ما له عند الله من خلاق, ألا وإن عمل الجنة خربة بربوة, ألا وإن عمل النار سهلة بشهوة, ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلا».

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الزهد" لأبيه: أخبرت عن سيار, حدثنا سهل بن أسلم العدوي, حدثنا يزيد بن أبي منصور, عن أنس بن مالك, عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا حجراً حجراً, ورفع رسول الله

صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين.

وخرجه الترمذي في "جامعه" وإسناده جيد.

وفي "الصحيحين": في قصة حفر الخندق من حديث جابر رضي الله عنه: ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب بحجر من الجوع. وذكر ابن حبان في حديث شد الحجر على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فقال في "صحيحه": إنما هو الحجز بضم الحاء وآخره زاي, جمع, وقد انفرد بذلك.

وقال الطبراني: حدثنا بكر بن سهل, حدثنا عمرو بن هشام, حدثنا سليمان بن أبي كريمة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر, لم يضع لبنة على لبنة, ولا قصبة على قصبة, رفع له علم فشمر إليه, اليوم المضمار وغداً السباق والغاية الجنة أو النار».

 [عود إلى شرح حديث علي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]

$[النهي عن الغيبة وتتبع عورات المسلمين]$

*قال علي رضي الله عنه: "وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيبه".

وفي رواية: "ولا يعيره".

تقدم قول علي رضي الله عنه: ولا "عياب", وقول أنس رضي الله عنه: "لم يكن سباباً ولا فاحشاً, ولا لعاناً".

*قال علي رضي الله عنه: "ولا يطلب عورته":

هذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وكمال مروءته أنه لا يعيب أحداً ولا يطلب عورته, وقد أمر بذلك أمته.

خرج الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر, فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه, لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من اتبع عورة أخيه المسلم اتبع الله عورته, ومن اتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله».

وخرجه أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من اتبع عورتهم تبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته».

*قال علي رضي الله عنه: "ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه":

وفي رواية: "يرجو ثوابه" كذكره الله عز وجل على كل أحيانه, وكجوامع الكلم التي نشرها في تقرير الشرائع وتأسيس الآداب, وتأصيل مكارم الأخلاق, وبث فنون العلوم التي أرشد إليها ودل الناس عليها إلى ما لا يحويه حفظ, ولا يحيط به حصر.

$[الطب النبوي]$

ومن ذلك: علم الطب, وتوضيح فوائده, وتمهيد قواعده وتحرير كلياته, وترتيب جزئياته.

خرج أبو نعيم في كتاب "الطب": من طريق مسكين بن بكير, حدثنا إسماعيل بن عياش, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ابن أختي كان يمرض الإنسان من أهلي فيبعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدعيه فأنعته للناس.

وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم, أو شربة عسل, أو كية بنار, وأنا أنهى أمتي عن الكي».

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه فقال: «اسقه عسلاً» ثم أتاه الثانية, فقال: «اسقه عسلاً» ثم أتاه الثالثة فقال: «اسقه عسلاً» ثم أتاه فقال: فد فعلت فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك, اسقه عسلاً» فسقاه فبرأ.

وحدث ابن الطباع: عن عبد الحميد بن زكريا, حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي, عن عبد الحميد بن سالم, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لعق العسل ثلاث غدوات من الشهر لم يصبه عظيم من البلاء».

تابعه سعيد بن زكريا المدائني عن الزبير, وقد تفرد به الزبير وهو ضعيف, وعبد الحميد بن سالم لا يعرف له سماع من أبي هريرة فيما قاله البخاري, والله أعلم.

وقال أبو داود في "المراسيل": حدثنا محمد بن العلاء, أخبرنا ابن المبارك, عن زكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي, قال رسول الله صلىعليه وسلم      : «خير دوائكم السعوط واللدود والمشي والحجامة والعلق».

ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة, عن عبد الرحيم بن سليمان, عن زكريا, عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الدواء اللدود والسعوط والمشي والحجامة والعلق».

وجاء موصولاً فيما رواه أبو جعفر – محمد بن عثمان بن أبي شيبة – حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا عباد بن منصور, عن عكرمة, عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير ما تداويتم به اللدود والسعوط والحجامة والمشي».

وقال أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السعوط أحب

إلي من النفخ, واللدود أحب إلي من العلاق, والكمأة أحب إلي من الكي».

قال أبو داود: اللدود: صب الدواء تحت اللسان من شق.

وخرج من مراسيل أيوب السختياني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على شدة الحر بالحجامة».

وجاء عن عوف, عن الحسن بيان ذلك.

وحدث عبد الله بن صالح, عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه».

وخرجه أبو داود في "المراسيل" فقال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.

وقال عبد الملك بن حبيب السلمي في كتابه "التداوي": حدثني الحزامي, عن مزاحم بن زفر, عن يوسف بن زياد, عن عبد الله بن

عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإياكم والحجامة يوم الأربعاء فإنه لم يظهر بامرئ داء إلا في ليلة الأربعاء».

وقال: وحدثني أبو محمد الحنفي, عن أبي معشر المدني, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتجم يوم الجمعة فمات فقد أشرك في دمه».

وقال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه».

وقال: حدثنا سليمان بن داود المهري, حدثنا ابن وهب, أخبرني يونس, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه رآه مضطجعاً في الشمس، قال يونس: فنهاني, وقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنها تورث الكسل, وتثير الداء الدفين».

وخرج أبو نعيم في "كتاب الطب": من طريق هلال بن يحيى الرازي, حدثنا عبد الملك بن زياد المهلب, حدثنا بسطام بن عباد:

أن مدرك بن حجرة ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نائماً في الشمس, فقال: «ثم فإنها تغير اللون, وتبلي الثوب».

ومن حديث إسماعيل بن زرارة, حدثنا عبد الرحمن بن قيس, حدثني أخي حسين بن قيس, عن أبي بردة, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجلس الرجل بين الظل والشمس.

ومن حديث عبد الله بن وهب, أخبرني عبد الجبار بن عمر: أن محمد بن المنكدر, أخبره عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينام الرجل بعضه في الشمس وبعضه في الظل.

وقال: حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان, حدثنا أبو يعلى الموصلي, حدثنا عمرو بن الحصين, حدثنا (ابن) علاثة, حدثنا الأوزاعي, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه».

وروي من حديث عباد بن كثير، عن سيار الواسطي، عن إسحاق ابن أبي طلحة، عن أنس (بن مالك) رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصبحوا وقيلوا فإن الشيطان لا يقيل».

تابعه ابن أبي فديك، عن عباد، عن أبي إسحاق الواسطي.. فذكره.

وعن أبي خليفة: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ومعاذ بن معاذ وابن أخي خلاد الأعمى، قالوا: حدثنا بزيع – أبو الخليل – حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة, ولا تناموا عليه فتقسى قلوبكم».

تابعهم أزهر بن حميد.

وقال محفوظ بن أبي توبة: حدثنا يحيى بن عبد الله, حدثنا إبراهيم بن جريج الرهاوي – أبو سلمة – عن زيد بن أبي أنيسة, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة, فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة, وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم».

وحدث به أبو نعيم في كتاب "الطب": عن محمد بن علي بن خنيس في آخرين, قالوا: حدثنا أبو شعيب الحراني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي .... (فذكره.

ورواه أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران في الأول من "أماليه" الخمسة فقال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري بمكة, حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن بن أبي شعيب الحراني إملاء في شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين ومائتين, فذكره.

ورواه أبو جعفر العقيلي عن أبي شعيب الحراني مرسلاً, فقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن الحسن بن محمد الحراني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي) فذكره مرسلاً لم يذكر (فيه) أبا هريرة.

وقال العقيلي: هذا الحديث باطل, لا أصل له, إنما يروى عن ابن أبجر.

وكذا قال الدارقطني: إنما هو من كلام ابن أبجر.

قلت: وابن أبجر هو عبد الملك بن سعيد بن حيان الكوفي.

قال أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي: ثقة, رجل صالح, وكان يعالج للناس, بصيراً بالطب, وكان لا يأخذ عليه أجراً, وكان يقول: خذ كذا, وخذ كذا, واستشف الله.

وذكر الدارقطني عن الحديث: أن إبراهيم بن جريج تفرد به ولم يسنده غيره, قال: وقد اضطرب فيه, وكان طبيباً فجعل له إسناداً.

وذكر ابن الجوزي أن المتهم برفعه: إبراهيم بن جريج.

قلت: وقول ابن أبجر الحديث المذكور رواه أبو علي – حنبل بن إسحاق في "تاريخه" فقال: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, عن ابن

أبجر سمعه يحدث عن أبيه, أنه قال: المعدة حوض (الجسد), والعروق تشرع فيه, فما ورد فيها بصحة صدر بصحة، وما ورد فيها بسقم صدر بسقم.

$[عقله صلى الله عليه وسلم]$

وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا داود بن المحبر, حدثنا عباد بن كثير, عن أبي إدريس, عن وهب بن منبه, قال: قرأت أحداً وسبعين كتاباً, فوجدت في جميعها أن الله عز وجل لم يعط جميع الناس من بدو الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا, وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً.

وحدث به أبو بكر – محمد بن أبي إسحاق – الكلاباذي في كتابه "المعاني": عن محمد بن موسى بن علي, عن الحارث بن أبي أسامة به.

وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو القاسم – عبد الله بن محمد العطشي, حدثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي, حدثنا داود بن المحبر, حدثنا عباد بن كثير, عن [أبي] إدريس, عن وهب بن منبه قال: قرأت أحداً وسبعين كتاباً

فوجدت في جميعها أن الله عز وجل لم يعط جميع الناس من بدو الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب (عقل) محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً.

$[تعظيم أصحابه صلى الله عليه وسلم له]$

*قال علي رضي الله عنه: "إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير".

روينا من طريق إسماعيل بن سعيد المعدل قال: قال أبو بكر ابن الأنباري: قولهم: "جلساء فلان كأنما على رؤوسهم الطير" في هذا قولان:

أحدهما: أن يكون المعنى أنهم يسكتون فلا يتحركون ويغضون أبصارهم, والطير لا يقع إلا على ساكن.

يقال للرجل إذا كان حليماً وقوراً: إنه لساكن الطير, أي: كأن على رأسه طيراً لسكونه.

والقول الثاني: إن الأصل في قولهم: "كأن على رؤوسهم الطير": أن سليمان بن داود – عليهما السلام – كان يقول للريح: أقلينا, وللطير: أظلينا, فتقله وأصحابه الريح, وتظله الطير.

فكان أصحابه يغضون أبصارهم هيبة له وإعظاماً, ويسكنون فلا يتحركون, ولا يتكلمون بشيء إلا أن يسألهم عنه فيجيبوا, فقيل للقوم إذا سكنوا هم علماء وقراء كأنما على رؤوسهم الطير؛ تشبيهاً بأصحاب سليمان عليه السلام.

ومن ذلك الحديث الذي يروى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير.

وفي حديث البراء الذي خرجه أبو داود وابن ماجه ( .... ) رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير.

*قال علي رضي: "فإذا سكت تكلموا":

كان من عادة الصحابة رضي الله عنهم تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله وإكرامه وتوقيره وبره, ومن خبر سيرهم عرف كيف كانوا معه صلى الله عليه وسلم وقد نهوا عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بالقول وسبقه بالكلام حتى يستوفي صلى الله عليه وسلم كلامه في

قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية الشريفة, واختاره أبو العباس – أحمد بن يحيى ثعلب.

وقال سهل بن عبد الله التستري في معنى الآية الشريفة: لا تقولوا قبل أن يقول, فإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا.

*قال علي رضي الله عنه: "لا يتنازعون عنده بحديث, من تكلم عنده أنصتوا حتى يفرغ":

قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا ينبغي عندي تنازع», وفي لفظ: «لا ينبغي عند نبي تنازع».

$[ما روي في استماعه صلى الله عليه وسلم حديث أصحابه]$

*قال علي رضي الله عنه: "حديثهم عنده حديث أوليتهم يضحك مما يضحكون منه":

"الأولية" ما كان قبل النبوة وأيامهم فيها.

ومن حديث الأولية الذي ذكر بحضرته صلى الله عليه وسلم حديث أم زرع في أحد طرقه المتفق عليها.

وخرج الترمذي في "جامعه" و"الشمائل": من حديث سماك بن حرب, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقال أبو داود – سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي – في "مسنده": حدثنا شريك وقيس, عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, كان طويل الصمت قليل الضحك, وكان أصحابه ربما يتناشدون عنده الأشعار والشيء في أمورهم, فيضحكون, وربما تبسم صلى الله عليه وسلم.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن الفضل, عن سالم الأفطس, عن مكحول: سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون عنده الأشعار ويضحكون, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتبسم معهم.

وقال أبو محمد يحيى بن صاعد: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا شبابة, عن أبي بكر الهذلي, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رخص صلى الله عليه وسلم في شعر الجاهلية إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر, وقصيدة الأعشى في عامر وعلقمة.

وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب "الأغاني الكبير": أخبرني الحرمي بن أبي العلاء, حدثنا الزبير بن بكار, حدثني عمرو بن عثمان, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يحدث أصحابه وربما تركهم يتحدثون ويصغي إليهم ويتبسم, فبينما هم يوماً علي ذلك

يتذاكرون الشعر وأحاديث العرب [إذ] سمع حسان بن ثابت ينشد هجاء أعشى بن قيس بن ثعلبة علقمة بن علاثة ومديحه عامر بن الطفيل:

علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر

إن تسد الحوص فلم تعدها ... فعامر ساد بني عامر

ساد وألفى قومه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كف عن ذكره يا حسان, فإن أبا سفيان لما سبني عند هرقل رد عليه علقمة» فقال حسان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, من نالتك يده فقد وجب علينا شكره.

وقال أبو أحمد الزبيري: حدثنا زمعة بن صالح, عن الزهري, عن عبد الله بن وهب بن زمعة, عن أم سلمة أن أبا بكر خرج تاجراً إلى بصرى.

قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام أو عامين ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة وهما بدريان وكان سويبط على زادهم فجاء نعيمان, فقال: أطعمني فقال: لا, حتى يأتي أبو بكر, وكان نعيم مزاحاً فقال: لأبيعنك. ثم قال لأناس: ابتاعوا مني غلاماً وهو رجل ذو لسان, ولعله يقول: أنا حر, فإن كنتم تاركيه إذا قال لكم ذلك فدعوني ولا تفسدوا علي غلامي, قالوا: لا, بل نبتاعه منك, فباعه بعشر قلائص, ثم جاءهم, فقال: هو هذا, فقال سويبط: هو كاذب, وأما أنا فرجل حر. قالوا: قد أخبرنا بخبرك, وطرحوا الحبل والعمامة في رقبته وذهبوا فيه, فجاء أبو بكر فأخبروه, فذهب وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم منها وأصحابه حولاً.

وقال أبو نعيم في كتابه "الحلية": حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة قال: سئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال.

وخرج أبو الحسن الدارقطني في "سننه" من حديث أبي نعيم, حدثنا زمعة بن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة قال: كان

ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته, فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة, فوقع عليها, وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه, فقامت فخرجت فوجدته على جاريته, فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة, ثم خرج وفزع فقام فلقيها تحمل الشفرة, فقال: مهيم. فقالت: مهيم. قالت: لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة, قال: وأين رأيتني؟ قالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتني. قال: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ, فقال:

أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر, ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره, فضحك, حتى بدت نواجذه.

تابعه سعيد بن زكريا, عن زمعة.

وقد رويت هذه القصة بشعر غير هذا من طرق منقطعة منها عن

يحيى بن أيوب الغافقي المصري, عن عمارة بن غزية, عن قدامة بن محمد بن إبراهيم الحاطبي أن عبد الله بن رواحة ... فذكره.

$[كفارة المجلس]$

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقوم من مجلسه بين أصحابه يقول – ما خرجه أبو الشيخ ابن حيان الأصبهاني من حديث مصعب بن حيان – أخي مقاتل بن حيان – عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمع إليه أصحابه, فأراد أن ينهض قال: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث الحجاج بن دينار, عن أبي هاشم الواسطي, عن رفيع أبي العالية, عن أبي برزة رضي الله عنه قال: لما كان بآخرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس فأراد أن يقوم قال: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» فقالوا: يا رسول الله إنك تقول الآن كلاماً ما كنت تقوله فيما خلا, فقال: «هذه كفارة ما يكون في المجلس».

وقال محمد بن كثير: حدثنا عمرو بن قيس, عن أبي إسحاق, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً إذا قام من مجلسه

قال: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» فقلت: إن هذا لمن أعجب الكلام فقال: «أرجو أن لا يقولها عبد إذا قام من مجلسه إلا غفر له, وإن كان قد أكثر».

وجاء من حديث إسرائيل, عن جعفر بن الزبير, عن القاسم, عن أبي أمامة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً فأراد أن يقوم استغفر عشراً إلى خمسة عشر.

 

#224#

$[صبره صلى الله عليه وسلم على جفاء الأعراب]$

*قال علي رضي الله عنه: "ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم":

أي: يصيحون بهم, من جلب القوم جلبة بالتحريك, وأجلبوا: صاحوا.

وفي معنى قول علي رضي الله عنه ما خرجه أبو الشيخ الأصبهاني من حديث الفياض بن محمد, عن محمد بن إسحاق, عن هشام بن عروة, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزوراً من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة, فجاء به إلى منزله, فالتمس التمر, فلم يجده في البيت, قال: فخرج إلى الأعرابي, فقال: «يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة, ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده» فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه, فوكزه الناس وقالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «دعوه».

وفي "تاريخ البخاري الكبير" من حديث شريك, عن سماك, عن أبي ظبيان, عن ابن عباس رضي الله عنهما جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: «أرأيت لو دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟» قال: نعم, فدعاه فجعل ينزل من النخلة

 

#225#

حتى سقط في الأرض فجل ينقز حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له: «ارجع» فرجع حتى عاد إلى مكانه, فقال: أشهد أنك رسول الله , وآمن.

وفي معناه أيضاً أحاديث كثيرة, كحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة, فلا تجد علي في نفسك, فقال: «سل عما بدا لك» ... الحديث.

وكحديث أبي أمامة رضي الله عنه في قصة الشاب الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أئذن لي في الزنا, .... وقد تقدم.

 

#226#

$[ما روي في مصارعته صلى الله عليه وسلم]$

ومما يقرب من هذا ما قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا عبد الله بن ياسين, حدثنا أحمد بن غياث الضرير العسكري, حدثنا حفص [بن] عمر، حدثنا حماد بن سلمة, عن عمرو بن دينار, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء زيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة من الغنم, فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» قال: مائة من غنمي, قال: فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه, ثم قال: يا محمد هل لك في العود؟ قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» قال: مائة أخرى, قال: فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه, ثم قال: يا محمد هل لك في العود؟ قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» قال: ما بقي من الغنم, قال: فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه, ثم قال: يا محمد ما وضع (أحد ظهري) على الأرض قبلك ولا كان أحد أبغض إلي منك, وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, فقام عنه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.

هذا حديث أمثل ما روي من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم, وأقرب ما روي إلى الصحة, وأما ما روي من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل فليس له أصل وهو

 

#227#

شيء مفتعل لا يعرج على مثله ما قاله الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي.

*قال علي رضي الله عنه: "ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة فأرفدوه":

أي أعينوه وأعطوه, يقال: رفدته أرفده بالكسر رفداً, وأرفدته أعنته وأعطيته, والرفد بالكسر المعونة والعطية.

وفي معنى قول علي رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله» وتقدم.

وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فجاء رجل يسأل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه وقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء».

متفق على صحته.

وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي الأشهب, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له, (قال) فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً

 

#228#

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده فضل فليعد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر, حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.

*قال علي رضي الله عنه: "ولا يقبل – وفي رواية: لا يطلب – الثناء إلا من مكافئ":

قيل: إلا من مكافئ على إحسان سبق إليه من النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا ابتدئ بالثناء كره ذلك, وإذا أسدى معروفاً فأثني عليه قبل ذلك.

وقال نحوه أبو محمد عبد الله بن قتيبة.

وأنكر هذا التأويل أبو بكر ابن الأنباري, وقال: هذا غلط؛ لأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل بعثه للناس كافة وهداهم ورحمهم به, فكلهم تحت نعمته, والثناء عليه صلى الله عليه وسلم فرض لا يتم الإسلام إلا به.

وقال ابن الأنباري مرة: يجوز أيضاً أن يقال: من كافأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء على نعمة سلفت منه قبل ثناءه ومن لا فلا؛ لأن الثناء عليه فرض على جميع الناس.

قال ابن الأنباري: وإنما المعنى لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة إسلامه ممن لم ينبذ بنفاق أي: لا يكون من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

وقيل: المكافئ المقتصر في الثناء والمدح.

 

#229#

قال الأزهري: أي لا يقبل الثناء إلا من مقارب في مدحه غير مجاوز حد مثله, ولا مقصر به عما رفعه الله إليه ألا تراه يقول صلى الله عليه وسلم «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى ابن مريم, ولكن قولوا عبد الله ورسوله» فإذا قيل نبي الله ورسوله فقد وصف بما لا يجوز أن يوصف به أحد من أمته فهو مدح مكافئ له. انتهى.

والمكافأة: المجازاة على الشيء, يقال: كافأته أكافته مكافأة, والتكافؤ: التساوي.

قال أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي: حدثنا عفان بن مسلم, حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد, عن عبد الرحمن بن أبي بكرة, عن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني امتدحت ربي عز وجل وذكرتك فقال: «إن ربك يحب المدح, فهات ما امتدحت به ربك ودع ما ذكرتني».

وخرج أبو نعيم في "الحلية" من حديث مسعود بن سعد, عن عطاء بن السائب, عن ابن عباد, عن أبيه, قال: جاء رجل من بني ليث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أنشدك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا» ثلاث

 

#230#

مرات, فأنشده الرابعة مدحة له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان أحد من الشعراء أحسن فقد أحسنت».

عباد هذا هو عباد بن خالد الغفاري, قيل: إنه هو الذي نزل بالسهم في البئر يوم الحديبية.

وخرج البيهقي في "الدلائل" فقال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه, أخبرنا أبو حامد بن بلال, حدثنا يحيى بن الربيع المكي, حدثنا سفيان, عن الزهري, عن محمد بن جبير, عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان مطعم حياً ثم كلمني في هؤلاء لأطلقتهم [له]». يعني: أسارى بدر.

قال سفيان: وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد, وكان صلى الله عليه وسلم أجزى الناس باليد.

*قال علي رضي الله عنه: "ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز", وفي رواية: "يجوز", وفي رواية: "يحوز" بمهملة, فيقطعه بنهي, وفي رواية: "بانتهاء أو قيام":

وهذا كما في حديث عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله واجتمع عنده فيه ذوو عدد من جيرانه, فقال بعضهم: أين

 

#231#

مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذاك» .... الحديث.

ومنه حديث يعلى بن الأشدق: سمعت النابغة رضي الله عنه يقول: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم:

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً

 

#232#

وفي رواية الحارث بن أبي أسامة, عن العباس بن الفضل, حدثنا محمد بن عبد الله التميمي, حدثني الحسن بن عبيد الله, حدثني من سمع النابغة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشدته قولي:

وإنا لقوم ما نعود خيلنا إذا ... ما التقينا أن تحيد وتنفرا

الأبيات ومنها:

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً

 

#233#

وخرجه البزار في "مسنده" بنحوه ولفظ البيت:

علونا العباد عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً

فقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية ابن الأشدق: «أين المظهر يا أبا ليلى؟». قلت: الجنة قال: «أجل إن شاء الله .....» الحديث بطوله.

 

#234#

$[آخر حديث علي رضي الله عنه]$

*قال الحسين رضي الله عنه في بعض الروايات بعد قول أبيه علي رضي الله عنه: فيقطعه بنهي أو قيام: فسألته كيف كان سكوت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر, فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس, وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى, وجمع له الحلم في الصبر, فكان لا يغضبه شيء يستفزه، وجمع له في الحذر أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به, وتركه القبيح لينتهى عنه, واجتهاد الرأي بما أصلح أمته صلى الله عليه وسلم, والقيام لهم بما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة":

هذا آخر الحديث وتفسيره وشواهده, فلله الحمد على نعمه التامة وعوائده.

وهذا الفصل الأخير فيه ما يوضحه من التفسير فلا حاجة إلى زيادة بيان, وبالله عز وجل المستعان.

 

#235#

$[سكوته وشجاعته صلى الله عليه وسلم]$

وقد وردت أحاديث عدة في أن نبينا – عليه أفضل الصلاة والسلام – كان كثير السكوت قليل الكلام.

(قال قيس, عن سماك, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت).

وقال أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا جبير – يعني: ابن هارون بن عبد الله – حدثنا علي الطنافسي, حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن سعد بن عياض الثمالي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام, قليل الحديث, فلما أمر بالقتال تشمر, وكان من أشد الناس بأساً.

قوله: "تشمر" من التشمير في الأمر الذي هو الاجتهاد فيه مع السرعة والمبالغة, وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في جده واجتهاده ومحاربته أعداء الله وجهاده.

حدث أبو أسامة – حماد بن أسامة – عن زكريا – هو ابن (أبي) زائدة – عن أبي إسحاق, عن البراء رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمر البأس

 

#236#

نتقي به يعني: النبي صلى الله عليه وسلم, وإن الشجاع منا الذي يحاذي به.

وحدث به زهير, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب, عن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.

ورواه وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب, عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.

وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا عمر الزيات, عن سعيد بن عثمان العبدي, عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب.

وقال وكيع: حدثنا إسرائيل, عن رجل, عن أبي جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد البطش.

 

#237#

والأحاديث في الباب كثيرة.

قال القاضي عياض رحمه الله في الفصل المشار فيه إلى شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم ونجدته, قال: وكان صلى الله عليه وسلم منهما بالمكان الذي لا يجهل قد حضر المواقف الصعبة, وفر الكمأة والأبطال عنه غير مرة, وهو ثابت لا يبرح, ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح, وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة, وحفظت عنه جولة, سواه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

 

#238#

وهذا هو المعروف من سيرته الشريفة, والمعهود من صفاته العالية المنيفة, ومنها قول سعد بن عياض المتقدم: فلما أمر بالقتال تشمر, وكان من أشد الناس بأساً.

وسعد بن عياض الثمالي الكوفي تابعي ثقة من أصحاب ابن مسعود وغيره, جرح فمات بأرض الروم, فالحديث مرسل.

 

#239#

$[حديث عائشة رضي الله عنها في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]$

وقد روي الحافظ الكبير أبو بكر أحمد ابن الحافظ أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي في "تاريخه" حديثاً طويلاً جامعاً لكثير من الشمائل النبوية والصفات المحمدية, رأيت أن أضمه إلى حديث هند المذكور, لأنه من أفراد غرائب المأثور, وهو ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني, حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد, حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, وعن هشام بن عروة, عن أبيه: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن, ولا المشذب الذاهب – والمشذب الطول نفسه, إلا أنه المخفف – ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالقصير المتردد, وكأنه ينسب إلى الربعة إذا مشي وحده, ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما, فإذا فارقاه (نسبا إلى الطول) ونسب رسول الله

 

#240#

صلى الله عليه وسلم إلى الربعة, ويقول صلى الله عليه وسلم: «جعل الخير كله في الربعة».

وكان لونه صلى الله عليه وسلم ليس بالأبيض الأمهق الشديد البياض الذي يضرب بياضه (إلى) الشهبة, ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالآدم.

وكان صلى الله عليه وسلم أزهر اللون. والأزهر: الأبيض الناصع البياض الذي لا يشوبه حمرة ولا صفرة ولا شيء من الألوان.

وكان ابن عمر كثيراً مما ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعت عمه أبي طالب إياه في لونه حين يقول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ويقول كل من سمعه: هكذا كان (رسول الله) صلى الله عليه وسلم.

وقد نعته بعض من نعته (بذلك) بأنه [كان] مشرب حمرة, وقد صدق من نعته بذلك, ولكن إنما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشمس والرياح, فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة, وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر لا يشك فيه أحد, فمن وصفه بأنه أبيض أزهر فعنى ما تحت الثياب فقد أصاب, ومن نعت ما ضحا للشمس والرياح بأنه أزهر مشرب حمرة فقد أصاب, ولونه الذي لا يشك فيه الأبيض الأزهر, وإنما الحمرة من قبل الشمس والرياح.

 

#241#

وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه مثل اللؤلؤ, أطيب من المسك الأذفر, وكان صلى الله عليه وسلم رجل الشعر حسنه, ليس بالسبط, ولا الجعد القطط, كان إذا مشطه بالمشط كأنه حبك الرمل أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا سفتها الرياح, فإذا نكثه بالمرجل أخذ بعضه بعضاً, وتحلق حتى يكون متحلقاً كالخواتم, كان أول أمره قد سدل ناصيته بين عينيه كما تسدل نواصي الخيل, ثم جاءه جبريل عليه السلام بالفرق ففرق.

وكان شعره فوق حاجبيه, ومنهم من قال: كان شعره يضرب منكبيه, وأكثر من ذلك أنه كان إلى شحمة أذنه, وكان صلى الله عليه وسلم ربما جعله غدائر أربع, يخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها, ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين بكتنفانها, وتخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر كأنها توقد الكوالكب الدرية بين سواد شعره.

وكان أكثر شيبه في الرأس في فودي رأسه, والفودان حرفا الفرق, وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن.

وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه وإذا مس ذلك الشيب الصفرة – وكان كثيراً ما يفعل – صار كأنه خيوط الذهب يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه.

 

#242#

وكان صلى الله عليه وسلم (أحسن) الناس وجهاً وأنورهم لوناً, لم يصفه واصف قط بلغتنا صفته إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر, ولقد كان يقول من كان يقول منهم: لربما نظرنا إلى القمر ليلة البدر فنقول: هو أحسن في أعيننا من القمر, أزهر اللون نير الوجه يتلألأ تلألؤ القمر, يعرف رضاه وغضبه في سروره بوجهه, (كان إذا رضي أو سر فكأن وجهه المرآة, وكأنما الجدر تلاحك وجهه, وإذا غضب تلون وجهه) واحمرت عيناه.

قال: وكانوا يقولون هو صلى الله عليه وسلم كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

أمين مصطفى للخير يدعوه ... كضوء البدر زايله الظلام

ويقولون: كان كذلك.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى حين يقول لهرم بن سنان:

لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المضيء لليلة البدر

فيقول عمر ومن سمع ذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك, ولم يكن كذلك غيره.

وكذلك قالت عمته عاتكة ابنة عبد المطلب بعدما سار من مكة مهاجراً

 

#243#

فجزعت عليه بنو هاشم فانبعثت تقول: [شعر].

أعيني جوداً بالدموع السواجم على ... المرتضى كالبدر من آل هاشم

على المرتضى للبر والعدل والتقى ... وللدين والدنيا مقيم المعالم

على الصادق الميمون ذي الحلم والنهى ... وذي الفضل والداعي بخير التراحم.

ونعتته أيضاً بشبهه بالبدر ونعتته بهذا النعت, ووقعت في النفوس لما ألقى الله منه لما في الصدور, ولقد نعتته وإنها لعلى دين قومها.

وكان صلى الله عليه وسلم أجلا الجبين إذا طلع جبينه من بين الشعر, أو طلع في فلق الصبح,, أو عند طفل الليل, أو طلع بوجهه على الناس فرأوا جبينه كأنه ضوء السراج المتوقد يتلألأ, وكانوا يقولون هو صلى الله عليه وسلم كما قال شاعره حسان بن ثابت (رضي الله عنه):

متي يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد

فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد

وكان صلى الله عليه وسلم واسع الجبهة أزج الحاجبين سابغهما.

 

#244#

و"الأزج الحاجبين" هما الحاجبان المقوسان اللذان لا تعدو شعرة منهما شعرة في النبات والاستواء من بين فرق بينهما.

وكان أبلج ما بين الحاجبين حتى كأن ما بينهما الفضة المخلصة بينهما عرق يدره الغضب, لا يرى ذلك العرق إلا أن يدره الغضب.

و"الأبلج": النقي ما بين الحاجبين من الشعر.

وكانت عيناه صلى الله عليه وسلم نجلاوين أدعجهما.

و"النجلاء": (العين) الواسطة الحسنة.

و"الدعج": شدة سواد الحدقة, لا يكون الدعج في شيء من الأبيض إلا في سواد الحدقة.

وكانت عينيه تموج من حمرة, وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها, أقنى العرنين.

و"العرنين": المستوي الأنف من أوله إلى آخره, وهو الأشم.

وكان أفلج الأسنان أشنبها.

قال: و"الشنب": أن تكون الأسنان متفرقة فيها طرائق مثل تفرق المشط إلا أنها حديدة الأطراف, وهو الأشر الذي تكون أسفل الأسنان كأنه ماء يقطر في تفتحه ذلك وطرائقه.

وكان صلى الله عليه وسلم يتبسم عن مثل حب البرد المتحدر من متون الغمام فإذا افتر ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق إذا تلألأ.

وكان صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله شفتين وألطفه ختم فم سهل الخدين صلتهما.

 

#245#

قال: و"الصلت الخد" هو الأسيل.

"السهل الخد" المستوي, الذي لا يفوت بعض لحمه بعضاً.

ليس بالطويل الوجه ولا المكلثم, كث اللحية. و"الكث": الكثير منابت الشعر الملتفها.

وكانت عنفقته صلى الله عليه وسلم بارزة فنِيكاه حول العنفقة كأنهما بياض اللؤلؤ, في أسفل عنفقته شعر منقاد حتى يقع انقيادها على شعر اللحية حتى يكون كأنه منها.

و"الفنيكان" هما مواضع الطعام حول العنفقة من جانبيها جميعاً.

وكان صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقاً, لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر, ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة مشرب فذهباً يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب, وما غيبت الثياب من عنقه ما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر.

وكان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر ممسوحه كأنه المرايا في شدتها واستوائها, لا يعدو بعض لحمه بعضاً على بياض القمر ليلة البدر، موصول ما بين لبته إلى سرته شعر منقاد كالقضيب, لم يكن في صدره ولا بطنه شعرة غيره.

وكانت له صلى الله عليه وسلم عكن ثلاثة يغطي الإزار منها واحدة وتظهر ثنتان, ومنهم من قال: يغطي الإزار منها اثنتين وتظهر واحدة, تلك العكن أبيض من القباطي المطواة وألين مساً.

وكان صلى الله عليه وسلم عظيم المنكبين أشعرهما ضخم الكراديس, و"الكراديس":

 

#246#

رؤوس عظام المنكبين والمرفقين والوركين والركبتين.

وكان صلى الله عليه وسلم جليل الكتد, قال: و"الكتد": مجتمع الكتفين والظهر – واسع الظهر, بين كتفيه خاتم النبوة – وهو [مما يلي] منكبه الأيمن – فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة وحولها شعرات متواليات, كأنهن من عرف فرس.

ومنهم من قال: كانت شامة النبوة بأسفل كتفه خضراء منحفرة في اللحم قليلاً.

وكان صلى الله عليه وسلم طويل مسربة الظهر – و"المسربة": الفقار الذي في الظهر من أعلاه إلى أسفله.

وكان صلى الله عليه وسلم عبل العضدين والذراعين, طويل الزندين, و"الزندان": العظمان اللذان في ظاهر الساعدين.

وكان صلى الله عليه وسلم فعم الأوصال, سبط العصب, شثن الكف, رحب الراحة, سائل الأطراف, كأن أصابعه قضبان الفضة, كفه ألين من الخز, كأن كفه كف عطار طيباً, مسها بطيب أو لم يمسها به, يصافحه المصافح فيظل يومه يجد ريحها, ويضعها على رأس الصبي فيعرف بين الصبيان من ريحها على رأسه.

وكان صلى الله عليه وسلم عبل ما تحت الإزار بين الفخذين والساق, شثن القدم غليظها ليس لها خمص – منهم من قال: كان في قدمه شيء من خمص – يطأ الأرض بجميع قدميه, معتدل الخلق, بدن في آخر زمانه, وكان بذلك البدن متماسكاً, وكاد يكون على الخلق الأول

 

#247#

لم يضره السن.

وكان صلى الله عليه وسلم مفخماً في جسده كله, إذا التفت التفت جميعاً.

وكان فيه صلى الله عليه وسلم شيء من صور, و"الصور": الرجل الذي كأنه يلمح الشيء ببعض وجهه وإذا مشى فكأنما يتقلع في صخر ويتحدر في صبب يخطو تكفياً ويمشي الهوينا بغير تبختر, و"الهوينا": تقارب الخطا والمشي على الهينة, يبدر القوم إذا سارع إلى الخير أو مشى إليه, ويسوقهم إذا لم يسارع إلى شيء بمشيه الهوينا وترفقه فيها.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أشبه الناس بأبي آدم, وكان أبي إبراهيم خليل الرحمن أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً».

ثم قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: إن كان هذا عبد العزيز بن عبد الصمد هو العمي فإنه لم يسمع من هشام بن عروة.

قلت: هو العمي, صرح به محمد بن عبدة المصيصي في روايته عن الشيخ الفرغاني حدث به الطبراني, عن محمد بن عبدة بنحوه, والله أعلم.

فهذا ما يسر الله تعالى به من نعمه الجزيلة مما وقع لنا من آثار

 

#248#

الصفات الجميلة, وأخبار الشمائل اللطيفة الجليلة المؤذنة بشرف المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلاه, التي لم تجتمع قبل, ولن تجتمع بعد في بشر سواه.

وفي آخر حديث هند وصفه صلى الله عليه وسلم بكثرة السكوت المبين كماله, وفي حال سكوته صلى الله عليه وسلم كانت تعلوه السكينة والهيبة والجلالة حسبما ذكرناه من الآثار.

ومنها: قول أم معبد فيه: إن صمت فعليه الوقار.

وأم معبد هذه من الصحابيات المهاجرات, تقدم أن اسمها عاتكة وهي بنت خالف بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حزام بن حبشية بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو من بقياء بن عامر ماء السماء.

وأم معبد كانت بقديد فيما قيل, وبين خليص ورابغ مكان يقال له: قبر أم معبد, معروف بين الحرمين, فيحتمل أن يكون قبرها, والله أعلم.

 

#249#

&[حديث سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه وباقي أحداث الهجرة]&

ولما راح النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من عند أم معبد عرض لهم سراقة بن مالك بن جعشم فيما ذكره الواقدي وغيره.

وقال الزهري: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن جعشم, أن أباه أخبره: أنه سمع سراقة يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهم لمن قتله أو أسره, فبينا أنا جالس في مجلس من

 

#250#

مجالس قومي – بني مدلج – أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس, فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه, قال سراقة: فعرفت أنهم هم, فقلت: إنهم ليسوا بهم, وإنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا.

ثم لبثت في المجلس ساعة, ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي, وأخذت رمحي وخرجت (به) من ظهر البيت, فخططت بزجه الأرض

 

#251#

وخفضت عاليه, حتى أتيت فرسي فركبتها [فرفعتها] تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت فرسي, فخررت عنها, فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي, فاستخرجت منها الأزلام واستقسمت بها: أضرهم أم لا, فخرج الذي أكره.

فركبت فرسي, وعصيت الأزلام, تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة

 

#252#

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت, وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات, ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها, ثم زجرتها، فنهضت, فلم تكد تخرج يديها, فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان, فاستقسمت بالأزلام, فخرج الذي أكره, فناديتهم بالأمان, فوقفوا.

 

#253#

فركبت فرسي حتى جئتهم, ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية, وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت علهم الزاد والمتاع, فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا, فسألته أن يكتب لي كتاب أمن, فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة

 

#254#

من أدم, ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: أن سراقة قال: يا نبي الله مرني بما شئت قال: «فقف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا» فجعل لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتكم ما هاهنا.

قال ابن شهاب الزهري: فكان أول النهار جاهداً على نبي الله صلى الله عليه وسلم, وكان آخر النهار مسلحة له, أي كأنه جماعة بسلاح وكلوا بحفظ ذلك.

 

#255#

وقال موسى بن عقبة في "مغازيه": حدثنا ابن شهاب حديثاً من حديث سراقة يخالف هذا قال: حدثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي: أن أباه مالكاً أخبره: أن أخاه سراقة / بن جعشم أخبره: أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة, جعلت قريش لمن رده عليهم مائة ناقة.

قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ جاء رجل منا فقال: لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً إنني لأظنه محمداً صلى الله عليه وسلم قال: فأومات إليه – يعني أن اسكت – فقلت: إنما هم بنو فلان يبغون ضالة لهم, ثم سكت, قال: فمكثت قليلاً, ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي, قال: فأخرجت سلاحي من وراء حجرتي, ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها, ثم لبست لامتي, ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها, فخرج سهم الذي أكره – لا تضره – وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة, قال: فركبت على أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر فسقطت عنه، قال: فأخرجت قداحي, فاستقسمت بها, فخرج السهم الذي أكره – لا تضره – فأبيت إلا أن أتبعه, فركبت فلما بدا لي القوم فنظرت إليهم عثر فرسي, فذهبت يداه في الأرض فسقطت عنه, فاستخرج يديه وأتبعه دخان مثل الغبار, فعرفت أنه منع مني وأنه ظاهر, فناديتهم فقلت: انظروني, فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل له بماذا تتبعني» قال: قلت: اكتب لي كتاباً يكون بيني وبينك آية, قال: «اكتب له يا أبا بكر».

قال: فكتب ثم ألقاه إلي فسكت فلم أذكر شيئاُ مما كان, حتى إذا فتح

 

#256#

الله مكة وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل حنين, خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ألقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي, فبينما أنا عامد له دخلت بين ظهري كتيبة من كتائب الأنصار قال: فطفقوا يقرعونني بالرماح, ويقولون: إليك, حتى دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته أنظر إلى ساقه في غرزة كأنها جمارة, فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم وفاء وبر, ادنه» قال: فأسلمت. وذكر الحديث.

وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله, قال: «لا تحزن إن الله معنا» فلما دنا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة, فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اكفناه بما شئت» قال: فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها, فوثب عنها, ثم قال: يا محمد, قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه, فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب, وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا في إبلك وغنمك» ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق راجعاً إلى أصحابه.

وفي رواية: فوجد الناس يلتمسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارجعوا فقد استبرأت ما هاهنا, وقد عرفتم بصري بالأثر, فرجعوا عنه.

 

#257#

وفي رواية: أن سراقة قال لهم: قد كفيتم هذه الناحية فلا تطلبوا بها, فرجعوا عنها.

ويروى أن أبا بكر رضي الله عنه قال في ذلك:

قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدفة من ظلمة الغار

لا تخشى ضيماً فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار

وإنما كيد من يخش بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفار

والله مهلكهم طراً بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار

وأنت مرتحل عنهم وتاركهم ... إما عدواً وإما مدلج سار

وهاجر أرضهم حتى يكون لنا ... قوم عليهم ذوو عز وأنصار

حتى إذا الليل وارتنا جوانبه ... وسد من دون من نخشى بأستار

 

#258#

سار الأريقط يهدينا وأينقه ... ينعين بالقوم نعياً تحت أكوار

يعسفن عرض الثنايا بعد أطولها ... وكل سهب رقاق الترب موار

حتى إذا قلت قد أنجدت عارضنا ... من مدلج فارس في منصب وار

يردي به مشرق الأقطار معتزم ... كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري

فقال كروا فقلنا إن كرتنا ... من دونها لك نصر الخالق الباري

إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه ... فانظر إلى أربع في الأرض غوار

فهيل لما رأى أرساغ مقربه ... قد سخن في الأرض لم تحفر بمحفار

فقال هل لكم أن تطلقوا فرسي ... وتأخذوا موثقي في نصح أسرار

وأصرف الحي عنكم إن لقيتهم ... وأن أعور منهم كل عوار

 

#259#

[فادع الذي هو عنكم كف عدوتنا ... يطلق جوادي وأنتم خير أبرار]

فقال قولاً رسول الله مبتهلاً ... يا رب إن كان ينوي غير إخفار

فتجه سالماً من شر دعوتنا ... ومهره مطلقاً من كلم آثار

فأظهر الله إذ يدعو حوافره ... وفاز فارسه من هول أخطار

وبلغ أبا جهل أمر سراقة وفعله, فقال أبياتاً يعتبه فيها, (منها):

بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة يستغوي بنصر محمد

عليكم به أن لا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد

فقال سراقة يجيب أبا جهل:

أبا حكم واللات لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

علمت ولم تشكك بأن محمداً ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه

 

#260#

عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه

بأمر تود النضر فيه بأسرها ... بأن جميع الناس طراً تسالمه

ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم الجحفة حمله أبو مالك أوس بن عبد الله بن حجر – ويقال حجر بالتحريك – الأسلمي على جمل.

قال أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة": حدثنا أبو حامد بن جبلة, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثنا محمد بن عباد بن موسى العكلي, حدثنا أخي موسى بن عباد, حدثني عبد الله بن سيار, حدثني إياس بن مالك بن أوس الأسلمي, عن أبيه قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه مروا بإبل الجحفة فقال له النبي صلى الله عله وسلم: «لمن هذه الإبل؟» قال: لرجل من أسلم, فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «سلمت إن شاء الله تعالى» فقال: «وما اسمك؟» قال: مسعود, فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «سعدت إن شاء الله تعالى», فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له ابن الردى.

 

#261#

وقال أبو يوسف – يعقوب بن شيبة بن الصلت – في "مسنده": حدثني إبراهيم بن المنذر, حدثني محمد بن فليح, عن موسى بن عقبة, عن ابن شهاب قال: فلما فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم قديداً هو ومن معه ورد الله عنهم سراقة سلك بهم دليله في الخرار, ثم اجتاز بهم على ثنية المرة, ثم استبطن مدلجة مجاج, ثم سلك مرجح بن مجاج, ثم بطن مرجح بذي العصرين، ثم بطن ذات كشد (معاً), ثم نغذ الأجرد, ثم سلك ذا سلم, ثم بطن أعدر مدلجه تعهن, ثم بلغ الغيثانة, ثم أجاز القاحة, ثم هبط العرج, فحمله رجل من أسلم يقال له مالك بن أوس على جمل له يقال له ابن اللقاح, وبعث معه غلاماً له يدعى مغيثاً, فسلك به في ثنية الأعياد عن يمين ركوبة أو في ركوبة, ثم هبط به ريما, ثم أجاز إلى بني عمرو بن عوف بقباء.

وقد رويت قصة أوس الأسلمي على غير هذا السياق حدث بها الطبراني عن محمد بن [ .... ] أبو عمرو – عثمان بن السماك – فقال: حدثنا الحسن بن مكرم بن حسان, واللفظ له – حدثنا فيض بن وثيق, أخبرنا صخر بن مالك بن إياس بن مالك بن أوس بن عبد الله بن حجر – وقيل: حجر – الأسلمي شيخ من أهل العرج, أن أباه مالكاً أخبره,

 

#262#

أن أباه إياساً أخبره, أن أباه مالكاً أخبره, أن أباه أوس بن عبد الله بن حجر مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخذوات بين الجحفة وهرشا, وأبو بكر رضي الله عنه على جمل واحد, فحملهما على فحل إبله ابن الرداء, وبعث معهما غلاماً له يقال له مسعود, فقال [له]: اسلك بهما حيث تعلم من مخارم الطرق ولا تفارقهما حتى يقضيا حاجتهما منك ومن جملك.

قال: فسلك بهما ثنية الدمجا, ثم أقبل بهما أحياء, ثم سلك بهما ثنية المرة, ثم أتى بهما من شعبة ذات كشت, ثم سلك بهما الغيثانة والعثبانة, (ثم سلك بهما طرف صخرتكها, ثم سلك بهما ثنية

 

#263#

ذات ركوبة حتى) أدخلهما المدينة, ثم رجع صلى الله عليه وسلم مسعوداً إلى سيده أوس بن عبد الله بن حجر .... الحديث.

وقال الواقدي: حدثنا أفلح بن سعيد, عن بريدة بن سفيان الأسلمي, عن مسعود بن هنيدة قال: وحدثني هاشم بن عاصم الأسلمي, عن أبيه, عن مسعود بن هنيدة قال: إني بالخذوات نصف النهار إذا أنا بأبي بكر يقود بآخر, فسلمت عليه وكان ذا خلة بأبي تميم فقال: اذهب إلى أبي تميم فأقرئه مني السلام, وقل له يبعث إلي ببعير وزاد ودليل, فخرجت حتى أتيت مولاي فأعلمته برسالة أبي بكر, فأعطاني جمل ظعينة (لأهل ظعينة) لأهله يقال له الذيال, ووطباً من لبن, وصاعاً من تمر, وأرسلني دليلاً, وقال [لي]: دله على الطريق حتى يستغني عنك, فسرت بهم حتى سلكت ركوبة فلما علوناها حضرت الصلاة, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر على يمينه, ودخل الإسلام قلبي, فأسلمت فقمت من شقه الآخر, فدفع بيده في صدر أبي بكر فصففنا وراءه, قال مسعود: فلا أعلم أحداً من بني سهم أسلم أول مني غير بريدة بن الحصيب.

 

#264#

وحدث أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسند أبيه" عن مصعب بن عبد الله, حدثنا أبي, عن فائد مولي عبادل قال: خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن إلى ابن سعد, حتى إذا كنا بالعرج أتانا ابن سعد, وسعد الذي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم (على طريق ركوبة, فقال إبراهيم: أخبرني ما حدثك أبوك, فقال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أتاهم ومعه أبو بكر رضي الله عنه وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة, فقال له سعد: هذا العابر من ركوبة وبه لصان من أسلم يقال لهما المهانان, فإن شئت أخذنا عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذ بنا عليهما» قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه: هذا اليماني, فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعرض عليهما الإسلام, فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما, فقالا: نحن المهانان. فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة, فخرجنا حتى أتينا ظاهر قباء, فتلقانا بنو عمرو بن عوف. وذكر بقيته.

وقد جاء أن سبعين رجلاً من أسلم فيهم بريدة بن الحصيب تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق, فأسلموا ودخلوا معه المدينة مهاجرين.

 

#265#

قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا الحسين بن حريث, حدثنا أوس بن عبد الله بن بريدة, عن الحسين بن واقد, عن عبد الله بن بريدة, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتطير, ولكن يتفاءل, فركب بريدة في سبعين راكباً من أهل بيته من بني سهم يتلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟» قال: بريدة, فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «يا أبا بكر برد أمرنا وصلح» ثم قال: «ممن؟» قال: من أسلم, قال لأبي بكر رضي الله عنه: «سلمنا» ثم قال: «ممن؟» قال: من بني سهم, قال: «خرج سهمك».

قال بريدة لنبي الله صلى الله عليه وسلم: فمن أنت؟ قال: «محمد بن عبد الله رسول الله» قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله, فأسلم بريدة وأسلم الذين معه جميعاً, قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء, فحل عمامته, ثم شدها في رمح, ثم مشى بين يديه حتى دخل المدينة.

قال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم طائعين ... وفيه طول.

واختصره ابن أبي خيثمة, وقال: قال أبو عمار – يعني: الحسين ابن حريث: سمعت أوساً يحدث بهذا الحديث, بعد ذلك قلت: من حدثك؟ قال: حدثني سهل أخي.

 

#266#

وذكر أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة فانتهى إلى الغميم أتاه بريدة بن الحصيب فأسلم هو ومن معه, وكانوا زهاء ثمانين, فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء, فصلوا خلفه, ثم رجع بريدة إلى بلاد قومه, وقد تعلم شيئاً من القرآن ليلتئذ, ثم قدم على رسول الله صلىعليه وسلم       بعد أحد, فشهد معه مشاهده. انتهى.

وفي رواية يعقوب بن شيبة التي قدمناها إلى الزهري قال: ويقال: فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة, وقدم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه من الشام, خرج عامداً إلى مكة؛ لما ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وخرج إما متلقياً لهما وإما عامداً تعمدهما بمكة, ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام, فلما لقيه أعطاه الثياب, فلبس منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه.

هكذا في رواية يعقوب بن شيبة في "مسنده" من طريق موسى بن عقبة, عن ابن شهاب أن طلحة بن عبيد الله هو الذي قدم ومعه ثياب أهداها لأبي بكر رضي الله عنه.

وقد حدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا الحجاج – يعني: ابن أبي منيع – حدثني جدي, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له

 

#267#

ثور, فمكثا فيه ثلاثاً, ثم ارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي, فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى المدينة قدم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وقال: يجسان, فخرج الزبير عامداً لمكة؛ لما ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر, فخرج متلقياً لهما وإما عامداً عمدهما بمكة, ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام, وكان أبو بكر قد زوجه أسماء بنت أبي بكر, فقدم عليه بثياب بعث بها إلى أبي بكر وإلى أهله, فتلقاها أبو بكر في الطريق فقبضها, فلبس منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه.

فصاحب القصة في الهدية هو الزبير في هذا الحديث, وهو أشبه بما في "الصحيح" من رواية الزهري عن عروة الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

لكن قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع, عن عبد الله بن سعد, عن أبيه قال: لما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخرار في هجرته إلى المدينة, وكان الغد لقيه طلحة بن عبيد الله جائياً من الشام في عير, فكسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من ثياب الشام, وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من بالمدينة من المسلمين قد استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير, ومضى طلحة إلى مكة, حتى فرغ من حاجته, ثم رجع بعد ذلك مع آل أبي بكر رضي الله عنهما فهو الذي قدم بهم المدينة.

 

#268#

ورواية الزهري, عن عروة التي في "الصحيح" هي ما قال: وأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام, فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ثياب بياض.

وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه صلى الله عليه وسلم حتى يردهم حر الظهيرة, فانقلبوا يوماً بعدما طال انتظارهم, فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه, فبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين, يزول بهم السراب, فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون, فثار المسلمون في السلاح, فتلقوا رسول الله بظهر الحرة, فعدل بهم ذات اليمين, حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف, وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول.

 

#269#

 

#270#

$[ما روي في قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وأين نزل]$

وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا سليمان بن المغيرة, عن ثابت (قال): قال أنس رضي الله عنه: إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا: جاء محمد, فننطلق فلا نرى شيئاً, حتى أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه, وجاء في بعض حرار المدينة ومعنا رجل من أهل البادية فأذن بهما الأنصار, فجاء البدوي يأذن بهما الأنصار, واستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار, فأتوهما, فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه معه, وخرج الناس حتى العواتق فوق الآجار يقلن: أيهم هو؟

كان نزول النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لثمان خلون من ربيع الأول سنة تسعمائة وثلاث وثلاثين لذي القرنين. ويقال لاثنتي عشرة ليلة خلت منه, وذكر الواقدي أنه هو المجتمع عليه, وكان ذلك حين اشتد الضحى. ويقال قدم لهلال ربيع الأول روي عن

 

#271#

الزهري. وقيل: لليلتين خلتا منه. وقيل غير ذلك, والله سبحانه أعلم.

 

#272#

وبنو عمرو بن عوف بقباء: وكان نزوله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وكان شيخاً كبيراً شريفاً صالحاً رضي الله عنه.

وقيل: نزل على سعد بن خيثمة بن الحارث الأنصاري, والصحيح الأول, وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتحدث في منزل سعد بن خيثمة, وذلك أنه كان عزباً لا أهل له, وكان منازل العزاب من المهاجرين عنده, وكان يقال لبيت سعد بن خيثمة بيت العزاب.

قال الواقدي: فلذلك قيل: نزل على سعد بن خيثمة, والثبت عندنا نزوله على كلثوم بن الهدم العمري قاله في "تاريخه" الذي رواه عنه ابنه محمد بن محمد وكاتبه محمد بن سعد.

وقال أيضاً: ونزل على كلثوم أيضاً جماعة من الصحابة, منهم: أبو عبيدة بن الجراح والمقداد بن عمرو وخباب بن الأرت وسهيل وصفوان ابنا بيضاء, وذكر آخرين رضي الله عنهم.

وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه نزل على خبيب بن يساف, وقيل: على خارجة بن زيد بن أبي زهير.

وكان علي رضي الله عنه قد تأخر بمكة ثلاث ليال وأيامها, حتى أدى ودائع كانت للناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم لحق هو وصهيب بقباء, فنزل علي رضي الله عنه على كلثوم بن الهدم, ونزل صهيب رضي الله عنه على سعد بن خيثمة.

 

#273#

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني عاصم بن سويد – من بني عمرو بن عوف – عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: قدم آخر الناس في الهجرة إلى المدينة: علي، وصهيب رضي الله عنهما وذلك للنصف من شهر ربيع الأول ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء لم يرم بعد.

وقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني عبد الله بن جعفر, عن عبد الحكيم بن صهيب, عن عمر بن الحكم قال: قدم صهيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو بقباء ومعه أبو بكر وعمر وبين أيديهم رطب قد جاءهم به كلثوم بن الهدم أمهات جراذين, وصهيب قد رمد بالطريق, وأصابته مجاعة شديدة, فوقع في الرطب, فقال عمر: يا رسول الله ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تأكل الرطب وأنت رمد؟!» فقال صهيب: إنما آكله بشق عيني الصحيحة, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجعل صهيب يقول لأبي بكر: وعدتني أن نصطحب فخرجت وتركتني, ويقول: وعدتني يا رسول الله أن تصاحبني فانطلقت وتركتني, فأخذتني قريش فحبسوني, فاشتريت نفسي وأهلي بمالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع» فأنزل الله عز وجل: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} وقال صهيب: يا رسول الله, ما تزودت إلا مداً من دقيق عجنته بالأبواء حتى قدمت عليك.

 

#274#

$[أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة]$

قال أبو جعفر – محمد بن جرير الطبري – في "تاريخه": وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس, وأسس مسجدهم, ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة.

ورواه الواقدي في "تاريخه" قال: فحدثني أفلح بن سعيد, سمعت محمد بن كعب القرظي, وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة, عن عثمان بن وثاب, عن أبي غطفان, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وركب من قباء يوم الجمعة يؤم المدينة فجمع في بني سالم, فكانت أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.

وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا حسن بن الربيع, حدثنا ابن إدريس, حدثنا ابن إسحاق, عن محمد بن جعفر, عن عروة, عن عبد الرحمن بن عويم, أخبرني بعض قومي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول, فأقام بقباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس, فأسس المسجد وصلى فيه تلك الأيام, حتى إذا كان يوم الجمعة خرج على ناقته القصواء, وبنو عمرو بن

 

#275#

عوف (يزعمون) أنه لبث فيهم ثماني عشرة ليلة, ثم خرج وقد اجتمع فأدركته الصلاة في بني سالم فصلاها بمن معه في المسجد الذي ببطن الوادي, وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.

وثبت من حديث عبد الوارث, عن أبي التياح, عن أنس رضي الله عنه أن إقامته صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف كانت أربع عشرة ليلة.

وقيل أقام خمس ليال, وقيل أربعاً كما تقدم, وقيل ثلاثاً, وقيل ثنتين وعشرين ليلة.

 

#276#

$[فضل مسجد قباء]$

وقال الزهري في حديثه: فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة فأسس المسجد الذي أسس على التقوى.

 

#277#

مراده بهذا مسجد قباء, وأول مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو أحد المساجد الشريفة.

 

#278#

وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة.

وقال أبو عيسى الترمذي في "جامعه" واللفظ له: حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع قالا: حدثنا أبو أسامة عن عبد الحميد بن جعفر, حدثنا أبو الأبرد مولى بني خطمة سمع أسيد بن ظهير الأنصاري – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة».

ولفظ ابن أبي شيبة: «من أتى مسجد قباء فصلى فيه كان كعمرة».

وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن ابن الأصبهاني وأبي بكر ابن أبي شيبة قالا: حدثنا أبو أسامة ... فذكره.

قال الترمذي: حديث حسن غريب, ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئاً يصح غير هذا الحديث.

وقال: وفي الباب عن سهل بن حنيف.

قلت: ووالد أسيد: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الحارثي.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني مجمع بن يعقوب, عن سعيد بن عبد الرحمن, عن ابن غنمة

 

#279#

الجهني, عن ظهير بن رافع الحارثي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في مسجد قباء يوم الإثنين والخميس انقلب بأجر عمرة».

ابن غنمة اسمه عبد الله.

وأما حديث سهل بن حنيف الذي أشار إليه الترمذي, فخرجه أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل المدينة", فقال: حدثنا (الخبر) أبو علقمة المديني, حدثني مطرف بن عبد الله, عن أبي الموالي, عن رجل من أهل قباء كان قديماً عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه أن رسول الله صلىعليه وسلم       قال: «من توضأ في أهله فأحسن وضوءه, ثم خرج عامداً إلى مسجد قباء, لا ينزعه حاجة إلا الصلاة فيه, كانت صلاته له بمنزلة عمرة».

 

#280#

وحدث به عبد بن حميد في "مسنده" فقال: حدثني ابن أبي شيبة, حدثنا ابن نمير, عن موسى بن عبيدة, أخبرني يوسف بن طهمان, عن أبي أمامة بن سهل, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن وضوءه, ثم جاء مسجد قباء, فركع فيه أربع ركعات, كان ذلك كعدل عمرة».

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا خالد بن مخلد, وأبو عامر العقدي قالا: حدثنا عبد الله بن جعفر, عن عمته – أم بكر بنت المسور – أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو كان مسجد قباء في أفق من الآفاق؛ لصرفنا إليه أكباد الإبل.

ومسجد قباء لم يزل على ما بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن بناه عمر بن عبد العزيز – رحمة الله عليه – عند بناء مسجد المدينة على حالته التي هو عليها اليوم, غير أنه شعث وتهدم, فجدده الوزير الجواد محمد بن علي بن أبي المنصور الأصبهاني رحمه الله.

 

#281#

$[خروج النبي صلى الله عليه وسلم من قباء وصلاته الجمعة في بني سالم بن عوف وخطبته هناك]$

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بأمر الله – عز وجل – من قباء حين ارتفع النهار, فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف, فصلاها في بطن وادي رانونا – قيل: واسم الوادي: ذو صلب – وجمع معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين مائة على ما ذكره غير واحد.

قال الواقدي في "تاريخه": فحدثني معاذ بن محمد, سألت محمد بن عمارة بن خزيمة: كم كان القوم الذين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانوا مائة رجل, قال: وقال أبو معشر: كانوا أربعين رجلاً.

قال ابن جرير في "تاريخه": من ذلك – أي من الأمور التي جرت في السنة الأولى من الهجرة – تجميعه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الجمعة في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء, وذلك أن ارتحاله صلى الله عليه وسلم عنها كان يوم الجمعة عامداً المدينة, فأدركته الصلاة – صلاة الجمعة – في بني سالم بن عوف ببطن واد لهم, قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً فيما بلغني.

 

#282#

قلت: شاهدت ذلك المسجد الشريف, وتبركت بالصلاة فيه لما رجعت من زيارة قباء يوم السبت في الحجة الأولى, وهو مسجد لطيف, قيل: اسمه "الغبيب", له جدران ومحراب, وهو اليوم في حديقة نخل على يمين السالك إلى مسجد قباء, وهو بعد صفة الاستراحة للمتوجه من قباء إلى المدينة, وهذه الصفة هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستريح بالجلوس فوقها في زيارته قباء على ما ذكر لي, والله أعلم.

وشمالي المسجد المذكور "مسجد الجمعة" – أطم خراب, يقال له: المزدلف, وهو أطم عتبان بن مالك, وهو مسجد صغير, مبني بحجارة قدر نصف القامة, وهو الذي كان السيل يحول بينه وبين عتبان, لأن منازل بني سالم بن عوف كانت غربي هذا الوادي على طرف الحرة, وآثارهم باقية هناك اليوم كما ذكره بعضهم.

وأما الخطبة التي خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى الجمعة في هذا المسجد, فقد جاءت الرواية بها؛ قال ابن جرير في "تاريخه": حدثني يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثني سعيد بن

 

#283#

عبد الرحمن الجمحي, أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:

«الحمد لله, أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه, وأومن به ولا أكفره, وأعادي من يكفره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى والنور والموعظة, على حين فترة من الرسل, وقلة من العلم, وضلالة من الناس, وانقطاع من الزمان, ودنو من الساعة, وقرب من الأجل, من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فقد غوى وفرط, وضل ضلالاً بعيداً.

أوصيكم بتقوى الله, فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم, أن يحضه على الآخرة, وأن يأمره بتقوى الله, فأحذروا ما حذركم الله من نفسه, ولا أفضل من ذلك نصيحة, ولا أفضل من ذلك ذكرى, وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل, ومخافة من ربه, عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة.

ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية, لا ينوي بذلك إلا وجه الله, يكن له ذكراً في عاجل أمره, وذخراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم, وما كان سوى ذلك {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد}.

والذي صدق قوله, ونجز وعده لا خلف لذلك, فإنه يقول جل وعز: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية, فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً, ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً.

وإن تقوى الله توقي مقته, وتوقي عقوبته, وتوقي سخطه, وإن تقوى

 

#284#

الله تبيض الوجوه, وترضي الرب, وترفع الدرجة.

خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله, فقد علمكم الله كتابه, ونهج لكم سبيله, ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين, فأحسنوا كما أحسن الله إليكم, وعادوا أعداءه, وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بينة, ويحيى من حي عن بينة, ولا قوة إلا بالله, فأكثروا ذكر الله, واعملوا لما بعد اليوم, فإنه من يصلح ما بينه وبين الله، يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه, ويملك من الناس ولا يملكون منه, الله أكبر, ولا قوة إلا بالله العظيم».

 

#285#

واعترض على القول بأنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة وخرج يوم الجمعة منها, مع القول بأنه قدم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول قيل: هذا لا يصح؛ لأن ما أرخ به القدوم يقتضي أن مستهل الشهر يوم الخميس, فكيف يتصور مع ذلك المقام أربع عشرة ليلة والخروج يوم الجمعة.

ويتمشى على ما قيل إنه خرج من الغار ليلة الإثنين لهلال ربيع الأول, وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه.

وقيل: كانت إقامته في بني عمرو بن عوف أربع ليال كما قدمناه مبدؤها يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول, فيتصور حينئذ خروجه صلىالله عليه وسلم  يوم الجمعة.

والذي ذكره البخاري في "صحيحه" و"تاريخه" عن ابن شهاب أنه أقام بضع عشرة ليلة, سالم من الاعتراض, والله أعلم.

 

#286#

$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونزوله على أبي أيوب في بني النجار]$

وحدث محمد بن عائذ, عن محمد بن شعيب, عن عثمان بن عطاء – هو الخرساني – عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مر على عبد الله بن أبي وهو جالس على ظهر الطريق, فوقف عليه (رسول الله) صلى الله عليه وسلم ينظر أن يدعوه إلى المنزل – وهو يومئذ سيد أهل المدينة في أنفسهم – فقال عبد الله: انظر الذين دعوك فأتهم، فعمد إلى سعد بن خيثمة، فنزل عليه في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال, واتخذ مكانه مسجداً, فكان يصلي فيه, ثم بناه بنو عمرو، فهو الذي أسس على التقوى والرضوان, ثم إنه ركب يوم الجمعة, فمر على بني سالم فجمع فيهم, وكانت أول جمعة صلاها صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة, واستقبل بيت المقدس, فلما أبصرته اليهود صلى إلى قبلتهم طمعوا فيه, للذي يجدونه مكتوباً عندهم, ثم ارتحل, فاجتمعت له الأنصار, يعظمون دين الله بذلك, يمشون حول ناقته لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة, فقال صلى الله عليه وسلم: «خلوا زمام الناقة, فإنما أنزل حيث أنزلني الله» حتى انتهى إلى دار أبي أيوب في بني غنم, وكان

 

#287#

المسجد موضعاً للتمر لابني أخي أسعد بن زرارة, فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى ابني أخيه مكانه نخلاً له في بني بياضة.

فقالا: نعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا نأخذ له ثمناُ.

وبنى النبي صلى الله عليه وسلم لحمزة ولعلي وجعفر وهم بأرض الحبشة, وجعل مسكنهم في مسكنه, وجعل أبوابهم في المسجد مع بابه, ثم إنه بدا له, فصرف باب حمزة وجعفر – كذا وقع هنا – وهم بأرض الحبشة, وكان علي حينئذ بمكة لا خلاف في ذلك والله أعلم.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الجمعة في بني سالم ركب راحلته, فأخذوا بخطامها, وقالوا: هلم إلى العدد والعدة, والسلاح والمنعة, فقال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة».

واعترضت له بنو الحارث بن الخزرج فقالوا له مثل ذلك, فقال لهم مثل ذلك, ثم اعترضت له بنو عدي, فقالوا له مثل ذلك, فقال لهم مثل ذلك.

ولم تزل راحلته صلى الله عليه وسلم سائرة به حتى وصلت إلى موضع مسجده

اليوم, فبركت ولم ينزل عنها, حتى نهضت وسارت قليلاً, ثم التقت ورجعت,

 

#288#

فبركت في موضعها الأول, فنزل عنها – وذلك في بني النجار أخواله – فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم, وبادر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى رحله فأدخله بيته, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء مع رحله».

وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته صلى الله عليه وسلم فكانت عنده, وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل بني أيوب, حتى بنى حجرته ومسجده. قيل: كانت إقامته صلى الله عليه وسلم هناك شهراً, قاله أبو بشر الدولابي.

وقيل: سبعة أشهر. ذكره الواقدي في "تاريخه" وصححه الحافظ أبو محمد الدمياطي.

وقيل: إلى صفر من السنة الثانية من الهجرة قاله أبو الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي.

ودار أبي أيوب هذه مقابلة لدار عثمان من جهة القبلة, وبينهما الطريق, وقد اشترى عرصتها صاحب ميافارقين الملك المظفر غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب, وبناها مدرسة وقفها على الفقهاء من أهل السنة على المذاهب الأربعة, وفيها قاعتان كبرى وصغرى, وفي الإيوان الغربي من الصغرى خزانة صغيرة مما يلي القبلة, فيها محراب, يقال: هناك مبرك

 

#289#

ناقة النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل هناك مهاجراً.

وجاء من طريق عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء في حديث: اشترى أبو بكر من عازب رحلاً, [و] فيه: قال أبو بكر: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلاً, فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أنزل الليل في بني النجار أخوال بني عبد المطلب أكرمهم بذلك», وقدم الناس حين قدمنا المدينة في الطريق وعلى البيوت؛ الغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, الله أكبر جاء محمد, الله أكبر, جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فلما أصبح صلى الله عليه وسلم انطلق فنزل حيث أمر.

وقال هاشم بن القاسم: حدثنا سليمان – هو ابن المغيرة – عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد صلى الله عليه وسلم وأسعى ولا أرى شيئاً ثم يقولون: جاء محمد صلى الله عليه وسلم فأسعى حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه, فكمنا في بعض حرار المدينة, ثم بعثا رجلاً من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار قال: فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما, فقالوا: انطلقا آمنين

 

#290#

مطاعين, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم, فخرج أهل المدينة, حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن أيهم هو؟ قال: فما رأينا منظراً شبهاً به يومئذ.

وقيل نزول النبي صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه فسمع من قوله ثم أسلم.

وثبت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة نزل جانب الحرة, ثم بعث إلى الأنصار, فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فسلموا عليهما, وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وحفوا دونهما بالسلاح, فقيل في المدينة: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم, جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأشرفوا ينظرون ويقولون: (جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم), جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب, فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله

 

#291#

يخترف لهم, فجعل أن يضع الذي يخترف لهم فيها, فجاء وهي معه, فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم, ثم رجع إلى أهله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا أقرب؟» فقال أبو أيوب رضي الله عنه: أنا يا نبي الله هذه داري, وهذا بابي, قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلاً» قال: قوماً على بركة الله.

قال الواقدي في "تاريخه": فحدثني إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة, عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن سعد بن زرارة قال: قال زيد بن ثابت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب لم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية, أول من هدية دخلت عليه بها قصعة مثرودة خبزاً وسمناً ولبناً, فأضعها بين يديه

 

#292#

صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي, فقال: «بارك الله فيك» ودعا أصحابه فأكلوا فلم أرم الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة رضي الله عنه على رأس غلامه مجيب مغطاة, فوقف على باب أبي أيوب وكشف غطاؤها لأنظر فرأيت ثريداً عليها عراق, فدخل بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أن أبا أيوب رضي الله عنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر رضي الله عنه من الطعام زهاء ما يكفيهما, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع ثلاثين من أشراف الأنصار», فدعاهم, فأكلوا حتى تركوه,

ثم قال: «ادع ستين»، فكان مثل ذلك، ثم قال: «ادع تسعين»، فأكلوا حتى تركوا، وما خرج منهم أحد إلا حتى أسلم وبايع.

قال أبو أيوب رضي الله عنه: فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلاً.

 

#293#

$[إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه]$

قال أنس رضي الله عنه: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم – يعني دار أبي أيوب رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام, فقال: أشهد أنك رسول الله, وأنك جئت بحق.

وفي رواية عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, فأتاه يسأله عن أشياء, فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة, وما أول طعام يأكله أهل الجنة, وما بأن الولد ينزع إلى أبيه وإلى أمه؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفاً» قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة.

قال: «أول أشراط الساعة, فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب, وأما أول طعام أهل الجنة, فزيادة كبد الحوت, وأما الولد, فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد, وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد».

قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, يا رسول الله إن اليهود قوم بهت, فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي, فجاءت اليهود.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام»؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا, وأفضلنا وابن أفضلنا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أسلم عبد الله» قالوا: أعاذه الله من ذلك, فأعاد عليهم, فقالوا مثل ذلك, فخرج عليهم عبد الله بن سلام, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قالوا: شرنا وابن

 

#294#

شرنا, وتنقصوه, قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله.

 

#295#

$[فرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم]$

وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام, أخبرنا معمر. ح.

وقال أبو داود في "سننه": حدثنا الحسن بن علي, قال هو وأحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, لعبت الحبشة لقدومه المدينة, فرحاً بذلك.

اللفظ للبخاري.

وروى الحافظ أبو بكر الخطيب من طريق نصر بن علي – هو الجهضمي الصغير – حدثنا عبد الأعلى – يعني ابن عبد الأعلى – عن عوف, (عن ثمامة), عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجوار من الأنصار, وهن يغنين يقلن:

نحن جوار من بني النجار ... وحبذا محمد من جار

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله يعلم أني أحبكن».

 

#296#

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه في استماع الغناء:

وروي أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تلقاه أولاد الأنصار وجواريهم سروراً به صلى الله عليه وسلم وقالوا:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني في كتابه "اللقط": قرأت على أبي بكر الإسماعيلي, يقول: سمعت أبا خليفة, يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقولون:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

(وخرجه) البيهقي في كتاب "دلال النبوة" في أحاديث الهجرة, فقال: أخبرنا أبو عمرو الأديب, أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي ... فذكره.

ورواه أبو علي الحسن بن علي بن محمد الجبلي المؤدب في "جزئه" فقال: حدثنا أبو خليفة, سمعت ابن عائشة يقول: أراه عن أبيه, قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون:

 

#297#

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت

 

#298#

يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوماً أحسن منه ولا أضوأ.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وكذا المدينة .... وذكر الحديث الذي تقدم قال – يعني أنساً: فشهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة, وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضاً: أخبرنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء.

تابعه عبد السلام بن مطهر وغيره, عن جعفر.

وخرجه الترمذي وابن ماجه جميعاً, عن بشر بن هلال الصواف البصري, حدثنا جعفر بن سليمان ... فذكره مطولاً, وسيأتي إن شاء الله تعالى.

 

#299#

$[بناء مسجده صلى الله عليه وسلم] $

ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بدار أبي أيوب دعا بصاحبي المربد وهما: "سهل" و"سهيل" ابنا رافع بن عمرو بن مالك بن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار, وكانا يتيمين في حجر أسعد بن زرارة – وقيل: في حجر معاذ بن عفراء، وقيل: كانا يتيمين لأبي أيوب – فلما دعا صلى الله عليه وسلم (بالغلامين ساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله, فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما, ثم بناه مسجداً.

 

#300#

قال الواقدي حين حدث بنحو هذا عن معمر بن راشد, عن الزهري: وقال غير معمر, عن الزهري: فابتاعه بعشرة دنانير.

قال: وقال معمر عن الزهري: وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يعطيهما ذلك.

وذكر غير الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه منهما بعشر أواق من (الذهب).

وقال أبو جعفر ابن جرير في "تاريخه": والصحيح في ذلك عندنا ما حدثنا مجاهد بن موسى, حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا حماد بن

 

#301#

سلمة, عن أبي التياح, عن أنس رضي الله عنه قال: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار, وكان فيه نخل وحرث وقبور من قبور الجاهلية, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [«ثامنوني به», فقالوا: لا نبتغي به ثمناً إلا ما عند الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] بالنخل فقطع, وبالحرث فأفسد, وبالقبور فنبشت, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل ذلك في مرابض الغنم وحيث أدركته.

قال ابن جرير في "تاريخه": وتولى بناء مسجده صلى الله عليه وسلم هو (بنفسه) وأصحابه المهاجرون والأنصار.

وهذا قول الواقدي في "تاريخه" قال: وفيها – أي في السنة الأولى من الهجرة – بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة, وكان يبنيه هو بنفسه في المهاجرين والأنصار.

قال محمد بن إسحاق الصاغاني: حدثنا (عبيد الله) بن عمر, حدثنا وكيع, حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي, حدثنا عمران بن أبي أنس, عن سهل ابن سعد قال: اختلف رجلان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى, قال أحدهما: هو المسجد الأعظم, وقال الآخر: هو مسجد قباء, قال: (فأتيا) النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «هو مسجدي هذا».

حدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" عن ابن إسحاق – هو الصاغاني.

 

#302#

وحدث به أبو محمد عبد بن حميد في "مسنده" فقال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا وكيع, عن ربيعة بن عثمان ... فذكره.

ورواه أبو بكر الروياني أيضاً في "مسنده": عن محمد بن معمر, حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الله بن عامر, عن عمران بن أبي أنس, عن سهل بن سعد, عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى, قال: «هو مسجدي هذا».

تابعه أبو بكر ابن أبي خيثمة فرواه في "تاريخه" عن الفضل بن دكين.

خالفه عبد العزيز بن أبي حازم, فرواه عن عبد الله بن عامر, عن عمران بن أبي أنس, عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فذكر مثله, ولم يذكر سهل بن سعد.

 

#303#

وحدث به المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: حدثنا الزبير, حدثني أبو ضمرة أنس بن عياض, عن عبد الله بن عامر, عن عمران, عن سهل بن سعد, عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله – يعني: بمثل ما رواه بالإسناد المذكور إلى عمران بن أبي أنس – قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, عن أبيه: أن رجلين من الأنصار تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى, فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «هو مسجدي».

وهو في "صحيح مسلم" من حديث حميد الخراط, قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن, قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه, فقلت: يا رسول الله, أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض, ثم قال: «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة.

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن خليل بن أبي الحسن, أخبرتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم, أنبأنا أحمد بن المفرج الأموي, أخبرنا

 

#304#

أبو القاسم علي بن الحسن الحافظ قراءة عليه وأنا أسمع, أخبرنا الشيخ أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك بن الحسين الأديب, أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن منصور بن إبراهيم – سبط بحرويه – أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن المقرئ, أخبرنا أبو سعيد المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي, حدثنا ابن أبي عمر, وسعيد – يعني: ابن عبد الرحمن أبا عبيد الله المخزومي – قالا: حدثنا سفيان, عن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد, عن أبيه رضي الله عنه قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه النسائي, عن زكريا بن يحيى, عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني.

وحدث به المفضل في كتابه "فضائل المدينة" أيضاً: عن الزبير بن بكار القاضي, حدثنا أبو ضمرة, عن عبد الله بن عامر, عن أبي الزناد, بمثله.

 

#305#

وقال بشر بن السري: حدثنا سفيان الثوري, عن ثور, عن خالد بن معدان, عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذرعنا المسجد ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «(عريشاً) كعريش موسى, ثمام وخشيبات, والأمر أعجل من ذلك».

وقال المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل (المدينة)" – مدينة النبي صلى الله عليه وسلم -: حدثنا ابن أبي عمر, وسعيد, قالا: حدثنا سفيان, عن ثور بن يزيد, عن راشد بن سعد, قال: وجد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وأصحاباً له معهم قصبة أو جريدة يمسحون بها المسجد, فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله, لو بنينا مسجدنا هذا

 

#306#

على بناء مسجد الشام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجريدة أو القصبة وهجل بها – يعني: رمى بها – وقال: «خشيبات وثمام, وعريش كعريش موسى, (الأمر) أعجل من ذلك».

قال الزهري – فيما ثبت عنه -: وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه, ويقول – وهو ينقل اللبن -:

«هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر»

ويقول:

«اللهم إن الخير خير الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره»

 

#307#

"الحمال": - بالكسر – الأحمال, وبذلك فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا الحمال لا حمال خيبر» ومعناه: أن ثوابكم على بنيانكم هذا ثمر الجنة الذي لا ينفد, وهو الحمال لا حمال خيبر من التمر والزبيب والطعام.

وقال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير, [عن عروة بن الزبير], عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة, قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة توكفنا قدومه, وذكر الحديث بطوله وفيه: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب رضي الله عنه حين بنى مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمون في العمل فيه, فعمل فيه المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم ودأبوا فيه, فقال قائل من المسلمين:

لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل

قال ابن إسحاق: وارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ:

 

#308#

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبد الله بن نمير, عن الأجلح, عن عبد الله بن أبي الهذيل, قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده جعل المسلمون يحملون, وجعل يحمل هو وعمار, فجعل عمار يرتجز ويقول:

نحن المسلمون نبني المساجدا

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المساجدا».

وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك, فقال بعض القوم: ليموتن عمار اليوم, فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فنفض لبنته, وقال: «ويحك» – ولم يقل: ويلك – «يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».

وجاء عن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: كان بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسميط لبنة على لبنة ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى, ثم كثروا

 

#309#

فقالوا: يا رسول الله, لو زيد فيه, ففعل, فبنى بالذكر والأنثي وهما لبنتان مختلفتان.

وفي رواية عن أحمد بن زكربا العابدي: حدثنا الزبير, عن محمد بن الحسن: أنه ضرب (لبنة) من بقيع الخبجبة ناحية بئر أبي أيوب بالمناصع.

قلت: وهو عن يسار بقيع الغرقد.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن جابر, عن قيس بن طلق, عن أبيه, قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس مسجد المدينة فجعلت أحمل الحجارة كما يحملون, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم يا أهل اليمامة أحذق بأخلاط الطين, فاخلط لنا الطين» فكنت أخلط لهم الطين ويحملونه.

وخرج أيضاً [الطبراني] – رحمه الله -: من حديث ملازم بن

 

#310#

عمرو, حدثنا عبد الله بن بدر, عن قيس بن طلق, عن أبيه, قال: بنيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة فكان يقول: «مكنوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له مسا».

ورواه أيوب بن عتبة, حدثنا قيس بن طلحة, عن أبيه,, قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يبنون المسجد, فلما رأيت عملهم أخذت (المسحاة) فخلطت بها الطين فكأنه أعجبه صلى الله عليه وسلم أخذي المسحاة وعملي, فقال: «دعوا الحنفي والطين فإنه أضبطكم للطين».

وقال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي, وأبو القاسم بن منيع, ومحمد بن إبراهيم بن أبان السراج: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني, حدثنا حشرج بن نباتة, حدثنا سعيد بن جمهان, عن سفينة, قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجراً ثم قال: «ليضع أبو بكر حجراً إلى حجري, ثم ليضع عمر حجراً [إلى حجر] أبي

 

#311#

بكر, ثم ليضع عثمان [حجراً] إلى حجر عمر», ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي».

وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده", فقال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني فذكره.

 

#312#

خالفهم أحمد بن يحيى بن سهل فرواه أبو (عبيد الله) محمد بن عطية في كتابه "الخلافة" عنه عن يحيى الحماني بسنده, عن سفينة, قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فوضع حجراً .... وذكر الحديث بنحوه.

لم يذكر في هذا الحديث مسجد قباء أحد ممن رواه عن الحماني إلا أحمد بن يحيى – فيما أعلم – والله أعلم.

وجاء من رواية سويد بن سعيد ومنصور بن أبي مزاحم, قالا: حدثنا خالد الزيات, عن زرعة بن (عمرو), عن أبيه, وكان رابع أربعة ممن دفن عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الدار بعد العتمة, قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «انطلقوا بنا إلى أهل قباء (نسلم) عليهم» فلما أتاهم فسلم عليهم رحبوا به, فقال: «يا أهل قباء, ائتوني بحجارة من هذه الحرة», فجمعت عنده, فخط قبلتهم, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً

 

#313#

فوضعه, ثم قال: «يا أبا بكر, خذ حجراً فضعه إلى جنب حجري» ثم قال: «يا عمر, خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر» ففعل, ثم قال: «يا عثمان, خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر» ففعل ثم التفت إلى الناس بآخرة, فقال: «وضع رجل [حجره] حيث أحب على هذا الخط».

تابعهما أسود بن عامر, عن خالد, وقال: عن زرعة بن عمرو مولى خباب.

وقال محمد بن داود بن [أبي] ناجية الإسكندراني: حدثنا زياد ابن يونس, حدثني نافع بن أبي نعيم القارئ, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد أخذ لبنة فوضعها فتبعه أبو بكر, ثم تبعه عمر, ثم تبعه عثمان, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا تكونون بعدي».

قال أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي النقاش: لا أعلم أحداً رواه عن نافع غير زياد بن يونس, وهذا من باب الذي قبله في الضعف.

ومن ضربه ما قال الطبراني في "معجمه الكبير" حدثنا أبو غسان

 

#314#

أحمد بن سهل السكري الأهوازي, حدثنا يزيد بن حكيم العسكري.

حدثنا سعيد بن مسلمة, عن ليث، عن زياد بن أبي المليح, عن أبيه [أبي المليح, عن أبيه]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة وكان صاحبها رجلا من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لك بها بيت في الجنة» فقال: لا, فجاء عثمان رضي الله عنه فقال له: لك بها عشرة آلاف فاشتراها منه, ثم جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: / يا رسول الله, اشتر مني البقعة بالذي اشتريتها من الأنصاري, فاشتراها منه ببيت في الجنة, فقال عثمان: إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم, فوضع النبي صلى الله عليه وسلم لبنة ثم دعا أبا بكر رضي الله عنه فوضع لبنة. ثم دعا عمر رضي الله عنه فوضع لبنة، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فوضع لبنة, ثم قال للناس: «ضعوا» فوضعوا.

سعيد وزياد ضعيفان.

وقال أبو عبد الله الواقدي – في ذكر المربد الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجداً – قال: [وقال] معمر, عن الزهري: وكان جداراً (مجدراً) ليس عليه سقف, وقبلته إلى بيت المقدس, كان أسعد بن زرارة بناه وكان (يصلى فيه بأصحابه, ويجمع) بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل التي في الحديقة

 

#315#

وبالغرقد الذي فيه أن يقطع, وأمر باللين فضرب وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب, وكان في المربد ماء (مستنجل) فسيروه حتى ذهب, وأسسوا المسجد فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع.

ويقال: كان أقل من المائة وجعلوا الأساس قريباً من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وجعل ينقل الحجارة بنفسه وهو يقول:

«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره»

وجعل يقول:

«هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر»

وجعل قبلته إلى بيت المقدس, وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في مؤخره, وباباً يقال له: باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة, والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الباب الذي يلي [آل] عثمان, وجعل طول الجدار بسطة, وعمده الجذوع,

 

#316#

وسقفه جريداً.

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا يونس بن حبيب, [حدثنا أبو داود] حدثنا عبد الله بن نافع, عن أبيه, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى المسجد جعل باباً للنساء, فقال: «لا يلجن من هذا الباب من الرجال أحد», قال نافع: فما رأيت ابن عمر داخلاً من ذلك الباب ولا خارجاً منه.

وقال (أبو) إسحاق إبراهيم بن أبي داود: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء» قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات رضي الله عنه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": لأبي معمر عبد الله ابن عمرو المنقري المقعد, عن عبد الوارث بن سعيد, وهو من أفراده.

 

#317#

$ولما استخلف أبو بكر رضي الله عنه لم يحدث في المسجد شيئاً ووسعه عمر رضي الله عنه$

قال أبو نعيم: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن سيار بن (معرور), سمعت عمر رضي الله عنه وهو يخطب الناس فقال: يا أيها الناس, إن هذا المسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه – المهاجرون والأنصار – فصلوا فيه, فمن لم يجد منكم مكاناً فليسجد على ظهر أخيه.

 

#318#

تابعه محمد بن عيسى الوابشي, عن [أبي] الأحوص, نحوه.

رواه عنهما أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" (فقال): قال لنا أبو نعيم الفضل بن دكين – حين حدثنا بهذا الحديث -: هو سيار بن مغرور أخطأ فيه – يعني – (أراد) أن أبا الأحوص أخطأ.

قلت: وتابعه يحيى بن معين, فقال: أخطأ فيه أبو الأحوص – يعني حين قاله بالعين المهملة – وإنما هو ابن مغرور [الكندي] بالمعجمة.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير" قال لنا أبو نعيم: [هو ابن مغرور الكندي].

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو في مصلاه في المسجد: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة, فلما ولي عمر رضي الله عنه, وأراد الزيادة أجلسوا رجلاً في المصلى, ثم رفعوا يده وخفضوها, ثم جيء بمقط

 

#319#

- يعني خيطاً – فوضعوا طرفه بيد الرجل, ثم مدوه, فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار به النبي صلى الله عليه وسلم فكان موضع جدار عمر في القبلة.

وجاء أن عمر رضي الله عنه كلم العباس في بيع داره ليزيدها في المسجد.

قال المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل المدينة": حدثنا ابن أبي عمر, وسعيد قالا: حدثنا سفيان, عن بشر بن عاصم, قال: أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنبه, فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بعنيها, فقال العباس: لا أبيعها, فقال عمر: إذن آخذها, فقال العباس: لا تأخذها, قال: فاجعل بيني وبينك من شئت, قال: فجعلا بينهما أبي بن كعب فأتياه فأخبراه الخبر, فقال أبي: إن الله عز وجل أوحى إلى سليمان بن داود – عليهما السلام – أن ابن بيت المقدس وكانت أرضاً لرجل فاشتراها منه سليمان, فلما باعه إياها قال له الرجل: هذا خير أو ما أعطيتني؟, (فقال): بل ما أخذت منك (خير), قال: فإني لا أجيزه, وناقضه البيع, ثم اشتراها الثانية, فقال له مثل ذلك, فقال: بل هذه خير, فناقضه البيع, ثم اشتراها الثالثة, فصنع مثل ذلك حتى قال له سليمان بن داود: احتكم بما شئت

 

#320#

على أن لا تسألني غيره, قال: فاحتكم (اثني) عشر ألف (قنطاراً) من ذهب, فاستكثر ذلك سليمان واستعظمه [قال]: فأوحى (الله عز وجل إليه): إن كنت تعطيه من عندك فذاك, وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى. قال أبي بن كعب: فإني أراها للعباس, فقال العباس رضي الله عنه: أما إذ قضيت لي بها فقد جعلتها صدقة للمسلمين.

 

#321#

$ [أمر عمر رضي الله عنه بالمسجد أن يبسط بحصباء العقيق] $

وعمر رضي الله عنه أول من بطح المسجد من حصباء العقيق, كان الناس إذا رفعوا من السجود (نفضوا) أيديهم, فأمر عمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدث سفيان بن عيينة, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: أول من بطح المسجد – يعني: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم – عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ابطحوا من الوادي المبارك.

رواه ابن صاعد فقال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن, حدثنا سفيان فذكره.

وخرجه الجندي في "فضائل المدينة" فقال: حدثنا ابن أبي عمر وسعيد, قالا: حدثنا سفيان. فذكره.

وقوله: "الوادي المبارك": - يعني وادي العقيق – كما جاء تسميته بذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بات بالعقيق في حجته: «أتاني الليلة آت

 

#322#

من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل عمرة في حجة».

وقال يعقوب بن محمد الزهري: حدثني عمر بن عثمان التيمي, حدثنا أيوب بن سلمة المخزومي, حدثنا عامر بن سعد, عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وذكر العقيق فقال: «ما ألين موطئه وأعذب ماءه!».

وأصل مسيل العقيق كما ذكره الإمام أبو بكر بن الحسين المراغي في كتابه "معالم المدينة" من النقيع – بالنون – قبلي المدينة الشريفة بينه

 

#323#

وبين قباء مقدار يوم ونصف, وهو معروف في طريق المشيان ويصل إلى بئر علي العليا المعروفة – بالخليقة – يالقاف وأوله خاء معجمه مفتوحة بعدها لام مكسورة – ثم يأتي على غربي جبل عير, ويصل إلى بئر على ذي الحليفة محرم الحجاج, ثم يأتي مشرفاً إلى قريب الحرة التي يطلع منها إلى المدينة, ثم يعرج يساراً ومن بئر المحرم ذي الحليفة يسمى العقيق.

ويقال العقيق الأكبر والعقيق الأصغر, قال بعضهم: الأصغر به بئر رومة, والأكبر قريب منه من بلاد مزينة, بئر عروة وهو الذي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث, ثم أقطعه عمر رضي الله عنه الناس.

ثم إن عثمان رضي الله عنه بناه في خلافته في سنة تسع وعشرين بالحجارة والقصة, وجعل عمده حجارة وسقفه بالساج, وزاد فيه ووسعه, جعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع, وجعل أبوابه كما كانت زمن عمر رضي الله عنه ستة أبواب ونقل إليه الحصباء من العقيق.

 

#324#

وكان أول من اتخذ في المسجد المقصورة مروان بن الحكم, بناها بحجارة منقوشة, ثم لم يحدث فيه شيئاً إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه, فكتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه, وبعث إليه بمال ورخام وفسيساء – وهي فيما قاله الزبيدي في "مختصر العين": ألوان مؤلفة من الخرز تركب في الحيطان – وبعث إليه بثمانين صانعاً من الروم والقبط من أهل الشام ومصر فبناه وزاد فيه, وولي القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان, وذلك في سنة سبع وثمانين, وقيل: في سنة ثمان وثمانين ثم لم يحدث فيه أحد من الخلفاء شيئاً حتى استخلف المهدي.

قال الواقدي: بعث المهدي عبد الملك بن شبيب الغساني ورجلاً من

 

#325#

ولد عمر بن عبد العزيز إلى المدينة لبناء مسجدها والزيادة فيه, وعليها يومئذ جعفر بن سليمان بن علي, فمكثا في عمله سنة وزاد في مؤخره مائة ذراع, فصار طوله ثلاثمائة ذراع وعرضه مائتي ذراع.

وقال علي بن محمد المدائني: ولى المهدي جعفر بن سليمان مكة والمدينة واليمامة, فزاد في مسجد مكة ومسجد المدينة فتم بناء مسجد, المدينة في سنة اثنتين وستين ومائة, وكان المهدي أتى المدينة في سنة ستين قبل الحجر (فأمر) بقلع المقصورة وتسويتها مع المسجد.

قال أبو داود في "المراسيل": حدثنا محمد بن سلمة المرادي, حدثنا ابن وهب, عن ابن لهيعة, أن بكير بن الأشج حدثه: أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع أهلها تأذين بلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلون في مساجدهم, أقربها مسجد بني عمرو بن مبذول من بني النجار, ومسجد بني ساعدة, ومسجد بني عبيد, ومسجد بني سلمة, ومسجد بني

 

#326#

راتج, من بني عبد الأشهل, ومسجد بني زريق, ومسجد بني غفار, ومسجد أسلم, ومسجد جهينة, ويشك في التاسع.

وخرجه الدارقطني في "سننه": من طريق أبي داود.

 

#327#

$ [من فضائل المسجد النبوي] $

وحدث محمد بن يحيى المروزي, عن عاصم بن علي, حدثنا سليمان بن كثير, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام؛ لأني آخر الأنبياء وهو آخر المساجد» أو «أحد المساجد», شك عاصم.

 

#328#

وقال مكي بن إبراهيم: حدثنا موسى بن عبيدة, عن داود بن مدرك, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء, وأحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل مسجد الحرام ومسجدي, صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام».

وحدث العباس, ثنا حمزة بن عبد الرحيم بن حبيب, حدثنا داود بن

 

#329#

عجلان, حدثنا إبراهيم بن أدهم, عن مقاتل بن حيان, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة في مسجد الحرام مائة ألف صلاة, والصلاة في مسجدي عشرة آلاف صلاة, والصلاة في مسجد الرباطات ألف صلاة».

وله طريق أخرى أشد ضعفاً من هذه رواها هاشم بن القاسم الحراني: حدثنا محمد بن عجلان الملطي, عن سعيد بن ميسرة, عن أنس بن مالك مرفوعاً بمعناه.

وجاء عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي كان يمنزلة حجة».

 

#330#

وحدث خبيب بن عبد الرحمن, عن حفص بن عاصم, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة, ومنبري على حوضي» متفق عليه من حديث عبيد الله بن عمر, عن خبيب.

وحدث به موسى بن إسماعيل التبوذكي, عن حماد بن سلمة, أخبرنا عبيد الله بن عمر, وسهيل بن أبي صالح, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منبري هذا على ترعة من ترع الجنة, وما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة».

وهو عند حماد بن سلمة فيما رواه التبوذكي, وعفان عنه, عن علي بن زيد, عن علي بن الحسين: أن رسول الله صلىالله عليه وسلم , قال: «ما بين منبري وبين حجرتي روضة من رياض الجنة».

 

#331#

وله شاهد من حديث سعد بن أبي وقاص, وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني, وأم سلمة رضي الله عنهم.

قال الإمام أبو بكر بن الحسين المراغي نزيل المدينة الشريفة في كتابه "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة": وينبغي اعتقاد كون الروضة الشريفة [لا تختص] بما هو معروف الآن بل تتسع إلى حد بيوته صلى الله عليه وسلم من ناحية الشام, وهو آخر المسجد في زمنه صلى الله عليه وسلم فيكون كله

 

#332#

روضة, وهذا إذا فرعنا على أن المفرد المضاف (للعموم), وقد رجحه في كتب الأصول جماعة, فإضافة بيته المكرم إلى نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم يعم كل بيت له, وقد كانت بيوته خارجة من المسجد مديرة به إلا من جهة الغرب, وكانت أبوابها شارعة في المسجد كما نقله ابن النجار, عن أهل السير, والله أعلم.

قلت: آخر المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم معروف إلى (أن) أعلموه بحجر [أسود ملقى في المسجد من جهة الشام بين الحصباء, تجاه الحجر المبني لمعرفة الأوقات إلى جهة القبلة., والله أعلم].

 

#333#

$ [إرساله صلى الله عليه وسلم إلى عياله بمكة ليقدموا عليه المدينة] $

ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أرسل إلى عياله بمكة ليقدموا عليه.

روي عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: متى بنى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لما هاجر إلى المدينة بعث إلينا زيد بن حارثة, وبعث معه أبا رافع مولاه, وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم – أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي – يشتريان بها ما يحتاجان إليه من الظهر, وبعث معهما عبد الله بن أريقط الديلي ببعيرين أو بثلاثة, وكتب إلى أخي عبد الرحمن يأمره أن يحمل أهله أي أم رومان وأختي أسماء وأنا, فاشترى زيد بتلك الخمسمائة ثلاثة أبعرة, ثم دخلوا مكة, فصادفوا طلحة بن عبيد الله يريد الهجرة بآل أبي بكر, فخرجنا جميعاً, وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة, وحمل زيد أم أيمن وأسامة بن زيد, فلما قدمنا المدينة نزلت مع عيال أبي بكر, وبقيت أياماً, وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم البناء بي وأصدقني أثنتي عشرة أوقية ونشا [- أي نصفاً -] وبنى بي في بيتي هذا, وهو الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم.

 

#334#

وحدث به الزبير بن بكار مطولاً, فقال: حدثنا محمد بن حسن المخزومي, عن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفنا وخلف بناته, فلما استقر بعث زيد بن حارثة وبعث معه أبا رافع مولاه, وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم أخذها من أبي بكر رضي الله عنه يشتريان بها ما يحتاجان إليه من الظهر, وبعث أبو بكر معهما عبد الله بن أريقط ببعيرين أو ثلاثة، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل أمي أم رومان وأني وأختي (وكذا) أسماء امرأة الزبير فخرجوا (مصطحبين), فلما انتهوا إلى قديد اشترى زيد بن حارثة بتلك الخمسمائة درهم ثلاثة أبعرة, ثم دخلوا مكة جميعاً فصادفوا طلحة بن عبيد الله يريد الهجرة, فخرجوا جميعاً وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة, وحمل زيد أم أيمن وأسامة حتى إذا كنا بالبيداء نفر بعيري وأنا في محفة ومعي فيها أمي, فجعلت أمي تقول: وابنتاه واعروساه حتى أدرك بعيرنا, وقد هبط الثنية – ثنية هرشا, فسلم إليه ثم إنا قدمنا المدينة, فنزلت مع آل أبي بكر ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم معه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وأبياتاً حول المسجد فأنزل فيها أهله فمكثا أياماً, ثم قال أبو بكر: يا رسول الله, ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: «الصداق» فأعطاه أبو بكر [رضي الله عنه] اثنتي عشرة أوقية ونشا, فبعث بها إلينا وبنى

 

#335#

بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه, وهو الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم، وأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت (فكان) يكون عندها ... وذكر الحديث.

وذكر الواقدي في "تاريخه": أنهم حين قدموا المدينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وأبياتاً حول المسجد, فأنزلهم في بيت لحارثة بن النعمان.

وذكر أيضاً: أن أبا رافع وزيداً اشتريا بتلك الخمسمائة ثلاثة أبعرة بقديد.

قال الواقدي في غير "التاريخ": وكانت لحارثة بن النعمان منازل قرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله فكلما أحدث رسول الله أهلاً تحول له حارثة بن النعمان عن منزله حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضي الله عنهن.

 

#336#

وقال أيضاً: حدثني إبراهيم بن شعيب, عن يحيى بن شبل, عن أبي جعفر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وتزوج علي (فاطمة) وأراد أن يبني بها, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطلب منزلاً», فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً, فبنى بها فيه, فجاء النبي صلى الله عليهوسلم  إليها, قال: «إني أريد أن أحولك إلي», فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول عني – تريد أن يتحول إلى غير منزله – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فد تحول حارثة عنا حتى استحييت» فبلغ حارثة رضي الله عنه فتحول, وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, بلغني أنك تحول فاطمة إليك, وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار, وإنما أنا ومالي لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والله يا رسول الله, للذي تأخذ مني أحب إلي من الذي تدع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت بارك الله عليك» فحولها إلى بيت حارثة رضي الله عنه.

 

#337#

$ [كيف كانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم] $

كانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلها في الشق الأيسر إذا قمت إلى الصلاة إلى وجه الإمام في وجه المنبر فهذا أبعده.

قاله أبو الرجال, عن أمه عمرة.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, عن عبد الله بن عامر الأسلمي, قال لي أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو في مصلاه فيما بين الأسطوان التي تلي حرف القبر التي تلي الأخرى إلى طريق [باب] رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا [بيت] زينب بنت جحش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه, وهذا الصف كله إلى باب أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد [الله] بن عباس اليوم إلى رحبة المسجد فهذه بيوته صلى الله عليه وسلم التي رأيتها بجريد قد طرت بالطين عليها مسوح الشعر.

وقال أيضاً: أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد

 

#338#

الهذلي, قال: رأيت بيوت أزواج (رسول الله) صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد مطرور بالطين عددت تسعة أبيات بحجرها وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى منزل أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس, ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن, فسألت ابن ابنها, فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة دومة, بنت أم سلمة حجرتها بلبن فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن, فدخل عليها أول نسائه, فقال: «ما هذا البناء؟» فقالت: أردت – يا رسول الله – أن أكف أبصار الناس, فقال: «يا أم سلمة, إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان».

وقال: أخبرنا ابن عمر فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري, فقال: سمعت عطاء الخراساني – في مجلس فيه عمران بن أبي أنس – يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ, يأمر بإدخال حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أكثر باكياً من ذلك اليوم.

قال عطاء: (سمعت) سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت

 

#339#

أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من أهل المدينة, ويقدم القادم من الأفق فبرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها – يعني: في الدنيا.

قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد, وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها, على أبوابها مسوح الشعر, ذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع والعظم أو أدنى من العظم.

فأما ما ذكر من كثرة البكاء يومئذ, فلقد رأيتني في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن, وأبو أمامة بن سهل بن حنيف, وخارجة بن زيد بن ثابت, وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع, وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ويرون ما رضي الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الدنيا بيده.

وقال حماد بن إسحاق: حدثنا أحمد بن المعدل, عن محمد بن (مسلمة), عن مالك بن أنس, أنه قال: رأيت بعض أهل العلم يقولون: وددنا أنهم كانوا لما بنوا مسجد المدينة وأحاطوا الحائط على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا (تركوا) أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم التسع حتى يراها الناس قد اتخذت بالجريد والمسوح فيعتبرون بذلك, ويقولون: هذا أكرم الخلق على الله عز وجل رضي من الدنيا بهذا.

 

#340#

ونحسب عمر بن عبد العزيز وهو الذي كان بنى المسجد للوليد لم يدعها على حالها لعلمهم بأنها كانت تدرس وتذهب ولا تبقى.

وقال محمد بن مقاتل المروزي: أخبرنا عبد الله بن المبارك, حدثني حريث بن السائب, سمعت الحسن – يعني البصري – رحمة الله عليه – قال: كنت أدخل بيوت أزواج (رسول الله) صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي.

وفي رواية: وأنا غلام مراهق.

وخرجه أبو داود في "المراسيل": عن غسان بن الفضل, عن ابن المبارك مثله.

وحدث أيضاً في الكتاب: عن غسان بن الفضل, عن ابن المبارك, عن داود بن قيس – هو الفراء مولى قريش – قال: رأيت الحجرات من جريد مغشى من خارج بمسوح الشعر ... وذكر بقيته.

قال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا عبد الرحمن بن شيبة, أخبرني ابن أبي فديك, حدثني موسى بن يعقوب, عن عبد الرحمن بن إسحاق: أن هشام بن عروة أخبره: أن عروة أخبره، أن عائشة أخبرته.

 

#341#

فلما حضرت سودة الوفاة أوصت لعائشة ببيتها, قالت: فلما حضرت صفية بنت حيي الوفاة أرسلت إلى عائشة أنها معطيتها مسكنها فأبت عائشة على صفية, فلما هلكت صفية قبض علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تركتها وكان في حجرها, فباع علي بن عبد الله المسكن من معاوية بمائة ألف.

وذكر محمد بن عمرو بن عطاء العامري: أن أولياء صفية باعوا بيتها من معاوية بمائة وثمانين ألف درهم, وأن سودة أوصت ببيتها لعائشة – رضي الله عنهن.

وجاء أن بيت عائشة اشتراه منها معاوية بمائة وثمانين ألف درهم, وقيل بمائتي ألف درهم, وشرط لها سكناها حياتها, وحمل إليها المال فما رامت مجلسها حتى قسمته.

وقيل اشتراه ابن الزبير من عائشة, بعث إليها فيما قيل خمسة أجمال بخت تحمل المال, وشرط لها سكناها حياتها فما برحت حتى قسمت ذلك, فقيل لها: لو خبأت منه درهماً, فقالت عائشة رضي الله عنها: لو ذكرتموني فعلت.

 

#342#

وأما بيت حفصة تركته بعدها فورثه ابن عمر فلم يأخذ له ثمناً, وهدم وأدخل في المسجد. قاله سالم.

وبيت أم سلمة كان بيت زينب بنت خزيمة فلما توفيت أدخل أم سلمة في بيتها, فذكر عكرمة أن ورثة أم سلمة باعوا بيتها بمال, وقيل: لم يبع.

قال أبو داود في "المراسيل": حدثنا عبد الله بن محمد وعلي بن سهل الرمليان, قالا: حدثنا الوليد, عن عبد الله بن العلاء, عن عطية ابن قيس, قال: كان حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بجريد النخل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مغزى له وكانت أم سلمة موسرة فجعلت مكان الجريد لبناً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟» قالت: أردت أن أكف عني أبصار الناس فقال: «يا أم سلمة, إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان».

 

#343#

$ [هدايا الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم] $

وكانت الأنصار لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم يهدون إليه حيث ما دار في بيوت أزواجه:

قال يعقوب بن حميد: حدثنا سفيان بن حمزة, عن كثير بن زيد, عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي, عن أبيه, قال: كان طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على أصحابه على هذا ليلة وعلى هذا ليلة, فدار علي, فعملت طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذهبت به فتحرك النحي فأهريق ما فيه, فقلت: على يدي أهريق طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس», فقلت: لا أستطيع يا رسول الله, فرجعت فإذا النحي يقول: قب قب, فقلت: فضلة فضلت فيه, فاختبرته, فإذا هو قد ملئ إلى يديه فأوكيته, ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, فقال: «أما إنك لو تركته لملئ إلى فيه فأوكه».

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني موسى بن يعقوب, عن عمته, عن أم سلمة رضي الله عنها, قالت:: كانت الأنصار الذين يكثرون إلطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم: سعد بن عبادة, وسعد بن معاذ, وعمارة بن حزم, وأبو أيوب؛ وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يمر يوم إلا ولبعضهم هدية تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث دار وجفنة سعد بن عبادة تدور حيث دار لا يغبها كل ليلة.

 

#344#

وقال أيضاً: أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا سعيد بن محمد بن زيد, سألت عمارة بن غزية وعمرو بن يحيى بن جفنة سعد بن عبادة فقالا: كانت مرة بلحم, ومرة بسمن, ومرة بلبن يبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلما دار دارت معه الجفنة.

وخرج أبو بكر أحمد بن مروان بن محمد الدينوري في كتابه "المجالسة": عن إبراهيم بن حبيب, حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا الهيثم, حدثني معن بن بشير, عن أبيه, عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصحفة أو جفنة مملوءة مخاً, فقال: «يا أبا ثابت, ما هذا؟!», فقال: والذي بعثك بالحق لقد نحرت أو ذبحت أربعين ذات كبد فأحببت أن أشبعك من المخ, قال: فأكل ودعا له [النبي] صلى الله عليه وسلم بخير.

قال إبراهيم بن حبيب: سمعت أن الخيزران حدثت بهذا الحديث فقسمت قسماً من مالها على ولد سعد بن عبادة، وقالت: أكافئ به ولد سعد بن عبادة عن فعله برسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#345#

$ [وعك الصحابة رضي الله عنهم عند قدومهم المدينة] $

ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت من أوبأ أرض الله بالحمى, فوعك أبو بكر وبلال وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.

روينا عن ابن إسحاق قال: وذكر ابن شهاب الزهري, عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عله وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضاً, وصرف ذلك عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود, قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك, فقال لهم: «اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» قال: فتجشم المسلمون القيام على ما هم فيه من الضعف والسقم التماس الفضل.

وحدث أبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد الكوفي الحافظ, عن هشام, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته, (ويقول):

 

#346#

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل

[وقال]: «(اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد, اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا, وانقل حماها إلى الجحفة» قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله, قالت: فكان بطحان يجري نجلاً.

تابعه سفيان الثوري عن هشام, وله طرق.

وقولها "يجري نجلاً": هو بالإسكان, رواه بعضهم بالتحريك [وهو] وهم, أي: ماء نزا, فالنجل: النز, وهو ما تحلب من الأرض من ماء.

وقال أبو زيد: النجل: الماء حين يسيل.

ووقع في "صحيح البخاري" تفسيره تعني ماء آجناً وعددهما, لكنه

 

#347#

يحتمل أنه أراد وصف النجل بالتغيير, (وعبر) عن النجل بالماء فقال: تعني ماء آجناً.

وحدث بهذه القصة ابن إسحاق, فقال: وحدثني هشام بن عروة, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم, وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم, قالت: وكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر مع أبي بكر في بيت واحد, فأصابتهم الحمى, فدخلت (عليهم) أعودهم – وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب –وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك, فدنوت من أبي بكر, فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال:

كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

قالت: قلت: والله ما يدري أبي ما يقول.

قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة, فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:

لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه

وذكر بقية القصة.

 

#348#

ورواها أحمد بن حنبل في "مسنده": من طريق ابن إسحاق, [فقال: حدثنا يونس, حدثنا ليث, عن يزيد – يعني ابن أبي حبيب – عن أبي بكر بن إسحاق] بن يسار, عن عبد الله بن عروة, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أصحابه, واشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وبلال, فاستأذنت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم في عيادتهم, فإذن لها, فقالت لأبي بكر: كيف تجدك؟ فقال:

كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

وسألت عامراً, فقال:

إني وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه

وسألت بلالاً, فقال:

يا ليت (شعري) هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل

 

#349#

فأتت النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبرته بقولهم, فنظر إلى السماء, (وقال): «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد, اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها, وانقل وباها إلى مهيعة» وهي الجحفة كما زعموا.

وحدث سليمان بن بلال, عن موسى بن عقبة, عن سالم بن عبد الله, عن أبيه, رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى أقامت بمهيعة» وهي الجحفة – "فأولت أن وباء المدينة نقل إليها".

تابعه فضيل بن سليمان, عن موسى.

وضرب المثل لذهاب الوباء بخروج (السوداء) لحكمة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان داعياً في ذهاب الوباء عن المدينة وانتقاله إلى الجحفة لكون المشركين بها حينئذ, وكان يتوقع الإجابة, ويتوكف بلوغ الأمل منها, فلما رأى هذه الرؤيا ردها إلى ما كان ينتظر, قاله الإمام أبو بكر ابن العربي في "شرح الترمذي".

وكذا وقعت هذه الرؤيا فإن الوباء نقل من المدينة وحسمت مادة الطاعون منها فلا يدخلها طاعون أبداً.

ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال».

 

#350#

وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها, أو يقتل صيدها».

وقال: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون, لا (يدعها) أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه, ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة».

وفي رواية في هذا الحديث: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء».

وجاء عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلىوسلم عليه       أشرف على المدينة, فرفع يديه حتى (رؤيت) عفرة أبطية, ثم قال: «اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجل هلاكه».

وفي هذا تسمية المدينة ببلد الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

#351#

$ [فضل المدينة المشرفة وأسماؤها] $

وأسماء المدينة كثيرة وردت في أحاديث وآثار.

قال عبد العزيز بن محمد الدراوردي: وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسماً.

قلت: والذي وقع لي من أسمائها ما رتبته هنا, وهو: أرض الهجرة, أكالة البلدان, البحرة, بلد الرسول صلى الله عليه وسلم, الحبيبة, الخيرة, الدار, دار الإيمان, دار الهجرة, دار السنة, الشافية, طابة, طيبة, طيّبة – بالتشديد – ظبايا, العاصمة, العذراء, القاصمة, قبة الإسلام, المباركة, المجبورة, المحبة, المختارة, المدينة, المرحومة, المرزوقة, المسكينة, المقدسة, الموفية, الهذرا, يثرب, يلندد, يندد.

وقد كره غير واحد من العلماء تسميتها بيثرب.

وقال عيسى بن دينار الخزاعي: من سماها يثرب كتبت عليه

 

#352#

خطيئة.

وكأنه – والله أعلم – أخذ هذا من حديث البراء بن عازب الذي خرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا إبراهيم بن مهدي, حدثنا صالح بن عمر, عن يزيد بن [أبي] زياد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن البراء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة».

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا محمد بن إسحاق, حدثنا (أحمد) بن إبراهيم الموصلي, حدثنا صالح بن عمر, عن يزيد بن أبي زياد .... فذكره بنحوه.

وخرجه أبو سعيد المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي اليمني في

 

#353#

كتابه "فضائل المدينة" فقال: [حدثنا ابن أبي عمر وسعيد, قالا:] حدثنا سفيان, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثاً, هي طيبة» مرتين.

وأما تسميتها في القرآن بهذا الآسم في قوله تعالى: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب} فهذا حكاية حكاها الله تعالى عن غير المؤمنين.

قيل: عن أبي عرابة أوس بن قيظي.

وفي "يثرب": لغة في إبدال الياء همزة مفتوحة والباقي سواء: "أثرب".

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يثرب اسم أرض, ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية منها.

 

#354#

وقال غيره: إن هذا الاسم – يعني يثرب – يطلق الآن على أرض غربي مشهد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشرقي الموضع المعروف بالبركة مصرف عين الأزرق وتسميها الحجاج: "عيون حمزة".

وحكى رزين بن معاوية الأندلسي في "أخبار دار الهجرة": أن يثرب أسم أبي عبيل.

وقال غيره: نزل المدينة رجل من العماليق اسمه يثرب بن عبيل فسميت به.

وقال أبو سعيد الجندي في كتابه "فضائل المدينة": حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي, حدثنا عبد الله بن نافع, عن محمد بن عبد الرحمن العامري, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة بنت عبد الرحمن, قالت: خطب مروان بن الحكم بمكة فذكر مكة وفضلها فأطنب فيها, ورافع بن خديج عند المنبر, فقال: ذكرت مكة وفضلها وهي على ما ذكرت, ولم أسمعك ذكرت المدينة, أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المدينة أفضل من مكة».

تابعه يعقوب بن حميد بن كاسب, عن محمد بن عبد الرحمن – وهو ابن الرداد المديني – من ولد ابن أم مكتوم, وهو لين تفرد بهذا

 

#355#

الحديث, وهو غير محفوظ.

 

#356#

$ [ما جاء في أن غبار المدينة أمان من الجذام] $

ومن خصائص المدينة ما ذكره صاحب كتاب "صورة الأرض والأقاليم" الذي صنفه لأبي السري الحسن بن الفضل بن أبي السري الأصبهاني, قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن غبار المدينة أمان من الجذام.

قال: ومن أقام بها وجد في مائها وهوائها رائحة ليست في الأراييح طيباً خلقة فيها وجوهرية لا تتغير, وهي أنقى طيباً من الطيب بنيسابور, وألذ نسيماً من نهر الأبلة ولا تتغير المعجونات والطيب بها ما أقاما.

قلت: والحديث الذي ذكره جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلىعليه وسلم       لما دنا من المدينة منصرفه من تبوك خرج إليه فتلقاه أهل المدينة من المشايخ والغلمان فثار من آثارهم غبرة, فخمر بعض من كان مع

 

#357#

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفه عن الغبار, فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده, فأماطه عن وجهه, وقال: «أما علمت أن عجوة المدينة شفاء من السقم, وغبارها شفاء من الجذام».

خرجه أبو الحسن رزين بن معاوية بن عمار الأندلسي في (كتابه) "أخبار دار الهجرة".

وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "الطب": أخبرنا أحمد بن محمد, حدثنا عيسى بن زكريا, حدثنا عمير بن مرداس, حدثنا محمد بن بكير, حدثنا القاسم بن عبد الله العمري, عن أبي بكر بن محمد, عن سالم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غبار المدينة يبرئ من الجذام».

وخرج في الكتاب من حديث أبي غزية محمد بن موسى, عن عبد العزيز بن عمران, عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن

 

#358#

خارجة, عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس, عن أبيه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غبار المدينة شفاء من الجذام».

ومن حديث موسى بن يعقوب الزمعي, حدثني الزبير بن عبد الله بن رهيمة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: «والله إن تربتها ميمونة».

 

#359#

وحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن المرحل المقدسي المؤدب في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة أنه حج فلما رجع من حجته إلى المدينة سمع بعض المحدثين يذكر فضيلة غبار المدينة الشريفة, فقال شيخ حسن الوجه واللمة: إن بعض الناس كان في جسده بياض, فكان يخرج من المدينة إلى البقيع عرياناً في السحر ويعود, فبرأ بذلك الغبار وعوفي.

فكأن ابن المرحل حصل في نفسه شيء من شك, فنظر في يده فوجد في ساعده بياضاً قدر الدرهم, فأقبل على الله عز وجل بالدعاء والبكاء والافتقار إليه, وخرج إلى البقيع وهو في حال الله أعلم بها, وكان يأخذ من الرمل الذي في الروضة الشريفة المباركة ويضعه على ذلك البياض, ويدلكه, فذهب بإذن الله عز وجل ثم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#360#

$ [دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة بالبركة] $

ومن خصائص المدينة:

ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا, وبارك لنا في مدينتنا, وبارك لنا في صاعنا, وبارك لنا في مدنا, اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك, وأنا عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر.

خرجه أبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا عند السقيا

 

#361#

التي كانت لسعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة, وأنا محمد عبدك ورسولك وإني أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثلما باركت لأهل مكة واجعل مع البركة بركتين».

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا مصعب بن عبد الله, حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل: يا رسول الله, صاعنا أصغر من الصيعان, ومدنا أصغر الأمداد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في قبلتنا, واجعل لنا مع البركة بركتين».

وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها, وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة».

وفي "معجم الطبراني الكبير" عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه

 

#362#

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان, وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان».

وقال أبو محمد يحيى بن صاعد: حدثنا هارون بن موسى الفروي في كتاب المغازي بمسجد المدينة في الأخبار: حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي, عن القاسم بن عبد الله بن عمر, عن كثير بن عبد الله المدني, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا كألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها, وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها».

 

#363#

عمر, والقاسم, (وكثير): ضعفاء.

 

#364#

$ [فتح المدينة بالقرآن] $

ومن الخصائص أيضاً ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": [حدثنا أبي], حدثنا محمد بن الحسن بن أبي الحسن المخزومي, عن مالك بن أنس, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افتتحت المدائن بالسيف وفتحت المدينة بالقرآن».

المخزومي هو ابن زبالة, وقد قال يحيى بن معين في حديثه هذا: كذب ليس بشيء, أصحاب مالك يروونه من كلام مالك.

 

#365#

رواه إبراهيم بن الجنيد, عن يحيى, والحديث مخرج في "مسند البزار".

وقد جاء عن مالك عن هشام, عن أبيه, عن عائشة موقوفاً, فيما حدث به الزبير بن بكار فقال: حدثني محمد بن يحيى – أبو غسان – عن مالك بن أنس, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف والرمح, وافتتحت المدينة بالقرآن.

*وهي مهاجر رسول الله صلىملله عليه وسل   ومحل أزواجه وفيها قبره صلى الله عليه وسلم.

 

#366#

وقال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحافظ: حدثنا قالون, حدثنا أبو موسى المديني, حدثنا عبد الله بن نافع, عن أبي المثنى القاري, عن سعيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة قبة الإسلام, ودار الإيمان, وأرض الهجرة, ومبوأ الحلال والحرام».

ورواه عبد الله بن محمد بن أيوب المخرمي, عن عبد الله بن كثير بن جعفر الأنصاري, حدثني أبو المثنى سليمان بن يزيد, عن سعيد المقبري .... فذكره. وهو في "المعجم الأوسط" للطبراني.

وروى أبو همام الدلال محمد بن محبب النيسابوري, عن سعيد بن السائب الطائفي, حدثنا عبد الملك بن أبي زهير بن عبد الرحمن

 

#367#

الثقفي, أن القاسم بن حبيب أخبره, أن حمزة بن عبد الله الثقفي الأسلمي أخبره, أن عبد الملك بن عباد بن جعفر أخبره, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة, وأهل مكة, وأهل (الطائف)».

تابعه حرمي بن عمارة, عن سعيد بن السائب.

 

#368#

خالفهما عبد الوهاب الثقفي, [فرواه] عن سعيد, عن حمزة بن عبد الله بن سبرة, عن القاسم, عن عبد الملك, بنحوه.

ورواه محمد بن بكار, عن زافر بن سليمان, عن محمد بن مسلم, عن عبد الملك بن [أبي] زهير, عن حمزة بن أبي شمر, عن محمد بن عباد, عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الدراوردي, عن أسامة بن زيد, عن عبد الله بن عكرمة, عن عبد الله بن [عبد الله بن] عمر, عن أبيه, عن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه لن يموت

 

#369#

بها أحد إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة».

وجاء عن صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن الصميتة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فمن مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً».

وفي إسناده اختلاف على الزهري واضطراب.

وقال الصلت بن مسعود الجحدي: حدثنا سفيان بن موسى, حدثنا أيوب, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة».

 

#370#

خرجه الترمذي عن بندار, وابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف: كلاهما عن معاذ بن هشام, عن أبيه, عن أيوب به.

وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب".

 

#371#

$ [تشوقه صلى الله عليه وسلم إلى مكة حين ذكر أوقافها] $

وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة (شرفها الله تعالى)": حدثنا ابن أبي بزة, حدثنا إسماعيل بن يعقوب بن غرير الزهري, أخبرني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز, عنه أبيه, عن ابن شهاب الزهري, قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت [له]: يا أصيل, كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها والله قد أخصب جنابها, وابيضت بطحاؤها, واعذوذق سلمها وإذخرها, فقالت: أقم حتى يأتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يلبث أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «يا أصيل كيف عهدت مكة؟» قال: عهدتها والله (وقد) أخصب

 

#372#

جنابها, وابيضت بطحاؤها, وأعذق سلمها وإذخرها, وأسلب ثمامها, وأمشر سلمها, قال: «حسبك حسبك يا أصيل, لا تحزنا».

وحدث به أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن هارون بن أبي بكر, عن إسماعيل بن يعقوب, بنحوه.

وقال أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ: حدثنا عبد الله بن (سعيد) بن يحيى, حدثنا أحمد بن بكار بن أبي ميمونة، حدثنا عبد الله بن سعيد, عن محمد بن عبد الرحمن القرشي, عن بديح – قبل هو ابن سدرة السلمي – قال: قدم أصيل الهذلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تركت مكة يا أصيل», قال: يا رسول الله, حسن أبطحها, وأعذق ثمارها, وأمشر سلمها, وأحجن إذخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويها يا أصيل, دع

 

#373#

القلوب تقر».

قوله: "أعذق": أي صار (لها) عذوق.

وقوله في الرواية الأولى: "أعذق سلمها وإذخرها" أي صارت له أفنان كالعذوق.

وقوله: "أسلب ثمامها" أي أخوص وصار له خوص, والثمام نبت ليس بالطويل.

وقوله: "وأمشر سلمها": أي أخرج مشرته وهي شبه (الخوصة), ومعناه أورق سلمها واخضر, والسلم من شجر العضاه يدبغ بورقه.

وفي الرواية الثانية: "وأمشر سبلها": أي اخضرت طرقها.

وقوله: "وأحجن إذخرها": أي صارت له حجون وهي الشعب.

 

#374#

وروى ابن الأعرابي فقال: حدثنا هلال بن العلاء الرقي, حدثنا مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم, حدثني أبو بكر الضبي وعبد القدوس, عن الحسن, عن أبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه: أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبان, كيف تركت أهل مكة؟», فقال: تركتهم وقد جيدوا, وتركت الإذخر وقد أعذق, وتركت الثمام وقد خاص, قال: فاغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: قوله: "جيدوا": أي أصابهم الجود وهو المطر الواسع فهو (مجود) كما يقال: قيل فهو مقول.

وقوله: "خاص": كذا رواه وإنما هو أخوص أي تمت خوصته.

وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول, اسمع ما يقول أصيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشوقنا», أو كلمة نحوها.

 

#375#

$ [ابتداء التاريخ] $

ومن هذه الهجرة كتب التاريخ:

خرج البخاري في "تاريخه الكبير" من حديث سعيد بن المسيب قال: قال عمر رضي الله عنه: متي نكتب التاريخ؟ وجمع المهاجرين فقال له علي رضي الله عنه: من يوم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, فكتب التاريخ.

وجاء من حديث حبان بن علي العنزي, عن مجالد, عن الشعبي قال: كتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنهما أنه يأتينا منك كتب ليس فيها تاريخ فأرخ, قال: فجمع عمر المشورة, فقال بعضهم: أرخ لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: بل تؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قد ذكر فإن مهاجره صلى الله عليه وسلم فرق بين الحق والباطل.

رواه أبو نعيم الفضل, عن (حبان).

 

#376#

وحدث قتيبة بن سعيد, عن خالد بن حيان – أبي يزيد (الخزاز) الحراني – عن فرات بن سلمان, عن ميمون بن مهران, قال: رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه صك محله في شعبان, فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه, فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم, فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين فهذا يطول, وقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس, فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله, فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فوجدوه عشر سنين فكتب التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه أحمد بن (حنبل), عن خالد بن حيان.

وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أحمد بن الخليل,

 

#377#

حدثنا كثير بن هشام, حدثنا جعفر, حدثنا ميمون, قال: ائتمر أصحاب (رسول الله) صلى الله عليه وسلم مما يكتبون التاريخ؟ فقال بعضهم: نكتبه من الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم: نكتبه من حين أوحى الله إليه, وقال بعضهم: نكتبه من هجرته التي هجر فيها دار (الشرك) إلى دار الإيمان, فأجمع رأيهم على أن يكتبوا التاريخ من (هجرة النبي) صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة, وذلك لعشر سنين منذ هاجر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى يوم توفي, وفي هذا التاريخ عشر سنين من حياته صلى الله عليه وسلم.

وقال يعقوب في "التاريخ": حدثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ, حدثني أبي, حدثنا قرة, عن محمد, [قال]: قدم رجل من اليمن على عمر رضي الله عنه وكان عاملاً, فقال: أما تؤرخون؟ (فقالوا): كيف؟ قال: تكتبون في شهر كذا في سنة كذا, فأرادوا أن يكتبوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قالوا: بل من عند وفاته, ثم أجمع رأيهم على أن يكتبوا من مهاجره.

 

#378#

تابعه أبو داود الطيالسي فرواه عن قرة بن خالد, عن محمد بن سيرين, قال: قام رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال: أرخوا, فقال عمر: ما أرخوا؟! قال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا, فقال عمر رضي الله عنه: حسن فأرخوا, فقالوا: من أي [السنين نبدأ؟

فقالوا: من مبعثه صلى الله عليه وسلم, وقالوا: من وفاته صلى الله عليه وسلم, ثم أجمعوا على الهجرة, ثم قال: فبأي] الشهورد نبدأ؟ فقالوا: رمضان, ثم قالوا: المحرم فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام, فأجمعوا على المحرم.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتأريخ فكتب من الهجرة.

وقد قدمنا في حديث مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم سلمان حين كتبها علي رضي الله عنه بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخرها: وكتب علي بن أبي طالب يوم الإثنين في ربيع الأول مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

وحدث أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه": عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, عن أبي سلمة, عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة – وقدمها في شهر ربيع الأول – أمر بالتأريخ.

 

#379#

قال ابن جرير: فذكر أنهم كانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه صلى الله عليهوسلم  إلى أن تمت السنة.

وقال ابن جرير أيضاً: حدثني [أحمد بن ثابت, حدثنا] أحمد, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا زكريا بن إسحاق, عن عمرو بن دينار: أن (أول) من أرخ الكتب يعلى بن أمية وهو باليمن.

أحمد هو ابن محمد بن حنبل, حدث به عنه ابن أبي خيثمة في "تاريخه".

وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن سلمة, حدثنا أحمد, حدثنا روح .... فذكره.

وزاد في آخره: وأن يعلى قدم المدينة في شهر ربيع الأول, وأن الناس أرخو لأول السنة, وإنما أرخ الناس لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن سرح المصري, حدثنا سعيد بن أبي (مريم), حدثنا يعقوب بن أبي (عباد) المكي.

 

#380#

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد قال: - واللفظ للطبراني -: حدثنا محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان التاريخ في السنة التي قدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وفيها ولد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" بنحوه, عن سعيد بن أبي مريم.

وحدث به عن البخاري: ابن جرير في "تاريخه".

وخرج البخاري في "صحيحه" عن سهل بن (سعد) رضي الله عنه أنه قال: ما عدوا من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته, ولا عدوا إلا من مقدمه المدينة.

 

#381#

قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان في شهر ربيع الأول كما قدمناه, وابتدأ عمر رضي الله عنه التاريخ باتفاق الصحابة رضي الله عنهم من سنة الهجرة الشريفة من المحرم منها, فيكون قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.

قال ابن جرير: فإنه وإن كان يعني التأريخ من الهجرة فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم (النبي) صلى الله عليه وسلم المدينة بشهرين وأيام, وهي اثنا عشر, وذلك أن أول السنة المحرم, وكان (قدوم النبي) صلى الله عليه وسلم المدينة بعد مضي ما ذكرت من السنة, ولم يؤرخ التاريخ من وقت قدومه بل من أول تلك السنة. انتهى.

ويحتمل أن سهلاً رضي الله عنه أراد بقوله: "إلا من مقدمة المدينة" عام مقدمه لا الشهر, والله أعلم؛ لأن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بالهجرة وقع في المحرم من تلك السنة لما رجع أصحاب العقبة إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم – رضي الله عنهم.

وقد قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا أبو الطاهر – يعني أحمد بن عمرو بن السرح, ويونس – يعني ابن عبد الأعلى – قالا: حدثنا ابن وهب, عن ابن جريج, عن ابن شهاب أنه قال: التاريخ من يوم قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً.

 

#382#

قال ابن وهب: وسألت مالكاً عن التأريخ من متى كان؟ قال: من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول الأول أن ابتداء التأريخ من [أول] المحرم هو الأكثر.

قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": وأخبرنا علي بن محمد، عن قرة بن خالد, عن ابن سيرين: أن رجلاً من المسلمين قدم أرض اليمن, فقال لعمر رضي الله عنه: رأيت باليمن شيئاً يسمونه التاريخ (يكتبونه) من عام كذا (في) شهر كذا, فقال عمر: إن هذا لحسن فأرخوا, فلما (اجتمع) على أن يؤرخ شاور, فقال قوم: بمولد النبي صلى الله عليه وسلم, وقال قوم: بالمبعث, وقال قائل: حين خرجوا كذا مهاجراً من مكة إلى المدينة, وقال قائل: الوفاة حين توفي, فقال: أرخوا خروجه من مكة إلى المدينة, ثم قال: بأي شهر نبدأ, فنصير أول السنة؟ فقالوا: رجب, فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه.

وقال آخرون: شهر رمضان, وقال بعضهم: ذو الحجة فيه الحج, وقال آخرون: الشهر الذي خرج من مكة, وقال آخرون: الشهر الذي قدم فيه, فقال عثمان: أرخوا المحرم أول السنة, وهو شهر حرام, وهو أول الشهور في العدة, وهو منصرف الناس عن الحج, فصيروا أول السنة المحرم, فكان أول ما أرخ في الإسلام من مهاجر النبي

 

#383#

صلى الله عليه وسلم, فقال الناس: سنة إحدى, (وسنة) اثنتين إلى يومك هذا, وكان التأريخ في سنة سبع عشرة.

ويقال: في سنة (ست) عشرة في ربيع الأول.

 

#384#

$ [إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار] $

ولما صار المهاجرون في المدينة اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم:

قيل: كانوا مائة.

وقيل: كانوا تسعين رجلاً, من المهاجرين: خمس وأربعون, ومن الأنصار: خمس وأربعون.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري.

والإخاء كان في السنة الأولى بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.

قاله أبو عمر ابن عبد البر.

وقيل: بثمانية أشهر.

وذكر الواقدي في "تاريخه": أنه في السنة الأولى في شهر رمضان.

وقيل: كان بعد بناء المسجد.

وقيل: كان الإخاء والمسجد يبنى.

 

#385#

$ [ابتداء الأذان وأسماء المؤذنين والزيادة في الصلاة على ركعتين] $

وكذلك شرع الأذان في السنة الأولى, وكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلال, وابن أم مكتوم, وأبو محذورة, وسعد القرظ وكان يؤذن لأهل قباء, وفي السنة الأولى زيد في صلاة الظهر والعصر والعشاء في كل واحدة ركعتان بعد أن كانت ثنائية.

خرج أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر (رسول الله) صلى الله عليه وسلم زيد في صلاة الحضر إلا الفجر, فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة, والمغرب؛ لأنها وتر النهار.

وفي السنة الأولى أيضاً مات نقيب النقباء أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوال ودفن بالبقيع, والمهاجرون يقولون: أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون.

حكاه الواقدي في "تاريخه".

قيل: وكان أسعد أول ميت صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نقيب بني النجار, فلما مات رضي الله عنه لم يجعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيباً بعده, وقال

 

#386#

لهم: «(أنا) نقيبكم»,, فكانت من مفاخرهم.

وفي السنة الأولى مات البراء بن معرور بن صخر بن خنساء رضي الله عنه وهو أول النقباء موتاً.

قيل: مات في صفر قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر.

 

#387#

$ [حوادث سني الهجرة نظماً] $

وقد نظمت ذلك مع حوادث سني الهجرة التي وقعت إلي من السنة الأولى التي أولها المحرم كما تقدم إلى سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدة لا ينبغي لطالب التخلف عن حفظها, فهي جليلة في معناها, وجيزة في لفظها, وقد سميتها: "بواعث الفكرة في حوادث الهجرة", وهي هذه:

سنو هجرة المختار فيها حوادث ... فخذ نثرها من كل عام وأحكم

مصلى قبا في "أول" ثم مسجداً ... بنى وبيوتاً والصلاة فأتمم

وحلف أذان جمعة مات أسعد ... براء وعبد الله أسلم فاسلم

وثان صيام فطرة أم كعبة ... وغزوة ودان بواط لمغنم

عشير وبدر عرس عائش مثله ... البتول وموت لابن مظعون أكرم

سويق سليم قينقاع ومسور ... ومروان والنعمان سروا بمقدم

كذا ابن زبير مثل موت رقية ... أبو بنت هند أنمار كانت (بمعلم)

 

#388#

غزا أحداً في ثالث قتل حمزة ... وذا أمر والخمر ردت فحرم

وحمراء مع بدر أخيراً بناؤه ... بزينب ذات البر كسبا لمعدم

كذا حفصة مع أم كلثوم زوجت ... أتى حسن قبل الحسين المقدم

وفي "رابع" تزويج هند معونة ... نضير وقصر والتيمم فافهم

مريسيع إفك والرقاع وموعد ... ورجم وموت أم المساكين عظم

وصلى لخوف ثم في "الخمس" خندق ... قريظة سعد مات دومة قدم

ضمام أتى إسلام عمرو وخالد ... وعثمان الداري التزلزل فاعلم

وفي سادس لحيان ذو قرد به ... حديبية استسقا ابن خولة أعظم

مقوقس أهدى والظهار وخاتم ... لشيرويه الطاعون حج لمسلم

وخيبر في "سبع" صفية رملة ... زواجهما ذو الحبس أبوا بأنعم

قدوم أبي هر هدايا عطية ... قضا عمرة تزويج ميمونة أتمم

 

#389#

"وثامن" عام مؤتة الفتح أسلموا ... ومولد إبراهيم نجل المعظم

حنين غلاء طائف نصب منبر ... وبنت رسول الله زينب سلم

"بتسع" تبوك والوفود وجزية ... وحج أبي بكر وموت أم كلثم

ومات ابن بيضا والنجاشي وعروة ... قتيل ثقيف والسلولي فافهم

لعان وإيلاء وبوران ملكت ... لقتل فتى شيرويه (بتظلم)

وفي "العاشر" إبراهيم مات ومولدٌ ... لنجل أبي بكر محمد اعلم

جرير اهتدى ضلت بأسود عنسةٌ ... كسوف بخلف حجة التم أعجم

وسبع وعشرون المغازي ومثلها ... سراياه مع عشرين أرح لمقدم

أُصِبْنا "لإحدى عشرة" بنبينا ... فيا عُظْمَه (رزءاً لدى) كل مسلم

بها يابعوا الصديق ردة وابكين ... لفاظمة مع أم أيمن واختم

 

#390#

فهذه أبيات عزيزة جامعة وجيزة, والنفس متطلعة إلى شرح مجملها وفتح مقفلها, وحل مشكلها في كتاب مفرد, فعسى الله أن يوفق لذلك ويقدره بمنه وكرمه؛ ولهذا لم نذكر في هذا الحديث الحوادث والغزوات إلا مجملة في هذه الأبيات, وجميع غزواته وسراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم كانت بعد الهجرة مفرقة في سنيها, فغزا صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين غزوة.

 

#391#

$ [ذكر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه مجملة] $

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن (عمر بن) واقد, حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي, وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي, ومحمد بن عبد الله ابن أخي الزهري, وموسى بن يعقوب ابن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود, وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري, ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري, وربيعة بن عثمان بن عبد الله بن الهدير التيمي, وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي, وعبد الحميد بن جعفر الحكمي, وعبد الرحمن بن أبي الزناد, ومحمد بن صالح التمار: ح.

قال ابن سعد أيضاً: وأخبرنا رويم بن يزيد المقرئ حدثنا هارون ابن أبي عيسى, عن محمد بن إسحاق: ح.

قال: وأخبرنا حسين بن محمج, عن أبي معشر: ح.

قال: وأخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني, عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة, عن عمه موسى بن عقبة دخل حديث بعضهم في حديث بعض, قالوا: كان عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزا بنفسه سبعاً وعشرين غزوة, وكانت سراياه التي بعث بها سبعاً

 

#392#

وأربعين سرية.

وهذا هو المشهور في غزواته, وقيل: غزا خمساً وعشرين, وقيل: غزا ستاً وعشرين, وقيل: أربعاً وعشرين, وقيل: إحدى وعشرين, وقيل: ثمان عشرة, وقيل: تسع عشرة, وقيل غير ذلك.

وأما بعوثه (وسراياه صلى الله عليه وسلم) فكان سبعاً وأربعين كما تقدم.

وذكر ابن إسحاق في رواية زياد ثمانية وثلاثين من بين بعث وسرية.

والغزوات الللاتي قاتل فيهن تسع: بدر, وأحد وفيها جرح صلى الله عليه وسلم, والخندق وفيها تحصن, (وغزاة) بني قريظة, وبني المصطلق وهي المريسيع, وخيبر, وفتح مكة, وحنين, والطائف، وفيها قاتل بالمنجنيق, وقيل: قاتل أيضاً في غزوة بني النضير، ولكن الله جعلها له نفلا خاصة، وقال في غزوة وادي القرى من أعمال خيبر منصرفه منها, (وقتل فيها) بعض أصحابه, وقاتل في الغابة.

وأكبر الغزوات اللاتي نزل في شأنهن القرآن سبع: بدر, وأحد, والخندق, وخيبر, وفتح مكة, وحنين, وتبوك, وبعد تبوك حج حجة الإسلام، ثم اختار الله عز وجل له دار المقامة والإنعام والحسنى والإكرام, فنقله إليها بعد أن كمل الدين, وتمت النعمة على المؤمنين, فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله (وصحبه) وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. والله أعلم.

 

#393#

&فصل في حجته صلى الله عليه وسلم. حجة الوداع وصفاتها. وذكر وفاته الشريفة ومتعلقاتها&

لما أتى لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين وأحد عشر شهراً وعشرة أيام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع المسماة حجة الإسلام, وحجة البلاغ, وحجة التمام: قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن أحمد بن البراء, حدثنا المعافَى بن سُليمان, حدثنا موسى بن أعين, عن ليث, عن طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي حجة الوداع: حجة الإسلام.

وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي, وقبيصة بن عقبة قالا: حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره أن يقول: حجة الوداع, قال: فقلت: حجة الإسلام؟ قال: نعم, حجة الإسلام.

وقال: أخبرنا الفضل بن دكين, عن سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن ميسرة, قال: كان طاوس يكره أن يقول: حجة الوداع, ويقول: حجة الإسلام.

 

#394#

قال ابن إسحاق فيما رواه عنه إبراهيم بن سعد: فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة تجهز للحج وأمر الناس بالجهاز له.

وطرق أحاديث حجته صلى الله عليه وسلم كثيرة, ورواتها من الصحابة رضي الله عنهم لا تكاد تنحصر.

قال أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني, حدثنا الحسن بن علي الرازي, سمعت أبا زرعة وسُئل عن عدة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ومن يضبط هذا؟ شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفاً, وشهد معه تبوك سبعون ألفاً.

وفي ضبط هذا نظر. وقيل: شهد حجة الوداع من الصحابة تسعون ألفاً. وقيل: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. ويُروَى: أنه وقف معه صلى الله عليه وسلم في حجته مائة ألف وعشرون ألفاً.

ولا يصح ضبط هذا أيضاً, لكن شهد معه الحجة خلق لا يحصون, ونقلها عنه عدد كثير, وأما ناقلوها عن الصحابة من التابعين ومن بعدهم فكثير يعسر جمع طرقهم.

ومن أصح الطرق بحجة الوداع وأتمها سياقاً طريق أبي عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة – بكسر اللام – بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري السلمي رضي الله عنه؛ لأنه حفظها وضبطها من سيره ونزوله مرحلة مرحلة, وإحرامه, واغتساله, وإهلاله, ومواضع وقوفه, وكيفية طوافه, وسعيه, ورمية, وخطبه,

 

#395#

ونحر بدنه, إلى غير ذلك من كلياتها وجرئياتها.

وقد اعتمد الأئمة على حديثه في مناسك الحج, واستنبطوا منه أحكاماً كثيرة وفوائد خطيرة, ومنهم أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري رحمه الله عمل في إخراج فوائده واستنباط فقهه مصنفاً سماه "التحبير عما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما من المعاني والآداب الحسان".

ونحن إن شاء الله تعالى نعتمد في سياق حجة الوداع في كتابنا هذا على حديثه من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني الصادق أحد الأعلام, عن أبيه, عن جابر رضي الله عنه، لكن فيه كلمات لم يسمعها محمد بن علي من جابر فأدرجت في الحديث, بينها الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فيما وجدته بخطه في كتابه "الفصل للوصل المدرج في النقل" حين روى الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس, عن أبيه بطوله.

ثم قال [فيما] وجدته بخطه: كذا روى ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله المديني بهذا الحديث, عن جعفر بن محمد بن علي, عن أبيه,

 

#396#

عن جابر, وفيه كلمات لم يسمعها محمد بن علي من جابر فأدرجت في الحديث, وهي قول علي رضي الله عنه: فذهبت محرشاً على فاطمة – رضي الله عنها – بالذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقت».

كان محمد بن علي يرسل هذه الكلمات عن علي, ويقول: لم يذكرها جابر بن عبد الله في حديثه.

بين ذلك وهيب بن خالد, وعبد الملك بن جريج, ويحيى بن سعيد القطان – في روايتهم هذا الحديث, عن جعفر بن محمد بن علي.

وكان يحيى بن سعيد يدرج في روايته – أيضاً – أحرفاً ويجعلها مرفوعة, وهي أن النبي صلىالله عليه وسلم  صلى عند مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين, وقرأ فيهما بـ: {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} وذكر قراءة هاتين السورتين خاصة في هذا الحديث ليس بمرفوع, وإنما هو حكاية جعفر بن محمد عن أبيه كما بينه أبو أويس عن جعفر.

وكذلك رواه وهيب وابن جريج, عن جعفر, عن أبيه, وقالا: لم يذكر ذلك في حديث جابر.

انتهى قول الخطيب كما وجدته بخطه سوى الترضي عن علي وفاطمة رضي الله عنهما, وسوى السلام على إبراهيم عند ذكره, وسوى الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة علي رضي الله عنه, وسوى لفظه: (وسلم) بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مكانين, فإن الخطيب رحمه الله ترك ذلك في خطه وهو المعروف من خطه أنه يكتب عند ذكر النبي

 

#397#

صلى الله عليه وسلم: "صلى الله عليه" دون "وسلم".

قال بعض شيوخنا: وليس بمرض, فقد قال حمزة الكناني: كنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الله عليه) ولا أكتب: (وسلم) فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك: (صلى الله عليه) إلا وكتبت: وسلم. قلت: وقد حدث الشريف أبو الفضل محمد بن عبد العزيز بن العباس بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين المهدي في "مشيخته", عن أبي الحسن محمد بن عبد العزيز الصوفي, ومات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة, أخبرني أبو الطيب المؤدب الدارقطني, قال: قال لي أبو سليمان الحراني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام, فقال لي: يا أبا سليمان لم إذا ذكرتني في الحديث إذا صليت علي ألا تقول: وسلم, هي أربعة أحرف بكل حرف عشر حسنات تترك أربعين حسنة.

ووجدت بخط أبي الحسن علي بن مسعود الموصلي رحمه الله: حدثنا

 

#398#

شيخنا زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي من لفظه قال: كنت أكتب الحديث وكنت أكتب في الحديث: صلى الله عليه, ولا أكتب: وسلم, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم, فقال لي: لم لا تكتب إذا صليت علي تقول: (وسلم) فإنه يفوتك أربعون حسنة و: (س ل م) بكل حرف عشر حسنات.

ولتحصيل هذا الأجر إن شاء الله تعالى زدت ما زدت على ما وجدته بخط الخطيب فيما بينه من المدرج في حديث جابر في حجة الوداع.

وفي سياقنا حديث جابر رضي الله عنه نذكر في أثنائه ما وقع لنا من شواهده وزيادات لم تقع في حديثه ووقعت في حديث غيره, وربما ذكرنا فوائد محكية عن أربابها في أماكنها, إن شاء الله تعالى.

قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النسب النيسابوري الدار والموطن في "صحيحه": حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعاً, عن حاتم, قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المديني, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, قال: دخلنا على جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن الحسين, فأهوى بيده إلى رأسي, فنزع زري الأعلى, ثم نزع زري الأسفل, ثم وضع كفه بين ثديي – وأنا يومئذ غلام شاب – فقال: مرحباً بك يا ابن أخي, سل عما شئت.

 

#399#

فسألته وهو أعمى, وحضره وقت الصلاة, فقام في ساجة ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها, ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا.

(الساجة): الطيلسان الغليظ الخشن. وقيل: هو ثوب. وروي: فقام في نساجة بدل ساجة, ولا أراه يصح فيما قاله الحافظ أبو موسى المديني.

و(النساجة) رويت على وجهين: (نساجة) بضم النون مع التشديد, و(نساجة) بالكسر مخففة.

 

#400#

قيل: هي ضرب من الملاحف منسوجة كأنها سميت بالمصدر.

ويحتمل أن تكون ثوباً فيه طرائق من قولهم: نسج الريح الماء: طرقت فيه طرائق.

وقوله: (كلما وضع على منكبيه رجع طرفاها إليه) وفي رواية: (وقع) بدل (رجع).

و(المشجب): وزان مبرد: أعواد موثقة تنصب فتوضع عليها الثياب, وتوضع عليه الأسقية لتبريد الماء.

وسؤال جابر رضي الله عنه عن القوم لضرورة, فإنه كان مكفوف البصر حينئذ، ويوضحه ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن سعيد, أخبرنا حاتم بن إسماعيل ح, وقال: وحدثنا هارون بن معروف, حدثنا حاتم, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, قال: أتينا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فلما انتهينا إليه سأل عن القوم فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين, فقال: مرحباً بك يا ابن أخي سل عما شئت, فسألته وهو أعمى. فهذا تصريح بما ذكرناه.

قال محمد بن علي في رواية مسلم, فقلت: أخبرني عن حجة

 

#401#

رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال بيده, فعقد تسعاً, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجج ثم أذن في الناس [في] العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج.

وقال البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير": حدثنا عبد الله بن مسلمة, حدثنا سليمان بن بلال, عن جعفر, عن أبيه, عن جابر, قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسع سنين, ثم أذن في الناس بالحج حتى كان بذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر.

وفي رواية عن جابر وقعت لنا في الثاني من حديث أبي حفص عمر بن محمد بن علي بن يحيى بن موسى بن يونس بن الزيات الصيرفي, قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن [محمد بن] ناجية بن نجبة – يوم الجمعة في ذي القعدة سنة ثلاثمائة – حدثنا صباح بن مروان أبو سهل النيلي, حدثنا عبد الله بن سنان الزهري, عن أبيه سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد الحج كتب إلى من بلغه

 

#402#

كتابه من المسلمين يخبرهم: «إني أريد الحج» ويأمرهم بالحج من قدر عليه وأطاقه.

وجاء عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أم معقل رضي الله عنها قالت: لما تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع أمر الناس بالخروج معه, فأصابتهم هذه القرحة الجدري, أو الحصبة, فدخل علينا ما شاء الله أن يدخل لمرض أبي معقل, ومرضت معه .... الحديث.

وقول جابر رضي الله عنه: "مكث تسع سنين لم يحجج ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج", ربما يوهم أن (فرض الحج كان في أول الهجرة), وإنما فرض الحج على الراجح عند الأكثر سنة ست من الهجرة. وقيل سنة خمسة. وقيل: سنة تسع. وقال بعضهم: لما نزل فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر. انتهى.

 

#403#

وهذا قول مرجوح, والذي عليه الأكثر من أهل المغازي وأصحاب التواريخ أن فرض الحج سنة ست, ويدل عليه قول الله عز وجل {وأتموا الحج والعمرة لله} إلى آخر الآية, وكان ابن مسعود يقرؤها: (وأقيموا الحج والعمرة لله)؛ لأن نزول هذه الآية زمن الحديبية لما صح عن كعب بن عجرة رضي الله عنه من حديث مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه, قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتهافت من رأسي, فقال: «يا كعب, يؤذيك هوامك؟» فقلت: نعم, قال: «فاحلق رأسك, واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين».

وفي رواية: فأنزل الله عز وجل: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فكان كعب يقول: ففي نزلت هذه الآية.

فثبت بهذا أن نزول قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} سنة ست؛ لأن عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.

والحديبية التي كانت العمرة منها: قرية على طريق جدة دون مرحلة عن مكة, وهي من أبعد الحل, وليس هي طول الحرم ولا في عرضه, إلا أنها في زاوية الحرم؛ فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم.

 

#404#

ذكر السهيلي: أن تخفيفها أعرف عند أهل العربية, ومنع بعضهم من تشديدها وهو المنقول عن الشافعي رضي الله عنه.

وقال أبو عبيد البكري: أهل العراق يشددون الراء والياء في (الجعرانة), و (الحديبية) وأهل الحجاز يخففون.

وحكى ابن سيده في "المحكم" الوجهين, فقال: والحديبية: موضع, وقيل: بئر سمي المكان بها, وبعضهم يقول: الحديبية بالتخفيف. انتهى.

وقال البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير", واللفظ للأوسط: حدثني عبد الرحمن بن شيبة, حدثنا عبد الله المخزومي, عن نافع بن أبي نعيم, عن نافع مولي ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين ثم توفي, وكان أبو بكر رضي الله عنه سنتين وسبعة أشهر, وكان عمر رضي الله عنه عشر سنين وخمسة أشهر, وكان عثمان رضي الله عنه ثنتي عشرة سنة, وكانت فتنة معاوية بينه وبين علي أربع سنين, ثم ولي معاوية عشرين سنة إلا شهرين, وكان يزيد بن معاوية أربع سنين إلا شهراً, ثم هلك, فقام ابن الزبير, فكانت فتنة ابن الزبير تسع سنين, ثم قتل على رأس ثلاث وسبعين إلا شهرين, وكانت الحديبية سنة ست بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حين صد في ذي القعدة, وكانت القضية في ذي القعدة سنة سبع, وكان الفتح سنة ثمان في رمضان, ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم المدينة من فوره إلى حنين والطائف, فلما رجع في شوال اعتمر من الجعرانة,

 

#405#

ثم حج عتاب بن أسيد فأقام الحج للناس فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الحج، ثم حج أبو بكر سنة تسع, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من مقدمه المدينة, وهي حجة الوداع.

 

#406#

$[الاختلاف في كم حج النبي صلى الله عليه وسلم وكم اعتمر]$

وفي قول جابر رضي الله عنه: "مكث تسع سنين لم يحج": فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة غير حجة الوداع وهو الراجح المشهور, وقيل: بعد النبوة.

رواه ابن سعد في "الطبقات": عن الواقدي, عن أشياخه بأسانيد لهم, قالوا: ولم يحج غيرها – يعنون حجة الوداع – مذ تنبأ إلى أن توفاه الله عز وجل.

وقيل: حج بمكة بعد النبوة حجة أخرى. وقيل: حجتين أخريين.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي, حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجتين قبل أن يهاجر, وبعدما هاجر حجة.

وقال أبو محمد بن حزم: حج واعتمر صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها حججاً وعمراً لا يعرف عددها.

وروى من حديث زهير, عن أبي إسحاق, سمعت زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته حجة.

 

#407#

وهو في "صحيح البخاري": عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة, وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة, ولم يحج بعدها حجة الوداع.

وهو في "صحيح مسلم" بنحوه.

وقال الواقدي: فحدثني ابن أبي سبرة, عن الحارث بن الفضيل: سألت سعيد بن المسيب: كم حج رسول صلى الله عليه وسلم من لدن تنبأ إلى أن توفي؟ قال: حجة واحدة من المدينة.

قال الحارث: وسألت أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية, قال: حج بمكة قبل الهجرة, وبعد النبوة, وحجة من المدينة. وكان مجاهد يقول: حجتين قبل الهجرة.

والأمر المعروف عندنا الذي اجتمع عليه أهل بلدنا: إنما حج حجة واحدة من المدينة وهي الحجة التي يقول الناس: إنها حجة الوداع.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا هشام بن عبد الملك – أبو الوليد الطيالسي- وعمرو بن عاصم الكلابي, قالا: حدثنا قتادة, قلت لأنس بن مالك: كم حجة حجها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة.

 

#408#

وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى": من حديث أبي الوليد الطيالسي, عن همام مطولاً وذكر فيه عمراته الأربع.

وحج النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مختلف فيه:

قال يحيى بن آدم: قال زهير, وقال أبو إسحاق: حج قبل هجرته حجة.

وروى زيد بن الحباب, عن سفيان الثوري, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر, وحجة بعدما هاجر معها عمرة ... الحديث.

خرجه الترمذي, وقال: هذا حديث غريب من حديث سفيان, ثم قال: وسألت محمداً – يعني: البخاري – عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري, عن جعفر, عن أبيه, عن جابر, عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورأيت

 

#409#

لا يعد هذا الحديث محفوظاً, قال: وإنما يروى عن الثوري, عن أبي إسحاق, عن مجاهد مرسلاً.

قلت: هو ما حدث به سعدان بن نصر: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين وهو بمكة قبل الهجرة, وحجة الوداع.

وخرج ابن ماجه في "سننه": عن القاسم بن محمد بن عباد بن عباد المهلبي, عن عبد الله بن داود الخريبي, عن سفيان, عن ابن أبي

 

#410#

ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر .... الحديث.

قال أبو القاسم السهيلي: ولا ينبغي أن يضاف إليه – يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم – في الحقيقة إلا حجة الوداع, وإن كان حج مع الناس إذ كان بمكة كما روى الترمذي, فلم يكن ذلك الحج على سنة الحج وكماله؛ لأنه مغلوب على أمره, وكان الحج منقولاً عن وقته, ثم قال: فقد ذكر أنهم كانوا ينقلونه على حسب الشهور الشمسية ويؤخرونه في كل سنة أحد عشر يوماً, وهذا هو الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج من المدينة حتى كانت مكة دار إسلام, وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يحج مقفله من تبوك وذلك بإثره فتح مكة بيسير, ثم ذكر أن بقايا المشركين يحجون ويطوفون عراة, وأخر الحج حتى نبذ إلى كل ذي عهد عهده, وذلك في السنة التاسعة, ثم حج صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد إمحاء رسوم الشرك, وانحسام سير الجاهلية, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» انتهى.

 

#411#

قلت: ووقعت حجته صه وسلمه علي       في ذي الحجة لاستدارة الزمان, في ذلك الوقت كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, وكان ذو الحجة وقتئذ في تموز على ما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" بعد ذكره قول الحسن: كان موته صلى الله عليه وسلم في أيلول, فقال: إذا تقرر أن كل دور في ثلاث وستين سنة كان في ستمائة وستين عاماً: عشرون دوراً, فإلى سنة ثلاث وسبعمائة من وقت موته صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرون دوراً إلى ربيع الأول منها كان وقوع تشرين الأول وبعض أيلول في صفر, وكان آب في المحرم, وكان أكثر تموز في ذي الحجة, فحجة الوداع كانت في تموز.

وأما عمره صلى الله عليه وسلم: فثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة, وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة, وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة, وعمرة مع حجته.

 

#412#

وقال إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي: حدثنا هوذة – يعني ابن خليفة – حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, حدثنا عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحصر, وعمرة الثانية حين تواطئوا على عمرة قابل, والثالثة من الجعرانة, والرابعة التي مع حجته.

خرجه الترمذي عن ابن قتيبة, عن داود, بنحوه.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن هوذة بن خليفة, وأحمد بن عبد الله بن يونس, وشهاب بن عباد العبدي, قالوا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, فذكره.

 

#413#

وقال يونس بن بكير, حدثنا عمر بن ذر, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلها في ذي القعدة.

ويروى: أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان. وجاء: أنه اعتمر في شوال أيضاً.

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن الصباح, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها: قالت: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: عمرة في شوال, وعمرتين في ذي القعدة.

 

#414#

وخرجه أبو داود ولفظه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر

 

#415#

عمرتين [عمرة] في ذي القعدة, وعمرة في شوال.

وفي "الصحيح" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب, فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك, وقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلىالله عليه وسلم  عمرة قط إلا وهو شاهده, وما اعتمر في رجب قط.

قال جابر رضي الله عنه في حديثه: فقدم المدينة بشر كثير يلتمس أن يأتم

 

#416#

برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.

وفي رواية [سنان] بن أبي سنان التي قدمنا ذكرها عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: فأقبل الناس حجاجاً حتى نزلوا الشجرة وما حولها.

وقد قدمنا قول أبي زرعة الرازي وغيره في عدد الناس الذين شهدوا حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال جابر رضي الله عنه: فخرجنا معه.

قال أبو عبد الله ابن القيم: كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرة بين أربعة أسفار: سفر هجرته, وسفر للجهاد وهو أكثرها, وسفر للعمرة, وسفر للحج.

قلت: وسفره في تجارة خديجة رضي الله عنها, وسفره مع عمه أبي طالب, وكذلك مع عمه الزبير كما قدمناه.

وكان من عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في المسير أن يتخلف في الساقة.

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن شوكر, حدثنا إسماعيل ابن

 

#417#

عليه, حدثنا الحجاج بن أبي عثمان, عن أبي الزبير: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حدثهم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.

وقد جاء مطولاً من طريق محمد بن عمرو زنيج التميمي الرازي قال: حدثنا أبو زهير, حدثنا الحجاج بن أبي عثمان الصواف عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه, شهدت منها تسع عشرة غزوة, وغبت عن اثنتين, فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحت الليل فبرك, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخرنا في أخريات الناس فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم فانتهى وأنا أقول: والهف أمتاه, وما زال لنا ناضح سوء, فقال: «من هذا؟!», قلت: أنا جابر, بأبي وأمي يا رسول الله, قال: «ما شأنك؟», قلت: أعيا ناضحي, فقال: «أمعك عصا؟», قلت: نعم, فضربه, ثم بعثه, ثم أناخه ووطئ على ذراعه, وقال: «اركب», فركبت وسايرته, فجعل جملي يسبقه, فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة, فقال لي: «ما ترك عبد الله من الولد؟» – يعني: أباه - قلت: تسع نسوة, قال: «أترك عليه ديناً؟», قلت: نعم, [قال]:

 

#418#

«فإذا قدمت المدينة فقاطعهم فإن أبوا فإذا حضر جداد نخلكم فآذني» وقال لي: «هل تزوجت؟», قلت: نعم, قال: «بمن؟», قلت: بفلانة ابنة فلان بأيم كانت في المدينة, قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك», فقلت: يا رسول الله, كن عندي نسوة خرق – يعني: أخواته – فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء, فقلت: هذه أجمع لأمري, قال: «قد أصبت ورشدت, بعني جملك», قلت: نعم بخمس أواق من ذهب, قال: «قد أخذناه», فلما قدم المدينة أتيته بالجمل, فقال: «يا بلال, أعطه خمس أواق من ذهب يستعين به في دين عبد الله وزده ثلاثاً, وازدد عليه جمله», قال: «هل قاطعت غرماء عبد الله؟», قلت: لا يا رسول الله, قال: «أترك وفاء؟» قلت: لا, قال: «لا عليك, إذا حضر جداد نخلكم فآذني» فآذنته, فجاء فدعا لنا, فجددنا, فاستوفى كل غريم كان يطلب تمراً وفاء, وبقي لنا ما كنا نجد وأكثر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ارفعوا ولا تكيلوا» فأكلنا منه زماناً.

وكان خروجه صلى الله عليه وسلم لحجته لخمس ليال بقين من ذي القعدة, قالت عائشة رضي الله عنها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج. وقيل: كان خروجه لست بقين من ذي القعدة. وجزم به ابن حزم وغيره.

واختلف أي يوم كان:

فقال ابن حزم: كان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس. وفي "الطبقات

 

#419#

الكبرى" لابن سعد: أن ذلك كان يوم السبت. وقال ابن القيم: والظاهر أنه كان يوم السبت.

ووجدت بخط شيخه شيخ الإسلام: الصواب أن خروجه كان يوم السبت.

وقيل لخمس بقين من ذي القعدة بناء على أن الشهر يكون تاماً كما جرت به العادة في مثل ذلك, وعلى هذا تتفق الروايات. انتهى.

وقبل خروجه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة أبا دجانة سماك بن خرشة بن لوذان الأنصاري. وقيل: استعمل سباع بن عرفطة الغفاري.

وفي "الطبقات" لابن سعد: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة مغتسلاً متدهناً مترجلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء.

وفيها أيضاً: وأخرج معه نساؤه كلهن في الهوادج.

قال مسلم في "صحيحه": حدثني هارون بن عبد الله, حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أن علياً الأزدي, أخبره: أن ابن عمر علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً, ثم قال: «سبحان الذي سخر لنا

 

#420#

هذا, وما كنا له مقرنين, وإنا إلى ربنا لمنقلبون, اللهم نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى, ومن العمل ما ترضى, اللهم هون علينا سفرنا هذا, واطو عنا بعده, اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل, اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر, وكآبة المنقلب, وسوء المنظر في المال والأهل» وإذا رجع قالهن, وزاد فيهن: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون».

وله شاهد من حديث عبد الله بن سرجس.

قال جابر رضي الله عنه: حتى أتينا ذا الحليفة.

الحليفة: تصغير حلفة – بفتح اللام وكسرها –واحدة الحلفا بالإسكان: النبت المعروف, وذو الحليفة ماء لبني جشم على أربعة أميال من المدينة. وقيل: ستة أميال فيما جزم به أبو عبيد البكري, وحكى قولاً آخر أنها: على سبعة أميال من المدينة.

قال جابر رضي الله عنه: فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر, فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: «غتسلي واستثفري بثوب وأحرمي».

"استثفري" من قولهم: استثفر الرجل بثوبه, إذا اتزر به, ثم رد طرف إزاره من بين رجليه, فغرزه في حجزته من ورائه, وأصله من ثفر الدابة وهو الذي يشد تحت ذنبها.

 

#421#

وقيل: من الثفر الذي هو حياء السبعة فاستعير لغيرها.

وحديث نفاس أسماء بمحمد بن أبي بكر روي من طرق, منها ما خرجه مسلم أيضاً في "صحيحه", فقال: حدثنا هناد وزهير وعثمان.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": فحدثناه عثمان بن محمد, قالوا – واللفظ لعثمان -: حدثنا عبدة بن سليمان, عن عبيد الله بن عمر, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: نفست أسماء بنت عميس رضي الله عنها بالشجرة.

(وفي) لفظ مسلم: نفست أسماء بمحمد بن أبي بكر بالشجرة, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يأمرها أن تغتسل وتهل. وخرجه أبو داود, وابن ماجه, وغيرهما.

الشجرة: سمرة كانت بذي الحليفة كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزلها إذا خرج من المدينة.

 

#422#

وقال يعقوب بن شيبة: وهو حديث مديني رجاله ثقات.

رواه سليمان بن بلال, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, عن أبيه, عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لم يروه هكذا فيما علمناه غير سليمان بن بلال, وهو منقطع من وجهين:

أحدهما: أن القاسم لم يدرك أباه محمد بن أبي بكر؛ لأن محمداً قتل في عهد علي بمصر قديماً.

والوجه الثاني: أن محمد بن أبي بكر لم يدرك أباه أبا بكر, وذاك أنه ولد في السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سنة عشر من الهجرة في أيام بقيت من ذي القعدة.

قلت: والحديث عند سليمان بن بلال – أيضاً – عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر من غير انقطاع, وقد تقدم.

وخرجه يعقوب في "المسند" – أيضاً – من حديث القاسم مرسلاً, قال: فحدثناه عبد الله بن مسلمة بن قعنب, قال: قرأت على

 

#423#

مالك بن أنس, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن أسماء – أو – أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء, فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «مرها فلتغتسل, ثم لتهل بالحج».

تابعه أحمد بن عبد الله بن يونس, عن مالك فيما حدث به أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": عن ابن يونس.

قال يعقوب بن شيبة: وقرأت على الحارث بن مسكين: أخبركم ابن وهب, قال: وأخبرني عبد الله بن عمر ومالك بن أنس, عن عبد الرحمن ابن القاسم, عن أبيه, أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء, فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «مرها فلتغتسل ثم تهل» إلا أن عبد الله بن عمر قال: بذي الحليفة.

 

#424#

قال: وقرأت على الحارث: أخبركم ابن وهب, أخبرني عبد الله بن عمر, قال: وحدثني نافع بمثل ذلك.

وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه": عن إسحاق بن محمد الفروي, حدثنا عبد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر: أن أبا بكر خرج حاجاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أسماء بنت عميس .... الحديث.

وهو عند الفروي, عن عبد الله بن عمر, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, كما مر.

وحدث به عبد الكريم الجزري, عن سعيد بن المسيب, قال: ولدت أسماء ابنة عميس بذي الحليفة, فأراد أبو بكر أن يردها, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «لتغتسل .....» الحديث.

 

#425#

وصح من حديث موسى بن عقبة, عن سالم (بن) عبد الله بن عمر, عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى وهو في معرسه من ذي الحليفة في بطن الوادي فقيل: إنك ببطحاء مباركة, قال موسى: وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان عبد الله ينيخ به يتحرى معرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي, بينه وبين القبلة وسطا من ذلك.

رواه عن موسى بن عقبة: إسماعيل بن جعفر وغيره.

وبذي الحليفة انتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه ومعهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

قال الواقدي: حدثني خالد بن إلياس, عن يحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع حج بنسائه جميعاً في حجته تلك في الهوادج, قالت: فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ليلاً, ومعنا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان.

قال أبو داود في "سننه": حدثنا النفيلي, حدثنا عبد العزيز بن

 

#426#

محمد, عن زيد بن أسلم, عن ابن لأبي واقد الليثي, عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع: «هذه ثم ظهور الحصر».

ورواه أحمد بن حنبل, عن سعيد بن منصور, عن عبد العزيز بن محمد, عن زيد بن أسلم, عن واقد بن أبي واقد, عن أبيه به.

قال ابن الأثير في "النهاية": أي إنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الحصر, جمع حصير.

 

#427#

قال جابر رضي الله عنه: فصلى ركعتين في المسجد. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا المسجد قيل: هو المسجد الكبير الذي هو اليوم بذي الحليفة، وكان فيه عقود في قبلته, ومنارة في ركنه الغربي الشمالي فتهدم على طول الزمان, وهو مبني في موضع الشجرة التي كانت هناك, وبها سمي مسجد الشجرة, وفي قبلة هذا المسجد مسجد آخر أصغر منه, ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه أيضاً, وبين المسجدين قدر رمية سهم أو أزيد قليلاً.

وقول جابر: فصلى ركعتين. كانت صلاته تلك العصر على ما قيل.

وقد جاء فيما رواه حفص بن عمرو الربالي, حدثنا محمد بن عمر الواقدي, حدثنا حارثة بن أبي عمران, حدثنا محمد بن يحيى بن حيان, عن ابن محيريز, عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين.

 

#428#

ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة بات بها, فكانت صلاته بها العصر والمغرب والعشاء والصبح.

صح عن أبي قلابة, ومحمد بن المنكدر, وإبراهيم بن ميسرة, وهذا لفظ أبي قلابة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً, وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. قال: وأحسبه قال: بات بها حتى أصبح.

 

#429#

$[قصر الصلاة في السفر]$

ورواه الهيثم بن حميد, عن ثور بن يزيد, عن أنس بن مالك, قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربع ركعات, ثم خرج حاجا, فصلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة في حجته إلى حين رجوعه إلى المدينة.

قال عمرو بن مرزوق: حدثنا شعبة, عن يحيى بن أبي إسحاق, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وحججنا معه, فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى يرجع, قال: قلت: كم أقمتم بمكة؟ قال: عشراً.

وقال محمد بن عبد الله الشافعي: حدثنا إبراهيم بن الهيثم, حدثنا الخليل بن زكريا, حدثنا الربيع بن صبيح, عن الحسن, عن

 

#430#

عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا ركعتين في الطريق وبمكة وبمنى حتى رجعنا إلى المغرب, وذكر الحديث في حجه مع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم ففعلوا مثل ذلك.

 

#431#

$[الطيب عند الإحرام والغسل والتجرد]$

وطيبته عائشة رضي الله عنها تلك الليلة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك, وطاف على نسائة تلك الليلة ثم اغتسل, وصلى بها الصبح.

صح عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم, ولحله قبل أن يطوف بالبيت. متفق عليه من حديث مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها.

تابعه سفيان بن عيينة, عن عبد الرحمن.

وهو عند سفيان – أيضاً – عن الزهري, وعثمان بن عروة, عن عروة, عن عائشة.

وفي حديث عثمان عن أبيه: فقلت لها: بأي الطيب؟ فقالت: بأطيب الطيب.

وفي "معجم الطبراني الأوسط": من حديث منصور بن زاذان, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب فيه مسك عند إحرامه قبل أن يحرم, ويوم النحر

 

#432#

قبل أن يطوف بالبيت.

وذكر الطبراني: أنه لم يروه عن منصور إلا هشيم.

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": وحدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا الحسن بن عبيد الله, حدثنا إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

تابعه الثوري عن الحسن بن عبيد الله كذلك.

خالفه منصور, والأعمش, وعطاء بن السائب, والحكم, وحماد بن أبي سليمان, وغيرهم, فرووه عن إبراهيم بن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب.

 

#433#

تابعه عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه كذلك. وله طرق.

وخرج الترمذي من حديث خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه رضي الله عنه أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل.

وقال: هذا حديث حسن غريب.

وخرجه الدارمي في "مسنده".

وقال البيهقي في "سننه الصغرى": وروينا عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه.

وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث زكريا بن عدي, حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن عبد الله بن محمد بن عقيل,, عن عروة, عن

 

#434#

عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان, ودهنه بزيت غير كثير .... الحديث.

حدث به أحمد في "مسنده": عن زكريا بن عدي بطوله.

 

#435#

$[الإحرام عقب الصلاة]$

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غسله لبس إزاره ورداءه, ثم صلى الظهر ركعتين بمسجد ذي الحليفة, ثم أحرم دبر الصلاة.

وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عند صلاة بذي الحليفة من يوم خروجه من المدينة.

والجمهور على خلافه: أنه أحرم في اليوم الثاني من خروجه من المدينة, وهو الصحيح؛ لأنه بات ليلة خرج غير محرم ليجتمع الناس إليه, وأتاه تلك الليلة آت من ربه عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل: عمرة في حجة.

روي عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة.

خرجه الترمذي لخصيف, وقال: هذا حديث حسن غريب.

وخرجه الدارمي في "مسنده", ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم دبر الصلاة.

 

#436#

وخرج الدارمي أيضاً: من حديث النضر, أخبرنا أشعث, عن الحسن, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم وأهل في دبر الصلاة.

 

#437#

$[التنظف عند الإحرام]$

وفي رواية سنان بن أبي سنان التي ذكرناها عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرهم أن يتهيؤوا للإحرام بحلق العانة ونتف الإبط وقص الشارب والأظافير, وغسل رؤوسهم, ثم الغسل بعد, والتجرد في ثوبين, فقال بعضهم: يا رسول الله, من لم يكن له رداء؟ قال: «فليضع عمامته على عاتقه فهي بمنزلة الرداء» ثم صلى بهم الظهر, وفرض الحج حيث انصرف من صلاته.

 

#438#

$[إشعار الهدي وتقليده]$

وحيئنذ بذي الحليفة قلد النبي صلى الله عليه وسلم بدنته وأشعرها.

خرج أحمد بن حنبل في "مسنده" من حديث شعبة, قال قتادة: سمعت أبا حسان, يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة, ثم دعا ببدنته, أو أتي ببدنته, فأشعر صفحة سنامها الأيمن, ثم سلت الدم عنها, وقلدها نعلين, ثم أتي براحلته, فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهلّ بالحج.

وخرجه الترمذي في "جامعه": من حديث هشام بن أبي عبد الله

 

#439#

الدستوائي, عن قتادة, عن أبي حسان, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد نعلين وأشعر الهدي في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط عنه الدم.

والحديث في "صحيح مسلم" من حديث هشام (وشعبة, عن قتادة، بنحوه.

وحدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع, عن هشام) الدستوائي مختصراً, ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد نعلين.

 

#440#

وروى بقيته في باب من "المصنف" بالإسناد المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر الهدي في السنام الأيمن وأماط عنه الدم.

وخرجه كنحو رواية الترمذي: أبو داود والنسائي وابن ماجه.

قال أبو داود: وهذا – يعني الإشعار – من سنن أهل البصرة الذي تفردوا به.

والحديث في "معجم الطبراني": شعبة, عن قتادة.

وأبو حسان هذا هو مسلم بن عبد الله الأحرد الأعرج البصري.

وقال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "التمهيد": ورأيت في كتاب ابن علية, عن أبيه, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي حسان الأعرج, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر بدنة من الجانب

 

#441#

الأيسر, ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين.

وهذا عندي منكر في حديث ابن عباس, والمعروف فيه ما ذكر أبو داود: الجانب الأيمن, لا يصح في حديث ابن عباس غير ذلك إلا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يشعر بدنه من الجانب الأيسر. قاله أبو عمر.

 

#442#

$[ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفرداً]$

وقد اختلف في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان بالحج مفرداً, أو بالحج والعمرة قارناً, أم غير ذلك؟

وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد: واختلف علينا فيما أهل به – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – فأهل المدينة يقولون: أهل بالحج مفرداً, وفي رواية غيرهم: أنه قد قرن مع حجته عمرة, وقال بعضهم: دخل مكة متمتعاً بعمرة ثم أضاف إليها حجة, وفي كل رواية, والله أعلم.

وقال البيهقي في "معارف السنن": أخبرنا أبو سعيد – محمد بن موسى – في "مختصر الحج الكبير", حدثنا أبو العباس الأصم, أخبرنا الربيع بن سليمان, أخبرنا الشافعي رحمه الله قال: إذا أراد الرجل أن يحرم كان ممن حج أو لم يحج, فواسع له أن يهل بعمرة, وواسع له أن يهل بحج وعمرة, وواسع له أن يفرد, وأحب إلي له أن بفرد؛ لأن الثابت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد.

وسيأتي ذكر الإفراد في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر هذا رضي الله عنه [إن شاء الله تعالى].

وقد صح عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

#443#

بالحج مفرداً. وفي لفظ لمسلم: أهل بالحج مفرداً.

وخرج الترمذي في "جامعه": عن قتيبة, عن عبد الله بن نافع الصائغ, عن عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج, وأفرد أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.

وخرجه مطولاً الدارقطني في "سننه": من طريق عبد الله بن نافع, عن عبد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج, فأفرد, ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج, ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستخلف أبو بكر فبعث عمر فأفرد الحج, ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فأفرد الحج, وتوفي أبو بكر واستخلف عمر فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج, ثم خرج عمر بسنته كلها فأفرد الحج, ثم توفي عمر واستخلف عثمان فأفرد الحج, ثم حصر فأقام عبد الله بن عباس للناس فأفرد الحج.

 

#444#

وروى أبو مصعب أحمد بن أبي بكر, وخالد بن مخلد, وزيد بن الحباب, وعبد الله بن مسلمة القعنبي, والشافعي, ويحيى بن سليمان بن نضلة, ويحيى بن يحيى, وإسماعيل بن أبي أويس, عن خاله مالك بن أنس – واللفظ لابن مخلد – عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىوسلم عليه       أفرد الحج.

تابعه سفيان بن عيينة, عن عبد الرحمن بن القاسم, رواه عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان ومالك معاً.

وقال الإمام أحمد: حدثني إسحاق بن عيسى, حدثني المنكدر بن

 

#445#

محمد, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن, عن القاسم, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.

وخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

ورواه بحر بن نصر بن سابق الخولاني, عن (ابن) وهب, عن ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها مثله.

وهو عند ابن وهب, عن ابن أبي الزناد – أيضاً – عن علقمة, عن أمه, عن عائشة.

تابعه أحمد بن عبدة الضبي, وعبد العزيز بن محمد الدراوردي, ومالك بن أنس, عن علقمة وهو ابن أبي علقمة وهو ابن بلال مولى عائشة.

وفي لفظ في حديث ابن وهب: أن عائشة رضي الله عنها, قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عام حجة الوداع من أحب إن يرجع بعمرة قبل الحج فليفعل, وإن رسول الله صلىالله عليه وسلم  أفرد الحج ولم يعتمر.

ورواه سليمان [بن داود] بن علي بن عبد الله بن عباس – أبو أيوب الهاشمي – عن عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن أبيه, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.

وجاء من حديث مالك – أيضاً – فيما رواه عنه عبد الأعلى بن حماد

 

#446#

النرسي, عن أبي الأسود محمد بن نوفل – وكان يتيماً في حجر عروة بن الزبير – عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها مثله.

وخرجه البخاري في "صحيحه": عن عبد الله بن يوسف, عن مالك نحوه.

وجاء الإفراد – أيضاً – من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما فيما رواه حبيش بن مبشر, عن يحيى بن أيوب, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.

ورواه عبد الله بن عيسى الفروي, عن رجل, عن مالك, عن نافع, عن ابن عمر مثله.

وهذا إسناده مقلوب من قبل أبي علقمة الفروي هذا.

قال ابن القيم: وأما الذي نقل عنهم إفراد الحج فهم ثلاثة: عائشة, وابن عمر, وجابر.

قلت: والبراء بن عازب كما قدمناه.

 

#447#

$[ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً]$

وأما الأحاديث الواردة بالقران, فجاءت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وأنس بن مالك, وعمران بن الحصين, وغيرهم.

أما حديث علي فله علة: روى الحكم بن عتيبة ومسلم البطين, عن علي بن حسين, عن مروان بن الحكم, قال: شهدت عثمان نهى أن يجمع بين عمرة وحج فلبى علي بعمرة وحج معاً, فقال عثمان: أنهى عنها وتلبي بها, فقال: لم أكن لأدع سنة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس.

اللفظ للحكم رواه شعبة عنه.

ورواه الأعمش, عن مسلم: خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" من الطريقين, قال يعقوب: ولم نصب هذا الحديث مرفوعاً عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الطريق, وقد روي القران عن علي من غير وجه من فعله.

وأما حديث أبي طلحة فخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده", فقال:

 

#448#

حدثنا أبو معاوية, حدثنا حجاج, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس, أخبرني أبو طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة.

ورواه مسدد ويحيى بن يحيى, عن أبي معاوية.

وحدث به ابن ماجه في "سننه": عن علي بن محمد, عن أبي معاوية ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة.

ورواه إسحاق بن راهويه: أخبرنا أبو خالد الأحمر, أخبرنا [الحجاج] بن أرطاة, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس, عن أبي طلحة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة.

تابعهما زكريا بن أبي زائدة, عن حجاج.

وهذان الطريقان فيهما الحجاج بن أرطاة – أبو أرطاة النخعي الكوفي – وهو ضعيف جداً.

قال أبو حاتم ابن حبان: تركه ابن المبارك, ويحيى القطان, وابن مهدي, ويحيى بن معين, وأحمد بن حنبل.

 

#449#

وأما حديث أنس, فخرجه الترمذي من حديث حميد, عن أنس رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك بعمرة وحجة» وقال: حسن صحيح.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": عن قتادة, عن أنس.

ورواه إسماعيل بن أبي زياد, عن داود بن أبي هند, عن أنس ابن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج والعمرة جميعاً.

غريب من حديث داود بن أبي هند, عن أنس بن مالك, تفرد به إسماعيل بن أبي زياد عنه. قاله الدارقطني.

وقد أنكر ابن عمر على أنس رضي الله عنه روايته تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج والعمرة جميعا فيما ذكره البيهقي.

والرواية بذلك جاءت من حديث أبي عبد الله بحر بن نصر بن سابق, حدثنا بشر بن بكر, حدثنا سعيد بن عبد العزيز, عن زيد بن أسلم, قال: أتى ابن عمر رجل, فقال: بم أهلّ النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بالحج, فلما كان العام القابل أتاه فقال: بم أهلّ النبي؟ قال: أما أتيتني عام أول؟ قال:

 

#450#

بلي, ولكن أنس بن مالك يقول: قرن, قال: إن أنس بن مالك كان يتولج على النساء وهن مكشفات الرؤوس – يعني لصغره – وأنا تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيبني لعابها سمعته يلبي بالحج.

حدث به غويث الخضر بن محمد بن غوث التنوخي العكاوي, عن بحر.

وله علة أيضاً وهي: أن أبا قلابة رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتهم يصرخون بهما جميعاً.

قال يعقوب بن شيبة: حدثني سليمان بن حرب, قال: الصحيح رواية أبي قلابة.

وقد جمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة, وإنما سمع أنس بن مالك أولئك دون النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو نحوه.

وأما حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما فخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث سالم بن نوح, عن عمر بن عامر, عن

 

#451#

قتادة, عن مطرف بن عبد الله بن الشخير, عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، قال: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حج وعمرة.

لم يروه عن عمر إلا سالم فيما ذكره الطبراني, وسالم بن نوح ضُعف.

قال البيهقي: قد رجح الشافعي رضي الله عنه أخبار الإفراد على أخبار القران بما يكون ترجيحاً عند أهل العلم بالحديث. انتهى.

 

#452#

 

#453#

$[ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعاً]$

وأما الرواية بالتمتع, فصحت من حديث الليث بن سعد, حدثني عقيل بن خالد, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج, وأهدى, فساق معه الهدي من ذي الحليفة, وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأهل بالعمرة إلى الحج, فكان من الناس من أهدى فساق الهدي, ومنهم من لم يهد, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى, فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه, ومن لم يكن منكم أهدى, فليطف بالبيت وبالصفا والمروة, وليقصر وليحلل, ثم ليهل بالحج وليهد, فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» .... وذكر الحديث.

 

#454#

حدث به مسلم في "صحيحه": عن عبد الملك بن شعيب بن الليث, عن أبيه, عن جده.

وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق في أول الأمر.

قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن سعد, عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش, أنه قال: ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحرامه لا حجا ولا عمرة.

ورواه أيضاً عن إبراهيم, عن سعيد, عن جابر.

وروى أيضاً عن سفيان, عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة أنهما سمعا طاوساً يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمي حجاً ولا عمرة ينتظر القضاء, قال: فنزل عليه القضاء وهو يطوف بين الصفا والمروة فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة, وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي, ولكني لبدت رأسي وسقت هديي وليس لي محل إلا محل هديي ... » الحديث.

 

#455#

وقد صرح الشافعي رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بما ذكر في الحديث قيل, أقام هو مفرداً صلى الله عليه وسلم.

قال البيهقي: أخبرنا أبو سعيد, حدثنا أبو العباس, أخبرنا الربيع, حدثنا الشافعي, قال: الإفراد والقران والتمتع حسن كله, وقد روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» فذهب المكيون إلى اختيار التمتع, وهذا أوجه, لولا أنه يحتمل أنه قال هذا لتكره الناس الإحلال حين أمرهم به وأقام هو مفرداً صلى الله عليه وسلم, فلما احتمل هذا اخترت الإفراد؛ لأنه الذي عزم له عليه, وهذان الوجهان معاً أحب إلي من القران.

قال البيهقي: وقال في "مختصر الحج الصغير": والتمتع أحب إلي انتهى.

 

#456#

$[الجمع بين الأحاديث]$

وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" – بعد أن خرج أحاديث الإفراد والقران والتمتع -: والفصل بين الجمع في هذه الأخبار أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة حيث أحرم كذلك, قاله مالك, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يهل بالعمرة وحدها حتى بلغ سرف, أمر أصحابه بما ذكرنا في خبر أفلح بن حميد – يعني عن القاسم بن محمد – عن عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله

 

#457#

صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج, وحرم الحج حتى نزلنا بسرف, فخرج النبي صلىه عليه وسلم     إلى أصحابه, فقال: «من لم يكن معه هدي وأحب أن يجعلها عمرة, فليفعل, ومن كان معه الهدي فلا», قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه .... الحديث.

قال ابن حبان: فمنهم من أفرد حينئذ, ومنهم من أقام على عمرته ولم يحل, فأهل صلى الله عليه وسلم بهما معاً حينئذ إلى أن دخل مكة وكذلك أصحابه الذين ساقوا معه الهدي, فكل خبر روي في قران النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك حيث رأوه يهل بهما بعد إدخاله الحج على العمرة إلى أن دخل مكة, فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة وطاف وسعى, أمر ثانياً من لم يكن ساق الهدي, وكان قد أهل بعمرة أن يتمتع ويحل, وكان يتلهف صلى الله عليه وسلم على ما فاته من الإهلال, حيث كان ساق الهدي, حتى إن بعض أصحابه ممن لم يسق الهدي لم يكونوا يحلون حيث رأوا المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يحل, حتى كان من أمره ما وصفنا من دخوله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهو غضبان, فلما كان يوم التروية, وأحرم المتمتعون, خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى وهو يهل بالحج مفرداً, إذ العمرة التي قد أهل بها في أول الأمر قد انقضت عند دخوله مكة بطوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة, فحكى ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج؛ أرادا من خروجه إلى منى من مكة من غير أن يكون بين هذه الأخبار تضاد أو

 

#458#

تهاتر. انتهى.

 

#459#

$[التلبيد]$

قوله: وقبل أن يهل النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه. كما صح من حديث الزهري, عن سالم, عن أبيه رضي الله عنه [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً.

وله شاهد من حديث أخته حفصه – أم المؤمنين - وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

و"التلبيد": أن يجعل في الشعر شيئاً من صمغ أو خطمي ونحوه, ليجتمع ويتلبد, ولا ينتشر فيشعث.

حدث أبو داود في "سننه": عن القواريري, عن عبد الأعلى, عن محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل.

 

#460#

$[الجمع راكباً مقتباً]$

قال جابر رضي الله عنه: ثم ركب القصواء.

جاء من حديث عثمان بن سعد الكاتب – وهو ضعيف – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يودعه بركعتين.

و(القصواء): المذكورة في حديث جابر رضي الله عنه هي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, وهي بفتح القاف وبالمد.

وفي رواية العذري: (قصوى) وزان: (حبلى), وعد خطأ.

وهذه الناقة كان أبو بكر رضي الله عنه اشتراها وأخرى معها من نعم بني الحريش بثمانمائة درهم, فاشترى النبي صلىلمله عليه و     من أبي بكر رضي الله عنه القصواء بأربعمائة درهم وهاجر عليها, وحين قدومه المدينة كانت رباعية.

ويقال لها: القصواء والجدعاء والعضباء, وسيأتي ذكرها بزيادة – إن شاء الله تعالى – عند ذكر دواب النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#461#

وكان ركوب النبي صلى الله عليه وسلم إياها حين أهل بالحج من عند الشجرة, وهي السمرة التي كانت بذي الحليفة وذكرناها قبل.

صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره.

وكان حينئذ على ناقته رحل وهو أصغر من القتب ما يساوي خمسة دراهم.

صح عن أنس رضي الله عنه أنه حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته.

علقه البخاري في "صحيحه", فقال: وقال محمد بن أبي بكر هو المقدمي, حدثنا يزيد بن زريع, عن عزرة بن ثابت, عن ثمامة بن عبد الله, عن أنس.

وحدث به ابن حبان في "صحيحه": عن الحسن بن سفيان وأبي يعلى الموصلي, قالا: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ... فذكره.

وقوله: وكانت زاملته. أي: يحمل عليها طعامه ومتاعه.

وجاء من حديث سفيان الثوري, عن الربيع – يعني ابن صبيح – عن [يزيد بن] أبان, عن أنس رضي الله عنه قال: حج النبي صلىه وسلملي        على رحل رث

 

#462#

وقطيفة ما يسرني أنها لي بأربع دراهم, ثم قال: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة».

 

#463#

$[كثرة الناس في حجة الوداع]$

قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش, وعن يمينه مثل ذلك, وعن يساره مثل ذلك, ومن خلفه مثل ذلك.

قوله: مد بصري. أي: منتهى امتداد نظري. ورواه بعضهم: مدى بصري. قال القاضي عياض: والأول أعرف. انتهى.

وقال ابن قتيبة, وصاحب "البارع": لا يقال مد البصر.

قال النووي رحمه الله: ليس بمنكر, بل هما لغتان, المدى أشهر. انتهى.

وممن حكى "مد" مشدد: الزمخشري, والجوهري, وغيرهما.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم, فركب راحلته, وخرج الناس من بين ماش وراكب, فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيداء, قال جابر: فجعلت أنظر إلى الناس يميناً وشمالاً وأمامي وخلفي ما أرى إلا سوادين بين راكب وماش فما دخلني من السرور يومئذ لما رأيت من كثرة أهل الإسلام يعدل عندي حجتي مع رسول الله صلىالله عليه وسلم .

 

#464#

وخرج أبو داود في "سننه": من طريق روح, عن أشعث, عن الحسن, عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر, ثم ركب راحلته, فلما علا على جبل البيداء أهل.

وخرجه النسائي: من حديث النضر بن شميل, عن أشعث بمعناه, ومن حديث محمد بن عبد الله الأنصاري, عن أشعث أتم منه.

راحلته المذكورة في هذه الرواية هي القصواء المصرح بها في رواية جعفر بن محمد.

وورد أنه صلى الله عليه وسلم مرة ركب بغلة في حجته هذه.

خرج الطبراني في "معجمه الأوسط" فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة, حدثنا يحيى بن عثمان الحمصي, حدثنا أبي, حدثنا أبو ضمرة – محمد بن سليمان – حدثنا راشد بن سعد, عن أبي أمامة, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بغلة شهباء يقود به خالد بن الوليد رضي الله عنه.

لم يروه عن راشد بن سعد إلا أبو ضمرة – محمد بن سليمان – تفرد به [يحيى بن] عثمان بن سعيد.

 

#465#

$[تلبيته صلى الله عليه وسلم]$

قال جابر رضي الله عنه: ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن, وهو يعرف تأويله, وما عمل به من شيء عملنا به, فأهل بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».

في قوله: "فأهل بالتوحيد": إشارة إلى مخالفة ما كان أهل الجاهلية يقولونه في تلبيتها من لفظ الشرك.

فقد ثبت من حديث عكرمة بن عمار, حدثنا أبو زميل, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك [لك] قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلكم قد قد» فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك, يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.

فهذا والله أعلم مراد جابر بقوله: فأهل بالتوحيد.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: فلبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتج الناس, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا لقي راكباً, أو صعد أكمة, أو هبط وادياً, وفي أدبار

 

#466#

المكتوبات ومن آخر الليل.

وكانت تلبيته صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك, [لبيك] لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».

وكان يكثر من قول: «لبيك ذا المعارج لبيك» حتى قدم مكة.

وحديث تلبية النبي صلى الله عليه وسلم روي – أيضاً – من حديث الزهري, عن سالم, عن أبيه, نحو حديث جابر.

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره.

وقال هدية بن عبد الوهاب المروزي – أبو صالح -: حدثنا النضر بن شميل والفضل بن موسى, قالا: أخبرنا جعفر بن سليمان, عن هشام بن حسان, عن ابن سيرين, عن أخيه يحيى بن سيرين, عن أنس بن سيرين, عن أنس بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي «لبيك حجاً حقاً تعبداً ورقاً».

 

#467#

وقال القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد البصري المالكي: حدثنا أبو عمران موسى بن هارون بن عبد الله البزار, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا مالك بن أنس, حدثنا نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».

قال القاضي: قال أبو عمران: لم يرو أبو الربيع عن مالك إلا هذا الحديث.

 

#468#

وقال الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن حميد الأعرج, عن مجاهد أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك» قال: حتى إذا كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها: «لبيك إن العيش عيش الآخرة».

قال ابن جريج: وحسبت أن ذلك يوم عرفة.

وحدث محمد بن أبي بكر المقدمي, عن عبد الرحمن بن مهدي, عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة, عن عبد الله بن الفضل, عن عبد الرحمن الأعرج حدثه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيك إله الحق».

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلبيته: «لبيك إله الحق لبيك».

وخرجه النسائي, وابن ماجه, والدارقطني.

 

#469#

وجاء عن محمد بن المنكدر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التلبية.

 

#470#

$[الجمع في إهلاله صلى الله عليه وسلم في عقيب الصلاة وركوبه وإضحاء راحلته به]$

وقال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد, عن صالح بن محمد بن زائدة, عن عمارة بن خزيمة بن ثابت, عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة, واستعفاه برحمته من النار.

تابعه عبد الله بن عبد الله الأموي وغيره عن صالح.

وخرجه الدارقطني في "سننه": من طريق يعقوب بن حميد, حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي ... فذكره, ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه, واستعاذ برحمته من النار.

قال صالح: سمعت القاسم بن محمد, يقول: كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#471#

وكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في مصلاه, ثم حين ركوبه على ناقته, ثم لما استقلت به على شرف البيداء وهو أمام ذي الحليفة إلى جهة مكة في طريقها.

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري, عن سعيد بن جبير, قال: قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب, فقال: إني لأعلم الناس بذلك, إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة, فمن هنالك اختلفوا, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً, فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه, فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه, ثم ركب, فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام, وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً, فسمعوه حيت استقلت به ناقته يهل, فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته, ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام, فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء, وايم الله لقد أوجب في مصلاه, وأهل حين استوت به ناقته, وأهل حين علا على شرف البيداء.

قال: فمن أخذ بقول ابن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه.

 

#472#

وخرجه أبو داود بنحوه, وكذلك البيهقي في كتابه "المعارف", وقال: هذا جمع حسن إلا أن خصيفاً الجزري ليس بالقوي عند أهل العلم بالحديث.

وقد رواه الواقدي بإسناد له, عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الواقدي ضعيف. انتهى.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم دبر الصلاة.

وثبت من حديث موسى بن عقبة, عن سالم, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند مسجد ذي الحليفة.

خرجه البخاري, ومسلم, وأبو داود, والترمذي, والنسائي.

 

#473#

$[رفع الصوت بالتلبية]$

قال جابر رضي الله عنه: فأهل الناس بهذا الذي يهلون به.

إهلال المحرم: رفع صوته بالتلبية ليوجب حجه وعمرته, أو أحدهما بالتلبية عن نفسه, ولما لبى النبي صلىوسلم عليه       رفع صوته بالتلبية وأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يرفعوا أصواتهم بها كما أمره الله عز وجل.

وروى مالك بن أنس في "الموطأ": عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام, عن خلاد بن السائب, عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك أو من معك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال».

تابعه سفيان بن عبد الله بن أبي بكر.

وحدث به ابن جريج, عن عبد الله بن أبي بكر كتابة.

قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": قال أبو بكر – يعني الحميدي – في حديث السائب بن خلاد, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية».

 

#474#

قال: قال سفيان: كان ابن جريج كتمني حديثاً, فلما قدم علينا عبد الله بن أبي بكر لم أخبره, فلما خرج إلى المدينة حدثته, فقال: يا أعور تخبئ عنا الأحاديث فإذا ذهب أهلها أخبرتنا بها, لا أرويه عنك, أو تريد أن أرويه عنك؟! فكتب إلى عبد الله بن أبي بكر فيه, فكتب به عبد الله بن أبي بكر, وكان ابن جريج يحدث به من كتابه: كتب إلي عبد الله بن أبي بكر.

وهذا الحديث حدث به عن سفيان, عن عبد الله بن أبي بكر عبد الرازق في

"جامعه" وأبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه".

ورواه الشافعي في "مسنده" عن مالك بنحو ما تقدم عنه.

وخرجه أبو داود لمالك, والترمذي والنسائي وابن ماجه لسفيان بن عيينة.

 

#475#

قال الترمذي: حديث خلاد, عن أبيه: صحيح.

وخرجه الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما, والدارقطني في "سننه".

قال الترمذي: وروى بعضهم هذا الحديث: عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد, عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح, والصحيح هو خلاد بن السائب, عن أبيه.

قلت: حدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده", فقال: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن أبي عدي, أنبأنا سفيان بن سعيد, عن عبد الله بن أبي بكر, عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج».

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع, حدثنا سفيان, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد الجهني .... فذكره بنحوه.

 

#476#

وحدث به ابن ماجه في "سننه": عن علي بن محمد, عن وكيع, وابن سعد في "الطبقات": عن محمد بن عبد الله الأسدي, عن سفيان, بنحوه.

وقال الطبراني: حدثنا حفص بن عمر الرقي, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان, عن عبد الله بن أبي لبيد, أخبرني مطلب بن عبد الله بن حنطب, عن خلاد بن السائب, عن أبيه, عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال, فإنه من شعار الحج».

ورواه يوسف بن موسى القطان, عن قبيصة.

تابعه معاوية بن هشام, عن سفيان كذلك.

قال الحافظ أبو بكر الخطيب: وهذا الحديث إنما قال سفيان الثوري فيه: عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد, وذكر السائب أبي خلاد فيه وهم.

 

#477#

وقد رواه وكيع, عن سفيان على الصواب – أي كما ذكرناه – قال: وكذلك رواه جماعة عن وكيع منهم أحمد بن حنبل في "مسنده", وكذا رواه موسى بن عقبة, عن عبد الله بن أبي لبيد الزهري. انتهى.

وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث محمد بن يحيى الذهلي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوري, عن [ابن] أبي لبيد, عن المطلب بن حنطب, عن أبيه ... فذكره.

خالفه عبد بن حميد فرواه في "مسنده": عن عبد الرزاق, عن سفيان, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد الجهني, مرفوعاً به, كرواية وكيع على الصواب.

قال البيهقي: وكذلك – أي كرواية الذهلي, عن عبد الرزاق – رواه شعبة, عن عبد الله بن أبي لبيد. انتهى.

وروي عن سفيان الثوري, عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم, عن خلاد, عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه عبد الملك ولا السائب.

قاله المزي في "الأطراف", ثم قال: ورواه أسامة بن زيد الليثي, عن عبد الله بن أبي لبيد, وغيره, عن المطلب بن عبد الله عن أبي هريرة. انتهى.

ورواه يعقوب بن حميد, فقال: حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح, حدثنا محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن

 

#478#

عبد الله بن حنطب, عن إبراهيم بن خلاد بن سويد, عن أبيه – إن شاء الله – قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد, كن عجاجاً ثجاجاُ.

ورواه أبو بكر ابن أبي عاصم, عن يعقوب.

ومن هذه الطريق بهذا اللفظ خرجه الإمام أحمد في "مسنده".فقال: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن السائب بن خلاد: أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كن عجاجاً ثجاجاُ.

والعج: التلبية, والثج: نحر البدن.

وهذه الطريق مجودة وأولى من التي قبلها.

 

#479#

وقال الإمام أحمد – أيضاً -: حدثنا عبد الصمد, حدثنا عبد الرحمن – يعني ابن عبد الله بن دينار – حدثنا أبو حازم, عن جعفر بن عباس, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أعلن التلبية».

وقال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا الهيثم بن خارجة, حدثنا يحيى بن حمزة, عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير: أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارفع صوتك بالإهلال فإنه شعار الحج.

 

#480#

$[الزيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم المعهودة]$

قال جابر رضي الله عنه: فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته.

قوله: شيئاً منه. أي من الإهلال, فكان الناس يزيدون في التلبية وينقصون فلا ينكر عليهم, وهو صلى الله عليه وسلم ملازم تلبيته التي قدمناها.

خرج أحمد في "مسنده", وأبو داود في "سننه": عن أحمد, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا جعفر, حدثنا أبي: عن جابر بن عبد الله قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر, قال: والناس يزيدون: ذا المعارج, ونحوه من الكلام, والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً.

وصح عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».

قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا: لبيك لبيك لبيك وسعديك, والخير بيديك لبيك, والرغباء إليك والعمل.

 

#481#

وعن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله, وكان عبد الله يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك وسعديك, والخير في يديك لبيك والرغباء إليك والعمل.

وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه كان يزيد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن, لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك.

وقال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا معمر, عن إسماعيل بن أمية, عن عبد الرحمن الأعرج, قال: بلغني أنه كان من إهلال النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيك إله الحق لبيك».

وقد خرجه موصولاً أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه", فقال: حدثنا وكيع, عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن عبد الله بن الفضل, عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في تلبيته: «لبيك إله الحق لبيك»:

وخرج البيهقي في كتابه "معارف السنن": من حديث هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعنا عامة الناس قد بحت أصواتهم من التلبية.

 

#482#

وخرجه – أيضاً – من حديث عمر بن صهبان, عن أبي الزناد, عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبلغ الروحاء حتى تبح الأصوات.

قال: وعمر بن صهبان ضعيف, ومشهور عن أبي حازم: حتى تبح حلوقهم من التلبية, وذكره ابن المنذر.

والروحاء: قرية جامعة من عمل الفرع على ليلتين من المدينة بينهما نحو أربعين ميلاً.

قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج, لسنا نعرف العمرة.

فيه دليل لمن قال: بترجيح الإفراد أحد الأنواع على غيره.

قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا أتينا البيت معه صلى الله عليه وسلم.

ثم وقائع قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وأمور حدثت:

منها ما ذكر في "الطبقات" لابن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى – أي من ذي الحليفة في حجته – يسير المنازل ويؤم أصحابه رضي الله عنهم في الصلوات في مساجد له قد بناها الناس وعرفوا مواضعها.

 

#483#

قلت: ممن حررها وعرف مواضع غالبها, وكان يتحرى الصلاة بها إذا مر عليها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ومنها ما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه", فقال: حدثنا ابن فضيل, عن يزيد, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون, فإذا لقينا الركب سدلنا ثيابنا من فوق رءوسنا على وجوهنا فإذا جاوزونا رفعناها.

وخرجه مسدد في "مسنده" فقال: حدثنا أبو عوانة, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون, فإذا مر بنا ركب سدلنا الثوب من فوق رءوسنا سدلاً, فإذا جاوزنا رفعناه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده", ومن طريقه خرجه أبو داود في "سننه" فقال: حدثنا أحمد بن حنبل, حدثنا هشيم, أخبرنا يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها

 

#484#

على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه.

وذكر الترمذي في "العلل" عن يحيى بن سعيد كان شعبة ينكر أن يكون سمع مجاهد من عائشة, وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل, عن أبيه, عن شعبة أنه كان ينكر ذلك.

وقال ابن أبي حاتم: روى عن عائشة مرسلاً.

 

#485#

$[أكل المحرم ما صاده الحلال]$

ومنها ما خرجه الطبراني في "معجمه الكبير": فقال: حدثنا إدريس بن جعفر العطار, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن عمير بن سلمة الضمري, عن البهزي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة, حتى إذا كان ببعض وادي الروحاء وجدوا حماراً وحشياً فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقروه حتى يأتي صاحبه» فأتى البهزي – وكان صاحبه – فقال: يا رسول الله, شأنكم بهذا الحمار. فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمه في الرفاق وهم محرمون ثم مررنا حتى إذا كنا بالأثاية إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يقف عنده حتى يجيز عنه الناس.

وخرجه النسائي, عن محمد بن سلمة المرادي, والحارث بن مسكين, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن مالك, عن يحيى بن سعيد.

تابعه يحيى بن بكير وغيره, عن مالك.

 

#486#

ورواه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب "الأطعمة", فقال: حدثناه الزهراني أبو الربيع, حدثنا حماد – وهو ابن زيد – حدثنا يحيى بن سعيد.. فذكره.

وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا ابن الجنيد, حدثنا قتيبة, حدثنا بكر بن مضر, عن ابن الهاد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن عمير بن سلمة الضمري, قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض أثناء الروحاء وهو حرم إذا حمار معقور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه فيوشك صاحبه أن يأتيه» فجاء رجل من بهز هو الذي عقر الحمار, فقال: يا رسول الله, شأنكم بهذا الحمار, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فقسمه بين الناس.

وخرجه الحاكم "مستدركه": من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن يزيد بن عبد الله بن الهاد, عن محمد بن إبراهيم التيمي ... فذكره.

تابعه الليث بن سعد, ونافع بن يزيد – أبو يزيد – المصري.

 

#487#

ورواه هشيم, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن رجل من بني ضمرة, فلم يسم عميراً.

ورواه بشر بن بكر, عن الأوزاعي, حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي, عن عيسى بن طلحة, قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب الروحاء, وهم محرمون, فإذا هم بحمار عقير ... وذكر الحديث مرسلاً بطوله.

وقد روي عن عمير بن سلمة نفسه دون ذكر البهزي في السند.

وحدث به مختصراً نحوه: ابن ماجه في "سننه" عن هشام بن عمار, عن سفيان بن عيينة, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن عيسى بن طلحة, عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه حمار وحش وأمره أن يفرقه في الرفاق وهم محرمون.

تابعه عثمان بن سعيد الدارمي فرواه في "الأطعمة" عن هشام بن عمار, بنحوه قال: وأحسبه أراد أن يختصره فأخطأ فيه.

قلت: هو كما ظنه؛ لأن سفيان رواه مرة هكذا مختصراً, ومرة بتمامه, فرواه عنه مختصراً: هشام بن عمار كما تقدم, وإسحاق بن

 

#488#

إسماعيل الأيلي بنحوه مختصراً.

ورواه كاملاً عن سفيان: الشافعي, فقال: حدثنا سفيان, حدثنا يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بصفاح الروحاء, فإذا نحن بحمار وحش عقير, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا لرجل أصابه يوشك أن يأتيكم» فجاء رجل من بني سليم, فقال: يا رسول الله, هذا حمار أصبته بالأمس, فشأنكم به, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمه في الرفاق, ثم خرجنا حتى إذا كنا بالأثاية إذا نحن بظبي حاقف, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقف عنده حتى يجوز الناس.

وهذه الرواية فيها الوهم في قوله: عن عيسى بن طلحة, عن أبيه.

[قال]: والرواية الأولى المختصرة فيها وهمان: أحدهما هذا,

 

#489#

والثاني: أن طلحة بن عبيد الله هو المأمور بتفرقة الحمار الوحشي في الرفاق, وليس كذلك, بل المأمور بذلك أبو بكر رضي الله عنه, كما صرح به في عدة طرق حتى في طريق سفيان من رواية الشافعي, كما تقدم.

ورواه مالك بن أنس, وحماد بن زيد, ويزيد بن هارون وغيرهم, عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري كما تقدم.

والبهزي: هو زيد بن كعب البهزي السلمي.

قال الحافظ أبو الحجاج المزي في كتابه "التهذيب": وهو صاحب الظبي الحاقف.

وقال في كتابه "الأطراف": وهو صاحب الظبي الحاقف الذي رماه بسهم فوجد فيه سهمه, وكان يسكن الروحاء بين مكة والمدينة.

قلت: بل هو صاحب الحمار الوحشي العقير, كما هو مصرح به في ألفاظ طرق الحديث, حتى فيما خرجه الحافظ المزي في "التهذيب" بعيد قوله: وهو صاحب الظبي الحاقف. من طريق الطبراني التي تقدمت, وهي: حتى إذا كان ببعض وادي الروحاء وجدوا حمار وحش .... فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أقروه حتى يأتي صاحبه» فأتى البهزي وكان صاحبه .... الحديث.

 

#490#

وما أحسن ما ذكره الحافظ [أبو بكر] ابن أبي خيثمة في "تاريخه", فقال: والبهزي الذي مر بظبي حاقف وهم محرمون.

وتنبه له ابن نقطة فقال في "إكماله": والبهزي صاحب الحمار العقير.

وأظن المزي – والله أعلم – قلد أبا عمر ابن عبد البر, فإنه قال في "الاستيعاب": زيد بن كعب البهزي ثم السلمي صاحب الظبي الحاقف وكان صائده. انتهى.

والحاقف: المنحني, وقال أبو الحسين ابن فارس في "مجمله": هو الذي انحنى وتثنى في نومه.

 

#491#

$[علاج النبي صلى الله عليه وسلم للصبي المريض]$

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن صالح الجعفي, حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي, حدثنا معاوية بن يحيى الصدفي, عن الزهري, عن خارجة بن زيد بن ثابت, أن أسامة بن زيد حدثه, قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حج فيها, فلما هبطنا بطن الروحاء عارضت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة تحمل صبياً لها, فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير على راحلته, ثم قالت: يا رسول الله, هذا ابني فلان, والذي بعثك بالحق ما أبقى من خفق واحد من لدن أن ولدته إلى ساعتي هذه, فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحلة, فوقف ثم أكسع إليها, فبسط إليها يده, وقال: «هاتيه» فوضعته على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه, فجعله بينه وبين واسطة الرحل, ثم تفل في فيه, وقال: «اخرج يا عدو الله فإني رسول الله» ثم ناولها إياه فقال: «خذيه فلن ترين منه شيئاً تكرهينه بعد هذا إن شاء الله», فأخذته ثم انصرفت. قال: ثم مضينا فحججنا, قال: فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلنا بالروحاء قال أسامة: إذا تلك المرأة قد استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مصلية,

 

#492#

فوضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قالت: يا رسول الله, أنا المرأة أم الصبي الذي لقيتك به معداك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما فعل ابنك؟» قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت منه شيئاً يريبني إلى يومي هذا.

 

#493#

$[من دلائل النبوة]$

قال أسامة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أسيم» – قال الزهري: كان بذلك يدعوه يرخمه – «ناولني ذراعها» قال أسامة: فأخذت الذراع فناولته إياها فأكلها, ثم فال: «يا أسيم, ناولني الذراع» فناولته إياها, ثم قال «يا أسيم, ناولني الذراع», فقلت: يا رسول الله, إنك قلت: «ناولني الذراع» فناولتكها, ثم قلت: «ناولني الذراع» فناولتك الذراع الآخر, وإنما للشاة ذراعان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لم تراجعني وأهويت إليها ما زلت تجد فيها ذراعاً ما قلت لك» ثم قال: «يا أسيم, اخرج فانظر هل ترى لي رجماً من الأرض» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال أسامة: فخرجت فمشيت حتى حسرت فلم أقطع اليأس, ولم أر شيئاً أرى أنه يواري أحداً, فرجعت إليه فقلت: يا رسول الله, والذي بعثك بالحق لقد ملأ الناس ما بين الصدين, وما رأيت من شيء يواري أحداً, فقال: «أما رأيت شجراً ورجماً» قلت: بلى قد رأيت – يعني نخلات إلى جانبهن رجماً من حجارة – قال: «فانطلق إلى النخلات فقل لهن: يقول لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلففن بعضكن إلى بعض حتى تكن سترة لمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم» فخرجت حتى أتيت النخلات فقلت لهن الذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أسامة: فوالذي بعثه بالحق لكأني أنظر إلى قفزهن بعرقهن وترابهن حتى لصق بعضهن إلى بعض, فكن كأنهن نخلة واحدة, ثم أتيت الرجم, فقلت للحجارة الذي أمرني به, قال: فوالذي بعثه بالحق لكأني أنظر إلى قفزاتهن حجراً حجراً حتى لصقن بالنخلات, وعلا بعضهن بعضاً, حتى كأنهن جدار, فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم

 

#494#

فأخبرته بذلك, فقال: «خذ الإداوة» قال: وخرج فمشينا حتى إذا دنوت منهن فسبقته فوضعت له الإداوة, ثم انصرفت, فقضى من حاجة, ثم أقبل إلى الإداوة بيده فلقيته, فأخذتها منه ثم مضينا, فلما دخل الخباء قال: «يا أسيم, انطلق إلى الحجارة وإلى النخلات, فقل لهن: يأمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعدن إلى ما كنتن عليه, وقل للحجارة: يأمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعدن رجماً كما كنتن [وإلى النخلات أن تعدن كما كنتن]», فأتيت النخلات, فقلت لهن الذي أمرني به, فوالذي بعثه بالحق, لكأني أنظر إلى قفزهن وترابهن حتى عادت كل نخلة منها في موضعها, قال: ثم قلت للحجارة ذلك, فوالذي بعثه بالحق لكأني أنظر [إلى] قفزهن حجراً حجراً حتى أتين مكانهن الذي عرفته رجماً كما كن, فانصرفت إليه, فقلت: يا رسول الله, قد أتيت النخلات, وقلت لهن الذي أمرتني به, ففعلن ما أمرتهن, وقلت للحجارة, ففعلت ذلك حتى عادت رجماً كما كانت.

وحدث به أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل, حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا عبد الرحيم بن حماد, عن معاوية بن يحيى الصدفي, أخبرني الزهري ... فذكره بنحوه.

 

#495#

ويروى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الأحد بملل, ثم راح فعشى بسرف السيالة, وصلى بسرف المغرب والعشاء, وسار منها, فصلى الصبح بعرق الظبية بين الروحاء والسيالة في المسجد الذي عن يمنة الطريق, ثم نزل الروحاء فإذا حمار عقير.. وذكرت قصة البهزي, قالت: ثم راح من الروحاء, فصلى العصر بالمنصرف, وصلى المغرب والعشاء بالمعشى, وتعشى به, وصلى الصبح بالأثاية, وأصبح بالعرج.

ملل: موضع معروف بقرب المدينة.

وسرف السيالة: موضع غير سرف التي بقرب مكة. وسميت سيالة: إما لكثرة السيول بها, وإما لكثرة السيال بها, وهو ضرب من [الشجر] شجر العضاه له شوك.

وعرق الظبية: جبلها, والظبية بضم الظاء المعجمة, وقيل بفتحها, بعدها موحدة ساكنة ثم ياء آخر الحروف مخففة مفتوحة ثم هاء, موضع على ثلاثة أميال من الروحاء.

والأثاية: بضم الهمزة, بعدها ثاء مثلثة, وبالمثناة تحت بعد الألف وهي فيما ذكره أبو عبيد البكري: بئر دون العرج بميلين عليها مسجد

 

#496#

للنبي صلى الله عليه وسلم ويالأثاية: أبيات وشجر أراك, وهناك منتهى حد الحجاز.

قاله البكري في "المعجم".

ومن الوقائع أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى العرج – وهي قرية من عمل الفرع من أعمال المدينة على طريق مكة من المدينة – نزل بها [ونزل] أبو بكر رضي الله عنه فأتاه غلامه وقد أضل بعيره فضربه بسبب ذلك.

قال الواقدي: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد, عن عيسى بن معمر, عن عباد بن عبد الله, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالعرج جلس بفناء منزله, فجاءته عائشة رضي الله عنها فجلست إلى جنبه, فجاء أبو بكر رضي الله عنه فجلس إلى جنبه الآخر, وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر, فأقبل غلام أبي بكر متسربلاً, فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ فقال: أضلني, فقام إليه أبو بكر فجعل يضربه ويقول: بعيراً واحداً يضل منك! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: «ألا ترون إلى المحرم ما يصنع؟!» وما ينهاه.

وخرجه أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: خرجنا مع

 

#497#

رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجاً حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا, فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست إلى جنب أبي بكر وكانت زمالة أبي بكر رضي الله عنه وزمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام لأبي بكر فجلس أبو بكر رضي الله عنه ينتظر أن يطلع عليه [أحد], فطلع وليس معه بعيره, فقال له: أين بعيرك؟! قال: أضللته البارحة, فقال أبو بكر: بعيراً واحداً تضله؟! قال: فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع».

[قال ابن أبي رزمة – أحد رواته -: فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع»] وتبسم.

خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن إدريس, أخبرنا ابن إسحاق, عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه بنحوه.

وخرجه ابن ماجه.

وقد قيل: إن اسم غلام أبي بكر هذا: عقبة, وأضل البعير بالأثاية, والله أعلم.

وروي أنه لما بلغ آل فضالة الأسلميين أن زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت حملوا إليه حفنة من حيس فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

#498#

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هلم يا أبا بكر, فقد جاء الله بغداء طيب», وجعل أبو بكر رضي الله عنه يغتاظ على الغلام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هون عليك يا أبا بكر, فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك», وقد كان الغلام حريصاً على ألا يضل بعيره, وهذا حلف ما كان معه, ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله وأبو بكر ومن كان يأكل معه حتى شبعوا, فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله عنه وكان على ساقة الناس, والبعير معه وعليه الزمالة, فأقبل حتى أناخ على باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «انظر هل تفقد شيئاً من متاعك؟», فقام فنظر, فقال: ما فقدت إلا قعباً كنا نشرب فيه, فقال الغلام: هذا القعب معي, فقال أبو بكر لصفوان: أدى الله عنك الأمانة.

وقال أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية: حدثنا محمد بن شجاع الثلجي, حدثنا محمد بن عمر الواقدي, قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد رضي الله عنهما بزاملة تحمل زاداً يؤمان رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني: يوم ضلت زاملته في حجة الوداع – حتى يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته, فقال سعد: يا رسول الله, بلغنا أنا زاملتك ضلت الغداة, وهذه زاملة مكانها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاء الله بزاملتنا, فارجعا بزاملتكما, بارك الله عليكما, أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟», فقال سعد: يا رسول الله, المنة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والله يا رسول الله للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع, فقال: «صدقتم يا أبا ثابت, [أبشر] فقد أفلحت, إن الأخلاق بيد الله عز وجل فمن أراد

 

#499#

أن يمنحه منها خلقاً صالحاُ منحه, ولقد منحك الله خلقاً صالحاُ», فقال: سعد: الحمد لله, هو فعل ذلك.

هكذا ذكره الواقدي في "سيره".

وحدث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق, حدثنا هشام بن عروة ويحيى بن عباد بن عبد الله [بن] الزبير, عن أبيه, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كانت يد النبي صلى الله عليه وسلم (في مال أبي بكر, ويد أبي بكر رضي الله عنه واحدة حين حجا.

ولما انصرف صلى الله عليه وسلم) من العرج نزل السقياء ثم أصبح بالأبواء, فقضى بين اثنين اختصما في صيد:

خرج أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين": من حديث محمد بن عباد المكي, ويحيى بن موسى البلخي – ويعرف بالخت – يزيد كل واحد منهما على صاحبه الكلمة والكلمتين: أن محمد بن سليمان بن مسمول المكي حدثهم: سمعت القاسم بن مخول بن يزيد البهزي ثم السلمي يقول: سمعت أبي – وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام –

 

#500#

يقول: نصبت حبائل بالأبواء, فوقع في حبل منها ظبي, فأفلت مني, فخرجت في أثره, فوجدت رجلاً قد أخذه, فتنازعنا فيه, فتساوقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجدناه نازلاً بالأبواء تحت شجرة مستظلاً بنطع, فاختصمنا إليه, ففصله بيننا شطرين ... الحديث.

 

#501#

$[حجامة المحرم]$

ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى لحي جمل – وهو ماء بين طيبة ومكة, قيل: هو إلى طيبة أقرب, وقيل: هو عقبة الجحفة – احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك.

قال أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا ابن عيينة, عن يحيى بن سعيد, عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ذؤابته بمكان يدعى لحي جمل.

الذؤابة: هي وسط الرأس.

وقد جاء مفسراً في رواية يحيى بن بكير, عن مالك, عن يحيى بن سعيد, عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه وهو محرم, وهو يومئذ بلحي جمل.

وصح من حديث علقمة بن أبي علقمة, عن عبد الرحمن الأعرج, عن ابن بحينة رضي الله عنه قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحي جمل في وسط رأسه.

وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

 

#502#

ووسط الرأس أحد المواضع العشرة التي جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فيها.

والثاني منها: (اليافوخ) وهو مقدم الرأس.

والثالث: تحت الذؤابة في القمحدوة وهي مؤخر قذال الرأس.

والرابع: في النقرة, نقرة القفا, وهي وقبته.

والخامس: في الأخدعين, وهما عرقان خفيان في صفحتي الرقبة مما يلي القفا.

والسادس: في الكاهل, وهو مقدم أعلى الظهر, وقال بعضهم: هو العظم الناتئ بين الكتفين تحت الكتد الذي فوق الكتفين في مغرز العنق.

والسابع: تحت كتفه اليسرى.

والثامن: بين وركيه, وهما في العجز, عظمان, كأنهما كتفان أسفلهما فوق عالي الفخذين بمنزلة الكتفين فوق اليدين, قاله أبو عبيد.

والتاسع: فوق الركبة.

والعاشر: على ظهر القدم. فهذا ما بلغنا من المواضع التي احتجم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#503#

$[ما قيل في دخوله صلىالله عليه وسلم  الحمام وبطلانه]$

ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجحفة دخل حماماً بها فيما ذكره بعضهم:

وهذا غير صحيح, وقد ذكرته لئلا يغتر به, وإنما يروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما من فعله فيما خرجه أبو إسحاق إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في كتاب "الطهارة" له, فقال: حدثنا بشر بن السري, عن يعقوب بن محمد بن طلحة, عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه دخل حماماً بالجحفة وهو محرم.

وقال الشافعي: أخبرنا ابن أبي يحيى, عن أيوب بن أبي تميمة, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل حماماً بالجحفة, وهو محرم, وقال: ما يعبأ الله بأوساخنا شيئاً.

وحدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن ابن علية, عن أيوب.

وأما ما قال سليمان بن سلمة الخبائري: حدثنا سليمان بن ناشرة: سمعت محمد بن زياد يقول: كان ثوبان – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – جاء إلي فكان يدخل الحمام, فقلت: وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخل

 

#504#

الحمام؟! فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام, ثم يتنور.

خرجه أبو بكر الخرائطي في كتابه: "مساوئ الأخلاق" فقال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الوزان, حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري ... فذكره.

وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى": من حديث يعقوب بن سفيان, حدثنا سليمان بن سلمة الحمصي, حدثنا سليمان بن ناشرة الألهاني .... فذكره بنحوه.

وهذا حديث غير صحيح, والخبائري كذاب.

وجاء حديث مسلسل بدخول الحمام والجلوس في الوزن إلى الزهري, عن أنس بن مالك مرفوعاً مسلسلاً.

وهذا حديث موضوع مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة والتابعين.

وقد قال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: لم يثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حماماً قط.

ذكره عنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم.

أخبرنا الشيخ عماد الدين أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المقدسي, أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسين الأنصاري في شعبان سنة ثلاثين وسبعمائة, أخبرنا أبو عمرو عثمان بن علي القرشي في صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة, أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني, أخبرنا أبو الخطاب نصر بن أحمد القارئ –

 

#505#

بقراءتي عليه ببغداد سنة أربع وتسعين وأربعمائة في صفر, وفي هذه السنة توفي, أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه, حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي, حدثنا الحسن بن علي بن شبيب, حدثنا سليمان بن سلمة بن عبد الجبار الحمصي, حدثنا سليمان بن ناشرة الألهاني, سمعت محمد بن زياد الألهاني يقول: كان ثوبان – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – جاراً لنا, وكان يدخل الحمام, فقلت له: أتدخل الحمام وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام يتنور.

وأنبأنا به الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب, أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم – قراءة عليه وأنا حاضر – وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن المطعم – قراءة عليه مرتين آخرهما وأنا أسمع في رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة – قالا: أخبرنا جعفر بن علي الحوراني – سماعاً – والحسن بن إبراهيم بن دينار – إجازة – قالا: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني, سماعاً ... فذكره.

وقال أبو بكر بن السني أحمد في كتابه "رياضة المتعلمين": أخبرني أبو عروبة, حدثنا عباد بن يعقوب, حدثنا يحيى بن يعلي, حدثنا

 

#506#

محمد بن عبيد الله بن أبي رافع, عن أبيه, عن جده أبي رافع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على موضع, فقال: «نعم موضع الحمام هذا», فبني فيه حمام.

 

#507#

$[مرور النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان]$

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مر بوادي عسفان, وعسفان قرية جامعة على نحو أربعة برد من مكة, ويسمى الآن مدرج عثمان، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ما خرجه وكيع بن الجراح في كتابه "الزهد" فقال: عن زمعة بن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي عسفان فقال: «يا أبا بكر, أي واد هذا؟», فقال: وادي عسفان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد مر به هود وصالح ونوح عليهم السلام على بكرات حمر, خطمها الليف, أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون, يحجون البيت العتيق».

وحدث به الإمام أحمد في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا وكيع, حدثنا زمعة. ... فذكره, ولفظه قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج, قال: «يا أبا بكر, أي واد هذا؟», قال: وادي عسفان, قال: «لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات حمر, خطمها الليف أزرهم العباء, وأرديتهم النمار يلبون, يحجون البيت».

 

#508#

وخرجه في "مسنده" أيضاً.

وفي "كتاب المناسك" لسعيد بن أبي عروبة الذي يرويه عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي عنه, عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتى على ماء بين مكة والمدينة يقال له: عسفان, فقال: «إن موسى عليه السلام أتى على هذا الوادي وهو يلبي يقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك, عبدك ذا لديك, وابن عبديك, ومر به يونس عليه السلام على جمل أحمر مخطوم عليه عباءة يقول: لبيك اللهم لبيك عبدك ذا لديك, وابن عبديك, ومر به عيسى عليه السلام على ناقة حمراء عليه عباءة قطوانية يقول: لبيك اللهم لبيك, [لبيك] عبدك ذا لديك, وابن أمتك لعبديك».

وقال أحمد في كتاب "الزهد" – أيضاً -: حدثنا هشيم, أخبرنا داود بن أبي هند, عن أبي العالية: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: «أي واد هذا؟», قالوا: وادي الأزرق, قال: «كأني أنظر إلى موسى عليه السلام وهو هابط من الثنية وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية» ثم أتى على ثنية هرشى, فقال: «أي ثنية هذه؟», قالوا ثنية هرشى, قال: «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعداء, عليه جبة من

 

#509#

صوف خطام ناقته خلبة,وهو يلبي».

هرشى: من قرى الجحفة.

 

#510#

$[مرور النبي صلى الله عليه وسلم بالمشاة]$

ولما مضى النبي صلى الله عليه وسلم من عسفان وكان بالغميم – وهو موضع بين مكة والمدينة يضاف إليه كراع, فيقال: كراع الغميم, والكراع جانب مستطيل من الحرة شبيهاً بالكراع – فلما كان بالغميم اعترض له فيما يروى المشاة, فصفوا صفوفا وشكوا إليه المشي، فقال: «استعينوا بالنسلان» ففعلوا ذلك فوجدوا فيه راحة.

والنسلان: الإسراع في المشي وهو دون العدو.

 

#511#

$[مرور النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وسرف]$

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بمر الظهران يوم الإثنين, فغربت له الشمس بسرف.

وسمي مر الظهران؛ لأنه في عرق من الوادي من غير لون الأرض شبه الميم الممدودة بعدها راء, خلقت كذلك. قاله السهيلي.

وقال أبو عبيد البكري في "معجمه": وقال أبو غسان: سميت بذلك لأن في بطن الوادي بين مر ونخلة كتاباً يعرف من الأرض أبيض هجاء مر إلا أن الميم غير موصولة بالراء.

[وذكر أبو عبيد قبل عن كثير عزة؛ إنها سميت بذلك لمرارتها وذكر أن بينها وبين البيت ستة عشر ميلاً].

وذكره غيره أنها على بريد من مكة إلى جهة المدينة.

وسرف: هو ماء بين التنعيم وبطن مر, وهو إلى التنعيم أقرب.

وفي سرف حاضت عائشة رضي الله عنها:

صح من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت – وفي رواية:

 

#512#

حضت – فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي, فقال: «ما يبكيك؟» قلت: لوددت والله أني لم أحج العام, قال: «لعلك نفست؟» قلت: نعم, قال: «فإن ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم, فافعلي ما يفعل الحاج, غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري».

وروي الليث بن سعد, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: أقبلنا [مهلين] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد, وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ... الحديث.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو المغيرة, حدثنا الأوزاعي, حدثني أبو عبيد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف, وقد نفست وأنا منكسة فقال لي: «أنفست؟» قلت: نعم يا رسول الله, ولا أحسب النساء خلقن إلا للشر.

فقال: «لا, ولكنه شيء ابتلي به نساء بني آدم».

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثوبي الإحرام عند التنعيم حين دخل مكة.

 

#513#

وحدث به أبو داود في "المراسيل": عن محمد بن المصفى الحمصي, عن الوليد, عن معاوية – وهو ابن سلام – [و] عن محمد بن عبيد المحاربي, عن ابن عياش, عن سعيد بن يوسف, كلاهما عن يحيى بن أبي كثير, عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثوبيه بالتنعيم. زاد المحاربي: وهو محرم.

والتنعيم بين مكة وسرف عند طرف الحرم على فرسخين من مكة نحو المدينة, وهو من الحل, وسمي التنعيم؛ لأن عن يمينه جبلاً يقال له: نعيم, وعن شماله جبل يقال له: ناعم, والوادي يقال له: نعمان, وهو غير نعمان الذي وراء عرفة الذي أخذ الله فيه ميثاق بني آدم.

 

#514#

$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم ذي طوى ومبيته بها]$

ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذا طوى, وهو واد بمكة في صوب طريق العمرة المعتاد, ومسجد عائشة ويعرف اليوم بآبار الزاهر, فبات بها ليلة.

ثبت من حديث عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, عن علي بن حسين, عن عمرو بن عثمان, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قلت: يا رسول الله, أين تنزل غداً؟ - وذلك في حجته حين دنونا من مكة -, فقال: «وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟».

وكان مبيت النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى ليلة الرابع من ذي الحجة, وصلى [بها] الصبح, ثم اغتسل من يومه.

صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وقدم مكة – تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – لأربع ليال خلون من ذي الحجة.

وثبت من حديث أيوب, عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية, ثم يبيت بذي طوى, ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

تابعه عبيد الله بن عمر, عن نافع.

 

#515#

ورواه موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل ذا طوى.

وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم لدخوله مكة بفخ.

خرجه الترمذي لعبد الرحمن,, وقال: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يغتسل لدخوله مكة. انتهى.

وفخ [كان به] نخيلات يسيرة متفرقة, وهو من الحرم, ودفن به عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقيل: دفن بذي طوى, وقيل بسرف, وقيل بالمحصب.

 

#516#

$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة والمسجد الحرام]$

ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بذي طوى نهض فدخل مكة من يومه من أعلاها من ثنية كداء, بالفتح والمد, وهي التي تشرف على الحجون, وينحدر منها إلى المقابر, وتسمى اليوم: عقبة باب المعلاة.

ثم سار حتى دخل المسجد الحرام بعد ارتفاع الضحى من باب [بني] عبد مناف, وتسميه الناس: باب بني شيبة, وتسميه عوام الناس: باب السلام.

خرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث مروان بن أبي مروان العثماني, حدثنا عبد الله بن نافع, حدثنا مالك بن أنس, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلنا معه من باب بني عبد مناف وهو الذي يسميه الناس: باب بني شيبة, وخرجنا معه إلى المدينة من باب الحزورة, وهو باب الحناطين.

 

#517#

والمراد بباب بني شيبة وباب الحناطين: جهتهما لا البابين أنفسهما؛ لأنهما لم يكونا إلا في خلافة المهدي العباسي.

وقال نعيم بن حماد: حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا محمد بن إسحاق, عن أبي جعفر, عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مكة بعد ارتفاع الضحى, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته, ثم دخل المسجد, فبدأ بالحجر فاستلمه, وفاضت عيناه بالبكاء, ثم رمل ثلاثا، ومشى أربعا حتى فرغ، فلما فرغ قبل الحجر، ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه.

وفي رواية سنان بن أبي سنان، عن محمد بن علي بن حسين، عن جابر رضي الله عنه قال: حتى قدم مكة – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكان مدخله من قبل الأبطح من الثنية، ثم أقبل حتى أناخ على باب المسجد، والباب الذي يسميه الناس: باب بني شيبة، ثم مضى حتى يستقبل الكعبة، ثم حمد الله تعالى، وصلى على أبيه إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.

 

#518#

$[ما يقال عند رؤية البيت]$

وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت رفع يديه وقال ما خرجه الشافعي في "مسنده" فقال: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا».

هذا منقطع.

وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"، فقال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل من أهل الشام، عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وزد من حجه واعتمره تشريفا وتعظيما وتكبيرا وبرا».

هذا الرجل هو أبو سعيد عبد القدوس بن حبيب الكلاعي الشامي المتروك.

وقد صرح به فيما رواه عبد الرزاق بن همام في "جامعه"، فقال: أخبرنا الثوري، أخبرنا أبو سعيد – يعني عبد القدوس - أنه رأى مكحولا

 

#519#

يحدث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت كبر ورفع يديه ثم قال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام» ثم يقول: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، وزد من شرفه وكرمه ممن حجة واعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما».

وحدث به أبو الوليد الأزرقي في "أخبار مكة": عن جده، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: حدثت عن مكحول أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى البيت رفع يديه.. وذكر الحديث.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير": عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نظر [إلى] البيت، قال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا، وتعظيما، وتكريما، وبرا ومهابة».

وروى سفيان الثوري، عن حبيب، عن طاوس، قال: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم البيت رفع يديه فوقع زمام ناقته فأخذه بشماله ورفع يده اليمنى.

وخرجه عبد الرزاق في "جامعه" عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم البيت رفع يديه... وذكره فلم يذكر طاوسا.

 

#520#

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي قزعة الباهلي، عن مهاجر المكي، قال: سئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت؟ فقال: قد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نفعله.

وحدث به – أيضا – عن أبي أسامة، عن شعبة، عن أبي قزعة بنحوه.

وأبو قزعة اسمه: سويد بن حجير الباهلي البصري.

وفي بعض طرق هذا قال: قد حججنا مع رسول الله صلىالله عليه وسلم  فلم نكن نفعله.

 

#521#

$[ما يقال عند استلام الحجر الأسود]$

رجعنا إلى حديث جابر رضي الله عنه.

قال: حتى إذا أتينا البيت معه صلى الله عليه وسلم استلم الركن.

في لفظ عن جابر رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخل المسجد فاستلم الحجر.

وفي رواية سنان بن أبي سنان، عن محمد بن علي بن حسين، عن جابر رضي الله عنه قال: ثم مضى – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – إلى الركن الذي يليه الحجر، فاستلمه وكبر، ثم قال: «اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك» قال جابر: وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. ثم طاف سبوعا، وختم باستلام الحجر.

 

#522#

$[تحية المسجد الحرام]$

لم يركع النبي صلى الله عليه وسلم تحية المسجد، فإن تحية المسجد الحرام الطواف كما جاءت به الأحاديث:

قال يزيد بن هارون، أخبرنا القاسم بن أبي أيوب - يعني الأسدي الأعرج – عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله عز وجل {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} فالطواف قبل الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله عز وجل قد أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير».

وروى الحميدي المرفوع منه، فقال: حدثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الطواف بالبيت صلاة ولكن الله عز وجل أحل فيه المنطق، فمن نطق [فيه] فلا ينطق إلا بخير».

خرجه الدارمي في "مسنده" بنحوه، والبيهقي في "المعارف" للحميدي، وقال: رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه، وروي

 

#523#

عنه موقوفا، والموقوف أصح. انتهى.

وكان ابتداء فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد استلام الحجر، ثم الطواف كما صرح به جابر رضي الله عنه في حديثه هذا.

وروي عن ابن عمر، وعائشة، وغيرهما.

وحدث الشافعي: عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة لم يلو ولم يعرج حتى طاف بالبيت.

هذا مرسل.

 

#524#

$[صفة استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، وما يقال عنده]$

وأما صفة استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر: فورد فيه أحاديث كثيرة؛ منها ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت عمر رضي الله عنه قبل الحجر، وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك.

وخرج أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين في كتابه "الترغيب في فضائل الأعمال" من حديث عبد السلام بن صالح: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حججنا مع عمر رضي الله عنه أول حجة حجها من إمارته، فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر فقبله واستلمه، وقال: أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما قبلتك ولا استلمتك. فقال له علي رضي الله عنه: بلى يا أمير المؤمنين، إنه ليضر وينفع، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله عز وجل لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول، قال الله عز وجل: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} فلما أقروا أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق، ثم ألقمه في في

 

#525#

هذا الحجر وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان، فقال عمر رضي الله عنه: لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن.

وحدث به – أيضا – ابن شاهين: من طريق محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن أبي هارون، بنحوه.

وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند تقبيل الحجر ما قاله عمر.

قال سليمان بن بلال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عيسى بن طلحة، قال: حدثني رجل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف الركن، فقال: «والله إني لأعلم أنك حجر وما تضر ولا تنفع» ثم قبله، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فوقف عليه، فقال: والله [إني لأعلم] أنك حجر ما تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك [ثم قبله، ثم حج عمر رضي الله عنه فوقف عليه، فقال: والله إني أعلم أنك حجر ما تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك].

 

#526#

خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثنا خالد بن مخلد القطواني، حدثنا سليمان بن بلال .. فذكره.

وقال: حديث مديني صالح الإسناد، رواه سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عيسى بن طلحة، حدثني رجل، وهو إن كان لم يسم الرجل فعلى حال قد حسنه يقول: حدثني وبقوله إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر. ثم كانت الحكاية بعد عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يتبين في الحديث الذي ذكر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما الرجل الذي لم يسم عيسى بن طلحة.

وقال البيهقي في "المعارف": وروينا عن الزبير بن عربي أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.

وقال أيضا: وروينا عن نافع أنه رأى ابن عمر رضي الله عنهما استلم الحجر بيده وقبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.

وهو في "صحيح مسلم".

 

#527#

$[تقبيل الحجر أو مسحه أو الإشارة إليه]$

واستلام الحجر يصدق على تقبيله ومسحه والإشارة إليه بشيء كالمحيي أخاه بالإشارة، والأفعال الثلاثة جاء فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم: قبل الحجر مرة، ومرة مسحه بيده وقبله كما قدمناه من حديث عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، ومرة كان في طوافه كلما حازاه أشار إليه واستلمه بمحجنه كما روى أبو داود من حديث يزيد بن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة – وهو يشتكي – فطاف على راحلته كلما أتى الركن استلم الركن بمحجن .. الحديث.

وهو في "صحيح البخاري": من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر.

وفي "الصحيحين": من حديث ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. الحديث.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده": من حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، وجعل يستلم الحجر بمحجنه .. الحديث.

 

#528#

وله شاهد من حديث قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي وعائشة, وغيرهما.

وقال عباس بن محمد الدوري: حدثنا يونس بن محمد المؤدب, حدثنا محمد بن مهزم, عن معروف بن خربوذ, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً يستلم بمحجن ويقبل طرف المحجن, ويطوف بين الصفا والمروة على ناقته, والناس يزدحمون عليه, فقال الناس: ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا؛ فإن الناس يقتل بعضهم بعضاً عليه.

وحدث بنحوه أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي: عن هارون بن إسحاق, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثني جدي يزيد بن مملك, حدثني أبو الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجنه.

المحجن: عصاة في طرقها انعقاف, وهي كالصولجان يلتقط بها الراكب ما سقط منه.

 

#529#

$[وجود أخرى في استلام الحجر الأسود وتقبيله]$

وقد ورد حالة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم في استلام الحجر, وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر بعد طوافه أيضاً, ثم وضع يديه عليه, ومسح بهما وجهه, وقد تقدمت الرواية بذلك.

وورد حالة أخرى وهي ما قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, حدثنا جعفر بن عمارة بن ثوبان, قال: رأيت محمد بن عباد قبل الحجر وسجد عليه, فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت [عبد الله بن] عباس قبله وسجد عليه, وقال رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه, وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك.

 

#530#

وقال ابن السكن: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد الآدمي المقرئ البغدادي, حدثنا محمد بن عمر بن أبي مذعور, حدثنا أبو عاصم, حدثنا جعفر بن عبد الله الحميدي - رجل من يني حميد من قريش – قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر, ثم سجد عليه فقلت: ما هذا؟ فقال: رأيت خالك عبد الله بن عباس قبله ثم سجد عليه, ثم قال: رأيت عمر بن الخطاب قبله ثم سجد عليه, ثم قال: والله إني لأعلم أنك حجر, ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلته.

وقال البيهقي في "المعارف": ورويناه عن جعفر بن عبد الله القرشي, عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه رأى ابن عباس رضي الله عنهما قبله وسجد عليه, قال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه, ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا.

وخرجه الدارقطني في كتابه "الأفراد" من طريق أبي داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي, قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر الأسود وسجد عليه, ثم قال: إني رأيت خالد ابن عباس قبله وسجد عليه, وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه, وقال عمر حين قبله: إني لأقبلك وأنا أعلم أنك حجر, ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك.

تابعه أبو عاصم النبيل, عن جعفر.

 

#531#

قال الدارقطني: وهذا حديث غريب من حديث محمد بن عباد بن جعفر المخزومي, عن عبد الله بن عباس, عن عمر بن الخطاب.

تفرد به جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي عنه.

وخرجه الدارمي في "مسنده", والحاكم في "مستدركه" وقال صحيح الإسناد.

وخرجه البيهقي مرة من طريق الشافعي, عن مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن محمد بن عباد مختصراً موقوفاً لم يذكر فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك.

وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث ابن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي حسين, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع شفتيه على الحجر طويلاً يبكي.

قال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا أبو جعفر الدقيقي، حدثنا يعلى بن عبيد, عن محمد بن عون قال أبو سعيد: وهو الخراساني – عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الحجر واستلمه ووضع شفتيه عليه, فبكى بكاء طويلاً, ثم التفت

 

#532#

فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلفه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا حفص ههنا تسكب العبرات».

وخرجه الحاكم في "مستدركه" مصححاً له, وأنى له الصحة وفي إسناده محمد بن عون الخراساني المتروك!.

فهذه أحواله صلى الله عليه وسلم التي بلغتنا في استلام الحجر.

وروى أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد من حديث علي بن غراب, أخبرنا عبد الله بن مسلم بن هرمز, أخبرنا مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه.

علي بن غراب وشيخه عبد الله واهيان.

وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله.

وقد حدث به عبد الله بن مسلمة القعنبي, وأحمد بن محمد بن الوليد

 

#533#

الأزرقي, عن عيسى بن يونس السبيعي, حدثنا عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ويضع خده عليه.

وهذا المرسل أشبه, لكن حدث به عبد بن حميد في "مسنده" عن أبي نعيم, عن إسرائيل بن يونس, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد, عن ابن عباس كذلك.

وحدث به الدارقطني في "سننه": عن محمد بن مخلد, قال: حدثنا الرمادي, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا إسرائيل, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, ووكيع, قالا: حدثنا سفيان, عن إبراهيم بن عبد الأعلى, عن سويد بن

 

#534#

غفلة, عن عمر رضي الله عنه أنه قبل الحجر، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بك حفيا.

تابعه إسرائيل ومحمد بن طلحة وآخرون، عن إبراهيم نحوه.

ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع ولفظه عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر والتزمه، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بك حفيا.

وذكر أبو نعيم في "الحلية": أن وكيعاً تفرد به, عن الثوري, وليس كذلك, بل تابعه ابن مهدي كما تقدم.

وذكر أبو نعيم أن الحسين بن حفص رواه عن الثوري, عن رجل, عن إبراهيم: لما دخل القرامطة – لعنهم الله تعالى – إلى مكة – شرفها الله تعالى – سنة سبع عشرة وثلاثمائة, فقلعوا الحجر الأسود, وحملوه معهم إلى بلادهم الأحساء – وهي بالفتح والمد – مدينة بالبحرين, التي أول من عمرها وحصنها وجعلها قصبة هجر أبو طاهر القرمطي, ولم يزل عندهم, وبذل لهم ألوف كثيرة من الدنانير على أن يردوه فلم يفعلوا, وبقي عندهم إلى سنة خمس وثلاثين

 

#535#

وثلاثمائة, فتوسط الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي بين الخليفة المطيع لله أبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله وبينهم, إلى أن أجابوا إلى رده وجاءوا به إلى الكوفة وعلقوه على الإسطوانة السابعة من أساطين الجامع.

وقيل: إن بعض القرامطة – لعنهم الله – قال لرجل من أهل العلم بالكوفة وقد رآه بالجامع يتمسح به: ما يؤمنكم أن نكون غيبنا ذلك الحجر وجئنا بغيره, فقال له: إن لنا فيه علامة, وهو أنا إذا طرحناه في الماء لا يرسب, ثم جاء بماء فطرحوه فيه فطفا على وجهه.

والقرامطة منسوبون إلى رجل من سواد الكوفة يقال له: قرمط – بكسر القاف – وقيل حمدان بن قرمط.

 

#536#

$[ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من الأركان إلا اليمانيين]$

ولم يستلم صلى الله عليه وسلم [من الأركان] إلا اليمانيين.

صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين. مختصرا.

وفي لفظ: عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنه قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين.

وفي حديث عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر أنه قال: ما تركت استلام الركنين اليمانيين والحجر الأسود في شدة ولا زحام منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما.

الركنان اليمانيان: أحدهما الذي فيه الحجر الأسود, كما يقال له مع الركن, والثاني الذي بينهما الباب: العراقيان, ويقال للركنين الذين يليان الحجر: الشاميان, ولليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة: الغربيان.

 

#537#

ويدل على ما ذكرناه من أن الركنين اليمانيين أحدهما الذي فيه الحجر الأسود ما روي عن عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني.

وروى الشافعي من حديث موسى بن عبيدة الربذي, عن محمد بن كعب القرظي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يمسح على الركن اليماني والحجر, وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجوراً, وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

خرجه البيهقي في "المعارف" من طريق الشافعي, وقال: قال الشافعي: الذي فعل ابن عباس أحب إلي؛ لأنه كان يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وليس ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر يدل على أن منها مهجوراً, وكيف يهجر ما يطاف به, ولو كان ترك استلامهما هجراناً لهما, كان ترك استلام ما بين الأركان هجراناً لها.

وصح أن معاوية فعل كفعل ابن الزبير, كان يستلم الأركان كلها فاعترض عليه ابن عباس فقال: إنه لا يستلم هذان الركنان.

 

#538#

وفي لفظ قال له ابن عباس: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني والحجر.

وجاء عن عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ويقبله ويضع خده عليه.

قال ابن عباس: عند الركن اليماني ملك منذ خلق الله السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة يقول: آمين آمين, فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. خرجه ابن شاهين في كتابه "الترغيب".

وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا يونس بن محمد, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا ياسين الزيات, عن عبد الله بن حميد, عن إبراهيم النخعي, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت بالركن اليماني قط, إلا وجدت جبريل عليه السلام قائماً عنده».

وخرجه أيضاً من طريق يزيد بن أبي حكيم, عن الحكم بن أبان,

 

#539#

عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أتيت الركن اليماني قط, إلا وجدت جبريل قائماً عنده يقول: يا محمد استلم».

وخرج أبو نعيم في "الحلية" فقال: حدثنا أبو عمرو بن حمدان, حدثنا ابن شيرويه, حدثنا إسحاق بن راهويه, حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا المثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه قال: انطلقت مع عبد الله بن عمرو إلى البيت, فلما جئنا دبر الكعبة قلت له: ألا تتعوذ, فقال: أعوذ بالله من النار, ثم مضى حتى إذا استلم الحجر قام بين الركن والباب, فوضع صدره ووجهه, وبسط ذراعيه,, ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل.

وخرجه أبو داود وابن ماجه بنحوه.

 

#540#

$[الرمل في الطواف]$

قال جابر رضي الله عنه: فرمل ثلاثاًَ ومشى أربعاً.

وفي لفظ عن جابر قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر بثلاثة أشواط.

وفي رواية عن سفيان الثوري, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه, ثم مشى على يمينه, فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً .... الحديث.

خرجه مسلم والترمذي والنسائي.

وله شاهد من حديث ابن عمر وغيره.

وفي لفظ لابن عمر: أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع.

و"الرمل" و"الخبب": واحد, وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا دون الوثوب والعدو, ويقال له الهرولة, لكن قال الأزهري [في] الرمل في الطواف: وهو الجمن والإسراع, ولذلك قيل للخفيف من الشعر: رمل.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: ثم طاف – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – أسبوعاً وختم باستلام

 

#541#

الحجر, وتعوذ في الشوط السابع, ثم وقف حيال الباب من دبر الكعبة وألصق وجهه بالكعبة, ثم بسط يديه [عليها] ثم قال: «اللهم إن البيت بيتك, وأنا عبدك وهذا مقام العائذ بك من النار, اللهم من قبلك الروح والفرج».

 

#542#

$[الوضوء قبل الطواف]$

وكان صلى الله عليه وسلم قد توضأ قبل طوافه.

وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف .... الحديث.

 

#543#

$[الاضطباع في الطواف]$

وكان في طوافه قد اضطبع بردائه, وخرج الدارمي في "مسنده" من حديث عبد الحميد, عن ابن يعلى, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف مضطبعاً.

وخرجه الترمذي من حديث عبد الحميد ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعاً وعليه برد, وقال: هذا حديث حسن صحيح, وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة, عن ابن يعلى, عن أبيه وهو يعلى بن أمية.

وخرجه ابن ماجه.

وهو في "مسند أحمد" ولفظه عن يعلى قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعاً ببرد له حضرمي.

وخرجه أبو داود, عن يعلى قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر.

والاضطباع: جعل وسط الثوب تحت الإبط الأيمن وطرفيه على الكتف اليسرى.

 

#544#

وقال صاحب "المحكم": واضطبع بثوبه: أدخله من تحت يده اليمني فألقاه على منكبه الأيسر.

وفي "المجمل" نحوه.

 

#545#

$[دعاء الطواف]$

وكان صلى الله عليه وسلم يقول في طوافه ما بين الركنين. ما قال أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, عن يحيى بن عبيد, عن أبيه, عن عبد الله بن السائب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن والحجر: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

وخرجه أبو داود, عن مسدد, عن عيسى بن يونس, عن ابن جريج يسنده إلى عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الطواف ما بين الركنين: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

وفي لفظ لأبي داود أيضاً: بين الركن والمقام.

وخرجه النسائي ليحيى بن سعيد, عن ابن جريج وعنده: بين الركن اليماني والحجر.

وهذا اللفظ خرجه أبو حاتم ابن حبان.

ورواه أبو عبد الله – الحسين بن إسماعيل المحاملي – في كتاب "الدعاء" من حديث يحيى بن عبيد – مولى السائب – أن أباه أخبره,

 

#546#

أن عبد الله بن السائب أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والحجر الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

وخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم في "مستدركه".

ورواه الشافعي وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي, عن سعيد بن سالم القداح, عن ابن جريج, عن يحيى بن عبيد نحوه.

ورواه أبو عاصم الضحاك وعبد الرزاق, عن ابن جريج.

وحدث به المفضل بن محمد الجندي, عن علي بن زياد اللججي, حدثنا موسى بن طارق قال: ذكر ابن جريج قال: أخبرني يحيى بن عبيد ..... فذكره.

وقال أبو الوليد – محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي – في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان – هو ابن ساج – قال: وأخبرني ياسين قال: أخبرني أبو بكر بن محمد, عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالركن اليماني

 

#547#

قال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والذل والفقر, ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ....» وذكر بقيته.

وقال أيضاً: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن جعفر بن محمد, عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حاذى ميزاب الكعبة وهو في الطواف يقول: «اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب».

 

#548#

$[الشرب في الطواف]$

ويروى أنه صلى الله عليه وسلم شرب في الطواف, قال عباس بن محمد الدوري: حدثنا مالك بن إسماعيل, أخبرنا عبد السلام بن حرب, عن عاصم, عن الشعبي, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ماء في الطواف.

هذا حديث غريب لا يثبت, والصحيح المشهور حديث شعبة وسفيان الثوري والفزاري وغيرهم, عن عاصم, عن الشعبي, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم.

والحديث له طرق منها: أن هشيماً رواه أيضاً عن عاصم وتفرد [به] بروايته أيضاً عن المغيرة بن مقسم الضبي, كلاهما عن الشعبي.

وهذا الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم هو لقدومه, وهو طواف القدوم, ويقال له أيضاً: طواف القادم, والورود والوارد والتحية.

 

#549#

$[ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشياً أو راكباً]$

وقد اختلف في طوافه صلى الله عليه وسلم هذا, هل كان على قدميه أو كان راكباً.

ففي "صحيح مسلم" من حديث ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة؛ ليراه الناس؛ وليشرف, وليسألوه, فإن الناس غشوه.

وفيه أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.

وله شاهد من حديث ابن عباس وتقدم.

وذكر أبو عيسى الترمذي في "جامعه" بعد روايته حديث ابن عباس الذي قدمناه: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن, فقال: وفي الباب عن جابر وأبي الطفيل وأم سلمة.

قلت: وقدامة بن عبد الله الكلابي وعائشة وغيرهما.

خرج أبو محمد – دعلج بن أحمد بن دعلج – في كتابه "مسند

 

#550#

المقلين" من حديث عكرمة بن عمار, عن ضمضم بن جوس, عن عبد الله بن حنظلة ابن الراهب رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة, لا ضرب ولا طرد, ولا [إليك] إليك.

قال الشافعي فيما رواه عنه البيهقي في "المعارف": أما سبعه الذي طافه لمقدمه فعلى قدميه؛ لأن جابراً يحكي عنه فيه أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة, فلا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطواف ماشياً وراكباً في سبع واحد, وقد حفظ أن سبعه الذي ركب فيه في طوافه يوم النحر.

قال البيهقي – وذكر الحديث الذي أتاه أبو بكر [وأبو زكريا] وأبو سعيد – قال: وأخبرنا أبو العباس, أخبرنا الربيع, أخبرنا الشافعي, أخبرنا ابن عيينة, عن [ابن] طاوس, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهجروا بالإفاضة [وأفاض] في نسائه ليلاً على راحلته يستلم الركن بمحجنه, أحسبه قال: ويقبل طرف المحجن.

هذا مرسل.

 

#551#

قال البيهقي: والذي روي عنه أنه طاف بين الصفا والمروة راكباً, فإنما أراد – والله أعلم – في سعيه بعد طواف القدوم, وأما بعد طواف الإفاضة فلم يحفظ عنه أنه طاف بينهما.

والذي يدل عليه ما تقدم من الآثار أنه طاف طواف القدوم ماشياً، وسعى بين الصفا والمروة في بعض أعداده ماشياً, فلما كثر عليه الناس ركب في باقيه, ثم لما طاف طواف الإفاضة طاف بالبيت راكباً, والله أعلم.

 

#552#

$[صلاة ركعتي الطواف خلف المقام وما يقرأ فيهما]$

قال جابر رضي الله عنه: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت.

وفي رواية: فصلى ركعتين.

قراءته صلى الله عليه وسلم لهذه الآية الشريفة بياناَ لتفسيرها, وامتثالاً لأمر الله عز وجل بفعله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الصلاة هي ركعتا الطواف, جعل المقام بينه وبين البيت وصلاهما.

صح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً, وصلى خلف المقام ركعتين .... الحديث.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين, ولكن هذا في طوافه يوم النحر راكباً, والله أعلم, وتقدمت الإشارة إليه.

قال جعفر بن محمد راوي حديث جابر: فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفي رواية: ولا أعلمه ذكره عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم [أم لا] أنه كان يقرأ في الركعتين: {قل هو الله أحد}

 

#553#

و{قل يا أيها الكافرون}.

وفي رواية عن جعفر قال: أبي يقول: قرأ فيهما بالتوحيد: {قل يا أيها الكافرون}, {قل هو الله أحد}.

وروي عن مالك, عن جعفر, عن أبيه, عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند المقام ركعتين وقرأ فيهما فاتحة الكتاب و{قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.

وخرجه الترمذي من حديث عبد العزيز بن عمران, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.

ثم روى من حديث وكيع, عن سفيان, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أنه كان يستحب أن يقرأ في ركعتي الطواف بـ: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.

قال الترمذي: وهذا أصح من حديث عبد العزيز بن عمران, ثم ضعف عبد العزيز هذا.

قلت: والحديث عند وكيع أيضاً, عن موسى بن عبيدة, عن يعقوب بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.

 

#554#

حدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: فلما قضى أسبوعه – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – صلى خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم ركعتين, فقرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.

 

#555#

$[شرب ماء زمزم والدعاء عنده]$

ثم أتى زمرم فاستقى دلواً وهو مستقبل الكعبة, فلما وضع على فيه قال: »اللهم إني أسألك علماً نافعاً, ورزقاً واسعاً, وشفاء من كل سقم» ثم قال لأصحابه: «ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر».

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا, فلما انتهى إليه قال: «أبدأ بما بدأ الله تبارك وتعالى به».

ونحو هذا في حديث جابر من رواية حاتم بن إسماعيل التي جعلناها أصلاً في هذا الفصل.

وخرج الحافظ أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء" من حديث عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي: حدثنا الحارث بن عمران الجعفري, عن محمد بن سوقه, عن محمد بن المنكدر, عن جابر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام, وهو يدعو ويقول: اللهم اغفر لفلان ابن فلان, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟» قال: رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام, فقال: «ارجع فقد غفر لصاحبك».

كذا رواه عبد الرحمن, عن الحارث, عن محمد, عن محمد, عن جابر, وإنما يعرف من حديث الحارث, عن محمد, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قاله أبو نعيم.

 

#556#

$[الخروج من باب الصفا للسعي]$.

وخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا من بابه المعروف اليوم, وكان يقال له قديماً باب [بني] عدي بن كعب, ويقال له اليوم باب بني مخزوم: حدث أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي, عن الزنجي, عن ابن جريج قال: قال عطاء: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني مخزوم إلى الصفا.

وقال أبو الحسين بن جبير في "التذكرة": وباب الصفا يقابل الركن الأسود في البلاط الذي من الجنوب إلى الشرق, وفي وسط البلاط المقابل للباب ساريتان يقابلان الركن المذكور, فيهما نقوش: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين – أصلحه الله – بإقامة هاتين الأسطوانتين علماً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا ليتأس به حاج بيت الله وعماره. وذكر بقيته.

 

#557#

$[ما يقال عند الدنو من الصفا والمروة]$

قال جابر رضي الله عنه: فلما دنا – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} «أبدأ بما بدأ الله عز وجل به».

قراءته صلى الله عليه وسلم هذه الآية الشريفة عند دنوه من الصفا من قبيل قراءته صلى الله عليه وسلم عند المقام: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.

وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد, وهو يريد الصفا, فقال: «نبدأ بما بدأ الله به».

قال جابر: فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت, فاستقبل القبلة, فوحد الله عز وجل وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك, قال مثل هذا ثلاث مرات.

وفي رواية عنه لم يذكر فيها إلا التهليل الأخير إلى قوله: «وهزم الأحزاب وحده».

وفي رواية عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير» يصنع ذلك ثلاث مرات, ويدعو, ويصنع على المروة مثل ذلك.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن

 

#558#

جابر رضي الله عنه قال: وكان قيامه صلى الله عليه وسلم على الصفا قدر ما يقرأ الإنسان البقرة.

وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قام على الصدع الذي في الصفا, فقيل له: ها هنا يا أبا عبد الرحمن قال: هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.

خرجه البيهقي.

وهو في "معجم الطبراني الكبير" من حديث علي بن هاشم, عن إسماعيل بن مسلم, عن يزيد بن الوليد, عن إبراهيم, عن علقمة, عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.

 

#559#

$[السعي بين الصفا والمروة]$

قال جابر رضي الله عنه: ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا.

وفي رواية عنه [أنه صلى الله عليه وسلم] كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى.

وفي رواية: فرمل حتى يخرج منه.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: ثم هبط [رسول الله] صلى الله عليه وسلم, فمشى حتى بلغ المكان الذي يهبط فيه صدور قدميه, وترتفع فيه أعقابهما, فسعى سعياً وهو يقول: «الله أكبر, الله أكبر, اللهم اغفر وارحم, وتجاوز عما تعلم, إنك أنت الأعز الأكرم, لا إله إلا أنت» حتى بلغ المكان الذي ترتفع فيه صدور قدميه وتهبط فيه أعقابهما, فمشى مشياً, حتى أتى المروة فوقف عليها, كما وقف على الصفا, وقال كما قال على الصفا, حتى قضى سبعة أشواط.

 

#560#

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث عبد الوارث بن سعيد, حدثنا ابن أبي سليم, عن أبي إسحاق, عن علقمة, عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سعى في بطن المسيل قال: «اللهم اغفر وارحم, وأنت الأعز الأكرم».

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا ليث, تفرد به عبد الوارث.

وقال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: حدثنا محمد بن إدريس الشافعي, حدثنا عبد الله بن المؤمل, عن ابن محيص, عن عطاء بن أبي رباح, عن صفية بنت شيبة, عن حبيبة بنت أبي تجراة رضي الله عنها قالت: لما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى في بطن الوادي وهو يقول: «اسعوا فإن الله عز وجل قد كتب عليكم السعي» حتى إن ثوبه يديره من شدة السعي.

تابعه عبد الله بن نبيه, عن جدته صفية بنحوه.

وابن محيص هو عمر بن عبد الرحمن بن محيص.

 

#561#

ورواه عن ابن المؤمل: حميد بن عبد الرحمن, وسريج بن النعمان ومعاذ بن هانئ, ويونس بن محمد المؤدب وغيرهم.

ومنهم أبو نعيم الفضل بن دكين, فقال العباس بن محمد: حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الله بن المؤمل, عن عمر بن عبد الرحمن السهمي, عن حفصة بنت شيبة, عن حبيبة بنت أبي بجراة قال: قال عباس: هكذا قال أبو نعيم: بجراة, فقلت: تجراة, فقال: أما الذي أحفظ الساعة: بجراة امرأة من أهل اليمن, قالت: لما سعى النبي صلى الله عليه وسلم دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى في بطن الوادي وهو يقول: «اسعوا فإن الله عز وجل قد كتب عليكم السعي» حتى إن ثوبه يديره من شدة السعي.

تجراة بالمثناة من فوق, وما عداه تصحيف.

وحفصة في هذا السند وهم, وابن محيص عمر بن عبد الرحمن إنما رواه عن عطاء, عن صفية, كما مر آنفاً.

ورواه محمد بن بشر العبدي عن ابن المؤمل, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين, يعني النوفلي, عن عطاء عن حبيبة بنت أبي تجراة،, فلم يذكر صفية.

وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا أبو غسان, حدثنا إسرائيل, عن صالح

 

#562#

ابن رستم, عن هزيل, عن صفية [عن] أم ولد شيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى في الوادي, وسمعته يقول: «لا تقطع البطحاء إلا شدا».

تابعه هشام الدستوائي, عن بديل بن ميسرة العقيلي كذلك.

خالفهما حماد بن زيد, فرواه عن بديل, عن المغيرة بن حكيم, عن صفية, عن أم ولد شيبة.

وجاء عن منصور بن صفية, عن أمه, عن برة بنت أبي تجراة بنحوه.

وهو عند ابن المبارك, عن معروف بن مشكان, عن منصور بن عبد الرحمن, عن أمه صفية, عن نسوة من بني عبد الدار اللائي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... فذكره.

ورواه معمر, عن واصل مولى أبي عيينة, عن موسى بن عبيدة الربذي, عن صفية بنت شيبة, أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا».

ورواه موسى بن إسحاق, عن خالد بن يزيد العمري, عن خيرة بنت محمد السباعية, عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه.

 

#563#

وفي سند هذا الحديث اضطراب أيضاً سوى ما ذكرناه.

وقال مهران بن أبي عمر الرازي: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري, حدثنا المثنى بن الصباح, عن المغيرة بن حكيم, صفية بنت شيبة, عن تملك قالت: نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة وهو يقول: «أيها الناس إن الله عز وجل كتب عليكم السعي فاسعوا».

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو عبد الرحمن – عبد الله بن أبي زياد القطواني – حدثنا زيد بن الحباب, أخبرني حرب – أبو سفيان المنقري حدثني محمد بن علي أبو جعفر, حدثني عمي, عن أبي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة, في المسعى كاشفاً عن ثوبه, قد بلغ إلى ركبتيه.

 

#564#

وفي قول جابر رضي الله عنه: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى, حتى إذا صعدت مشى, وفي الرواية الأخرى: كان إذا نزل من الصفا مشى, حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى.

في هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشياً.

وخرج مسلم في "صحيحه" أيضاً: من حديث أبي الزبير, أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت, وبين الصفا والمروة؛ ليراه الناس, وليشرف لهم ويسألوه, فإن الناس غشوه.

وخرجه أحمد وأبو داود والنسائي, وتقدم بعض شواهده.

وظاهر هذا أن بين الروايتين تعارضاً, وليس كذلك, بل مشى في بعض أعداد سبوعه وركب في باقيها, كما تقدم من قول البيهقي رحمه الله تعالى, والأحاديث تشهد بصحة ذلك.

منها: ما خرج مسلم في "صحيحه" عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة, قال: صدقوا وكذبوا, قال: قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد صلى الله عليه وسلم, حتى خرج العواتق من البيوت, قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه, فلما أكثروا عليه ركب, والمشي والسعي أفضل.

 

#565#

وخرجه أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا سريج ويونس, قالا: حدثنا حماد – يعني ابن سلمة – عن أبي عاصم الغنوي, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بالبيت, وأن ذلك سنة .... الحديث, وفيه: قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة وأن ذلك سنة, قال: صدقوا, إن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي, فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام, ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة, فعرض له شيطان – قال يونس: الشيطان – فرماه بسبع حصيات, حتى ذهب, ثم عرض له عند الجمرة الوسطى, فرماه بسبع حصيات, قال: قد تله للجبين, قال يونس: ثم تله للجبين, وعلى إسماعيل قميص أبيض, وقال: يا أبه, إنه ليس لي ثوب تكفني فيه غيره, فاخلعه حتى تكفني فيه, فعالجه لخلعه, فنودي من خلفه: {إن يا إبراهيم . قد صدقتك الرؤيا} فالتفت إبراهيم, فإذا هو بكبش أبيض, أقرن أعين, قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش, قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى, فعرض له الشيطان, فرماه بسبع حصيات حتى ذهب, ثم ذهب به جبريل إلى منى, قال: هذا منى, قال يونس: هذا مناخ الناس. ثم أتى به جمعاً فقال: هذا المشعر الحرام, ثم ذهب به إلى عرفات.

قال ابن عباس: هل تدري لم سميت عرفة؟ قال: لا. قال: لإبراهيم عرفت, قال يونس: هل عرفت؟ قال: نعم, قال ابن عباس: فمن ثم سميت عرفة.

 

#566#

قال: هل تدري كيف كانت التلبية؟ قلت: فكيف كانت؟ قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن بالناس في الحج خفضت له الجبال رؤوسها, ورفعت له القرى, فأذن بالناس بالحج.

قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت, لم أسق الهدي, وجعلتها عمرة, فمن كان منكم ليس معه هدي, فليحل وليجعلها عمرة»: وفي رواية من حديث أبي شهاب, عن عطاء, عن جابر أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه, وقد أهلوا بالحج مفرداً, فقال لهم: «أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت, وبين الصفا والمروة, وقصروا, ثم أقيموا حلالاً, حتى إذا كان يوم التروية, فأهلوا بالحج, واجعلوا التي قدمتم بها متعة» فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: «افعلوا ما أمرتكم, فلولا أني سقت الهدي, لفعلت مثل الذي أمرتكم, ولكن لا يحل مني حرام, حتى يبلغ الهدي محله».

أبو شهاب هو موسى بن نافع الحناط الأكبر الهذلي. قال عثمان بن أبي شيبة: هو الأسدي, قال البخاري في "صحيحه": ليس له مسند إلا هذا. انتهى.

 

#567#

وله شاهد من حديث ابن عباس والبراء وأبي سعيد وأنس وأبي الربيع – سبرة الجهني – وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر رضي الله عنهم, وغيرهم.

قال أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا داود – يعني ابن رشيد – حدثنا أبو حفص – هو الأبار – عن منصور, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم, فطافوا بالبيت, وسعوا بين الصفا والمروة, وأمرهم أن يحلوا, قالوا: الإحلال كله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم» وإنهم تركوه, فدخل مغضباً علي فقلت: ما يغضبك يا رسول الله؟ قال: «إني آمرهم بالأمر, فيرددون فيه, ولو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت, لكنت رجلاً من القوم».

 

#568#

$[فسخ الحج إلى العمرة]$

وذكر الإمام أحمد أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أحد عشر من الصحابة.

وقيل: رواه أربعة عشر, وأحاديثهم صحيحة.

ومن ذلك: ما قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا وهيب, حدثنا أيوب, عن السدوسي, سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة مهلين بالحج, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة, إلا من كان معه الهدي, قال: فلبست القمص, وسطعت المجامر, ونكحت النساء.

 

#569#

$[دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمحلقين]$

وحينئذ دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً, وللمقصرين مرة, كما دعا لهم يوم الحديبية.

وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين».

رواه مالك, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال عبيد الله: حدثني نافع أنه قال في الرابعة: «والمقصرين» وفيه الدعاء لهم بالرحمة.

وفي حديث أبي هريرة الصحيح أيضاً أنه دعا لهم بالمغفرة, فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين؟ قالها ثلاثاً, قال: «والمقصرين».

 

#570#

وجاء [من] حديث أبي غسان, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين» قيل: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين» قال في الثالثة والرابعة: «وللمقصرين».

رواه قيس بن الربيع, عن أبي إسحاق مثله, قاله أبو نعيم في "معرفة الصحابة".

وثبت من حديث شعبة, عن يحيى بن الحصين, عن جدته رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثاً, وللمقصرين مرة [خرجه مسلم.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله, لم ظاهرت للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين] واحدة قال: «لأنهم لم يسألوا».

خرجه ابن ماجه.

قال جابر رضي الله عنه: فقام سراقة بن جعشم رضي الله عنه.

مما وقع منسوباً إلى جده؛ لأنه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي أبو سفيان من مشاهير الصحابة.

وقد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "التلقيح" في الباب الذي

 

#571#

ذكر فيه الأسماء المفردة, فعد اسمه فرداً, وليس كذلك, بل في الصحابة جماعة كل منهم اسمه سراقة, والعجب أن أبا الفرج – رحمه الله وإيانا – ذكر قبل ذلك فيمن اسمه سراقة من الصحابة سراقة بن مالك هذا مع ستة من الصحابة كل منهم اسمه سراقة, لكنه قلد غيره في ذلك حسبما ذكره أول الباب.

وسراقة بن مالك بن جعشم هذا كان ينزل قديداً, وقيل: إنه سكن مكة.

قال أبو عمر ابن عبد البر وغيره: مات في صدر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة أربع وعشرين. قال: وقيل: إنه مات بعد عثمان رضي الله عنهما.

روى له جماعة سوى مسلم, ولم يذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه "المدخل إلى معرفة رجال الصحيحين" فيوهم هذا أن البخاري لم يرو له شيئاً, وقد خرج له في الهجرة عن يحيى بن بكير, عن الليث عن عقيل, قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي, وهو ابن أخي سراقة بن جعشم, أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول: جاءنا رسل كفار قريش .... الحديث, وقد قدمناه في الهجرة, ولم يذكر الحاكم أيضاً عبد الرحمن بن مالك ولا أباه في "المدخل" المذكور, والله أعلم.

قال جابر رضي الله عنه فقال – يعني سراقة -: يا رسول الله ألعامنا هذا, أم

 

#572#

للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى فقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين مرتين, لا, بل لأبد أبد».

وفي رواية: «لا, بل لأبد أبد» مرتين كررها.

وفي رواية: «دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد».

وأما ما خرجه الإمام أحمد عن بلال بن الحارث المزني قلت: يا رسول الله, فسخ الحج لنا خاصة, أم للناس عامة, قال: «بل لنا خاصة».

 

#573#

فهذا حديث لا يثبت, قاله أحمد, وذكر أنه ليس يصح فيه حديث.

 

#574#

وروي عن أبي ذر موقوفاً.

 

#575#

وحديث بلال هذا أخرجه أبو داود, وغيره من الأحاديث يعارضه, وعامتها صحيحة.

قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة وهشام بن حجير سمعوا طاوساً يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة, ينتظر القضاء, فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة, فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي، أن يجعلها عمرة وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي, ولكن لبدت رأسي, وسقت هديي, فليس لي محل دون محل بدني» فقام إليه سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله, اقض لنا قضاء

 

#576#

قوم كأنما ولدوا اليوم, أعمرتنا هذه لعامنا هذا, أم للأبد؟ قال: «[لا] بل للأبد, دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

وقال الدارمي في "مسنده": أخبرنا جعفر بن عون, حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز, عن الربيع بن سبرة, أن أباه حدثه أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا عسفان, فقال له رجل من بني مدلج يقال له مالك بن سراقة أو سراقة بن مالك: اقض لنا قضاء قوم ولدوا اليوم, قال: «إن الله أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة, فإذا أنتم قدمتم فمن تطوف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل, إلا من كان معه هدي».

تابعه محمد بن بشر العبدي, حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ... فذكره بنحوه.

وخرجه أحمد في "مسنده" عن عبد الرزاق, عن معمر, عن عبد العزيز بن عمر.

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه":عن أبي نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان ... فذكره بنحوه.

 

#577#

$[النهي عن متعة النساء]$

وحدث به مطولاً منجاب بن الحارث, أخبرنا علي بن مسهر, عن عبد العزيز – يعني ابن عمر بن عبد العزيز, عن الربيع بن سبرة الجهني, عن أبيه: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, حتى إذا كانوا بعسفان، قام إليه رجل من بني مدلج بقاتل له سراقة ابن مالك – أو مالك بن سراقة - فقال: يا رسول الله، اقض لنا قضاء قوم كأننا ولدنا اليوم، فقال: «إن الله قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمرة فليحل، إلا من كان معه هدي».

قال: فلما أحللنا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذه النساء» - والاستمتاع عندنا التزويج – فذكرنا ذلك للنساء، فأبين إلا أن يضربن بيننا وبينهن أجلا، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «افعلوا» فغدوت أنا وابن عم لي، ومعه برد ومعي برد، وأنا أشب منه، وبرده أجود من بردي، فأتينا امرأة من أهل مكة، فعرضنا عليها ذلك، فأعجبها شبابي، وأعجبها برده، فقالت: برد كبرد، فكان الأجل بيني وبينها عشرة، فبت عندها تلك الليلة، ثم أصبحت، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بين الركن

 

#578#

والباب وهو يقول: «يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا».

والمحفوظ في قصة المتعة والبردين، أنها كانت في زمن فتح مكة، كما رواه عمارة بن غزية، واللفظ له، وعبد العزيز بن الربيع وسبرة كلاهما، عن الربيع بن سبرة أن أباه غزا مع رسول الله صلىه عليه وسلم     قال: فأقمنا به خمس عشرة ثلاثين بين يوم وليلة، فأذن لنا رسول الله صلىه عليه وسلم     في متعة النساء، وساق القصة بنحوها، وفي آخرها: فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلىالله عليه وسلم .

وحديث سبرة بن معبد الجهني المذكور قبل، وحديث جابر هذا، يفهم منهما أن سراقة سأله عن هذا مرتين؛ لأن رواية طاوس الأولى قال فيها: هو بين الصفا والمروة، وهذا الحديث: حتى بلغوا عسفان، فقال له رجل من بني مدلج.. وذكره.

 

#579#

$[كم وقع الأمر بفسخ الحج إلى العمرة]$

والأمر بفسخ الحج إلى العمرة وقع ثلاث مرار:

المرة الأولى على التخيير بين الأنساك الثلاثة.

صح عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلىالله عليه وسلم  فقال: «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» قالت عائشة رضي الله عنها: وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة.

خرجه مسلم والحميدي في "مسنده" وهو في "صحيح البخاري" بنحوه.

والمرة الثانية بسرف وهي فوق رتبة التخيير في الأولى.

روى سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، لا نرى إلا أنه الحج، فلما كنا بسرف أو قريبا منها، مر النبي صلىالله عليه وسلم  من لم يكن معه هدي يجعلها عمرة .. الحديث.

 

#580#

وحدث به سفيان أيضا: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة [رضي الله عنها] نحوه أيضا: حتى إذا كنا بسرف، أو قريبا منها.

وهذه اللفظة تعضد أن سؤال سراقة للنبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان مرتين؛ لأن عسفان قربية من سرف، بينهما نحو ثلاثة برد ونيف.

والمرة الثالثة: أمرهم بذلك أمرا حتما، كما تقدم.

 

#581#

$[قدوم علي ببدن النبي صلى الله عليه وسلم]$

قال جابر رضي الله عنه: وقدم علي رضي الله عنه ببدن النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر ابن إسحاق أن عليا رضي الله عنه لما أقبل من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعهد ذلك الرجل، فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، فقال: ويلك، ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك، قبل أن ينتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله».

قال جابر: فوجد – يعني عليا - فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثيابا

 

#582#

صبيغا – وفي رواية: ثياب صبيغ – واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا - وفي رواية: أحرشه على فاطمة – للذي صنعت، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت».

وفي رواية سنان بن أبي سنان، عن محمد بن علي بن حسين، عن جابر رضي الله عنه قال: وأقبل علي رضي الله عنه من اليمن معه هدي قد ساقه للنبي صلى الله عليه وسلم وساق النبي صلىالله عليه وسلم  معه هديا من المدينة، قال: فدخل على فاطمة عليها السلام، حين قدم، فوجد عليها [ثيابا] صبيغا، فقال: ألم تكونوا حجاجا؟ قالت: بلي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحل، فأتى رسول الله فذكر ذلك له، فقال: «نعم، أنا أمرتهم أن يحلوا إلا من كان معه هدي».

وقال أبو الحسن الدارقطني: حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن أسد الهروي، حدثني جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا حجاج بن محمد، حدثني يونس بن أبي إسحاق، [عن أبي إسحاق]، عن البراء، حدثني علي بن أبي طالب أن فاطمة عليها السلام أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تحل، فحلت ونضحت البيت

 

#583#

بنضوح.

قال جعفر: كان أحمد بن حنبل قال لي: أيش عند صاحبك عن حجاج، فذكرت له هذا الحديث، فقال: وددت أني سمعته من حجاج بأربعمائة من حديثه.

تفرد به حجاج، عن يونس، ويونس عن أبيه، فيما ذكره الدارقطني في كتابه "الأفراد".

ففاطمة رضوان الله عليها ممن حل.

وكذلك نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله عنها، فإنها لم تحل؛ لتعذر الحل عليها بحيضها.

 

#584#

$[تعذر الحل على عائشة لعذرها]$

ثبت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، فقدمنا مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل، حتى يحل بنحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه»، قالت: فحضت، فلم أزل حائضا، حتى كان يوم عرفة .. الحديث.

ويفسره ما روى الليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: قلنا: حل ماذا؟ قال: «الحل كله» قال: فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال: «وما شأنك؟» فقالت: شأني أني فد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج» ففعلت، ووقفت المواسم، حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي

 

#585#

أني لم أطف بالبيت حتى حججت، فقال: «اذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم»، وذلك ليلة الحصبة.

خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث الليث.

ورواه مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء، عن أبي الزبير نحوه، وزاد فيه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً, إذا هويت شيئاً تابعها.

قال جابر رضي الله عنه: يعني: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «ماذا قلت حين فرضت الحج؟» قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «فإن معي الهدي فلا تحل»:

وروى ابن جريج قال عطاء: قال جابر رضي الله عنه: أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن يقيم على إحرامه.

وصح من حديث سليم بن حيان: سمعت مروان الأصفر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم علي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن, فقال: «بم أهللت؟» قال: بما أهلَّ به النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «لولا أني معي الهدي لأحللت».

قال جابر رضي الله عنه: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي رضي الله عنه من اليمن, والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة.

قال: فحلَّ الناس كلهم وقصروا, إلا النبي صلىالله عليه وسلم  ومن كان معه هدي.

 

#586#

صح عن مالك, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما, عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله, ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟

قال: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي, فلا أحل حتى أنحر».

أكثر الناس كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم هدي وكانت معهم فاطمة وحفصة وسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم, والنبي صلى الله عليه وسلم كان معه الهدي, فلم يحل, وكذلك من كان كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير رضي الله عنهم لم يحلوا من أجل الهدي.==

الجزء السادس / ج6.......

 [منزل النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لما قضى طوافه وسعيه]

قال جابر رضي الله عنه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى.

لم يذكر في حديث جابر أين نزل النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لما قضى طوافه وسعيه.

وقد روي عن أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله, (ألا تنزل بيوت مكة, فأبى ذلك واضطرب بالأبطح قبة ولم يدخل بيتاً, ولم يظله.

وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد: ثم سعى – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك, وكان قد اضطرب بالأبطح فرجع إلى منزله.

وثبت عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء, فقال: «بم أهللت؟» قلت: بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «هل سقتَ مِن هَدْي؟» قلت: لا، قال: «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ» فطفت بالبيت وبالصفا والمروة, ثم أتيت امرأة من قومي، فمشطتني وغسلت رأسي - الحديث.

 

#6#

وعن ابن أبي جُحَيفة, عن أبيه رضي الله [عنه] قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم, قال: فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح ونائل, قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه .... الحديث بطوله.

قال ابن حزم: وأقام صلى الله عليه وسلم يوم الأحد المذكور – يعني يوم دخوله مكة – والإثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس, وهو يوم التروية. انتهى.

وفي يوم من تلك الأيام التي أقام صلى الله عليه وسلم فيها بمكة عاد – فيما ذكره بعضهم – سعد بن أبي وقاص من وجع أشفى منه على الموت, واستأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية بماله.

صح من حديث يحيى بن قزعة, حدثنا إبراهيم, عن الزهري, عن عامر بن سعد بن مالك, عن أبيه قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع

 

#7#

– يعني من وجع أشفيت منه على الموت – فقلت: يا رسول الله, بلغ بي من الوجع ما ترى, وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة, أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: «الثلث يا سعد, والثلث كثير, وإنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس, ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه الله, إلا آجرك الله بها, حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك» قلت: يا رسول الله, أخلف بعد أصحابي، فقال: «إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله, إلا ازددت درجة ورفعة, ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام, ويضر بك آخرون».

الحديث متفق عليه من حديث الزهري, ورواه عنه جماعة: منهم مالك, وعبد العزيز بن أبي سلمة, ويونس, ومعمر, فكلهم قالوا في حديثهم: عام حجة الوداع.

وقال أبو مسلم عبد الله بن وهب القرشي في "مسنده": حدثني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس, ويونس بن يزيد أن ابن شهاب

 

#8#

حدثهم, عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أخبره, عن سعد بن أبي وقاص, قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من وجع اشتد بي, قال: قلت: يا رسول الله, قد بلغ بي من الوجع ما ترى, وأنا ذو مال ... وذكر الحديث, وهو أول حديث في "المسند".

وقد خالفهم ابن عيينة, فقال فيما رواه ابن أبي عمر عنه, عن الزهري, عن عامر بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه رضي الله عنه قال: مرضت عام الفتح مرضاً أشفيت منه على الموت ... وذكر الحديث.

تابعه زكريا بن يحيى المروزي, عن سفيان كذلك.

وحدث به الحميدي, عن سفيان, فلم يذكر وقتاً, إلا أن في روايته قال: مرضت بمكة مرضاً أشفيت منه على الموت.

 

#9#

ورواه محمد بن كثير, عن سفيان, عن سعد بن إبراهيم, عن عامر بن سعد, عن سعد رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض بمكة, فقلت: لي مال أوصي بمالي كله .... الحديث.

تابعه أبو نعيم الفضل بن دكين, عن سفيان ورواه أبو داود الحفري - عمر بن سعد - عن سفيان, عن سعد بن إبراهيم, عن عامر بن سعد, عن سعد قال: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ... : وذكر الحديث, ولم يذكر مكاناً ولا زماناً.

وكذلك جاء في رواية زائدة, عن عبد الملك بن عمير, عن مصعب بن سعد, عن سعد قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أوصي بمالي كله؟ فقال «لا» .... الحديث.

تابعه كذلك سماك بن حرب, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: مرضت, فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت, فأبى, قلت: فالنصف, فأبى .... الحديث.

والصحيح إن شاء الله تعالى في هذه القصة أنها كانت بمكة عام حجة الوداع, كما بين في طرق للحديث ونسب الأئمة سفيان إلى الوهم في روايته أن القصة كانت زمن الفتح.

 

#10#

وللحديث طرق غير ما تقدم.

منها: ما حدث به أيوب بن أبي تميمة السختياني, عن عمرو بن سعيد, عن حميد بن عبد الرحمن الحميري, عن ثلاثة من ولد سعد, كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة ... الحديث.

ورواه المكي بن إبراهيم, عن الجعيد, عن عائشة بنت سعد, عن أبيها قال: اشتكيت بمكة ..... الحديث.

وجزم بأن هذه القصة كانت في حجة الوداع جماعة منهم: الواقدي في "تاريخه" الذي رواه عنه ابنه محمد, وكاتبه محمد بن سعد, ومحمد بن السائب الكلبي.

وحدث الواقدي عن سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني, فوضع يده بين ثديي, فوجدت بردها على فؤادي,

 

#11#

فقال: «إنك رجل مفئود, فأت الحارث بن كلدة أخا ثقيف, فإنه رجل يتطبب, فمره فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن، ثم ليدلك بهن».

وحدث به أبو بكر بن السني في كتابه "رياضة المتعلمين" عن أبي عروبة, حدثنا عمرو بن هشام, حدثنا سفيان [عن] ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: قال سعد بن أبي وقاص: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يعودني, فوضع يده على بدني, فوجدت بردها في فؤادي, فقال «إنك رجل مفئود, فأت الحارث بن كلدة, فإنه رجل يتطبب».

ورواه الحافظ أبو نعيم في كتابه "الطب" فقال: حدثنا محمد بن [أحمد بن] حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا سفيان ... فذكره كذلك.

وحدث به أيضاً في الكتاب مرة أخرى بهذا الإسناد مطولاً, كرواية الواقدي.

وروينا من حديث أبي أحمد بشر بن مطر الواسطي, حدثنا سفيان بن عيينة ... فذكره بنحوه.

 

#12#

وخرج أبو نعيم في كتاب "الطب" من طريق محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه قال: مرض سعد بن أبي وقاص, وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أراني إلا لما بي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن يشفيك الله, حتى يضر بك قوماً, وينفع بك آخرين» ثم قال للحارث بن كلدة الثقفي: «عالج سعداً مما به» قال: «والله إني لأرجو أن يكون شفاؤه مما معه في رحله, هل معكم من هذه التمرة العجوة شيء؟» قالوا: نعم, قال: فصنع له الفريقة, خلط له التمر بالحلبة, ثم أوسعها سمناً, ثم أحساها إياه, فكأنما نشط من عقال.

تابعه سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق, عن إسماعيل بن

 

#13#

محمد بن سعد, عن أبيه, عن سعد أنه مرض بمكة, فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أدعوا له طبيباً», فدعا له الحارث بن كلدة الثقفي, فنظر إليه, فقال: ليس عليه بأس, فاتخذوا له فريقة بشيء من تمر – عجوة وحلبة يطبخان – فتحساها, فبرأ.

الفريقة: تمر يطبخ بأشياء للمداواة, قاله الزبيدي, وهو بفتح الفاء وكسر الراء وإسكان الياء آخر الحروف, وفتح القاف بعدها هاء الثأنيث, والله تعالى أعلم.

وذكر ابن الكلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعداً دعا له الحارث بن كلدة الثقفي, وكان متطبباً, فلما أن نظر إليه قال: إني لأظن شفاءه بعض زاده، فاطلبوا له تمر عجوة, فأتوا بها, فجعل منها دواء, فسقاه فبرأ, قال: وخرج سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: يحتمل قوله: وخرج سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون خرج معه لما انصرف من حجه متوجهاً إلى المدينة, ويحتمل أن يكون خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم التروية متوجهين إلى منى, والله أعلم.

وقبل يوم التروية بيوم – وهو السابع من ذي الحجة – خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس, وأخبرهم بمناسكهم.

روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل يوم التروية بيوم, وأخبرهم مناسكهم. خرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد.

 

#14#

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني هشام بن عمارة, عن عبد الرحمن بن أبي سعيد, عن عمارة بن حارثة, عن عمرو بن يثربي الضمري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر, ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة والغد من يوم النحر بعد الظهر.

وكان توجهه صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الخميس ضحى, وقيل بعد الزوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية كان قد صلى بمنزله الذي أقام فيه بالمسلمين بظاهر مكة أربعة أيام, يقصر الصلاة, أولها يوم الأحد.

وقال أبو محمد بن حزم في كتابه "سيرة حجة الوداع": ولما ذكرنا أيضاً من أن يوم عرفة كان في ذلك الشهر يوم الجمعة, وكان نهوضه صلى الله عليه وسلم إلى منى بلا خلاف قبل يوم عرفة بليلة واحدة, فكان إذا يوم الخميس بلا شك. انتهى.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا موسى بن إسماعيل, حدثنا الوليد بن مسلم, عن عثمان بن أبي العاتكة, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة, عمن أبصر النبي صلى الله عليه وسلم سائراً إلى منى, وبيد بلال عود عليه ثوب أو شيء يظله من الشمس, كان هذا يوم التروية, والله أعلم.

 

#15#

ويوم التروية هو اليوم الثامن من عشر ذي الحجة.

قال الزهري: سمي يوم التروية؛ لأنهم كانوا يتروون من الماء, فإن عرفات لم يكن بها ماء.

وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمي بذلك؛ لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأى ليلة التروية في منامه الأمر بذبح ابنه, فلما أصبح روّى يومه أجمع, أي فكر في أمر الرؤيا, أمن الله أو من الشيطان, فسمي بذلك.

واليوم السابع قبله يسمى يوم الزينة.

ومنى على طريق عرفات من مكة, وهي شعب طوله دون الميلين, وعرضه دون رمية السهم, وهي عن مكة فرسخ, وفي نسختي بـ "الإيضاح" لأبي زكريا النواوي رحمة الله عليه, وهي نسخة معتمدة بخط أبي عبد الله محمد بن سامة, وقوبلت على أصل المصنف, وتداولها المحدثون, وقع فيها قوله: "واعلم أن بين مكة ومنى فرسخين. لكن كانت بخط كاتبها: فرسخاً, فأصلحت: فرسخين, وصحح فوقها, وفي هذا الإصلاح والتصحيح نظر, فإن مسافة ما بين مكة ومنى قد رأيناها ولله الحمد, وربما هي دون فرسخ الذي هو ثلاثة أميال, والله أعلم.

قال مصنف كتاب "صورة الأرض": وبينه – أي بين مكة ومنى – ثلاثة أميال.

وهكذا ذكره ياقوت الحموي في "المشترك".

 

#16#

ومنى ذكر, قاله ابن السراج اللغوي, فيصرف حينئذ.

قال أبو دهبل الجمحي في تذكيره:

سقى منى ثم رواه وساكنه ... ومن ثوى فيه واهي الودق منبعق.

وقد يؤنث فيمنع – يعني الصرف – أنشد البكري للعرجي:

ليؤمنا بمنى إذ نحن ننزلها ... أشد من يومنا بالعرج أو ملل

وقال أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث": وقال الفراء: الغالب على منى التذكير والإجراء.

قال جابر رضي الله عنه: فأهلوا بالحج.

وفي رواية فأهللنا بالحج, فهذه الرواية الثانية توضح أن جابراً رضي الله عنه كان ممن لم يكن معه هدي, وكان حلالاً فأهل مع الناس بالحج.

ويعضده ما خرجه البخاري في "صحيحه" تعليقاً من حديث عطاء, عن جابر رضي الله عنه قال: قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فأحللنا يوم التروية, وجعلنا مكة بظهر, لبينا بالحج. وقال أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه: أهللنا من البطحاء.

 

#17#

وهي مسافة ما بين المحصب ومكة, قال البكري: وليس الصفا منها.

وذكر ياقوت في "معجم البلدان" أن الأبطح يضاف إلى مكة, وإلى منى؛ لأن مسافته منهما واحدة, وربما كان إلى منى أقرب, وهو المحصب, وهي خيف بني كنانة.

قال جابر رضي الله عنه: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها.

وفي رواية: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.

وفي رواية: والصبح بدل الفجر.

ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس, وأمر بقبة من شعر تضرب.

وفي رواية فضربت له بنمرة.

نمرة: الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف, قاله الأزرقي وغيره.

قال ابن القيم: وهي قرية شرقي عرفات, وهي خراب اليوم.

وخرج الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى بنا رسول الله صلىالله عليه وسلم  بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم غدا إلى عرفات.

 

#18#

وخرج أبو داود نحوه.

وهو في "معجم الطبراني الأوسط": من حديث عبثر بن القاسم, عن الأعمش, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم التروية بمنى الظهر والعصر.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا عبثر.

قلت: وأبو إسحاق الفزاري, فيما رواه أبو حفص – عمر بن الحسن بن نصر القاضي – حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله, حدثنا أبو إسحاق الفزاري, عن الأعمش ... فذكره.

وخرجه أبو داود عن الأعمش, عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول [الله] صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية, والفجر يوم عرفة بمنى.

 

#19#

وخرجه الترمذي للأعمش بمعناه, وقال: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أشياء, وعدها, وقال: ليس هذا الحديث مما عده شعبة فيما سمعه الحكم من مقسم. انتهى.

فعلى هذا يكون الحديث منقطعاً, والله أعلم.

وقال الشافعي – فيما حكاه عنه البيهقي في "المعارف" -: راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم التروية بعد الزوال إلى منى, فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح, ثم غدا إلى عرفة, فقائل يقول: حين طلعت الشمس على ثبير, وقائل يقول: حين أسفر.

ثبير: جبل عظيم بالمزدلفة, مشرف على الجبال التي حوله, على يسار الذاهب إلى منى.

وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم تلك قصراً.

صح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين.

وقال حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط, وآمنه بمنى ركعتين.

 

#20#

وله شاهد من حديث أنس وابن مسعود.

 

#21#

$[أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحية في مسجد الخيف]$

وقال ابن جريج: حدثنا أبو الزبير أن مجاهداً أخبره أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود حدث عن أبيه قال: بينما نحن في مسجد الخيف ليلة عرفة التي قبل يوم عرفة, إذ سمعنا حس الحية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فدخلت في شق حجر, فأتى بسعفة, فأضرم فيها ناراً, فأدخلنا عوداً, فقلعنا عنها بعض الحجر, فلم نجدها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دعوها, فقد وقاها الله شركم, ووقاكم شرها».

والحديث مخرج في "الصحيحين" من حديث الأعمش, حدثني إبراهيم, عن الأسود, عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينا نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى, إذ نزلت عليه: {والمرسلات} وإنه ليتلوها, وإني لأتلقاها من فيه, وإن فاه لرطب بها, إذ وثبت علينا حية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها, فذهبت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقيت شركم, كما وقيتم شرها».

 

#22#

رواه عن الأعمش: جرير, وحفص بن غياث, وسليمان بن قرم, وأبو معاوية محمد بن خازم.

تابعه عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه.

وهو عند الأعمش أيضاً, عن إبراهيم, عن علقمة بن قيس, عن ابن مسعود.

تابعه منصور, عن إبراهيم, رواه إسرائيل عن الأعمش ومنصور.

قال مسدد: حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, حدثني أبو الزبير أن مجاهداً أخبره أن أبا عبيدة بن عبد الله أخبره, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ح.

وقال خلف بن سالم: حدثنا يحيى, عن ابن جريج, أخبرني أبو الزبير, عن مجاهد, عن أبي عبيدة, عن أبيه كلاهما قال: قال: بينما نحن في مسجد الخيف ليلة عرفة التي قبل يوم عرفة, إذ سمعنا حس الحية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا» فدخلت في شق حجر, فأتي بسعفة, فأضرم فيها نار, وأدخلنا عوداً, فقلعنا عنها بعض الحجر, فلم نجدها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها, فقد وقاها شركم ووقاكم شرها».

 

#23#

وقال خلف: «فقد وقاها الله شركم, كما وقاكم شرها», وقال أحدهما: فأتي بسعفة, فأضرم فيها ناراً.

وحدث به النسائي عن عمرو بن علي, عن يحيى بنحوه.

ورواه عبد الله بن إدريس, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن مجاهد, عن أبي عبيدة بن عبد الله, عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف ... وذكر مثله.

حدث به يعقوب بن شيبة في "مسنده" عن الثلاثة كذلك, وقال: قال ابن المديني: إسناده ليس بالمتصل؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.

وحدث به يعقوب أيضاً في "المسند": عن محمد بن عبد الله بن نمير, حدثنا حفص بن غياث, حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ليلة عرفة, فخرجت حية فقال: «اقتلوا, اقتلوا» فسبقتنا.

خرجه البخاري من طريق حفص وأبي معاوية, وسليمان بن قرم وجرير عن الأعمش.

ورواه مسلم من طريق حفص وجرير, وأبي معاوية.

 

#24#

تابعهم زيد بن أبي أنيسة, عن الأعمش.

(م) حدثنا أبو كريب, حدثنا حفص, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن ابن مسعود وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل حية بمنى: ح.

 

#25#

$[نزول المرسلات على النبي صلى الله عليه وسلم]$

حدثنا محمود, حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه: {والمرسلات} .... الحديث.

حدثنا عبدة بن عبد الله, حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن منصور بهذا.

تابعه أحمد بن سليمان, عن يحيى بن آدم.

وهو عند إسرائيل عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله مثله.

وتابعه أسود بن عامر, عن إسرائيل.

وقال حفص وأبو معاوية وسليمان بن قرم, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود.

وقال يحيى بن حماد: وأخبرنا أبو عوانة, عن مغيرة, عن إبراهيم,

 

#26#

عن علقمة, عن عبد الله.

وقال ابن إسحاق: عن عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه, عن عبد الله.

حدثنا قتيبة, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, قال: قال عبد الله: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار إذ نزلت والمرسلات فتلقيناها من فيه, وإن فاه لرطب بها .... الحديث.

ورواه المسعودي, عن الأعمش, عن أبي وائل, عن عبد الله.

ورواه عبد الله بن إدريس, عن الأعمش, عن أبي رزين, عن زر بن حبيش, عن عبد الله.

وكذلك رواه جرير أيضاً, عن الأعمش.

ورواه عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي, عن أبيه, عن ابن مسعود, علقه البخاري عنه.

(م) حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم, عن أبي معاوية, وحدثنا قتيبة, وعثمان, عن جرير, وحدثنا عمر بن حفص, حدثنا أبي, كلهم عن الأعمش .... فذكره بنحوه.

 

#27#

رواه خلف بن سالم, وزهير بن حرب, عن جرير, ومحمد بن عبد الله بن نمير, عن أبي معاوية.

وحدث به خلف بن سالم, عن يحيى بن آدم, أخبرنا إسرائيل, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله.

ورواه الأسود بن عامر, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله.

تابعه شيبان, عن منصور.

قال كاتبه: هذه ملحقة وأثبتها في الأصل, غير مخرج لها, وغير مصحح عليها.

 

#28#

$[صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عنزة]$

قال محمد بن عبد الله الشافعي: حدثني محمد بن خالد الآجري, حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني: أخبرنا شريك, عن عبد الله, عن أبي إسحاق, عن أبي جحيفة قال: أمنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى, فركز عنزة, فصلى إليها.

 

#29#

$[من صلى في رحله ثم أتى مسجد جماعة فليصل معهم]$

وقال الترمذي في "جامعه": حدثنا أحمد بن منيع, حدثنا هشيم, أخبرنا يعلى بن عطاء, حدثنا جابر بن يزيد بن الأسود, عن أبيه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجه, فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف, فلما قضى صلاته وانحرف, إذا هو برجلين في القوم لم يصليا معه, فقال: «علي بهما‌» فجيء بهما ترعد فرائصهما, فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله, إنا قد كنا صلينا في رحالنا قال: «فلا تفعلا, إذا صليتما في رحالكما, ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم, فإنها لكما نافلة».

حديث حسن صحيح, قاله الترمذي.

وخرجه أبو حاتم – محمد بن حبان – في "صحيحه" لهشيم, وسيأتي إن شاء الله تعالى.

تابعه حماد بن سلمة وشعبة وسعيد بن زيد وسفيان وهشام بن حسان وأبو عوانة عن يعلى.

 

#30#

وقال أحمد بن الوليد الفحام: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا شعبة, أخبرني يعلى بن عطاء, سمعت جابر بن يزيد, عن الأسود السوائي يحدث, عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح, فإذا رجلان قاعدان حين صلى النبي صلى الله عليهوسلم  في ناحية المسجد, ولم يصليا, فدعا بهما, فجيء بهما ترتعد فرائصهما. ... وذكر الحديث.

وزاد غير مسلم: ثم قال الناس يأخذون بيده صلى الله عليه وسلم يمسحون بها وجوههم, قال: فأخذت بيده صلى الله عليه وسلم, فمسحت بها وجهي, فوجدتها أبرد من الثلج وأطيب ريحاً من المسك.

وقد تقدم مختصراً دون القصة من رواية البخاري في "تاريخه الكبير".

وقال يحيى بن عبد الحميد: حدثنا شريك, عن يعلى, عن عطاء, عن جابر بن يزيد, عن أبيه أن أحد الرجلين اللذين صليا في رحالهما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: استغفر لي. قال: «غفر الله لكما» وأخذ بيده فوضعها على صدره, فوجدت بردها في ظهري, قال: فما شممت ريحاً قط أطيب من يده صلى الله عليه وسلم, ولقد كانت يده أبرد من الثلج.

 

#31#

والحديث من الأفراد, فذكر البيهقي في كتابه "المعارف" أن يزيد بن الأسود ليس له [راو] غير ابنه, ولا لجابر بن يزيد راو غير يعلى بن عطاء, ويعلى بن عطاء لم يحتج به بعض الحفاظ, وكان يحيى بن معين وجماعة من الأئمة يوثقونه, انتهى قول البيهقي.

وعن يعلى اشتهر الحديث فرواه هشيم, كما قدمناه, وتابعه سفيان الثوري وشعبة وهشام بن حسان وحماد بن سلمة وغيرهم, فرووه عن يعلى نحوه.

والحديث عند أبي داود في "سننه" من طريق شعبة, عن يعلى, وهو طائفي نزل واسط, ومات بها سنة عشرين ومائة.

ورواه أبو غسان نصر بن منصور البصري – وكان صاحب سنة, مات يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة إحدى وستين ومائتين – فقال: حدثنا أبو النعمان, حدثنا سعيد بن زيد, عن يعلى بن عطاء ... فذكره [بنحوه].

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه, حدثنا أبي, حدثنا أبو خالد الأحمر – سليمان بن حيان – ح.

 

#32#

وحدثنا القاسم بن زكريا, حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو خالد الأحمر, عن حجاج, عن يعلى بن عطاء, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين في مسجد الخيف, في أخريات الناس, فأمر بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما, فقال: «ما منعكما من الصلاة معنا؟» قالا: صلينا في رحالنا, قال: «أفلا صليتم معنا فتكون تطوعاً, وصلاتكم الأولى هي الفريضة».

هكذا رواه الحجاج, عن يعلى بن عطاء, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو, وخالف الناس في إسناده.

ورواه شعبة وأبو عوانة وهشيم وإبراهيم بن ذي حماية والثوري وهشام بن حسان, عن يعلى بن عطاء, عن جابر بن يزيد بن الأسود السوائي, عن أبيه.

قال الطبراني: وهذان الرجلان هما أبو الخريف وأخوه.

قال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي: حدثنا أبو

 

#33#

الأشعث, حدثنا محمد بن بكر, حدثنا عمر بن قيس, عن صعصعة بن أبي الخريف سمعت أبي يحدث عن جدي قال: أقبلت أنا وأخي والنبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بالخيف من منى في صلاة الغداة, وقد صلينا الصبح في منازلنا, فتخلفنا حتى فرغ من صلاته, فلما انصرف قال: «علي بهذين الرجلين» فأتي بنا, فقال: «ما منعكما أن تصليا مع الناس؟» قالا: كنا صلينا في رحالنا, فوجدناكم تصلون, فكففنا حتى صليتم قال: «فإذا صلى أحدكم في رحله, فوجد الناس يصلون, فليصل بصلاتهم, وليجعل صلاته في بيته نافلة».

تابعه محمد بن محمود بن محمد السراج, عن أحمد بن المقدام.

وفي سنده اضطراب: فخرجه الطبراني في "معجمه": ابن أبي الخريف, فقال: حدثنا الحسين بن السميدع الأنطاكي, حدثنا موسى بن أيوب النصيبي, حدثنا عبد العزيز بن الزبير, عن عمر بن قيس, عن صعصعة بن السوائي, عن ابن أبي الخريف, عن أبيه, عن جده قال: أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليهوسلم  وهو في مسجد الخيف يصلي, وقد صلينا المكتوبة في البيت, فلم نصل معهم .... الحديث.

وحدث به أبو عمرو – عثمان بن السماك – عن علي بن إبراهيم الواسطي, حدثنا الحارث بن منصور, حدثنا عمر بن قيس, عن

 

#34#

صعصعة, عن أبي الخريف, عن أبيه, عن عمه وجده, قالا: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فصلينا في منازلنا بمنى, ثم أتينا المسجد فأصبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون, فقمنا حتى فرغوا, فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «علي بهذين, ما منعكما أن تصليا؟» قالا: يا رسول الله, صلينا في رحالنا .... الحديث.

وأبو الخريف بفتح الخاء المعجمة, وكسر الراء.

وقد ذكر أبو بشر الدولابي في كتابه "الكنى" أبا الخريف عبيد الله بن ربيعة السوائي الراوي, عن يزيد بن عامر السوائي الصحابي, [ذكره بفتح الحاء المهملة وكسر الراء].

وذكره أبو محمد عبد الله بن علي الجارودي بالخاء المعجمة.

وقال معن بن عيسى: حدثني سعيد بن السائب الطائفي, عن نوح بن صعصعة, عن يزيد بن عامر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جئت للصلاة فوجدت الناس في الصلاة, فصل معهم, وإن كنت قد صليت تكون تلك نافلة وهذه مكتوبة».

قال جابر رضي الله عنه: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام, كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.

 

#35#

وقع في هذا زيادة من رواية حفص بن غياث, عن جعفر بن محمد, وهي ما قال مسلم في "صحيحه" عقب هذا الحديث الطويل: وحدثنا عمر بن حفص بن غياث, حدثني أبي, حدثنا جعفر بن محمد, حدثني أبي أتيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وساق الحديث بنحو حديث حاتم بن إسماعيل, وزاد في الحديث: وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري, فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام, لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه, وتكون منزلته ثم, فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات, فنزل هكذا.

رواه مسلم مختصراً.

وأبو سيارة آخر من ولي أمر الإفاضة بالناس من المزدلفة وعليه قام الإسلام, واسمه عميلة بن الأعزل العدواني, وتقدم ذكر نسبه.

كان مسيره صلى الله عليه وسلم على طريق ضب, وضب طريق مختصر من المزدلفة إلى عرفة وهو في أصل المأزمين عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة. قاله أبو الوليد الأزرقي, وقال: وقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها حين غدا من منى إلى عرفة, قال ذلك بعض المكيين. انتهى.

وأما صنيع قريش في الجاهلية فكانت تقف قبل دخولها عرفات

 

#36#

بالمشعر الحرام, وهو قزح الآتي ذكره إن شاء الله تعالى .

وكان سائر العرب يتجاوزون [المزدلفة] إلى عرفات, ولا يقفون بالمشعر, وكانت قريش ومن دان دينها يسمون الحمس.

وقد صح عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أضللت بعيراً لي يوم عرفة, فخرجت أطلبه بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة, فقلت: هذا من الحمس, فما شأنه هاهنا.

متفق عليه من حديث سفيان – هو ابن عيينة – عن عمرو بن دينار, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه.

قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي رحمه الله في كتابه "دلائل النبوة" فيما وجدته بخطه عقب حديث جبير الذي قدمناه قال: وهذا قبل النبوة, وكان الله عز وجل قد وفقه صلى الله عليه وسلم بأن وقف بعرفة مع الحاج, وكانت قريش تسمى الحمس, وكانوا يقفون في الحرم,

 

#37#

ولا يخرجون منه, فلذلك تعجب منه جبير بن مطعم, بكونه لم يقف مع قومه, فلما جاء الإسلام ظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف مع قريش, فأوحى الله عز وجل إليه: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفه في حجته. انتهى.

وكانت قريش أيضاً تدفع يوم عرفة قبل غروب الشمس, ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس, فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم أولاً وآخراً.

وقال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب, ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال [في وجوههم], وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس, وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك».

هذا مرسل.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" مرفوعاً – وسيأتي إن شاء الله تعالى .

 

#38#

وقال الشافعي: أخبرنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس, ومن المزدلفة بعد أن تطلع, ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير, فأخر الله هذه وقدم هذه.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث محمد بن يزيد بن خنيس, حدثنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من منى, فلما انبعثت به راحلته وعليها قطيفة قد اشتريت بأربعة دراهم, فقال: «اللهم اجعلها حجة مبرورة لا رياء فيها ولا سمعة».

من أفراد محمد بن يزيد بن خنيس.

قال جابر رضي الله عنه: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة, فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها.

وفي رواية: فنزلها.

وخرج أبو سعيد المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي في كتابه:

 

#39#

"فضائل مكة" شرفها الله تعالى فقال: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج قال: سئل عطاء عن نزول النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فقال: بنمرة، وهو منزل الخلفاء إلى الصخرة الساقطة بأصل الجبل، عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة، وكان يلقي عليها ثوبا يستظل به صلى الله عليه وسلم كثيرا.

تابعه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي, عن مسلم.

 

#40#

$[إهلال الصحابة]$

وكانت الصحابة رضي الله عنهم في مسيرهم ذلك يلبي بعض ويكبر بعض.

كما ثبت عن مالك, عن محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة, كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فكان يهل منا المهل, فلا ينكر عليه, ويكبر المكبر منا, فلا ينكر عليه. متفق عليه من حديث مالك. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من منى, فمنا من يكبر ومنا من يلبي.

قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا زاغت الشمس أمر صلى الله عليه وسلم بالقصواء فرحلت له, فأتى بطن الوادي.

هذا المكان من أرض عرفة بين مكة وعرفات, وليست عرنة من عرفات عند الجمهور, إلا مالكاً فقال: هي من عرفات.

وقال سالم بن عبد الله بن عمر: كتب عبد الملك إلى الحجاج ألا تخالف ابن عمر في الحج, فجاء ابن عمر وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس فصاح عند سرادق الحجاج فخرج [و] عليه ملحفة

 

#41#

معصفرة, فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة, قال: هذه الساعة؟ قال: نعم ..... الحديث.

 

#42#

$[خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة]$

قال جابر رضي الله عنه: فخطب الناس.

قال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة, حتى أتى عرفة, فنزل بنمرة, وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة, حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً فجمع بين الظهر والعصر, ثم خطب الناس ... الحديث.

وقد تقدم عن عمرو بن يثربي الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة بعرفة – حين زاغت الشمس – على راحلته قبل الصلاة, والأول المعروف.

ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الخطبة, كان على راحلته القصواء, ليكون أبلغ في البلاغ.

وهذه الخطبة هي الخطبة العظيمة المشتملة على تمهيد قواعد الإسلام, وتغيير قواعد الكفر, ووضع أمور الجاهلية, وتحريم الظلم

 

#43#

وإرشاد الأمة وتحذيرهم من اتباع الشيطان.

وقد سمع هذه الخطبة, ورواها الجم الغفير من الصحابة, بعضهم كاملة وبعضهم روى غالبها, وبعضهم طرفاً منها, وبعضهم لم يسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهم صحابياً آخر عنها, فسمعها منه, وكل منهم أدى ما سمع رضي الله عنهم.

 

#44#

$[تحريم الدماء والأموال]$

قال جابر رضي الله عنه: وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم, كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».

هكذا في حديث جابر جاء مختصرا.

وفي حديث غيره أنه صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً, أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم, فيسألكم عن أعمالكم, وقد بلغت, فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها».

وسيأتي إن شاء الله تعالى من طريق كاملاً.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية جابر في هذا الحديث: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع, ودماء الجاهلية موضوعة, وإن أول دم أضع من دمائها دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد, فقتلته هذيل».

وذكر ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه أنه كان مسترضعاً في بني ليث.

 

#45#

وفي غير حديث جابر قال: فهو أول ما بدأ به.

وجاء من رواية حماد بن سلمة: دم آدم بن ربيعة.

وحكاه أبو محمد بن حزم عن النسابين وصححه الزبير بن بكار وغيره, وذكره ابن الكلبي في "جمهرة النسب": آدم بن ربيعة بن الحارث, هو ابن عبد المطلب, وعده الدارقطني تصحيفاً.

وقيل: اسم ابن ربيعة هذا إياس, وقيل: حارثة, وقيل: تمام.

 

#46#

وجاء في رواية مكي بن إبراهيم, عن موسى بن عبيدة, عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة, فاجتمع إليه ما شاء الله من المسلمين, فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل, ثم قال: «يا أيها الناس, كل دم كان في الجاهلية فهو هدر وأول دم أهدر دم الحارث بن ربيعة بن الحارث, كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل» .... الحديث.

وسبب قتل هذا أنه حصل بين بني سعد وبين بني ليث بن بكر – وقيل: بينهم وبين هذيل – حرب, وابن ربيعة هذا صغير حينئذ يحبو أمام البيوت, فأصابه حجر غائر أو سهم غرب من يد رجل من هذيل فقتله.

ووقع في بعض الروايات: دم ربيعة بن الحارث.

قال أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول في كتابه "المطالع": وهو خطأ وإنما هو ابن ربيعة. انتهى.

 

#47#

وقال البيهقي: من قال دم ربيعة فإنما أراد دماً وليه ربيعة, والمقتول ابن له صغير. انتهى.

وهذا تأويل أبي عبيد.

ووقع في كلام ابن حزم في تأليفه في "حجة الوداع" دم أبي ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب.

 

#48#

$[تحريم الربا]$

قال جابر رضي الله عنه – يعني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: «وأول ربا أضع رباناً رباً عباس بن عبد المطلب, فإنه موضوع كله».

قيل: إنما بدأ صلى الله عليه وسلم بإبطال الدم والربا من أهله وقرابته ليعلم أن ليس في الدين محاباة.

وفي رواية غير جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل ذكر ربا العباس: «وإن كل ربا موضوع, ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون, قضى الله أنه لا رباً».

وفي رواية عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أما بعد أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً, ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم, فاحذروه على دينكم, أيها الناس {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}, وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهراً منها أربعة حرم, ثلاثة متوالية ورجب مضر, الذي بين جمادى وشعبان».

 

#49#

$[وصاة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء]$

قال جابر رضي الله عنه – يعني قال صلى الله عليه وسلم -: «فاتقوا الله في النساء, فإنكم أخذتموهن بأمان الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله, ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه, فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح, ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».

وفي رواية ابن عباس: «أما بعد, أيها الناس, فإن لكم على نسائكم حقاً, ولهن عليكم حقاً, لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذن في بيوتكم أحداً تكرهونه, وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة, فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع, وتضربوهن ضرباً غير مبرح, فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف, واستوصوا بالنساء, فإنهن عندكم عوان, لا يملكن لأنفسهن شيئاً».

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي, حدثنا سفيان, عن عاصم بن عبيد الله, عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أرقاكم أرقاكم, أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون, وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله, ولا تعذبوهم».

 

#50#

قال جابر رضي الله عنه – يعني قال صلى الله عليه وسلم -: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به, كتاب الله عز وجل» – وفي رواية ابن عباس: «وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, أيها الناس, اسمعوا قولي واعقلوه, تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم, وأن المسلمين إخوة, لا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفسه,ولا تظلموا أنفسكم, اللهم هل بلغت».

قال جابر: يعني قال صلى الله عليه وسلم: «وأنتم تسألون» وفي رواية: «مسئولون عني, فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت, فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد, اللهم اشهد» ثلاث مرات.

قوله: "وينكتها" روي بالموحدة بعد الكاف, لعله من قولهم نكبت الكنانة إذا ألقيت ما فيها, أو من النكب وهو الميل, يقال: نكب عن الشيء ينكب إذا مال, وهذا أشبه, وروي بالمثناة بعد الكاف, قال القاضي عياض: وهو بعيد, قبل صوابه بموحدة. انتهى, ولعله بالمثناة أقرب من الموحدة لغة.

قال صاحب "البارع": قال الأصمعي: ضربه فنكته, أي ألقاه على

 

#51#

رأسه, ووقع منتكثاُ, قال الشاعر:

منتكت الرأس فيه جائفة ... جياشة لا تردها الفتل

وذكر الزبيدي في "مختصر العين" نحوه.:

وهذه الخطبة خرجها كاملة أبو القاسم الطبراني في كتابه "العشرة" فقال: حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي البصري, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبي, عن ثور بن زيد الديلي, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «يا أيها الناس, اسمعوا قولي, أما إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف, أيها الناس, إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى يوم تلقون ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وإنكم ستلقون ربكم, فيسألكم عن أعمالكم, وقد بلغت, فمن كانت عنده [أمانة] فليؤدها إلى من ائتمنه, وإن كل ربا موضوع, لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون, ألا وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله, وإن كل دم في الجاهلية موضوع, وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب, كان مسترضعاً في بني ليث, فقتلته هذيل, فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية, أما بعد, أيها الناس, فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم, ولكنه إن

 

#52#

يطع فيما سوى ذلك مما تحتقرون من أعمالكم فقد رضي, فاحذروه أيها الناس على دينكم, وإن النسيء زيادة في الكفر» ... وذكر الحديث.

تابعه أبو الفضل – محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث – حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ... فذكره بنحوه.

وموضع هذه الخطبة بعرنة, ولم تكن من الموقف كما بيناه, ثم وقف صلى الله عليه وسلم بعرفة, وخطب خطبة أخرى على ناقته أيضاً متطاولا في الركابين؛ ليسمع الناس.

روي عن العداء بن خالد بن هوذة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائماً في الركابين.

خرجه أبو داود من حديث أبي عمرو – عبد المجيد بن أبي يزيد وهب العقيلي – عن العداء به.

ورواه محمد بن مهزم الشعاب البصري العبدي, عن عبد المجيد العقيلي مطولاً, وذكر فيه الخطبة.

وروى إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني يحيى ابن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه عباد قال: كان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو على عرفة – ربيعة بن أمية بن خلف

 

#53#

قال: يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل أيها الناس, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟» فيقولون شهر الحرام, فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم, كحرمة شهركم هذا» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس, هل تدرون أي بلد هذا؟» فيصرخ به, فيقولون: البلد الحرام, قال: فيقول: «فإن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا», قال: «أيها الناس, هل تدرون أي يوم هذا؟» فقال لهم فقالوا: يوم الحج الأكبر, قال: «إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم, كحرمة يومكم هذا».

 

#54#

وهو في "معجم الطبراني الكبير" من حديث وهب بن جرير, حدثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق, حدثنا عبد الله بن أبي نجيح, قال: قال عطاء: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه [يومئذ] غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيساً فذبحه عن نفسه, فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة, أمر ربيعة بن أمية بن خلف رضي الله عنه فقام تحت يدي ناقته صلى الله عليه وسلم – وكان رجلاً صيتاً – فقال: «اصرخ: أيها الناس, أتدرون أي شهر هذا؟» فصرخ, فقال الناس: الشهر الحرام. فقال: «اصرخ: أتدرون أي بلد هذا؟» قالوا: البلد الحرام. قال: «اصرخ: هل تدرون أي يوم هذا؟» قالوا: الحج الأكبر. فقال: «اصرخ فقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا, وكحرمة بلدكم هذا, وكحرمة يومكم هذا».

 

#55#

فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه, وقال حين وقف بعرفة: «هذا الموقف وكل عرفة موقف» وقال حين وقف على قزح: «هذا الموقف وكل مزدلفة موقف».

وقال محمد بن إبراهيم بن أبان: حدثنا ليث بن حماد الصفار, حدثنا حماد بن زيد, عن المجالد, عن الشعبي, عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: «إن هذا الدين عزيز منيع, ظاهر على من ناوأه, لا يضر فيه من فارقه أو خالفه, حتى يهلك اثنا عشر كلهم» فلفظ الناس, فقلت لأبي: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كلهم من قريش».

وهو في "صحيح مسلم" من حديث أبي معاوية, حدثنا داود, عن الشعبي بنحوه.

تابعه ابن عون, عن الشعبي.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث سليمان بن أبي هوذة, عن عمرو بن أبي قيس, عن فرات القزاز, عن عبيد الله بن عباد, عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: دخلت أنا وأبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بنا, فلما سلم ألوى الناس بأيديهم يميناً وشمالاً, فأبصرهم صلى الله عليه وسلم

 

#56#

فقال: «ما لكم تفتلون أيديكم يميناً وشمالاً, كأنها أذناب خيل الشمس! إذا سلم أحدكم فليسلم على من يمينه وعلى من يساره» قال: فجلسنا معه فقال: «لا يزال الإسلام ظاهراً, حتى يكون اثنا عشر أميراً وخليفة, كلهم من قريش».

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن فرات القزاز إلا عمرو ابن أبي قيس.

قلت: هو في "صحيح مسلم" من حديث إسرائيل, عن فرات بنحوه مختصراً.

تابعه مسعر, عن عبيد الله وهو ابن القبطية.

وروى إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق, حدثني ليث بن أبي سليم, عن شهر بن حوشب الأشعري, عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له, ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة, فبلغته, ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن لعابها ليقع على رأسي, قال: فسمعته وهو يقول: يا أيها الناس, إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه, لا وصية لوارث, ومن تولى قوماً

 

#57#

بغير إذن مواليه, فإن عليه لعنة الله وغضبه, لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً, الولد للفراش, وللعاهر الحجر».

ورواه سفيان الثوري [عن ليث], عن شهر بن حوشب أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: وإن لعاب ناقته ليسيل على فخذي .... الحديث.

ورواه سعيد بن منصور, عن هشيم, حدثنا طلحة أبو محمد مولى باهلة, حدثنا قتادة, عن شهر بن حوشب, عن عمرو بن خارجة الأشعري بنحو الحديث الأول.

ورواه شبابة, عن مغيرة بن مسلم وورقاء, عن مطر, عن شهر بن حوشب, عن عمرو بن خارجة بنحوه.

وخرجه أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" من حديث هشام الدستوائي, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن غنم, عن عمرو بن خارجة قال: كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, وهي تقصع بجرتها, ولعابها يرتش بين كتفي, فسمعته يقول: «إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه, ولا يجوز لوارث وصية, والولد للفراش,

 

#58#

وللعاهر الحجر, ومن ادعى إلى غير أبيه أو ادعى إلى غير مواليه رغبة عنهم, [فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً».

زاد في سنده عبد الرحمن بن غنم].

وهكذا رواه أبو مسلم الكجي, حدثنا أبو بكر الهذلي, عن شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن خارجة مثله.

ورواه موسى بن هارون, حدثنا قتيبة, حدثنا أبو عوانة, عن قتادة كذلك.

[ورواه محمد بن المنهال, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة كذلك].

 

#59#

ورواه ابن سعد في "الطبقات", عن عبد الوهاب بن عطاء, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة كذلك.

ورواه محمد بن سليمان الباغندي الكبير, حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن قتادة, عن عمرو بن خارجة. فأسقط شهراً وابن غنم,

ورواه عتبة بن عبد الله المروزي, عن عبد الله بن المبارك, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قتادة, عن عمرو منقطعاً نحوه. والحديث له طرق وفيه اضطراب.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا سعيد بن سليمان, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن سلمة بن نبيط, عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عرفة على جمل أحمر.

وخرجه النسائي في "سننه" عن محمد بن آدم, عن ابن المبارك, عن سلمة بن نبيط, عن رجل من الحي, عن أبيه نبيط, به.

 

#60#

وحدث به أيضاً, عن عمرو بن علي, عن يحيي, عن سفيان, عن سلمة كذلك.

وهو عند أبي داود في "سننه" عن عبد الله بن داود, عن سلمة كذلك.

وخرجه ابن ماجه في "سننه", عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع, عن سلمة بن نبيط, عن أبيه به, كما رواه ابن سعد فيما تقدم.

وقال ابن سعد: أخبرنا خلف بن الوليد الأزدي, حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة, حدثني أبو مالك الأشجعي, حدثني نبيط بن شريط الأشجعي قال: إني لرديف أبي في حجة الوداع إذ تكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فقمت على عجز الراحلة, ووضعت رجلي على عاتقي أبي, فسمعته يقول: «أي يوم أحرم؟» قالوا: هذا اليوم, قال: «فأي شهر أحرم؟» قالوا: هذا الشهر, قال: «فأي بلد أحرم؟» قالوا: هذا البلد, قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, هل بلغت؟» قالوا: اللهم نعم, قال: «اللهم اشهد, اللهم اشهد, اللهم اشهد» وأظن هذه كانت يوم النحر, والله أعلم.

ويقوي ذلك ما رواه النسائي في "سننه": عن أيوب بن محمد الوزان, عن مروان بن معاوية الفزاري, عن أبي مالك الأشجعي,

 

#61#

حدثنا نبيط بن شريط قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى, فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا قتادة, عن عبد الرحمن بن حرملة, عن يحيى بن هند, عن حرملة بن عمرو قال: حججت حجة الوداع مردفي عمي سنان بن سنة, فلما وقفنا بعرفات رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع إحدى إصبعيه على الأخرى, فقلت لعمي: ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يقول: «ارموا الجمرة بمثل حصا الخذف».

 

#62#

وقال جابر رضي الله عنه: ثم أذن, ثم أقام, وفي رواية: ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة, فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر, ولم يصل بينهما شيئاً:

قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد وغيره, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله في حجة الإسلام قال: فراح النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموقف بعرفة, فخطب الناس الخطبة الأولى, ثم أذن بلال, ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية, ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان, ثم أقام بلال فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر. هذا مما تفرد به ابن أبي يحيى, قاله البيهقي.

وابن أبي يحيى هذا إبراهيم بن محمد أحد الأعلام, كان الشافعي إذا حدث عنه يقول: "حدثني من لا أتهم", ومع هذا فلا يحتج بخبره هذا الذي تفرد به.

لكن قال البيهقي: ومعناه موجود في الحديث الثابت عن حاتم بن إسماعيل, عن جعفر – يعني به حديث جابر الذي نحن فيه – قال: فإنه

 

#63#

ذكر في حديثه ركوب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما زاغت الشمس وخطبته, قال: ثم أذن بلال, ثم أقام فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر, ولم يصل بينهما شيئاً.

"بطن عرنة": بين مكة وعرفات, بمكان يعرف بمسجد إبراهيم, وقد وهم من نسبه إلى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, إنما هذا المسجد بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن عرنة في الدولة العباسية, بناه إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي. وكانت صلاة النبي صلى الله عليهوسلم  المشار إليها سراً, وهو المشهور.

روي عن ابن جريج أن ابن هشام جهر بالقراءة بعرفة, فسبح به سالم بن عبد الله فسكت. وفيه دليل على أن المسافر لا يصلي جمعة؛ لأن ذلك اليوم كان يوم الجمعة.

ويروى عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز, عن الحسن بن مسلم بن يناق قال: وافق يوم الجمعة يوم التروية في زمان رسول الله صلى عليه وسلم     , فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة, فأمر الناس أن يروحوا إلى منى وراح فصلى [بمنى] الظهر.

قال البيهقي: هذا منقطع.

قلت: ولا يصح سنده من قبل رواية إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي, عن عبد العزيز.

 

#64#

قال البيهقي: وحديث عمر بن الخطاب أن يوم الجمعة وافق يوم عرفة, والنبي صلى الله عليه وسلم بعرفات, حديث موصول ثابت, فهو أولى من هذا.

قال جابر رضي الله عنه: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف, فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات.

وفي رواية: إلى الصخيرات: وقال إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي الكوفي الصدوق الذي تابع أبا بكر بن أبي شيبة على روايته الحديث عن حاتم بن إسماعيل: إلى الشجيرات.

قال جابر رضي الله عنه: وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة.

حبل المشاة: كناية عن مجتمعهم وصفهم, شبههم بحبل الرمل المستطيل.

والصخرات: في ذيل الجبل الذي يقال له جبل الرحمة بوسط أرض عرفات ويقال له أيضاً إلال وزان هلال, وفي "المجمل": وإلال على

 

#65#

فعال موضع بمكة.

وفي "مختصر العين" للزبيدي: والإلال جبل بعرفات.

وقال أبو عبيد البكري في "معجم البلدان" جبل صغير من رمل عن يمين الإمام بعرفة.

وقال: وفي "البارع": الإل جبل رمل بعرفات, هكذا ذكره بلفظ المفرد على وزن فعل.

وفي "معجم البلدان" لياقوت: ألال بالفتح وزان حمام, ثم ذكره أيضاً بالكسر وزان هلال, وقال: قيل: جبل رمل بعرفات, عليه يقوم الإمام, وقيل عن يمين الإمام, وقيل هو جبل عرفة نفسه سمي إلالاً, لأن الحجيج إذا رأوه ألوا – أي اجتهدوا – ليدركوا الموقف. انتهى.

قلت: أل الرجل في السير يَوَلُّ ألا: أسرع.

وقال أبو الوليد الأزرقي: وموقف النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة بين الأجبل النبعة والنبيعة والنابت, وموقفه منها على النابت وهي الظراب التي تكتنف موضع الإمام, والنابت عند النشزة التي خلف موقف الإمام, وموقف النبي صلى الله عليه وسلم على مضرس من الجبل النابت, مضرس بين أحجار هناك نابتة في جبل الذي يقال له إلال بعرفة عن يسار طريق الطائف وعن

 

#66#

يمين الإمام, وله يقول نابغة بن ذبيان:

بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً سيرهن التدافع

وقال أبو داود في "المراسيل": حدثنا أحمد بن حنبل, حدثنا روح, حدثنا ابن جريج, حدثني زبان بن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل يوم عرفة عند الصخرة المقابلة منازل الأمراء يوم عرفة التي بالأرض في أسفل الجبل وستر آلهاً بثوب عليه.

زبان لم يرو عنه سوى ابن جريج فيما أعلم.

وثبت عن جابر رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين وقف عند الصخرات: «وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف».

 

#67#

وخرج الترمذي من حديث زيد بن علي, عن أبيه, عن عبيد الله بن أبي رافع, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: «هذا عرفة وهو الموقف, [وعرفة] كلها موقف» الحديث.

وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" بطوله وسيأتي إن شاء الله تعالى , وقد تقدم نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا محمد بن عمر, حدثنا صالح بن خوات, عن يزيد بن رومان,, عن حبيب بن عمير, عن عدي عن خبيب بن خماشة الخطمي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [بعرفة]: «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة, والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر».

يزيد بن رومان أبو روح هذا روى عن صالح بن خوات,

 

#68#

وروى عنه صالح بن خوات, لكنه غير الأول, فالراوي عن يزيد حفيد شيخه؛ لأن شيخه صالح بن خوات بن جبير الأنصاري روى عن أبيه وسهل بن أبي حثمة, والراوي عن يزيد هنا صالح بن خوات بن صالح بن خوات بن جبير, روى أيضاً عن محمد بن يحيى بن حبان والله أعلم.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن عبد الله بن صفوان, عن يزيد بن شيبان, قال: كنا وقوفاً في مكان بعيد يباعده من الموقف فأتانا ابن مربع فقال: إني [رسول] رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: «كونوا على مشاعركم, [فإنكم] على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام».

ورواه أحمد بن شيبان الرملي, عن سفيان, عن عمرو, عن عبد الله بن صفوان, عن يزيد بن شيبان بنحوه.

تابعه كذلك سعدان بن نصر بن منصور, عن سفيان.

وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه لسفيان, عن عمرو ابن دينار, عن عمرو بن عبد الله بن صفوان, عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه, ونحن وقوف بالموقف مكاناً يباعده

 

#69#

عمرو فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: «كونوا على مشاعركم, فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام».

وهذا لفظ الترمذي, وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سفيان بن عيينة, عن عمرو, وابن مربع اسمه يزيد بن مربع الأنصاري, وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد.

وكذلك ذكره أبو بكر – أحمد بن عبد الله البرقي – في كتابه "التاريخ" أن له حديثاً, وساقه عن الحميدي, عن سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, وسمي ابن مربع يزيد, كما سماه الترمذي.

وذكره البخاري في "تاريخه الكبير" في من اسمه زيد في الصحابة.

 

#70#

وسماه البغوي في "معجم الصحابة": عبد الله, وقال: ويقال زيد بن مربع, وقال: بلغني أن عبد الله بن مربع قتل يوم جسر أبي عبيد شهيداً في خلافة عمر رضي الله عنه.

وقال الحارث بن أبي أسامة: [حدثنا روح], حدثنا ابن عون, حدثنا أبو رملة, عن مخنف بن سليم الغامدي قال: كنا وقوفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات, فسمعته يقول: «يا أيها الناس إن على أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة, هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية».

وعلقه البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: قال أبو عاصم, عن ابن عون, عن أبي رملة, عن مخنف بن سليم, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أهل بيت أضحية وعتيرة».

 

#71#

وقال الطبراني: حدثنا إسحاق, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرني عبد الكريم, عن حبيب بن مخنف العنبري, عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة وهو يقول: «تعرفونها؟» فلا أدري ما رجعوا إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على كل أهل بيت أن يذبحوا شاة في كل رجب, وفي كل أضحى شاة».

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا سعيد بن بشير القرشي, حدثني عبد الله بن حكيم الكناني – رجل من أهل اليمن من مواليهم – عن بشر بن قدامة الضبابي رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات مع الناس على ناقة حمراء قصواء تحته قطيفة بولانية, وهو يقول: «اللهم حجة غير رياء ولا هباء ولا سمعة» والناس يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عرفات: جمع عرفة تقديراً, وإعرابه كمسلمات, ويجوز منع التنوين مع بقاء الكسرة جراً ونصباً, وقد يمنع من التنوين والكسرة.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى أجبال عرفة, إلى وصيق, إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة, رواه الأزرقي – أبو الوليد محمد بن عبد الله – عن جده, حدثنا محمد بن

 

#72#

عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما فذكره.

وقيل: حد عرفات هو ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر, قاله الشافعي.

وذكر نحوه مصنف كتاب "صورة الأرض" فقال: وعرفة ما بين وادي عرنة إلى حائط بني عامر إلى ما أقبل على الصحراء التي تكون بها موقف الإمام وإلى طريق حضن, وبحائط بني عامر نخيل, وكذلك في غربي عرفة.

وحكى أبو زكريا النووي رحمه الله فقال: وقال بعض أصحابنا: لعرفات أربعة حدود؛ أحدهما ينتهي إلى جادة طريق المشرق, والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرض عرفات, والثالث إلى البساتين التي تلي قرية عرفات, وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وقف بأرض عرفات, والرابع: ينتهي إلى وادي عرنة. انتهى.

 

#73#

$[دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة]$

وفي هذا الموقف يوم عرفة دعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه.

قال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة" زادها الله شرفاً: حدثنا محمد بن يوسف وإبراهيم بن محمد القاضي, قالا: حدثنا أبو قرة, قال: قال ابن جريج: أخبرت عن حسين بن عبد الله, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يدعو ويداه على صدره كاستطعام المسكين.

قلت: حسين هذا هو ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس الهاشمي المدني, ضعفه ابن معين وغيره.

وحدث أبو داود في (المراسيل): عن محمود بن خالد, عن عمر – يعني ابن عبد الواحد – عن الأوزاعي, عن سليمان بن موسى قال: لم يحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه الرفع كله إلا في ثلاثة مواطن: الاستسقاء والاستنصار, وعشية عرفة, [ثم] كان بعد رفع دون رفع.

 

#74#

وخرج النسائي في "سننه" من حديث عبد الملك هو ابن أبي سليمان العرزمي, عن عطاء – هو ابن أبي رباح – قال أسامة رضي الله عنه: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات, فرفع يديه فمالت ناقته, فسقط خطامها, فتناول الخطام بإحدى يديه, وهو رافع يده الأخرى.

وقال محمود بن غيلان في "تاريخه": حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا الأعمش, عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة على راحلته رافعاً يديه يدعو, وقع زمام الناقة من يده, فتناولها بأصبعه, فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الابتهال وهذا التضرع.

وحينئذ أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء والابتهال والتضرع والسؤال والتهليل والتحميد والثناء والتمجيد, وندب الناس إلى ذلك وحضهم عليه وبين فضله, وأرشدهم إليه.

خرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة, وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" والحسين المحاملي في كتابه "الدعاء" بنحوه.

 

#75#

وخرجه أيضاً الترمذي والمحاملي واللفظ له من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة ....» الحديث, وهو مرسل.

وخرج أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عامة دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

وخرجه أبو القاسم الطبراني في "فضل يوم عرفة" بنحوه.

وخرج الترمذي من حديث الأغر بن الصباح, عن خليفة بن حصين, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في الموقف: «اللهم لك الحمد كالذي نقول وخير مما نقول, [اللهم] لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي, وإليك مآبي, ولك رب تراثي, اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر، وشتات الأمر, اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح».

وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه, وليس إسناده بالقوي.

 

#76#

وخرجه الحسين بن إسماعيل المحاملي في كتاب "الدعاء" ولفظه: عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: «اللهم رب الحمد, لك الحمد كما نقول وخير مما نقول, لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي, وإليك مآبي وإليك ثوابي, أعوذ بك من عذاب القبر, ووسوسة الصدر, وشتات الأمر, اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح, وأعوذ بك من شر ما تجيء به الرياح».

وخرجه أيضاً من حديث موسى بن عبيدة, عن أخيه عبد الله بن عبيدة, عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, يحيي ويميت, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير, اللهم اجعل في سمعي نوراً, وفي بصري نوراً, وفي قلبي نوراً, اللهم اغفر لي ذنبي ويسر [لي] أمري واشرح لي صدري, اللهم إني أعوذ بك من وسواس الصدر, ومن شتات الأمر, ومن عذاب القبر, اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار, وشر ما تهب به الرياح, وشر بوائق الدهر».

 

#77#

ومن دعائه صلى الله عليه وسلم هناك أيضاً: ما أخبرنا به التقي عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أحمد بن عثمان السلعوس – بقراءتي عليه – أخبرنا والدي في آخرين, قالوا: أخبرنا عمر بن غدير ح.

وقراءة على المعمرة الكبيرة – زينب بنت محمد بن عثمان – عن ابن غدير المذكور, وعلي بن أحمد المقدسي إجازة مطلقة, قالا: أخبرنا القاضي عبد الصمد بن محمد قراءة عليه قال الأول وأنا حاضر والثاني وأنا أسمع: أخبرنا علي بن المسلم, أخبرنا الحسن بن طلاب, أخبرنا أبو الحسين – محمد بن أحمد بن محمد الغساني – حدثنا إبراهيم بن محمد يعني الهمداني الأنماطي ببغداد, حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني, حدثنا موسى بن إسماعيل المنقري, حدثنا يحيى بن صالح – يعني الأيلي – عن إسماعيل بن أمية عن عطاء – هو ابن أبي رباح – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع: «اللهم إنك تسمع كلامي, وترى مكاني, وتعلم سريرتي وعلانيتي, ولا يخفى عليك شيء من أمري, وأنا البائس الفقير, المستغيث المستجير, الوجل المشفق, المقر المعترف بذنبه, أسألك مسألة المسكين, وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل, وأدعوك دعاء

 

#78#

الخائف الضرير من خضعت لك رقبته, وفاضت لك عبرته, وذل لك جسده, ورغم لك أنفه, اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً, وكن بي رءوفاً رحيماً يا خير المسئولين, ويا خير المعطين».

خرجه الطبراني في "معجمه الصغير" وفي مصنفه في "فضل يوم عرفة" من حديث يحيى بن بكير, حدثنا [يحيى بن صالح الأيلي ... فذكره بنحوه.

 

#79#

$[مطلب عظيم فيه بشارة عظيمة لهذه الأمة]$

أخبرنا المسند الكبير الشهاب عبد الرحمن بن محمد الفارقي, أخبرنا] يحيى بن محمد المقدسي سماعاً وسليمان بن حمزة الحاكم إجازة, قالا: أنبأنا الحسن بن يحيى المخزومي, زاد الحاكم فقال: وأنبأنا محمد بن علي الحراني, قالا: أخبرنا عبد الله بن رفاعة السعدي, أخبرنا علي بن الحسن القاضي, أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن زريق الكوفي, حدثنا إسماعيل بن يعقوب بن الجراب إملاء, حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا عبد القاهر بن السري, حدثني ابن لكنانة بن العباس بن مرداس, عن أبيه, عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة

 

#80#

والرحمة, وأكثر الدعاء فأجابه: «إني قد فعلت, إلا ظلم بعضهم لبعض, إلا ذنوبهم فيما بيني وبينهم, قد غفرت لهم», قال: «أي رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيراً منه مظلمته فتغفر لهذا الظالم» فلم يجبه تلك العشية, فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء, فأجابه: «إني قد غفرت لهم».

 

#81#

وحدث به الطبراني في "المعجم": عن علي بن عبد العزيز وأبي مسلم الكشي ومعاذ بن المثنى ومحمد بن يعقوب بن سودة البغدادي، قالوا: حدثنا أبو الوليد الطيالسي, وعن معاذ بن المثنى أيضاً وعيسى بن إبراهيم البركي, قالوا: حدثنا عبد القاهر بن السري ... فذكره, وفي آخره: فأجابه: «إني قد غفرت لهم». قال: ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله, إنك قد تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها! فقال: «تبسمت من عدو الله إبليس, إنه لما علم أن الله قد استجاب لي أخذ يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه».

قال جابر رضي الله عنه: فلم يزل صلى الله عليه وسلم واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً, حتى غاب القرص.

خرج الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" من حديث عبد الوارث بن سعيد, عن ابن جريج, عن محمد بن قيس, عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس

 

#82#

على رؤوس الجبال, كأنها عمائم الرجال في وجوهها, وإنما ندفع بعد أن تغيب, وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة».

ذكره الحاكم في ترجمة المسور, وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.

والحديث له علتان؛ لأن الصواب عن محمد بن قيس بن مخرمة دون ذكر المسور, فهو مرسل, كما قدمناه من رواية الشافعي, عن الزنجي, عن ابن جريج, عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة». .. الحديث.

وهكذا خرجه أبو سعيد – المفضل بن محمد الجندي – في كتابه "فضائل مكة" شرفها الله تعالى, فقال: حدثنا سعيد, حدثنا سفيان: عن ابن جريج, عن محمد بن قيس (عن قيس بن مخرمة) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكره مرسلاً, وهو أشهر.

والعلة الثانية: ما قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا يحيى بن أبي زائدة, عن ابن جريج قال: أخبرت عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعرفة ... فذكره بنحوه.

وقول جابر رضي الله عنه: فلم يزل واقفاً:

 

#83#

في وقوفه هذا, أرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن, وهو فيما صح من حديث سالم أبي النضر, عن عمر مولى عبد الله بن عباس, عن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم, وقال بعضهم: ليس بصائم, فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه.

وجاءت القصة أيضاً عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها, وذلك فيما صح من حديث بكير بن الأشج, عن كريب مولى ابن عباس, عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إن الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فأرسلت إليه ميمونة رضي الله عنها بحلاب اللبن وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث عصمة بن سليمان الخزاز, حدثنا شريك, عن جابر, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما

 

#84#

[قال]: أتي رسول الله صلى عليه وسلم      بلبن يوم عرفه فشربه وسقى الذي عن يمينه.

وقال ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا خالد بن النضر بن عمرو بالبصرة, حدثنا عبد الواحد بن غياث, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا أيوب, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برمان يوم عرفة فأكل, قال: وحدثتني أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن يوم عرفة فشربه.

 

#85#

$[نزول قوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم}]$

وهناك أيضاً أنزلت عليه الآية العظيمة قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} خرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد, حدثني أبي, عن محمد بن إسحاق, عن عمر بن موسى بن وجيه, عن قتادة, عن الحسن, عن سمرة رضي الله عنه قال: نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة يوم جمعة. ويروى في بعض ألفاظه: عشية عرفة.

وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني: حدثنا قيس بن الربيع, عن إسماعيل بن سلمان, عن أبي عمر البزار, عن ابن الحنفية, عن علي رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم}.

خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" عن الحماني وقال: وهذا إسناد

 

#86#

ضعيف, وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح عن عمر بن الخطاب وغيره, وإنما ذكرنا هذا الحديث على وهاه وضعفه, ليعرف مخرجه وطريقه.

كان يحيى بن معين يتكلم في إسماعيل بن سلمان هذا, قال: يقال له الأزرق, يروي عن أبي عمر البزار, غير معروف, وضعفه جداً, قال يعقوب: وقيس بن الربيع سيء الحفظ, مختلط الحديث, وهو صدوق, قد حمل الناس عنه. انتهى.

وصح عن طارق بن شهاب, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت, لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}, فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. متفق عليه من حديث إدريس بن يزيد الأودي وسفيان الثوري ومسعر وغيرهم عن قيس بن مسلم, عن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي الكوفي, معدود في الصحابة.

قال غندر: حدثنا شعبة, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم, وغزوت في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثلاثاً وثلاثين, أو ثلاثاً وأربعين, من غزوة إلى سرية.

 

#87#

تابعه عمرو بن مرزوق, عن شعبة مختصراً.

ولحديث طارق بن شهاب, عن عمر في نزول الآية طرق غير ما ذكرنا.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا عمرو بن محمد الناقد, حدثنا زيد بن الحباب, أخبرني رجاء بن أبي سلمة أبو المقدام, عن عبادة بن نسي, عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب, عن كعب الأحبار قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لأعرف قوماً لو نزلت عليهم هذه الآية نظروا أي يوم نزلت فيه فاتخذوه عيداً فقال عمر: أية آية؟ فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} إلى آخر الآية, فقال عمر: إني لأعرف في أي يوم نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} في يوم جمعة يوم عرفة, وهما لنا عيدان.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب إلا عبادة بن نسي, ولا عن عبادة إلا رجاء بن أبي سلمة, تفرد به زيد بن الحباب. انتهى.

وهذه الرواية أفصحت أن السائل لعمر كان كعب الأحبار.

 

#88#

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} إلى آخر الآية, وعنده يهودي فقال: لو أنزلت علينا هذه الآية لاتخذنا يومها عيداً, فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: جمعة ويوم عرفة.

وقد ذكر بعض المفسرين عن ابن عباس رضي الله عنهما في يوم نزول الآية الشريفة قال: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وللنصارى، وللمجوس، ولم يجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده.

وروى سيف بن عمر، عن داود بن أبي هند، عن عامر أنه قال في هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} قال: قالت اليهود: إنا لنعجب من العرب: كيف لم يحفظوا هذا اليوم فيتخذونه عيدا، فقال عمر رضي الله عنه: أشد ما حفظوه، نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وقف نبي الله صلى الله عليه وسلم موقف إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وصد المشركون عن البيت، واضمحل الشرك، وهدمت منار الجاهلية.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم عليه السلام واضمحل الشرك، وهدمت منار الجاهلية،

 

#89#

ولم يطف بالبيت عريان.

تابعه سعيد بن منصور، عن إسماعيل.

وروى محمد بن فضيل بن غزوان من حديث هارون بن عنترة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} بكى عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، كنا في زيادة من ديننا، فلما أن كمل فليس بعد الإكمال إلا النقصان قال: «صدقت».

وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته فمات وهو محرم.

صح من حديث أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا».

تابعة أيوب السختياني، وعمرو بن دينار، والحكم بن عتيبة وعبد الكريم الجزري، وعطاء بن السائب وفضيل بن عمرو ومطر الوراق عن سعيد .

 

#90#

وطرقه جمة إلى عمرو بن دينار، فممن رواه عن عمرو: أبان بن صالح، وأبان بن يزيد العطار، وأشعث بن سوار وحجاج بن أرطأة، وعبد الله بن على بن الأزرق، وابن أبي ليلى، وعمر بن علي السلمي البصري – قاضي البصرة – وأبو أمية – عمرو بن الحارث المصري – وقيس بن سعد المكي الحبشي وغيرهم.

ورواه عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن سعيد بن جبير بنحوه.

تابعه شبيان عن منصور كذلك.

ورواه شيخ ليس بالمشهور فيما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "المزيد في متصل الأسانيد" يقال له محمد بن هارون الختلي، عن عبيد الله بن موسى، فأدخل بين منصور وبين سعيد بن جبير سلمة بن كهيل.

ورواه جرير بن عبد الحميد وعبيدة بن حميد، عن منصور، عن الحكم – يعني ابن عتيبة – عن سعيد بن جبير.

وفي ذلك الموقف كان الناس يزدحمون عليه حتى يصرفوا عنه.

قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية: «[لبيك] اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» قال: حتى إذا كان ذات يوم والناس

 

#91#

يصرفون عنه، كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيها: «لبيك إن العيش عيش الآخرة».

قال ابن جريج: وأحسب أن ذلك كان يوم عرفة.

وفي ذلك الموقف أيضا سأل أهل نجد النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر من أمر الحج، والله أعلم.

خرج الترمذي من حديث سفيان –وهو الثوري- عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه فأمر مناديا فنادى: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه.

وخرجه عن ابن [أبي] عمر، عن سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري نحوه بمعناه.

قال: وقال ابن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة، وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري، قال: وقد روى شعبة عن بكير بن عطاء نحو حديث الثوري، قال: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا يقول –وذكر أنه ذكر هذا الحديث – فقال: هذا الحديث أم المناسك. قلت: وحديث شعبة عن بكير، رواه حفص بن عمر الحوضي وحماد بن مسعدة وسهل بن يوسف وغندر وعبد الرحمن بن زياد،

 

#92#

والنصر بن شميل ويزيد بن هارون وأبو عامر العقدي وأبو عبيدة الحداد وغيرهم عن شعبة. ورواه يحيى بن آدم وأمية بن خالد، عن شعبة وسفيان، عن بكير.

وخرج هذا الحديث أبو داود وزاد في آخره: وأردف رجلا ينادي بهن. وهو في "مسند أحمد بن حنبل" و"سنن النسائي" وابن ماجه والدارقطني.

وخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحهما. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

وألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في الصحيح.

وقال أبو بكر – محمد بن جعفر الخرائطي – في كتابه – "مساوئ الأخلاق": حدثنا القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعيد بن نشيط أن قرة بن هبيرة العامري قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فلما كان عام حجة الوداع نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقة قصيرة قال:

 

#93#

«يا قرة» فقال الناس: يا قرة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف قلت لي حين أتيتني تسلم؟» قال: قلت: يا رسول الله، كان لنا أرباب وربات من دون الله ندعوهم فلا يجيبونا ونسألهم فلا يعطونا، فلما بعثك الله أجبناك وتركناهم، ثم أدبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من رزق لبا».

وفي آخر الحديث قصة لقرة مع عمرو بن العاص رضي الله عنه.

تابعه يحيى بن بكير عن الليث .

ورواه أبو بكر بن أبي عاصم فقال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا شيخ بالساحل، عن رجل من بني قشير يقال له قرة بن هبيرة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنه كان ربات وأرباب نعبدهن من دون الله تعالى، فبعثك الله عز وجل فدعوناهن فلم يجبن، سألناهن فلم يعطين، وجئناك فهدانا الله بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح من رزق لبا» فقال: يا رسول الله، اكسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما، فكساه، فلما كان بالموقف من عرفات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعد علي ما قلت» فأعاد عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من رزق لبا، قد أفلح من رزق لبا».

 

#94#

تابعة الحسن بن محمد بن سليمان الشطوي، عن هشام، وقال أبو عاصم خشيش بن أصرم في كتاب "الاستقامة" [حدثنا حبان بن هلال]ا، حدثنا همام. ح.

وخرجه دعلج في "مسند المقلين" من تأليفه واللفظ له من حديث همام بن يحيى، عن محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه قال: انطلقت إلى الكوفة أجلب بغالا، فأتيت السوق ولم تقم، فقلت لصاحبي: ادخل بنا المسجد حتى نجلس فيه، قال: والمسجد يومئذ في أصحاب التمر، قال: فدخلنا، فإذا رجل من قيس يقال له: ابن المنتفق، وهو يقول: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فطلبته بمكة، فقيل لي: هو بمنى، فطلبته بمنى، فقيل لي: هو بعرفة، فأتيت عرفة فزاحمتهم عليه، فقالوا لي: إليك عن طريق رسول الله صلالله عليه وسلم   فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوا الرجل أرب ماله» فزاحمتهم عليه، حتى خلصت إليه، فأخذت بخطام راحلته أو بزمام راحلته، حتى اختلفت أعناق راحلتيهما، فما وزعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو قال: ما غير علي – فقلت: يا رسول الله، شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فرفع رأسه إلى السماء، ثم أقبل علي فقال: «لئن كنت أقصرت المسألة، لقد عظمت وأطولت، فاعقل عني إذا، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم شهر رمضان، وما تحب أن يفعله الناس بك فافعله بهم، وما تكره أن يأتي إليك الناس فدع الناس منه، خل سبيل الراحلة».

 

#95#

وخرج الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد، عن الشعبي، عن جبشي بن جنادة السلولي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو واقف بعرفة فأتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه فأعطاه، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، من سأل الناس ليثري به ماله كان خموشا – يعني في وجهه – يوم القيامة ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر».

ورواه عبد الله بن نمير، عن مجالد نحوه.

ورواه جابر الجعفي، عن الشعبي نحوه مختصرا، قاله أبو نعيم.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثني كثير – يعني ابن زيد – عن المطلب بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان واقفا بعرفات فنظر حين تدلت - يعني الشمس – مثل الترس للغروب، فبكى واشتد بكاؤه، فقال له رجل عنده: يا أبا عبد الرحمن قد وقفت معي مرارا لم تصنع هذا. فقال: ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو

 

#96#

واقف بمكاني هذا؛ فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى».

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه "فضائل مكة" زادها الله شرفا: حدثني أبو جعفر – أحمد بن خالد البرذعي – في المسجد الحرام، حدثنا علي بن الموفق البغدادي، حدثنا شبوية المروزي، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم عرفة، قال: فكادت الشمس أن تؤوب، فقال يا بلال: «أنصت لي الناس» فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنصت الناس، فقال: «يا معاشر الناس، أتاني جبرائيل آنفا، فأقرأني من ربي عز وجل السلام وقال لي: إن الله عز وجل قد غفر لأهل عرفات، ما خلا التباعات، أفيضوا باسم الله»، ثم جاء إلى المزدلفة فقام قوم يكسرون له الحجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التقطوا من الأرض ولا تنبهوا النوام غدا إلى المشعر» وأخذ في الدعاء، فأطال، ثم قال: «يا بلال، أنصت الناس» فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصت الناس فقال: «يا معاشر الناس، أتاني جبريل عليه السلام آنفا، فأقرأني من ربي عز وجل السلام، وقال: إن الله عز وجل قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التباعات» فقال عمر بن

 

#97#

الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، هذا لنا خاص، فقال: «هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة» فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب.

وفي الباب عن ابن عمر وعبادة بن الصامت، ولا يثبت.

قال جابر رضي الله عنه وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق القصواء بالزمام - وفي رواية باللجام – حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله.

المورك بكسر الراء، وفتحها بعضهم، كالموركة شبه مصدغة تجعل تحت الورك، وقيل: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب.

(كان النبي صلى الله عليه وسلم حبس الناس بالإفاضة قليلا قبل أن يردف أسامة لأجله، والله أعلم).

قال البخاري في "تاريخه الكبير": حدثنا موسى، حدثنا حماد، عن هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الإفاضة بعض التأخير من أجل أسامة بن زيد، ذهب يقضى حاجته، فلما جاء، جاء غلام أفطس أسود، فقال أهل اليمن: ما حبسنا بالإفاضة اليوم إلا من أجل هذا.

 

#98#

قال عروة: إنما كفرت اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أسامة رضي الله عنه.

ورواه ابن سعد فقال: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة, عن هشام ... فذكره وزاد: قال يزيد بن هارون: يعني ردتهم أيام أبي بكر رضي الله عنه.

هذه الصفة التي وصف بها أسامة في هذا الحديث موافق لما خرجه الدارقطني في "سننه" من حديث إبراهيم بن سعد, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل قائف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان, فقال: «هذه أقدام بعضها من بعض» قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجبه فأخبر به عائشة.

قال إبراهيم بن سعد: وكان زيد أحمر أشقر أبيض, وكان أسامة مثل الليل.

وقال أبو داود في "سننه": روي هذا الحديث من طريق سفيان, عن الزهري بنحوه, سمعت أحمد بن صالح يقول: كان أسامة أسود شديد السواد مثل القار, وكان زيد أبيض مثل القطن.

وذكر ابن الجوزي في كتابه "التلقيح" في ترجمة زيد بن حارثة, فقال: ذكر صفته, كان قصيراً, آدم شديد الأدمة, في أنفه فطس. انتهى.

قال جابر رضي الله عنه: ويقول صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة, السكينة»:

 

#99#

قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا محمد بن نعيم الواسطي, حدثنا حماد بن زيد, عن كثير بن شنظير, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما كان بدء الإيضاع من أهل البادية, كانوا يقفون حافتي الناس, وقد تعلقوا القسي والجعاب, فإذا نفروا تقعقعت, لقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن ذفري ناقته لتمس حاركها وهو يقول: «يا أيها الناس عليكم بالسكينة, يا أيها الناس عليكم بالسكينة».

الذفري: من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير, وهما ذفريان, قاله ابن فارس في "المجمل".

وقال سعيد بن جبير: حدثني ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم, وراءه زجراً شديداً وضرباً للإبل, فأشار صلى الله عليه وسلم بسوطه إليهم, وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة, فإن البر ليس بالإيضاع».

الإيضاع: الإسراع, وقال الفراء: هو مثل الخبب.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن الحكم, عن مقسم,

 

#100#

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وأمرهم بالسكينة, وأردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما وقال: «يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار, فإن البر ليس بإيجاف الإبل والخيل» فما رأيت ناقة رافعة يديها حتى بلغت جمعا، ثم أردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما من جمع إلى منى وهو يقول: «يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار, فإن البر ليس بإيجاف الإبل والخيل» فما رأيت ناقة رافعة يديها عادية حتى بلغت منى.

تابعه المسعودي, عن الحكم نحوه.

الإيجاف: في السير كالعنق, وهو سير من سير الدواب طويل, وقال ابن القطاع في "أفعاله": العنق دون الإسراع.

وروى يحيى بن سلمة بن كهيل, عن أبيه, عن الحسن العرني, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فقال: «يا أيها الناس, إنه ليس البر في إيجاف الإبل ولا إيضاع الخيل, ولكن سيراً جميلاً، لا توطئوا ضعيفاً ولا تؤذوا مسلماً».

الحسن العرني ثقة, لكنه لم يسمع من ابن عباس كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقال عبد الرزاق بن همام في "جامعه": أخبرنا ابن جريج, أخبرني

 

#101#

عبد الملك بن عبد الله قال: رأيت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبا سلمة بن سفيان واقفين على الجبل على بطن عرنة فوقفنا معهما, فلما دفع الإمام دفعا وقالا:

إليك تعدو قلقاً وضينها ... مخالفاً دين النصارى دينها

ويكبران بين ذلك حتى فاتانا بعرفة وهما يقولانها فسألت مولى لأبي بكر حينئذ معهم, فزعم أنه سمع أبا بكر يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها إذا دفع.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني, حدثنا سعيد بن سلمان, عن أبي الربيع السمان, حدثنا عاصم بن عبيد الله, عن سالم, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفات وهو يقول:

«إليك تعدو قلقاً وضينها ... مخالفاً دين النصارى دينها».

 

#102#

لم يرو هذا الحديث عن عاصم إلا أبو الربيع السمان, قاله الطبراني.

والوضين: الحزام.

وكانت إفاضة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق المأزمين وهو بين العلمين, وذلك غير طريقه التي دخل عرفة منها, والمأزمان شعب بين جبلين يفضي آخره إلى بطن عرنة.

قال جابر رضي الله عنه: كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد الجبل.

هو المستطيل من الرمل, وتقدم.

وقال هشام بن عروة, عن أبيه قال: سئل أسامة رضي الله عنه – وأنا جالس – كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العتق فإذا وجد فجوة نص.

والعنق دون الإسراع كما تقدم, والنص فوق العنق, من قولهم: نص الدابة؛ أي: حثها.

وذكر بعضهم أن النص تحريك الناقة حتى تستخرج أقصى سيرها.

 

#103#

قال جابر رضي الله عنه: حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين, ولم يسبح بينهما شيئاً, ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع الفجر, فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة.

المزدلفة: هي جمع أيضاً, وكلها من المحرم, وحدها ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر, وليس الحدان منها.

وصح عن [حديث] أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة.

وروى إبراهيم بن عقبة, عن كريب مولى ابن عباس أنه سأل أسامة بن زيد رضي الله عنهم قال: أخبرني عشية ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم, كيف فعلتم أو صنعتم؟ قال: جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمعرس, فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته, ثم بال – وما قال: أهراق الماء – ثم دعاء بالوضوء فتوضأ وضوءاً ليس بالسابغ جداً, قلت: يا رسول الله, الصلاة, قال: «الصلاة أمامك» قال: فركبت حتى قدمنا المزدلفة, فأقام المغرب, ثم أناخ والناس في منازلهم, فلم يحلوا [بفتح الياء وضم الحاء, أي فلم يحلوا أحمالهم] حتى أقام العشاء الآخرة فصلى, ثم حل الناس.

وأصله في "الصحيحين": من حديث مالك بن أنس, عن موسى بن عقبة, عن كريب.

 

#104#

تابعه يحيى بن سعيد الأنصاري وحماد بن زيد وغيرهما, عن موسى.

ورواه حاتم بن إسماعيل, عن موسى بن عقبة, [عن إبراهيم بن عقبة, عن كريب.

قال أبو القاسم البغوي: لا أعلم أن أحداً حدث بهذا الحديث عن موسى بن عقبة], عن إبراهيم بن عقبة غير حاتم بن إسماعيل إلا أن موسى قد سمع هذا الحديث من كريب نفسه.

ذكره عنه أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد" قال: وذكر إبراهيم بن عقبة خطأ.

قلت: إبراهيم بن عقبة رواه عن كريب متابعة لأخيه موسى.

 

#105#

حدث بذلك مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر وأبي كريب كلاهما عن ابن المبارك, وعن إسحاق بن يحيى بن آدم, عن زهير, كلاهما: عن إبراهيم بن عقبة, عن كريب.

تابعهما أخوهما محمد بن عقبة فيما رواه مسلم أيضاً, عن إسحاق, عن وكيع, عن سفيان, عن محمد بن عقبة.

وهو عند وكيع, عن سفيان, عن إبراهيم بن عقبة فيما خرجه النسائي.

وللحديث طرق منها: ما رواه أبو الوليد الأزرقي, عن جده, أخبرنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, أخبرني موسى بن عقبة, عن كريب مولى ابن عباس, سمعت أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فلما جئنا الشعب – أو إلى الشعب – نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأهراق الماء, ثم توضأ فلم يتم الوضوء ... وذكر الحديث.

وحدث به أيضاً, عن جده, عن سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن عقبة وابن أبي حرملة وهو محمد, عن كريب مختصراً.

وقال أبو بكر - أحمد بن يوسف بن خلاد النصيبي – حدثنا أبو محمد عبيد بن شريك, حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم, حدثنا محمد بن

 

#106#

جعفر, حدثني محمد بن أبي حرملة, حدثني كريب مولى ابن عباس, عن أسامة بن زيد أنه قال: ردفت النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة, فلما بلغ الشعب الأيسر الذي بين عرفة والمزدلفة أناخ به فبال, فصببت عليه من الإداوة, فتوضأ وضوءاً خفيفاً, فقلت: الصلاة, قال: «الصلاة أمامك» فركب حتى أتى المزدلفة ضحى بها.

خرجه مسلم في "صحيحه" لابن أبي حرملة بنحوه.

وهذا الشعب الذي بال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: شعب الإذخر على يسرة الطريق بين المأزمين.

وقال أبو الوليد الأزرقي: سألت جدي عن الشعب الذي بال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة حين أفاض من عرفة, قال: هو الشعب الكبير الذي بين مأزمي عرفة عن يسار المقبل من عرفة, يريد المزدلفة في أقصى المأزم مما يلي نمرة, وبين يدي هذا الشعب الميل ومن هذا الميل سقاية زبيدة التي في أول المزدلفة مثل الميل عنده دونها إلى المزدلفة قليلاً وفي أقصى هذا الشعب صخرة كبيرة, وهي الصخرة التي لم أزل أسمع من أدركت من أهل العلم يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بال خلفها استتر بها, ثم لم تزل أئمة الحج تدخل هذا الشعب فتبول فيه وتتوضأ إلى اليوم.

قال أبو محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي: أحسب أن جد أبي الوليد أوهم؛ وذلك أن أبا يحيى بن أبي ميسرة أخبرني أنه الشعب الذي في بطن المأزم عن يمينك وأنت مقبل

 

#107#

من عرفة بين الجبلين إذا أفضت من مضيق المأزمين, وهو أقرب وأوصل بالطريق؛ لأن الشعب الذي ذكره جد أبي الوليد الأزرقي يبعد عن الطريق.

وروى الإمام أحمد عن ابن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات, فلما كان حين راح رحت معه, حتى أتى الإمام فصلى معه الأولى والعصر, ثم وقف وأنا وأصحاب لي, حتى أفاض الإمام فأفضنا معه, حتى انتهى إلى المضيق دون المأزمين فأناخ وأنخنا, ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة, ولكنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته فهو يحب أن يقضي حاجته.

وقبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة لقيه خال سويد بن حجير, واسمه فيما قيل: صخر بن القعقاع الباهلي, وقيل: سعد بن الأخرم, وقيل: ابن المنتفق, فسأله: ما يقربني من الجنة.

وهو ما رواه معلى بن أسد, عن قزعة بن سويد, عن أبيه سويد بن حجير, عن خاله قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عرفة والمزدلفة, قال: فأخذت بخطام ناقته, فقلت: ماذا يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ فقال: «أما والله لئن أوجزت المسألة لقد أعظمت وطولت, أقم الصلاة المكتوبة, وأد الزكاة المفروضة واحجج البيت, وما أحببت

 

#108#

أن يفعله بك الناس فافعله بهم, وما كرهت أن يفعله الناس بك فدع الناس منه، خل عن خطام الناقة».

وروى الواقدي عن محمد بن مسلم الجوسق المخزومي مولاهم, عن عثيم بن كثير بن كليب الجهني, عن أبيه, عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وقد دفع من عرفة إلى جمع والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمها حتى نزل قريباً منها.

وفي تلك الليلة – عند غيبوبة القمر – أذن النبي صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر, وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.

وخرج الترمذي من حديث وكيع, عن المسعودي, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».

حديث ابن عباس رضي الله عنهما حديث حسن صحيح, قاله الترمذي.

 

#109#

ورواه الأعمش, عن الحكم, [عن مقسم, عن ابن عباس], وهو معروف من حديث الأعمش, قاله يحيى بن معين.

وخرج أبو داود من حديث سلمة بن كهيل, عن الحسن العرني, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني [عبد] المطلب على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أبيني – [أي بني] – لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».

قال أبو داود: اللطح: الضرب اللين.

وفي "المجمل": اللطح: الضرب ببطن الكف.

والحديث في "سنن النسائي" وابن ماجه, وهو منقطع, فإن الحسن العرني – وإن كان ثقة, وقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري – لم يسمع من ابن عباس شيئاً, قاله الإمام أحمد بن حنبل فيما رواه عنه ابنه عبد الله, رواه عنه كتابة ابن أبي حاتم في كتابه "المراسيل".

وذكره نحوه يحيى بن معين فقال: يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس.

 

#110#

وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن منصور, عن سلمة بن كهيل,. عن الحسن العرني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أو عن الحسن عن ابن عباس ... فذكره بنحوه.

وقد جاءت رواية مصرحة بسماع الحسن من ابن عباس, قال عبد الرزاق بن همام في "جامعه": قال الثوري: عن سلمة بن كهيل, عن الحسن العرني قال: سمعت ابن عباس يقول: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب. وذكره بنحوه.

وصح من حديث عبيد الله بن أبي يزيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله.

ورواه عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث بي من جمع بسحر مع ثقله.

وجمع: تقدم أنه اسم للمزدلفة؛ لاجتماع الناس بها, وقيل: لاجتماع آدم وحواء بها لما أهبطا.

وفي الصحيحين من حديث القاسم, عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس, وأقمنا نحن حتى أصبحنا, ثم دفعنا بدفعه, فلأن أكون

 

#111#

استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به.

وروى الشافعي, عن داود بن عبد الرحمن العطار وعبد العزيز بن محمد الدراوردي, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر, فأمرها أن تجعل الإفاضة من جمع حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح, وكان يومها, فأحب أن توافقه, وفي رواية: أن توافيه.

وخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر, ثم مضت فأفاضت, وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها.

وفي المزدلفة سأل عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن حجه

فيما خرجه الترمذي من حديث سفيان, عن داود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وزكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي, عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليهوسلم  بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة, فقلت: يا رسول الله, إني جئت من جبلي طيء, أكللت راحلتي وأتعبت نفسي, ووالله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه, فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه, فوقف معنا حتى ندفع, وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً, فقد تم حجه وقضى تفثه».

 

#112#

هذا حديث حسن صحيح. قاله الترمذي.

وصححه الإمام أحمد.

وألزم الدارقطني البخاري ومسلماً إخراجه.

وهو في "معجم الطبراني الأوسط" من طريق إسماعيل بن أبي خالد.

وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, عن عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه أنه حج على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يدرك الناس إلا وهم بجمع, قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله, أتعبت نفسي.. وذكر الحديث.

وهو عند أبي معاوية وعلي بن عاصم ويعلى بن عبيد, ويزيد بن هارون, عن إسماعيل بن أبي خالد بنحوه.

 

#113#

تابعه سيار [بن أبي سيار] وأبو يزيد – داود بن يزيد الأودي – وزبيد اليامي وعبد الله بن أبي السفر ومطرف وغيرهم, عن الشعبي نحوه.

وفي بعض طرقه فيما رواه إبراهيم بن محمد الشافعي, عن ابن عيينة, عن داود بن يزيد, عن الشعبي, عن عروة, قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى الصبح, فقال: «أفرخ روعك».

 

#114#

وفي لفظ آخر عن عروة قال: يا رسول الله, طويت الجبلين ولقيت شدة فقال: «أفرخ روعك, من أدرك إفاضتنا هذه فقد أدرك الحج».

قوله: «أفرخ روعك» هو من الأمثال من قولهم: أفرخ الروع: أمن, قاله الزبيدي في "مختصر العين".

وقيل: هو من قولهم: فرخ الأمر وأفرخ أي: انجلى وانكشف بعد الاشتباه, كما ينكشف ما في البيضة إذا انشق عن الفرخ, وذكر في معناه غير هذا.

وقد جاءت رواية مصرحة أن عروة ذهب إلى عرفات ليلاً والناس في المزدلفة وأتى إليهم بها.

قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو نعيم, حدثنا زكريا بن أبي زائدة, عن عامر, حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن

 

#115#

حارثة بن لام رضي الله عنه أنه حج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدرك الناس إلا ليلاً وهم بجمع, فانطلق إلى عرفات ليلاً فأفاض منها, ثم رجع إلى جمع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعملت نفسي وأنصبت راحلتي فهل لي من حج؟ قال: «من صلى معنا الغداة بجمع, ووقف معنا حتى يفيض, وقد أفاض من عرفات قبل ذلك ليلاً ونهاراً, فقد تم حجه وقضى تفثه».

قال جابر رضي الله عنه: "ثم ركب القصواء, حتى أتى المشعر الحرام – وفي رواية: حتى وقف على المشعر الحرام – فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده, فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً":

المشعر الحرام: هو جبل صغير آخر المزدلفة وليس من منى وهو قزح, وقد بني عليه بناء من جهة المزدلفة بدرج يرقى فيها إلى أعلاه حسبما شاهدته, ولله الحمد.

وقد تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين وقف على قزح: «هذا الموقف وكل مزدلفة موقف».

قال جابر رضي الله عنه: فدفع قبل أن تطلع الشمس.

 

#116#

خرج الترمذي من حديث الأعمش, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض قبل طلوع الشمس, وحسنه الترمذي.

وله شاهد من حديث عمر وسلمان رضي الله عنهما.

قال جابر رضي الله عنه: وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنه, وكان رجلاً حسن الشعر, أبيض وسيماً, فلما دفع النبي صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين, فطفق الفضل ينظر إليهن, فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده [على وجه الفضل, فصرف وجهه إلى الشق الآخر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده] من الشق الآخر على وجه الفضل.

خرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث خالد بن خداش, حدثنا سكين بن عبد العزيز, عن أبيه, عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه, وجعل الفتى يلاحظ إليهن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».

وروينا من حديث أبي بكر الشافعي، حدثنا أبو أحمد الشطوي

 

#117#

– محمد بن محمد – حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو عبيدة، حدثنا سكين بن عبد العزيز سمعت أبي يقول: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رضي الله عنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، قال فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يغطي وجهه مرارا، ويستر وجهه بيده، وجعل الفتى يلاحظ النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أخي، هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».

تابعهما أبو عمر الحوضي، عن سكين.

وقال أيضا: حدثنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان، حدثنا أيوب بن محمد الوزان، حدثني الوليد بن الوليد، حدثنا عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن الفضل بن عباس رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فجاء رجل من أهل اليمن يسأله عن بعض الأمر وخلفه امرأة ضخمة حسناء، قال: فجعلت أنظره نظرا، ففطن بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهوى بمخصرة فوكزني بها وقال: «يا ابن أخي، هذا يوم من حفظ عينيه من النظر ولسانه أن يتكلم بما لا يحل له غفر له إلى من [كذا] عام قابل من هذا».

 

#118#

وقال كريب: قلت يعني لأسامة بن زيد: أخبرني كيف فعلتم حين أصبحتم قال: ردفه الفضل بن عباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي.

قال جابر رضي الله عنه: حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا:

روى بكير بن مسمار عن عبد الله بن خراش بن أمية الكعبي، عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر.

محسر بضم أوله وفتح الحاء، وشد السين المهملتين بعدها راء، واد بين يدي موقف المزدلفة مما يلي منى، وليس هو من الموقف ولا من منى.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا محبوب القواريري، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: لما بلغنا وادي محسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا حصا الجمار من وادي محسر».

 

#119#

وفي رواية عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع وهو كاف ناقته وهو يقول: «أيها عليكم بالسكينة» فلما جاء محسر قال: «عليكم بحصا الخذف».

وخرج يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة وهو مردف أسامة بن زيد رضي الله عنه فقال: «هذا الموقف وكل عرفة موقف» ثم دفع يسير العنق، والناس يضربون وهو يلتفت يمينا وشمالا ويقول: «السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس». حتى جاء إلى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين، ثم وقف بالمزدلفة، فأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما فوقف على قزح، فقال: «هذا الموقف وكل مزدلفة موقف» ثم دفع يسير العنق والناس يضربون يمينا وشمالا، وهو صلى الله عليه وسلم يلتفت ويقول: «السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس» فلما وقف على محسر قرع راحلته فخبت حتى خرج من الوادي، ثم سار مسيره حتى رمى جمرة العقبة، ثم دخل المنحر، فقال، «هذا المنحر وكل منى منحر» ثم جاءت امرأة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الله على عباده في الحج، أفأحج عنه؟ فقال: «حجي عن أبيك».

 

#120#

وخرجه أحمد في "مسنده" والترمذي في "جامعه" وصححه، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه بنحوه.

ورواه يعقوب بن شيبة من طريق سليمان بن بلال وحاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن الحارث مختصرا.

ورواه من طريق المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه تاما،

قال يعقوب: حديث مديني حسن الإسناد، غير أن عبد الرحمن بن الحارث يروي أحاديث مناكير. انتهى.

عبد الرحمن هذا هو ابن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي.

وخرج الحديث أيضا يعقوب بن شيبة من طريق عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي، عن أبيه علي، فلم يذكر عبيد الله بن أبي رافع، وعلي بن حسين لم يلق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاله يعقوب بن شيبة.

وقال: يحيى بن عبد الله بن سالم ليس بالمشهور المعتمد عليه انتهى.

 

#121#

وفي رواية أبي الزبير التي قدمناها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأخذ حصى الجمار من محسر.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا إسماعيل بن علية، عن عوف، عن زيد بن الحصين، حدثنا أبو العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: «القط لي حصيات» قال: فلقطت له حصيات مثل حصا الخذف فقال: «بمثل هذا فارموا».

وحدث به النسائي في "سننه" عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن ابن علية، وعن أبي قدامة –واسمه عبيد الله بن سعيد السرخسي – عن يحيى، وهو ابن سعيد القطان، كلاهما عن عوف، عن زياد بن حصين بنحوه.

وزياد هو الصواب.

وخرجه ابن ماجه من حديث أبي أسامة، عن عوف وصححه ابن حبان والحاكم.

وحدث به عبد الرزاق في "جامعه" عن إسماعيل بن عبد الله -هو

 

#122#

ابن علية-، وابن المبارك وغيرها، عن عوف العبدي، عن زياد بن الحصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن الفضل رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غداة العقبة: «هات، القط لي» فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: «نعم أمثال هؤلاء، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث حماد بن زيد، عن المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثتني أم جندب رضي الله عنها أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الجمرة وهو يقول: «يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وارموا مثل حصا الخذف».

تفرد به حماد.

وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي، عن أمه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقتل بعضكم بعضا» وذكر الحديث بنحوه.

 

#123#

وحدث به عبد الرزاق في "جامعه" عن معمر وغير واحد، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي، عن أمه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو يقول: «يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، إذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذف».

وحدث به علي بن مسهر وغيره عن يزيد بن أبي زياد ولفظه: عن أمه أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم استبطن الوادي فرمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

وخرجه أبو داود في "سننه" فقال: حدثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ووهب بن بيان قالا: حدثنا عبيدة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكبا ورأيت بين أصابعه حجرا فرمى ورمى الناس.

وخرج أبو نعيم في "معرفة الصحابة" من حديث سعيد بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبد الرحمن بن حرملة، حدثني

 

#124#

يحيى بن هند، عن والدي حرملة بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وعمي مردفي، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واضع أصبعيه إحداهما على الأخرى، قال: قلت: ماذا يقول؟ قال: يقول: «ارموا بمثل حصا الخذف».

وخرجه أبو نعيم أيضا من طريق ضرار بن صرد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن يحيى بن هند، عن حرملة بن عمرو قال: كنت مع عمي سنان بن سنة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقلت لعمي: ما يقول؟ قال: يقول: «ارموا الجمار بمثل حصا الخذف».

ورواه بشر بن المفضل وعبد الله المديني – والد علي – ووهيب بن خالد وإبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن حرملة نحوه.

 

#125#

وفي طريقه هذه سألته الخثعمية عن الحج عن أبيها كما مر في حديث عبد الرحمن بن الحارث المخزومي.

قال البخاري في "صحيحه": حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سليمان بن يسار، أخبرني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق – يعني الفضل – ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف يده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول، إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: «نعم».

تابعه مالك والأوزاعي وسفيان بن عيينة وعبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهري بنحوه.

ورواه أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، حدثني سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس عن الفضل أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: «حجي عنه».

 

#126#

وقال النسائي في "سننه الكبرى": أخبرنا أحمد بن سليمان، حدثنا يزيد، أخبرنا هشام، عن محمد، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة، وإن حملتها لم تستمسك، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلمو: «أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه؟» قال نعم، قال: «فحج عن أمك».

تابعه عبد الأعلى عن هشام يعني: ابن حسان

ورواه النسائي أيضا عن أبي داود الحراني، عن الوليد بن نافع، عن شعبة، عن يحيى بن أبي إسحاق به.

وسليمان بن يسار لم يدرك الفضل بن عباس، لأن الفضل توفي زمن عمر رضي الله عنه بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.

وجاء في رواية عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس. مكان: الفضل. وهو ما قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، حدثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن أبي إسحاق قال: [قال] سليمان بن يسار: حدثني عبيد الله بن العباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث.

 

#127#

ورواه علي بن عاصم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس.

قال: قلنا ليحيى: إن محمدا – يعني ابن سيرين – حدث عنك أنك حدثت بهذا الحديث عن سليمان بن يسار، عن الفضل بن عباس فقال: ما حفظته إلا عن عبيد الله بن عباس، فهذا أشبه؛ لأن عبيد الله بن عباس، بقي إلى زمن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

وقال محمد بن عمر الواقدي: روى أيوب السختياني هذا الحديث، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس.

قلت: قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا معن بن عيسى، حدثنا مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عمن أخبره، عن عبيد الله بن عباس .. فذكره.

وجاء في رواية عبيد الله أو الفضل على الشك.

قال أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "التاريخ" أيضا: فحدثنا أبي، حدثنا ابن علية، عن يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا سليمان بن يسار، حدثني أحد ابني العباس – إما عبيد الله وإما الفضل – أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن أمي – أو إن أبي - ثم ذكر الحديث.

 

#128#

خرجه النسائي في "سنة الكبرى" فقال: أخبرنا مجاهد بن موسى، عن هشيم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم إن أبي أدركه الحج، وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته، وإن شددته خشيت أن يموت، أفأحج عنه؟

قال: «أرأيت لو كان عليه دين قضيته أكان مجزءا؟» قال: نعم قال: «فحج عن أبيك».

خالفه ابن سيرين كما في روايته عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل.

(ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد" أنه يقوى في الظن أن حديث يحيى بن أبي إسحاق هذا، وحديث الزهري الذي قدمناه واحد، وحديث الزهري أصح. انتهى.

والزهري حافظ، أتقن أثبت من يحيى بن أبي إسحاق، لاسيما وقد رواه ابن سيرين، كما قدمناه عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل)، فهذا مما يقوي الظن أن الحديثين واحد.

وقد ذكر ابن أبي خيثمة أن القصة كانت غداة النحر لا شك فيه. وعبد الله بن عباس قد قدم إلى منى. يعني: في ضعفة أهل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عن مصعب أن عبيد الله بن عباس كان أصغر سنا من عبد الله، قال فالفضل لا شك فيه، كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

 

#129#

فحديث بني العباس واحد – والله أعلم - لكن القصة غير واحدة، لما روي من حديث جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير [عن عبد الله بن الزبير] رضي الله عنهما قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب, وأدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ أحج عنه؟ قال: «أنت أكبر ولده؟» قال: نعم, قال: «أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟» قال: نعم, قال: «فحج عنه».

خرجه النسائي في "سننه الكبرى" عن إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا جرير ... فذكره.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بنحوه.

وخرج النسائي [أيضاً] من طريق وكيع فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا وكيع, حدثنا شعبة, عن النعمان بن سالم, عن عمرو بن أوس, عن أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة والظعن, فقال: «حج عن أبيك واعتمر».

تابعه خالد بن الحارث, عن شعبة.

 

#130#

وخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه.

ومن طريقه خرجه البيهقي في "معارف السنن" وفي "سننه الصغرى".

وقال في "المعارف": وقد روينا عن أحمد بن حنبل أنه قال: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا, ولا أصح منه.

وأبو رزين هذا: لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي, ويقال له لقيط بن صبرة, وإليه ذهب يحيى بن معين والبخاري فجعلاه واحداً, وجعلهما اثنين علي بن المديني ومحمد بن سعد وغيرهما.

وقد جاء في هذه القصة روايتان عن ابن عباس مختلفتان يقوى في الظن أنهما ثنتان.

 

#131#

وذلك ما رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن محمد بن كريب, عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني حصين بن عوف، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أبي شيخ كبير عليه حجة الإسلام, لا يستطيع أن يسافر إلا معروضاً فما ترى, قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «حج عن أبيك».

كذا قال ابن عباس: عن حصين بن عوف.

وحدث به ابن ماجه في "سننه" عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن أبي خالد الأحمر, عن محمد بن كريب بنحوه.

وقال ابن أبي خيثمة أيضاً: حدثنا محمد بن عيسى الوابشي, حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج, أفأحج مكانه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم, حج عن أبيك».

لم يذكر عكرمة في حديثه حصين بن عوف, جعل الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم, قاله ابن أبي خيثمة.

 

#132#

وقال الشافعي: أخبرنا مالك, عن أيوب, عن ابن سيرين أن رجلاً جعل على نفسه أن لا يبلغ أحد من ولده الحلب فيحلب ويشرب ويسقيه إلا حج وحج به معه, فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأخبره الخبر فقال: إن أبي قد كبر ولا يستطيع أن يحج, أفأحج عنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».

قال الشافعي – وذكر مالك أو غيره – عن أيوب, عن ابن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن أمي عجوز كبيرة لا نستطيع أن نركبها على البعير, وإن ربطتها خفت أن تموت, أفأحج عنها؟ قال: «نعم».

ورواه ابن وهب وغيره عن مالك فيما ذكره البيهقي.

 

#133#

$[التلبية إلى رمي جمرة العقبة]$

ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي في سيره حتى رمى جمرة العقبة التي تعرف بقارعة الوادي.

صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة رضي الله عنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة, ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى, قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث مسدد, حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبد الملك, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة, وردفه أسامة بن زيد, فجالت به الناقة, وهو رافع يديه لا يجاوزان رأسه, ثم سار على هيئته إلى جمع وردفه الفضل, فما زال يلبي حتى رمى [الجمرة.

وروى ابن جريج عن عطاء, أخبرني ابن عباس أن الفضل بن عباس رضي الله عنهم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى] جمرة العقبة.

 

#134#

تابعه مطر, عن عطاء, عن ابن عباس, وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التلبية حتى رمى الجمرة القصوى يوم النحر.

عطاء هذا هو ابن أبي رباح المكي الذي لقي ابن عباس وسمع منه, وليس بالخراساني, لأنه لم يلقه, وإنما كان يرسل الرواية عنه, قاله الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد".

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا ابن الأصبهاني, أخبرنا حفص بن غياث, عن جعفر بن محمد يعني ابن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب, عن أبيه محمد بن علي – يعني ابن حسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب – عن علي بن حسين – يعني ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب – عن ابن عباس – يعني عبد الله بن عباس بن عبد المطلب – عن الفضل – يعني ابن العباس بن عبد المطلب – أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة, ورماها بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة تكبيرة.

وحدث عبد الرزاق في "جامعه" عن معمر, عن أيوب, عن عكرمة,

 

#135#

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة.

وهو عند عبد الرزاق أيضاً عن الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس.

تابعه أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي, عن الثوري. وله شاهد من حديث ابن مسعود وغيره.

وروى يزيد بن زريع وعبد الأعلى ومحمد بن سلمة وأبو تميلة وإبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق واللفظ لإبراهيم, حدثني أبان بن صالح, عن عكرمة قال: دفعت مع حسين بن علي إلى المزدلفة, فلم أزل أسمعه يقول: لبيك لبيك, حتى انتهى إلى الجمرة, فقيل له: ما هذا الإهلال يا أبا عبد الله, فإني لا أرى الناس يصنعون هذا، قال: إني سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يهل حتى انتهى إلى الجمرة, وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حتى انتهى إلى الجمرة.

خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث الجماعة المذكورين عن ابن إسحاق.

 

#136#

قال يعقوب: حديث صالح الإسناد, يرجع إلى أهل الحجاز, قال: ولا نحفظه عن علي رضي الله عنه إلا من هذا الطريق.

قال جابر رضي الله عنه: ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج – وفي رواية: تخرجك – على الجمرة الكبرى, حتى إذا أتى الجمرة التي عند الشجرة – وفي رواية: عندها الشجرة – فرماها بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة منها حصا الخذف, رمى من بطن الوادي الجمرات الثلاثة.

الجمرة المذكورة في هذا الحديث, جمرة العقبة التي عند الشجرة. ويقال لها: الجمرة الكبرى, وهي في آخر منى مما يلي مكة, وليست هذه العقبة التي تنسب إليها الجمرة من منى.

والجمرة الأولى والوسطى هما معاً فوق مسجد الخيف إلى ما يلي مكة, وجمرات منى الثلاث بين كل جمرتين غلوة سهم.

وصح عن عبد الرحمن بن يزيد أنه حج مع ابن مسعود رضي الله عنه, فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات, وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه, ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظ: قال عبد الرحمن: فاستبطن الوادي, حتى إذا حاذى

 

#137#

بالشجرة اعترضها, فرمى سبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, ثم قال: من هاهنا – والذي لا إله غيره – قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أن ابن مسعود أتى جمرة العقبة, فاستبطن الوادي، فاستعرضها فرماها من يطن الوادي بسبع حصيات .... الحديث.

وفي رواية خرجها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" قال: حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد, عن أبيه قال: أفضت مع عبد الله رضي الله عنه, فرمى سبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, واستبطن الوادي حتى إذا فرغ قال: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً, ثم قال: هكذا رأيت الذي نزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم صنع.

قال البيهقي في قوله: يكبر مع كل حصاة: وفي ذلك دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قطع التلبية بأول حصاة, ثم كان يكبر مع كل حصاة.

وخرج الدارقطني في "سننه" من حديث أبي خالد الأحمر, عن

 

#138#

محمد بن إسحاق, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم النحر حين صلى الظهر, ثم رجع فمكث بمنى ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس, كل جمرة بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع, ثم يرمي الثالثة ولا يقف عندها.

وخرجه أبو داود في "سننه" وأحمد في "مسنده" وابن حبان والحاكم في "صحيحيهما".

وخرج الدارقطني في "سننه" من حديث سعيد بن بحر القراطيسي, عن عثمان بن عمر, عن يونس, عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد – مسجد منى - يرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل البيت رافعاً يديه يدعو وكان يطيل الوقوف, ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي, فيقف مستقبل البيت رافعاً يديه يدعو ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم ينصرف ولا يقف عندها.

قال الزهري: سمعت سالم بن عبد الله يحدث بهذا عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: كان ابن عمر يفعله.

 

#139#

خرجه البخاري في "صحيحه" لعثمان, وسيأتي إن شاء الله تعالى .

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن يحيى بن الحصين, عن أم الحصين جدته رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فرأيت أسامة وبلالاً, وأحدهما أخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, والآخر رافع ثوبه يستره من الحر, حتى رمى جمرة العقبة.

وخرجه مسلم في "صحيحه" وأبو داود في "سننه" عن أحمد بن حنبل.

وأبو عبد الرحيم: اسمه خالد بن أبي يزيد, وهو خال محمد بن سلمة الراوي عنه.

وفي رواية عن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فرأيته حين رمى جمرة العقبة, وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة, أحدهما يقود به راحلته, والآخر رافع ثوبه على رأس النبي صلى عليه وسلم يظلله من الشمس.

 

#140#

وقد جاء في طريق أن بلالاً رضي الله عنه كان القائد, وأسامة رضي الله عنه رافع الثوب.

قال عبد الله بن جعفر الرقي: حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن زيد ابن أبي أنيسة, عن يحيى بن الحصين, عن جدته أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فرأيت بلالاً وأسامة رضي الله عنهما, وبلال يقود خطام راحلته, والآخر رافعاً ثوبه يستره به من الحر حتى رمى جمرة العقبة, ثم انصرف وقد جعل ثوبه تحت إبطه الأيمن على عاتقه الأيسر, فرأيت تحت غضروف كتفه الأيمن كهيئة جمع, فوقف على الناس, فقال قولا كثيراً, فكان مما قال: «إن أمر عليكم عبد أسود مجدع, يقودكم بكتاب الله, فاسمعوا له وأطيعوا».

خرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" للرقي.

 

#141#

وخرجه أبو نعيم مختصراً في "معرفة الصحابة" من حديث زهير, حدثنا أبو إسحاق, عن يحيى بن الحصين, عن جدته أم الحصين رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, وهو على رحله وراحلته, وحصين في حجري, وقد أدخل ثوبه من تحت إبطه.

رواه إسرائيل وأبو الأحوص وغيرهما, عن أبي إسحاق ولم يقولوا: وحصين في حجري. تفرد بن زهير, قاله أبو نعيم.

والحديث له طرق: منها ما رواه عبيد الله بن موسى القواريري وأبو غسان مالك بن إسماعيل وعبد الله بن رجاء واللفظ له قالوا: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن يحيى بن حصين, عن جدته أم حصين رضي الله عنها قالت: أنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس بمنى قد التحف بثوبه, وإن عضلة عضده ترتج وهو يقول: «إذا استعمل عليكم عبد حبشي مجدع, فأقام فيكم كتاب الله, فاسمعوا وأطيعوا».

والحديث عند زهير وأبي الأحوص وغيرهما, عن أبي إسحاق بنحوه. (ورواه أبو بكر بن عياش, عن أبي إسحاق), عن يحيى بن الحصين والعيزار بن حريث, عن أم الحصين بمعناه.

ورواه شعبة, عن يحيى بن حصين, عن جدته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات .... وذكر نحوه.

 

#142#

ورواه أبو نعيم – الفضل بن دكين – عن يونس بن إسحاق, عن العيزار ابن حريث: سمعت الأحمسية – يعني أم الحصين – تقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, عليه برد قد التحف به من تحت إبطه وأنا أنظر إلى عضلة ساقه ترتج وهو يقول: «أيها الناس, اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع, فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله».

وخرج الشافعي والدارمي في مسنديهما, واللفظ للدارمي من حديث أيمن بن نابل, عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار على ناقة صهباء ليس ثم ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.

وفي بعض طرقه من رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني, حدثنا ابن المبارك, عن أيمن بن نابل, حدثني قدامة بن عبد الله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وهو يرمي الجمرة على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك [إليك].

ورواه عاصم بن علي, حدثنا أخي الحسن بن علي, حدثنا أيمن بن نابل مثله. ورواه إسحاق بن راهويه, أخبرنا وكيع, حدثنا أيمن ... فذكر مثله.

 

#143#

ورواه سعيد بن منصور, حدثنا علي بن ثابت, عن أيمن بن نابل مثله.

وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده" عن أبي أحمد – محمد بن عبد الله الزبيري – حدثنا أيمن بن نابل, حدثني قدامة بن عبد الله الكلابي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة – جمرة العقبة – من بطن الوادي يوم النحر على ناقة له صهباء لا ضرب ولاطرد ولا إليك إليك .

رواه جماعة عن أيمن منهم: سيفان الثوري, وعبد الرزاق, وهمام, وله طرق, وقد ألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في "الصحيح".

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري, حدثنا ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر يقول:

«لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه».

 

#144#

وهو في "صحيح مسلم" عن عيسى بن يونس – هو ابن أبي إسحاق السبيعي – عن ابن جريج.

وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار, حدثنا علي بن حجر المروزي, حدثنا الهيثم بن حميد, حدثنا المطعم بن المقدام, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر يقول: «لتأخذ أمتي مناسكها, فإني لا أدري أحج بعد عامي هذا».

تفرد به علي بن حجر, قاله الطبراني.

وخرج النسائي من طريق يزيد بن أبي زياد, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكباً, ورأيت بين أصابعه حجراً فرمى ورمى الناس .... الحديث.

 

#145#

$[معجزة]$

وخرجه ابن ماجه في "سننه" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن يزيد بن أبي زياد, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أم جندب رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر, ثم انصرف وتبعته امرأة من خثعم ومعها صبي لها به بلاء, فقالت: يا رسول, إن هذا ابني وبقية أهلي وإن به بلاء لا يتكلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بشيء من ماء» فأتي بماء فغسل يديه ومضمض فاه, ثم أعطاه, فقال: «اسقيه منه, وصبي عليه منه, واستشفي الله له», قالت: فلقيت المرأة, فقلت: لو وهبت لي منه, فقالت: إنما هو لهذا المبتلى، قالت: فلقيت المرأة من الحول, فسألتها عن الغلام, فقالت: برئ وعقل عقلاً ليس كعقول الناس.

وحدث به أحمد بن حنبل فقال: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا يزيد – يعني بن عطاء – عن يزيد- يعني ابن أبي زياد – عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي – حدثتني أمي أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي وخلفه إنسان يستره من الناس أن يصيبوه بالحجارة وهو يقول: «أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً, وإذا رميتم فارموا بمثل حصا الخذف» ثم أقبل فأتته امرأة بابن لها, فقالت:

 

#146#

يا رسول الله, إن ابني هذا ذاهب العقل, فادع له, قال: «ائتيني بماء في تور من حجارة» فتفل فيه وغسل فيه وجهه, ثم دعا فيه, ثم قال: «اذهبي فاغسليه به, واستشفي الله» فقلت لها: هبي لي منه قليلاً لابني هذا, فأخذت منه قليلاً بأصابعي, فمسحت به شفة ابني, فكان من أبرأ الناس, فسألت المرأة بعد ما فعل ابنها؟ قالت: برئ أحسن برء.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا خالد بن عبد الله, عن يزيد بن أبي زياد, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس حتى رمى جمرة العقبة, ورأيته رمى جمرة العقبة من بطن الوادي.

 

#147#

$[وقت الرمي ورفع ما يقبل من الأحجار]$

وكان رمي النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة ضحى.

رواه ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر الضحى, وبعد ذلك عند زوال الشمس.

خرجه أبو داود في "سننه" والدارمي في "مسنده".

وقال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا إبراهيم بن يزيد, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر على راحلته ضحى, وكان يرمي بعد ذلك إذا زالت الشمس.

خرج الطبراني من حديث يزيد بن سنان, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, عن أبيه رضي الله عنه قلنا: يا رسول الله, ما هذه الجمار التي نرمي كل سنة, فنحسب أنها تنقص؟ فقال: «ما تقبل منها رفع, ولولا ذلك رأيتموها [مثل] الجبال».

تفرد به يزيد بن سنان.

 

#148#

وخرجه أبو سعيد – المفضل بن محمد الجندي – في كتابه "أخبار مكة" فقال: حدثنا سعيد, حدثنا سفيان, عن سليمان بن أبي المغيرة العبسي, عن عبد الرحمن بن أبي نعم, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: الحصا قربان, فمن تقبل منه رفع. هذا موقوف.

وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن عيينة كذلك.

وقال المفضل الجندي: حدثنا سفيان, عن ابن جريج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تقبل الله حج امرئ إلا رفع له حصاه.

حدثنا سعيد, حدثنا سفيان, [عن فطر, عن أبي العباس], عن أبي الطفيل, سألت ابن عباس رضي الله عنهما قلت: ما بال هذه الجمار ترمى في الجاهلية والإسلام, فكيف لا تسد الطريق؟ قال: إنه والله ما تقبل من امرئ حجه إلا رفع له حصاه.

وقال: حدثنا سعيد, حدثنا سفيان, عن فطر وابن أبي حسين, عن

 

#149#

أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما رمى الناس الجمار في الجاهلية والإسلام, فكيف لا تسد الطريق, قال: ما تقبل منه رفع, ولولا ذلك كان أعظم من ثبير.

حدث به كذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن عيينة, عن فطر.

وقال المفضل: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي, سمعت عطاء الخراساني يقول: يغفر للحجاج بكل حصاة من حصا الجمار كبيرة من الكبائر.

 

#150#

$[النحر والمنحر]$

قال جابر رضي الله عنه: ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر.

هذا المنحر, قيل: هو منحر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي ذبح فيه الكبش, وهو الذي تنحر فيه الخلفاء. وقد رأيت مسجداً لطيفاً عند الجمرة الوسطى على يسار الذاهب إلى مكة, قيل لي هو مسجد بني علي منحر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال جابر رضي الله عنه: فنحر ثلاثاً وستين بيده, ثم أعطى علياً رضي الله عنه فنحر ماعزاً وأشركه في هديه, ثم أمر من كل بدنة ببضعة, فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.

وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن [محمد] بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – لعلي رضي الله عنه: «بم كان إهلالك يا علي؟», قال: يا رسول الله لم يأتني الخبر, فقلت: اللهم إهلال كإهلال نبيك صلى الله عليه وسلم، فأشركه في بدنه، فنحر رسول الله بيده سبعا وستين، ونحر علي ثلاثاً وثلاثين, ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة فطبخت في مرجل فحسوا من المرق وأكلا من اللحم.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث وهب بن بقية, أخبرنا خالد, عن أبن أبي ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن

 

#151#

عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة, فنحر منها ستين بدنة, وأمر رجلاً من أصحابه فنحر منها أربعين, وأمره فأخذ من كل بدنة بضعة فينظمن في خيط فطبخن في قدر فأكل منها وحسا.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق زهير بن معاوية, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن الحكم.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني رجل, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد بن جبر, عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة, نحر منها ثلاثين بدنة بيده, ثم أمر علياً رضي الله عنه فنحر ما بقي منها, وقال له: «اقسم لحومها وجلالها وجلودها بين الناس, ولا تعطين جزاراً منها شيئاً, وخذ لنا من كل بعير حذية من لحم, ثم اجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحسوا من مرقها» ففعل.

كان الهدي مائة وجميعه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما أشرك فيه علياً.

قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن أيوب في "المغازي": حدثنا إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني عبد الله بن

 

#152#

أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث علياً إلى نجران فلقيه بمكة وقد أحرم ... الحديث, وفيه: فلما فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق فطف بالبيت, وحل كما حل أصحابك» قال: يا رسول الله, إني قد قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم, قال: «فهل معك من هدي؟» قال: لا, فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه, وثبت على إحرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرغا من الحج ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنهما.

الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي ثلاث وثلاثون بدنة والباقي قدم به علي رضي الله عنه من اليمن, وكان صلى الله عليه وسلم متطوعاً بهديه.

قال البيهقي: قال الشافعي: وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تطوع؛ لأنه كان مفرداً لا هدي عليه. انتهى.

وخرج الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج, حجتين قبل أن يهاجر, وحجة بعدما هاجر ومعها عمرة, فساق ثلاثاً وثلاثين بدنة.

وجاء علي رضي الله عنه من اليمن ببقيتها, فيه جمل لأبي لهب في أنفه برة من فضة, فنحرها, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة فطبخت وشرب من مرقها.

وخرجه ابن ماجه وقال: فيها جمل لأبي جهل.

 

#153#

وقال الدارقطني: حدثنا أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية حدثنا محمد بن عمرو بن أبي مذعور, حدثنا النضر بن شميل, أخبرنا إسرائيل, عن عبد الكريم, عن مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن علي رضي الله عنه قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة, فيها جمل أبي جهل مزموم ببرة من فضة, فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين بيده وأعطى علياً أربعين وقال: «تصدق بجلالها, ولا تعط الجزار منها شيئاً».

وحدث هشيم, عن ابن أبي ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة, فيها جمل لأبي جهل.

ذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن حديث هشيم هذا فقال: لم يسمعه هشيم.

لكن خرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية جمل أبي جهل بن هشام عليه خشاش من ذهب وهو الزمام, وما فعل ذلك إلا ليغيظ قريشاً.

 

#154#

تابعه إبراهيم بن سعد فيما خرجه أحمد بن حنبل من طريقه, عن ابن إسحاق.

وخرجه أبو داود من طريق محمد بن سلمة ويزيد بن زريع, عن ابن إسحاق المعنى [قال]: قال عبد الله بن أبي نجيح, حدثني مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً [كان] لأبي جهل في رأسه برة فضة – وفي رواية ابن سلمة برة من ذهب – زاد ابن سلمة: يغيظ بذلك المشركين.

قال أبو داود: قال النضر: البرة حلقة الأنف, وهذا هو المشهور.

وخرج الطبراني من حديث محمد بن سلمة, عن خصيف, عن عطاء, عن جابر رضي الله عنه قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة مقلدة.

ورواه عتاب بن بشير, عن خصيف, تفردا به عنه.

وكان الذي نحره النبي صلى الله عليه وسلم من هديه عدد سني عمره على الصحيح, كما في حديث جابر الذي في "الصحيح" لمسلم.

وأما حديث مقسم, عن ابن عباس: فنحر منها ستين بدنة, وفي حديث أنس المتفق عليه: نحر بيده سبع بدن قياماً. فيجمع بينهما

 

#155#

وبين حديث جابر أن كلا من الرواة شاهد شيئاً فحدث به, وأما رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي عن جابر: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبعاً وستين. فهذه زيادة ذكرها سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, ولم يذكرها جعفر بن محمد بن علي بن حسين, عن أبيه.

وسنان بن أبي سنان ثقة, فتقبل زيادته إن ثبت الإسناد إليه, ويكون حينئذ الذي نحره النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبعاًَ وستين, والله أعلم.

وفي "سنن أبي داود" بإسناد ضعيف عن علي رضي الله عنه قال: لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه فنحر ثلاثين بيده, وأمرني فنحرت سائرها, وكانت البدن لما نحرت قائمة معقولة يدها اليسرى.

صح عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها, قال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها.

حدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" فقال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, عن ابن سابط فذكره, وهو مرسل.

وخرجه أبو داود في "سننه" من طريق ابن جريج, عن ابن سابط, ومن

 

#156#

طريقه أيضاً عن أبي الزبير, عن جابر, فقال أبو داود: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا خالد الأحمر, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر, وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .... فذكر الحديث.

وخرج أحمد في "مسنده" من حديث عبد الله بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر, ثم يوم القر» وقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بدنات أو ست ينحرهن, فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها, فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها, فسألت من يليني: ما قال؟ قالوا: قال: «من شاء اقتطع».

وخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في "مستدركه" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ويوم القر: الحادي عشر؛ لأنهم يستقرون فيه بمنى, وهكذا ورد مفسراً في بعض طرق الحديث من رواية أبي عاصم الضحاك بن مخلد, عن ثور – يعني ابن يزيد – عن راشد بن سعد, عن عبد الله بن لحي, عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأيام عند الله عز وجل يوم النحر, ثم يوم القر, يستقر فيه الناس, وهو الذي يلي يوم النحر» قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بدنات خمس أو ست, فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ, فلما وجبت جنوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

#157#

كلمة خفية لم أتقنها, فقلت للذي إلى جنبي ما قال؟ قال: «من شاء اقتطع».

وفي الصحيحين من حديث أبي قلابة, عن أنس رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم, فلما دخل مكة أمرهم أن يحلوا, ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياماً, وضحى بالمدينة بكبشين أملحين.

وثبت عن مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن علياً رضي الله عنه, حدثه قال: أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة, فأمرني بلحومها فقسمتها, ثم أمرني بجلالها فقسمتها, ثم بجلودها فقسمتها.

وفي رواية عن مجاهد, عن ابن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه, وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها, وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً قال: نحن نعطيه من عندنا.

وفي رواية ثابتة [أيضاً] من هذه الطريق عن علي رضي الله عنه أنه أخبر ابن أبي ليلى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بدنه وأمره أن يقسم بدنه كلها, لحومها وجلودها وجلالها في المساكين ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً.

 

#158#

والحديث متفق عليه, وهو في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن علي رضي الله عنه.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا عبد الله بن المبارك, عن حرملة بن عمران, عن عبد الله بن الحارث الأزدي, عن غرفة بن الحارث قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال: «ادعوا لي أبا الحسن» فدعي علي رضي الله عنه فقال: «خذ بأسفل الحربة» وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلاها, ثم طعنا بها البدن, فلما فرغ ركب البغلة وأردف علياً رضي الله عنه.

هذا من الأفراد لا يروى إلا بهذا الإسناد, تفرد به ابن مهدي فيما ذكره الطبراني في "معجمه الأوسط".

وخرجه أبو داود عن محمد بن حاتم بن ميمون, عن عبد الرحمن ابن مهدي.

ورواه ابن علي بن السكن في كتابه "الصحابة" عن محمد بن عبد الرحمن السرخسي, عن مسلم بن الحجاج, عن محمد بن حاتم

 

#159#

عن ميمون مثله.

ولم يخرجه مسلم في "الصحيح". وخرج أبو داود من حديث يونس, عن ابن شهاب, عن عمرة ابنة عبد الرحمن, عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة.

وخرجه النسائي وابن ماجه.

وخرجوا أيضاً واللفظ لأبي داود من حديث الوليد, عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن.

وقال حاتم بن الليث: حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا بحر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في حجة الوداع عن نسائه البقر, قالت عائشة: فأتيت بنصيبي.

ولما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أعلمهم أن منى كلها منحر.

قال عبد الله بن وهب: أخبرني أسامة بن زيد, أن عطاء بن أبي رباح, حدثه أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفة موقف, وكل المزدلفة موقف, وكل منى منحر, وكل فجاج مكة طريق ومنحر».

 

#160#

خرجه البيهقي في "المعارف" لابن وهب.

وهو في "صحيح مسلم" و"مسند أحمد" و"سنن أبي داود" و"ابن ماجه" بنحوه. وله شاهد من حديث علي.

وقال أبو جعفر الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق, حدثني عبيد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفة قال: «هذا الموقف» للجبل الذي وقف عليه «وكل عرفة موقف» وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف وكل المزدلفة موقف» ثم لما نحر بالمنحر قال: «هذا المنحر وكل منى منحر».

وهناك أرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ادخار لحوم الأضحية فوق ثلاث.

قال موسى بن هارون الحمال: حدثنا يحيى الحماني, أخبرنا خالد بن عبد الله, عن خالد, عن أبي قلابة, عن أبي المليح, عن نبيشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا كنا نهيناكم عن لحوم الأضحية فوق ثلاثة أيام كي تسعكم, فقد جاء الله عز وجل بالسعة فكلوا وادخروا وانحروا, وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل».

 

#161#

ورواه يزيد بن زريع, حدثنا خالد الحذاء, عن أبي المليح, [عن نبيشة في رجل من قومه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرفعه بنحوه.

وكذلك رواه الشافعي وإسحاق بن راهويه – واللفظ له – أخبرنا الثقفي – هو عبد الوهاب – حدثنا خالد الحذاء, عن أبي المليح.

ورواه سعيد بن منصور وسريج بن يونس, واللفظ له, عن هشيم، أخبرنا خالد, عن أبي المليح, عن نبيشة الهذلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» فلم يذكروا أبا قلابة.

وقد جاءت الرواية الثابتة أن الحذاء سمع الحديث من أبي قلابة أولاً عن أبي المليح], ثم لقي أبا المليح فحدثه به.

قال مسلم في "صحيحه" بعد أن روى عن سريج حديث هشيم, كما قدمناه قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير, حدثنا إسماعيل – يعني ابن علية – حدثنا خالد الحذاء, حدثني أبو قلابة, عن أبي المليح, عن نبيشة, قال خالد: فلقيت أبا المليح فسألته فحدثني به, فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث هشيم وزاد: وذكر الله.

 

#162#

تابعه الحسن بن سفيان, عن ابن نمير.

وخرجه النسائي في "سننه" من حديث هشيم وإسماعيل ابن علية, عن خالد بن أبي المليح كذلك.

وله شاهد من حديث جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب, وسعد بن أبي وقاص, وأوس بن الحدثان, وبديل بن ورقاء, وبشر بن سحيم, وبلال بن رباح, وجابر, وحمزة بن عمرو الأسلمي, وعبد الله بن [حذافة, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وأبوه عمرو، وأبو هريرة, وكعب بن مالك, وعائشة رضي الله عنهم.

 

#163#

$[رواية علي رضي الله عنه]$

قال ابن أبي] خيثمة في "تاريخه" والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي سلمة, عن مسعود بن الحكم الأنصاري, ثم الزرقي, عن أمه أنها حدثته قالت: لكأني أنظر إلى علي [بن أبي طالب] رضي الله عنه وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شعب الأنصار في حجة الوداع وهو يقول: أيها الناس, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ليست بأيام صيام, إنما هي أيام أكل وشرب وذكر».

وحدث به النسائي في "سننه" عن عبيد الله بن سعد, عن عمه, عن أبيه, عن ابن إسحاق, عن عبد الله بن أبي سلمة, عن مسعود بن الحكم به.

وعن إسحاق بن إبراهيم, عن عبدة بن سليمان, عن ابن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن أبي سلمة, ولا أراني إلا سمعته منه ... فذكر نحوه.

وعن قتيبة, عن ليث, عن ابن الهاد, عن عبد الله بن أبي سلمة,

 

#164#

عن عمرو بن سليم الزرقي, عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا نحن بعلي ... فذكره.

وعن عمران بن بكار, عن أحمد بن خالد, عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم, عن مسعود بن الحكم, عن أمه به.

وعن عيسى بن حماد, عن ليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد, عن يوسف بن مسعود بن الحكم, عن جدته أنها قالت: بينما نحن بمنى. فذكر نحوه.

وعن أحمد بن الهيثم, عن حرملة بن يحيى, عن ابن وهب, عن عمرو بن الحارث, عن بكير بن الأشج, عن سليمان بن يسار, عن مسعود بن الحكم, عن أمه به, إلا أن فيه قالت: قالت أختي: هذا علي, وقلت أنا: بل هو فلان.

وقال النسائي: وبلغني عن ابن وهب, عن مخرمة بن بكير, عن أبيه, عن سليمان بن يسار, عن الحكم الزرقي, عن أمه, أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فسمعوا راكباً, ولم يسمه.

قال النسائي: ما علمت أحداً تابع مخرمة على قوله "الحكم", (والصواب مسعود بن الحكم).

 

#165#

وخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الأعلى, عن محمد بن إسحاق, عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف, عن مسعود بن الحكم, عن أمه أنها حدثته قالت: كأني أنظر إلى علي رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء في شعب الأنصار وهو يقول: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]: «إنها ليست أيام صيام, إنها أيام أكل وشرب أيام منى».

وحدث به أبو زرعة الدمشقي, عن أحمد بن خالد الوهبي, عن ابن إسحاق.

خالفهما إبراهيم بن سعد, كما تقدم في "مسند أحمد" وغيره, فرواه عن ابن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي سلمة .... الحديث.

وعبد الله بن أبي سلمة إنما يرويه عن عمرو بن سليم الزرقي, عن أمه,كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يحيي, حدثنا يحيى ابن سعيد, عن يوسف بن مسعود – يعني ابن الحكم – عن جدته أن رجلاً مر بهم على بعيره يوضعه بمنى في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب, فسألت عنه فقالوا: علي بن أبي طالب.

 

#166#

تابعه معاوية بن صالح, عن يحيى بن سعيد الأنصاري.

وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا المفضل بن فضالة, حدثني يزيد بن عبد الله, عن عبد الله بن أبي سلمة, عن عمرو بن سليم الزرقي, عن أمه قالت: كنا بمنى فإذا صائح يصيح: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصومن فإنها أيام أكل وشرب» قالت: فرفعت أطناب الفسطاط فإذا الصائح علي بن أبي طالب.

ورواه أيضاً من طريق سعيد بن سلمة, عن أبي الحسام المديني, حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد, عن عمرو بن سليم, عن أمه بنحوه.

تابعهما الدراوردي فيما رواه عنه الشافعي.

وجاء عن زهير بن حرب, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا موسى بن عبيدة الربذي, عن منذر بن أبي الجهم الأسلمي, عن عمر بن خلدة الأنصاري, عن أمه, عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه فنادى أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وبعال.

وله طرق إلى علي رضي الله عنه منها: ما رواه يعلى بن شبيب, عن جعفر بن محمد بن علي, عن أبيه, عن جده, عن علي رضي الله عنه في النهي عن صوم أيام منى.

 

#167#

خالفه أبو ضمرة فرواه عن جعفر, عن أبيه, عن جابر, كذلك قاله يعيش بن الجهم عنه, وغيره يرويه عن أبي ضمرة مرسلاً.

وكذلك رواه أصحاب جعفر بن محمد, عن جعفر, عن أبيه مرسلاً, وهو أشبه بالصواب.

قاله الدارقطني.

وستأتي الرواية المرسلة قريباً – إن شاء الله تعالى – من طريق سليمان بن بلال, عن جعفر.

 

#168#

$[رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه]$

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا محمد بن أبي حميد المدني, حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه, عن جده رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي منى, إنها أيام أكل وشرب, ولا صوم فيها. يعني أيام التشريق.

تابعه محمد بن بكر, عن ابن أبي حميد بنحوه.

 

#169#

$[رواية أوس بن الحدثان رضي الله عنه]$

وقال مسلم في "صحيحه": وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن سابق, حدثنا إبراهيم بن طهمان, [عن] أبي الزبير, عن ابن كعب بن مالك, عن أبيه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فينادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, وأيام منى أيام أكل وشرب.

تابعه عبد الملك بن عمرو, عن إبراهيم بن طهمان.

 

#170#

$[رواية بديل بن ورقاء رضي الله عنه]$

وقال يحيى بن معين: حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: بلغني عن محمد بن يحيى بن حبان يحدث عن أم الحارث بنت عياش بن أبي ربيعة أنها رأت بديل بن ورقاء على جمل يطوف على أهل المنازل بمنى يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا هذه الأيام, فإنما هي أيام أكل وشرب».

تابعه مروان بن شجاع ومصعب بن سلام وشعيب بن إسحاق وعبد المجيد, عن ابن جريج نحوه.

ورواه القعنبي, حدثنا سليمان بن بلال, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء ينادي أيام منى: إنها أيام أكل وشرب, وهو على جمل أورق.

ورواه عبد الله بن عتاب الزفتي, حدثنا هارون – يعني ابن سعيد الأيلي, حدثنا أنس – وهو ابن عياض – حدثنا جعفر, عن أبيه أن رسول الهش صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء على جمل أورق ينادي أيام منى:

 

#171#

إنها أيام أكل وشرب.

وخرجه الدارقطني في "سننه": من حديث سعيد بن سلام العطار, حدثنا عبد الله بن بديل الخزاعي, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة, ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق, وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال».

 

#172#

$[رواية بشر بن سحيم رضي الله عنه]$

وقال يوسف القاضي: حدثنا عبد الواحد بن غياث, حدثنا حماد بن سلمة, عن عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن بشر بن سحيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ينادي بمنى في أيام التشريق: «أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, وأنها أيام أكل وشرب».

وهو عند حماد بن زيد, عن عمرو.

وحدث به أحمد بن سعيد الدارمي, عن حبان – هو ابن هلال البصري – حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير, عن بشر بن سحيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق: «أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, وأنها أيام أكل وشرب».

تابعه محمد بن عبيد بن حسان وقتيبة والقواريري وأبو الربيع الزهراني وسليمان بن حرب إلا أنه قال: عن حماد بن زيد, عن عمرو, عن نافع بن جبير, عن بشر بن سحيم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أو أمر رجلاً أن ينادي ... وذكر الحديث.

 

#173#

ورواه قتيبة مرة أخرى عن حماد, عن عمرو, عن نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً. وهذا مرسل.

ورواه ابن أبي عمرو وغيره, عن سفيان, عن عمرو بن دينار بنحوه إلى قوله: فنادى بمنى .... وذكر الحديث.

ورواه ابن المبارك, عن هشام صاحب الدستوائي, عن عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من غفار يقال له: بشر بن سحيم ينادي في أيام التشريق «أن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن, وأن هذه أيام أكل وشرب».

ورواه ابن أبي عمرو, عن سفيان, عن عمرو بن دينار بنحوه.

ورواه ابن أبي عدي, عن شعبة, عن عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشر بن سحيم الأنصاري فنادى بمنى.

وذكر الحديث أحمد بن حنبل فقال: حدثنا محمد، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم أن رسول

 

#174#

الله صلى الله عليه وسلم أمره فنادى ..... وذكر الحديث.

تابعه النضر بن شميل والحكم بن عبد الله وأبو عامر العقدي, عن شعبة مثله.

ورواه مسعر والثوري وحجاج بن أرطأة, عن حبيب, عن نافع, عن بشر.

ورواه عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع, عن سفيان, عن حبيب, عن نافع بن جبير.

وحدث به ابن ماجه في "سننه": عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد كلاهما عن وكيع.

 

#175#

وحدث به النسائي في "سننه": عن محمد بن بشار, عن عبد الرحمن, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم خطب النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الحج فقال: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, وإنها أيام أكل وشرب».

وخالفهم المسعودي [عبد الرحمن بن] عبد الله, فرواه عن حبيب, عن نافع بن جبير, عن بشر بن سحيم, عن علي رضي الله عنه قال: نادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق إنها أيام أكل وشرب .... الحديث.

[والصواب ما رواه الثوري وغيره, كما تقدم من غير ذكر علي رضي الله عنه, وممن ذكر أن ذلك الصواب الدارقطني في "العلل".

ورواه جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن رجل, عن بشر بن سحيم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: «هذه أيام أكل وشرب».

وله طرق غير ما ذكرنا.

 

#176#

$[رواية بلال رضي الله عنه]$

وروى محمد بن بكر البرساني, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب, والمنادي يومئذ بلال رضي الله عنه.

استغربه أبو نعيم من حديث قتادة وعكرمة, وقال: ولا أعلم رواه إلا محمد بن بكر, عن سعيد.

قاله في "الحلية".

 

#177#

$[رواية حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه]$

وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا عبدة, حدثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن سليمان بن يسار, عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يتتبع رحال الناس بمنى أيام التشريق ويقول: ألا لا تصوموا هذه الأيام, فإنها أيام أكل وشرب, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.

قال قتادة: بلغنا أن المنادي كان بلالاً.

 

#178#

$[رواية عبد الله بن حذافة رضي الله عنه]$

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا روح, حدثنا صالح, حدثنا ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى أن لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب] وذكر الله.

وخرجه الدارقطني في "سننه": من حديث يعقوب الدورقي وأحمد بن يحيى بن عطاء الجلاب, قالا: حدثنا روح بن عبادة, حدثنا صالح بن أبي الأخضر .... فذكره.

وخرجه أيضاً: من حديث إبراهيم بن حميد, حدثنا صالح, عن الزهري, عن سعيد وأبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

تابعه مسلم بن إبراهيم, عن صالح بن أبي الأخضر.

وخرجه أيضاً: من طريق أحمد بن أبي نافع, حدثنا العباس بن الفضل, عن سليمان أبي معاذ, عن الزهري, عن سعيد بن

 

#179#

المسيب, عن عبد الله بن حذافة السهمي قال: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط أن يطوفوا في منى في حجة الوداع يوم النحر فينادوا: «إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله, فلا صوم فيهن إلا صوماً في هدي».

رواه الزبيدي, عن الزهري أنه بلغه عن مسعود بن الحكم, عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا, ولم يقل فيه إلا محصر أو متمتع. قاله الدارقطني.

وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا أبو الأسود – النضر بن عبد الجبار – وابن بكير, عن ابن لهيعة, عن أبي النضر, عن سليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب – يحدثان عن أم الفضل – امرأة عباس – قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أيام التشريق, فسمعت منادياً يقول: إن هذه الأيام أيام طعام وشراب وذكر لله عز وجل, قلت: فأرسلت رسولاً: من الرجل ومن أمره؟ فجاءني الرسول فحدثني أنه رجل يقال له ابن حذافة يقول: أمرني بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#180#

وقال ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا أبي, حدثنا ابن مهدي, عن سفيان, عن عبد الله بن أبي بكر وسالم أبي النضر, عن سليمان بن يسار, عن عبد الله بن حذافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب.

قال: سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فكتب على سليمان بن يسار عن عبد الله بن حذافة بيده كذا مرسل.

وخرجه أبو بكر البرقاني من طريق سفيان هكذا, ثم قال: وقال عبد الرحمن بن مهدي حين حدث بهذا الحديث: حدثنا مالك بن أنس, ولا أراه إلا كان أحفظ من سفيان, عن عبد الله بن أبي بكر, عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن حذافة أن ينادي أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب.

قلت: ابن مهدي حدث به عن سفيان الثوري, وهو عند النسائي, عن عباس العنبري, عن عبد الرحمن, وذكر البخاري في "تاريخه الكبير" في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي هذا أنه لا يصح, حديثه مرسل.

وجاء عن الحارث بن مسكين, عن ابن القاسم, عن مالك, عن سالم أبي النضر، عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام منى.

 

#181#

قلت: وقد تقدم من رواية سليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب متصلاً.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا الحسين بن إسحاق – يعني التستري – حدثنا أبو كريب, حدثنا إبراهيم بن إسماعيل – يعني السكوني, عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أيام منى صائحاً يصيح: أن لا تصوموا هذه الأيام, فإنها أيام أكل وشرب وبعال.

والبعال: وقاع النساء.

وحدث مالك بن أنس, عن أبي النضر –مولى عمر بن عبيد الله –عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام منى.

هذا مرسل.

وقد قدمناه من رواية قتادة, عن سليمان بن يسار عن حمزة بن عمرو الأسلمي موصولاً.

 

#182#

$[رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه]$

خرج أبو داود من حديث موسى بن علي, عن أبيه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام, وهن أيام أكل وشرب».

وخرجه الترمذي والنسائي, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": وحدثنا أيضاً المقومي - يعني يحيى بن حكيم – حدثنا عبد الرحمن, حدثنا موسى بن علي, سمعت أبي يحدث عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق هي عيدنا أهل الإسلام, هي أيام أكل وشرب».

تابعه معن بن عيسى, عن موسى بن علي, عن أبيه أنه سمع عقبة .... فذكره.

 

#183#

$[رواية معمر بن عبد الله العدوي رضي الله عنه]$

وروى عبد الله بن يزيد المقرئ, عن ابن لهيعة قال: عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الرحمن بن جبير, عن معمر بن عبد الله العدوي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤذن في الناس بمنى: «أن لا يصومن أحد أيام التشريق, فإنها أيام أكل وشرب».

 

#184#

ورواه الهيثم بن كليب الشاشي, عن عيسى بن أحمد العسقلاني, حدثنا محمد بن عمر المديني, عن عبد الحميد بن جعفر, عن يزيد بن أبي حبيب بنحوه.

 

#185#

$[رواية يونس بن شداد رضي الله عنه]$

وجاء عن محمد بن بشار, حدثنا ابن عثمة, عن سعيد بن بشير, عن قتادة, عن أبي قلابة, عن أبي الشعثاء, عن يونس بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيام منى أيام أكل وشرب».

أبو الشعثاء جابر بن زيد.

 

#186#

$[رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنه]$

النسائي [كذا] في "سننه": عن أحمد بن عبدة, عن حسين بن حسن الأشقر, عن شريك, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة, فلا يصومنها أحد».

 

#187#

$[رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما]$

وحدث به أيضاً عن هارون بن عبد الله, عن حسين الجعفي, عن زائدة, عن إبراهيم بن مهاجر, عن أبي الشعثاء, عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بنحوه.

 

#188#

$[رواية بديل بن ورقاء رضي الله عنه]$

وقال ابن سعد في "الطبقات" أخبرنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسرائيل, عن جابر, عن محمد بن علي, عن بديل بن ورقاء رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي: «إن هذه الأيام أيام أكل وشرب, فلا يصومن أحد».

 

#189#

$[رواية جندب بن سفيان رضي الله عنه]$

وقال دعلج في كتابه "مسند المقلين": أخبرنا محمد بن غالب التمتام, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا سفيان, عن الأسود بن قيس, عن جندب رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بمنى فرأى قوماً قد ذبحوا, ورأى قوماً لم يذبحوا ولم ينحروا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل الصلاة فليعد الذبح, ومن لم يذبح فليذبح باسم الله».

تابعه وكيع, حدثنا سفيان .... فذكر نحوه.

فهذا الحديث يشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد يوم النحر بمنى وليس كذلك.

وأبو حذيفة اسمه موسى بن مسعود النهدي البصري ضعفه الترمذي وغيره.

وقال أبو حاتم: صدوق, ولكن كان مصحفاً.

قيل: إنه ابن امرأة سفيان الثوري, وقد روى عن الثوري أربعة عشر ألف حديثاً في بعضها مقال, وهذا منها, والله أعلم.

وقد خالفه الجمهور, فرواه سعيد بن منصور والشافعي وإسحاق بن

 

#190#

راهويه وغيرهم, عن سفيان ولم يذكروا: (بمنى):

وهكذا رواه سليمان بن حرب, عن شعبة, عن الأسود بن قيس, سمعت جندباً قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثم خطب فقال: «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح وليبدل مكانها, ومن لم يكن ذبح فليذبح باسم الله» فلم يذكر منى.

وهكذا رواه عمرو بن مرزوق وعاصم بن علي, عن شعبة.

ورواه زائدة وشريك ومحمد بن جابر وزهير بن معاوية, عن الأسود بن قيس نحوه من غير ذكر (منى).

 

#191#

$[حلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه]$

ولما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالحلاق فحلق رأسه.

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا همام, عن الحجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثم حلق.

تابعه علي بن مسهر, عن حجاج.

وفي "الطبقات" أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه وأخذ من شاربه وعارضيه وقلم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن ثم, وأصاب الطيب ولبس القميص, ونادى مناديه بمنى: «أنها أيام أكل وشرب وباه» انتهى.

وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع.

وروى الشافعي في "مسنده": عن سفيان بن عيينة, عن هشام بن

 

#192#

حسان, عن ابن سيرين, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه, ثم ناوله النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة, ثم ناول الحالق شقه الأيسر فحلقه, ثم أمر أبا طلحة أن يقسمه بين الناس.

وخرجه مسلم في "صحيحه" والترمذي في "جامعه" لسفيان.

وهو في "الصحيحين" عن ابن سيرين, عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره.

أخبرنا الشيخ المسند الصالح أبو هريرة عبد الرحمن بن الذهبي قراءة عليه وأنا أسمع, أخبرنا [يحيى] بن سعد سماعاً والقاضي أبو الفضل سليمان بن حمزة إجازة قالا: أنبأنا الحسن بن يحيى بن الصباح المخزومي زاد القاضي فقال: وأنبأنا أبو عبد الله محمد بن عماد الحراني, قالا: أخبرنا عبد الله بن رفاعة السعدي سماعاً, أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القاضي, أخبرنا أبو محمد بن عمر البزار – يعني عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد – أخبرنا أبو الحسن سعيد بن سعيد التغلبي, حدثنا الحسن بن متوكل, حدثنا سليمان [بن حرب, حدثنا سليمان] بن المغيرة, عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد أطاف به أصحابه, ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.

 

#193#

تابعه محمد بن سعد في "الطبقات" فحدث به عن سفيان بن حرب.

وفي رواية عن حفص بن غياث, عن هشام, عن محمد بن سيرين, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها, ثم أتى منزله بمنى ونحر, ثم قال للحلاق: هكذا وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر, ثم جعل يعطيه الناس.

خرجه مسلم في "صحيحه" وأحمد بن حنبل في "مسنده" وأبو داود في "سننه".

وحدث به مسلم مرة أخرى في "صحيحه" فقال عقب الحديث: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأبو كريب, قالوا: حدثنا حفص بن غياث, عن هشام بهذا الإسناد.

أما أبو بكر فقال في روايته: قال للحلاق: «ها» أشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا, فقسم شعره بين من يليه. قال: ثم أشار إلى الحلاق وإلى الجانب الأيسر, فحلقه فأعطاه أم سليم.

وفي رواية أبي كريب: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس, ثم قال بالأيسر فصنع مثل ذلك, ثم قال: «ها هنا أبو طلحة؟» فدفعه إلى أبي طلحة, هكذا ذكر مسلم رحمه الله لفظ الشيخين.

 

#194#

والذي وجدته في كتاب المناسك من "مصنف أبي بكر بن أبي شيبة" في أبواب الحلق والتقصير, قال: باب:

حدثنا حفص, عن هشام, عن ابن سيرين, عن أنس رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال للحلاق هكذا وأشار بيده إلى الجانب الأيمن.

وأما رواية أبي كريب محمد بن العلاء بن كريب الهمداني فقال أبو داود في "سننه": حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا حفص, عن هشام, عن ابن سيرين, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر, ثم رجع إلى منزله بمنى, فدعا بذبح فذبح, ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه, فجعل يقسم بين من يليه، الشعرة والشعرتين, ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه فقال: «ها هنا أبو طلحة؟» فدفعه إلى أبي طلحة رضي الله عنه.

ويروى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم في شعر ناصيته فدفعه إليه.

وخرج أحمد بن حنبل في "مسنده" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق الحجام رأسه أخذ أبو طلحة بشعر أحد شقي رأسه بيده, فأخذ بشعره فجاء به إلى أم سليم, قال: فكانت أم سليم تدوفه في طيبها.

 

#195#

وقال محمد بن أبان المستملي: حدثنا بشر بن السري, حدثنا أبان العطار, عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه أن أباه شهد النبي صلى الله عليه وسلم في المنحر هو ورجل من الأنصار, فقسم ضحايا بين أصحابه, فلم يصبه شيء هو وصاحبه, فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه وأعطاه إياه, فقسم منه على رجال, وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه, قال: فإنه لمخضوب عندنا بالحناء والكتم. يعني: الشعر.

إسناد جيد, لكن فيه إرسال.

 

#196#

$[من حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم]$

والحلاق الذي حلق شعر رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع هو معمر بن عبد الله بن نافع بن نضلة بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب العدوي رضي الله عنه.

قال البخاري: وزعموا أن الذي حلق النبي صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف رضي الله عنه.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني": حدثنا يحيى بن خلف, حدثنا عبد الأعلى, عن محمد بن إسحاق, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الرحمن بن عقبة, عن معمر قال: كنت أرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يسير ذات ليلة وأنا معه فقال: «يا معمر إني أجد في أنساعي الليلة اضطراباً» قلت: والذي بعثك لقد شددتها كما كنت أشدها, ولكن بعض من [حسدني على منزلتي منك هو صنع ذلك؛ لتستبدل بي غيري. قال: «ما كنت لأفعل» قال: وكنت أرحل له, فلما] قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه, وكان يوم النحر جلس للحلق, فدعاني فأعطاني الموسى, ثم رفع رأسه فنظر في وجهي فقال: «يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة

 

#197#

أذنيه, وفي يدك الموسى» فقلت: أما والله إن ذلك لمن من الله عز وجل وفضله علي. قال: فحلقته.

حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف, حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي, عن محمد بن إسحاق, عن يزيد بن أبي حبيب عبد الرحمن بن عقبة مولى معمر يحدث .... فذكر مثله.

قلت: وخرجه أحمد بن حنبل, وفيه: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه, وفي يدك الموسى» فقال معمر: أما والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله علي ومنه, قال: «أجل ....» الحديث.

 

#198#

$[الطيب عند الإحلال]$

وقبل إفاضته صلى الله عليه وسلم بعدما رمى جمرة العقبة طيبته عائشة رضي الله عنها.

وروينا من حديث محمد بن هشام بن أبي خيرة السدوسي, حدثنا الفضل بن العلاء, حدثنا طلحة بن عمرو, عن عطاء, عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعدما رمى جمرة العقبة.

وصح عن القاسم: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف, وبسطت يديها.

وفي رواية: بطيب فيه مسك.

وقد تقدم قبل, وخرجه النسائي, ولفظه: قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت.

وقال الشافعي في "مسنده": أخبرنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن سالم بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكل كل شيء إلا النساء والطيب.

قال سالم: وقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله وإحرامه.

قال سالم: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع.

 

#199#

سالم لم يسمع من جده شيئاً.

وقال إبراهيم بن راشد: حدثنا أبو حذيفة, حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن سالم, عن ابن عمر, عن عائشة رضي الله عنهم قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما يرمي الجمرة قبل أن يفيض بالبيت.

قال الطبراني: لم يقل أحد ممن روى هذا الحديث عن سالم, عن ابن عمر إلا أبو حذيفة, تفرد به إبراهيم بن راشد عنه.

وذكر الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد" وقال: هذا هو الصحيح, وقد رواه قبيصة بن عقبة ومحمد بن يوسف الفريابي, عن سفيان, فلم يذكروا ابن عمر, وهو الصواب.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» فقال رجل: والطيب؟. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك, أفطيب ذلك أم لا؟!

 

#200#

$[آخر حديث جابر رضي الله عنه]$

قال جابر رضي الله عنه: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت, فصلى بمكة الظهر, فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال «انزعوا بني عبد المطلب, فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلواً فشرب منه.

هذا آخر حديث جابر رضي الله عنه الطويل في حجة الإسلام الذي خرجه مسلم في "صحيحه" ومن طريقه سقناه.

وخرجه الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما وأبو داود وابن ماجه مطولاً بنحوه.

وخرجه النسائي مفرقاً في قريب من ثلاثين موضعاً من "سننه" من حديث حاتم وغيره.

وبعضه عند أبي داود والنسائي عن يحيى بن سعيد, عن جعفر.

وخرجه أبو داود أيضاً فقال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة, وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان, وربما زاد بعضهم على بعض بالكلمة, وبعض قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل ... فذكره.

وخرجه ابن ماجه, عن هشام بن عمار به.

وحدث به بطوله أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" عن ابن سلم وهو عبد الله بن محمد بن سلم, حدثنا هشام بن عمار به.

وعن الحسن بن سفيان, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل, عن جعفر بن محمد.

 

#201#

فذكره بطوله.

وخرجه الحافظ أبو موسى المديني في كتابه "طوال الأحاديث والأخبار" من طريق وهيب بن خالد ويحيى بن سعيد القطان ويحيى بن سليم, عن جعفر بن محمد, ومن رواية إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه, عن حاتم بن إسماعيل, عن جعفر, أدرج تلك الطرق على هذه الرواية وجعل اللفظ لها وقال: لأنها أتم سياقة, وذكر الحديث بطوله, ثم قال: هذا الحديث مخرج في الصحاح كلها ما خلا كتاب البخاري, ولم يسق هذا السياق إلا حاتم وحفص بن غياث.

قلت: قد ساقه الخطيب بهذا السياق مطولاً من طريق إسماعيل بن أبي أويس, عن أبيه, عن جعفر, في كتابه "الفصل للوصل" فيما وجدته بخطه, كما أشرت إليه قبل.

 

#202#

$[طواف الإفاضة]$

وقوله: فأفاض إلى البيت, فصلى بمكة الظهر. فيه محذوف تقديره: فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة, ثم صلى الظهر, فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه.

وقال أبو داود في "المراسيل": حدثنا قتيبة بن سعيد [حدثنا] بكر – يعني ابن مضر – عن عمارة بن غزية, عن ابن شهاب أن رسول الله صلى وسلم           حين رمى جمرة القصوى رجع إلى المنحر فنحر ثم حلق، ثم أفاض من فوره ذلك.

وإفاضة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في حديث جابر هذا هي رجوعه من منى إلى مكة, فطاف بالبيت طواف الإفاضة, ويقال له طواف الزيارة والفرض والركن, ويسمى الصدر عند بعضهم.

وطاف النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة راكباً, ولم يسع معه, لأنه صلى الله عليه وسلم سعى بعد طواف القدوم ولم يرمل.

قال أبو داود في "سننه": حدثنا سليمان بن داود, أخبرنا ابن وهب, حدثنا ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه.

 

#203#

قال البيهقي: والذي روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه طاف بين الصفا والمروة راكباً, فإنما أراد – والله أعلم – في سعيه بعد طواف القدوم, فأما بعد طواف الإفاضة فلم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه طاف بينهما.

وقال: ثم لما طاف طواف الإفاضة طاف بالبيت راكباً, والله أعلم، انتهى.

وخرج مسلم من حديث ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجته, لأن يراه الناس, وليشرف, وليسألوه, فإن الناس غشوه.

ومن حديث شعيب بن إسحاق, عن هشام بن عروة, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجه الوداع حول الكعبة على بعيره, يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.

وخرجه النسائي لشعيب.

وثبت من حديث مالك, عن ابن شهاب, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة .... الحديث بطوله, وفيه: قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت, وبين الصفا والمروة, ثم حلوا, ثم طافوا طوافاً آخر – بعد أن رجعوا من منى – لحجتهم, وأما الذين أهلوا بالحج, وأجمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً.

 

#204#

رواه جماعة عن مالك منهم: الشافعي ويحيى بن عبد الله بن بكير فحفظاه عن مالك بهذا اللفظ.

والطواف في قول عائشة: طوافاً واحداً. المراد به السعي بين الصفا والمروة, جاء مصرحاً به في رواية عبد الوهاب بن عطاء, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداًً طوافه الأول.

وخرجه مسلم من حديث محمد بن بكر ويحيى بن سعيد, عن ابن جريج بنحوه.

 

#205#

$[وقت طواف الإفاضة]$

وكان طواف النبي صلى الله عليه وسلم للإفاضة يوم النحر نهاراً على الصحيح المحفوظ.

وأما ما خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا عبيد العجلي, حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني الواسطي ح.

وقال أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حدثنا محمد بن إسماعيل بن البختري الواسطي, حدثنا محمد بن الحسن المزني, حدثنا المغيرة بن الأشعث – أمير كان علينا بواسط – عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم طواف الصدر ليلاً أو بليل, والسياق للطبراني والشك من المغيرة, بينه يحيى بن صاعد في روايته عن الحساني قال عقيب الحديث: قال محمد بن الحسن: وكان المغيرة إذا حدث شك في قوله: ليلاً أو بليل وهو راجل. انتهى.

ففي إسناده لين, ومحمد بن الحسن الواسطي المزني أبو الحسن صاحب غرائب, سئل أحمد بن حنبل فقال: ليس به بأس, شيخ ضخم, وكان عبد الله بن حازم ضربه, كتبت عنه عن إسماعيل يعني ابن أبي خالد غرائب.

 

#206#

ذكر نحوه البخاري في "تاريخه الكبير" عن أحمد, وقال: قال ابن عون: مات محمد بن حسن المزني أبو الحسن سنة سبع وثمانين. انتهى.

وروى سفيان الثوري, عن أبي الزبير, عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف يوم النحر إلى الليل.

خرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان, وحسنه الترمذي. وفي سماع أبي الزبير, عن عائشة نظر, فيما قاله البيهقي.

وهذا قد قاله البخاري فيما سأله عنه أبو عيسى الترمذي فقال في "العلل" قلت له: سمع أبو الزبير من ابن عباس وعائشة؟ فقال: أما من ابن عباس فنعم, وفي سماعه من عائشة نظر.

وقال أبو محمد بن حزم في مصنفه في "صفة حجة الوداع": وهذا حديث معلول, لأن أبا الزبير مدلس, وليس في هذا الحديث ذكر سماع أبي الزبير إياه عن عائشة وابن عباس, فسقط الاشتغال به. انتهى.

وقد جاء ما يقوي رواية أبي الزبير, قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن سنان البصري بمصر, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا

 

#207#

سفيان, حدثني محمد بن طارق, عن طاوس وأبي الزبير, عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل.

تفرد به يحيى, عن سفيان, قاله أبو نعيم الأصبهاني.

وحدث به ابن ماجه عن بكر بن خلف عن يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن [محمد] بن طارق, عن طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل .... ذكره مرسلاً.

وجمع بين رواية جابر المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم [طاف] طواف الإفاضة قبل صلاة الظهر, وبين رواية ابن عباس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل: أنه طاف الأول للإفاضة نهاراً, ثم عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة, والله أعلم.

وقال أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي: ذكر ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه [أن] يفيضوا نهاراً وأفاض في نسائه ليلاً, فطاف بالبيت على راحلته, ثم جاء زمزم, فقال: «ناولوني», فنوول دلواًَ فشرب منها ثم مضمض فمج في الدلو, ثم أمر بماء في الدلو, فأفرغ في البئر, ثم قال: «لولا أن تغلبوا لنزعت معكم ....» ثم أتى السقاية .... الحديث بطوله.

 

#208#

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عبد الوهاب بن عطاء, عن ابن جريج, أخبرني هشام بن حجير وغيره, عن طاوس ... فذكره.

وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه يوم النحر حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى, فمكث بها ليالي التشريق .... الحديث, إسناده ضعيف.

رواه محمد بن إسحاق بن يسار, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها, خرجه أحمد في "مسنده".

وهو في "سنن أبي داود" وصحيحي ابن حبان والحاكم وقد قدمناه بطوله.

وقول جابر رضي الله عنه في حديثه: فصلى بمكة الظهر.

صح ما يخالفه, فأخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عثمان الحنبلي بقراءتي عليه, أخبرنا عبد الكريم بن عبد الكريم بن الصفي, أخبرنا أبو حفص عمر بن عبد المنعم: ح.

وقرأت على المعمرة الكبيرة زينب بنت محمد بن عثمان السريجية, أخبرنا عمر بن عبد المنعم المذكور, وأبو الحسن علي بن البخاري إذناً

 

#209#

مطلقاً, قالا: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد قراءة عليه, قال الأول: وأنا شاهد, والثاني: وأنا أسمع, قال: أخبرنا أبو الحسن علي ابن المسلم, أخبرنا الحسين بن طلاب, أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد الغساني, حدثنا أحمد بن عمرو الحافظ إملاء من حفظه, حدثنا محمد بن حماد الظهراني, حدثنا عبد الرزاق, عن عبيد الله بن عمر, (عن نافع, عن ابن عمر): أن النبي صلى الله عليه وسلم زار البيت يوم النحر وصلى الظهر بمنى.

تابعه أحمد بن حنبل وغيره عن عبد الرزاق,.

وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر, ثم رجع فصلى الظهر بمنى, قال نافع: وكان ابن عمر يفيض يوم النحر, ثم يرجع, فيصلي الظهر بمنى, ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.

حدث به مسلم في "صحيحه" عن محمد بن رافع, عن عبد الرزاق مثله.

ومن طريق الذهلي خرجه البيهقي في "معارف السنن" وقال: ونحن لا نعلم في الأسانيد أصح من هذا. انتهى.

 

#210#

وهكذا حدث به عبد الرزاق في كتابه "المناسك" من "جامعه".

وقال البخاري في "صحيحه": وقال لنا أبو نعيم: حدثنا سفيان, عن عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طاف طوافاً واحداً, ثم يقيل, ثم يأتي منى. يعني: يوم النحر. هذا موقوف.

ثم قال البخاري: ورفعه عبد الرزاق عن عبيد الله.

فهذه إشارة من البخاري – والله أعلم – إلى أن ابن عمر رضي الله عنهما إنما فعله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين رآه ابن عمر فعله، فرواية الثوري لفعل ابن عمر، ورواية عبد الرزاق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في رواية الذهلي و"صحيح مسلم" و"الجامع" لعبد الرزاق, فتعارض حديث ابن عمر هذا وحديث جابر المتقدم. وحديث عائشة لا يعارض إسناد حديث جابر الصحيح, فبقي التعارض بين حديث جابر وحديث ابن عمر وهما صحيحان, لكن قد يترجح خبر جابر بضميمة ظاهر رواية عائشة التي تقدمت قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم النحر حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى, الحديث؛ لأن من وجوه الترجيحات كثرة العدد في أحد الجانبين حتى يرجحوا أحد الخبرين بضميمة مرسل أو منقطع إليه.

وإلى ترجيح رواية جابر ذهب أبو محمد بن حزم في كتابه "صفة حجة الوداع" بعد أن قال عن هذا الفصل المختلف فيه: حاشاً فصلاً

 

#211#

لم يلح لنا وجه الحقيقة في أي النقلين منهما.

وقال أيضاً: ولا شك أن أحد الخبرين وهم والثاني صحيح, ولا ندري أيهما هو؟

ثم قال: إلا أن الأغلب عندنا أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذلك اليوم بمكة لوجوه: أحدها, اتفاق عائشة وجابر على ذلك, وأيضاً فإن حجة الوداع كانت في آزار, وهو وقت تساوي الليل والنهار, وقد دفع صلى الله عليه وسلم من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى, وخطب بها الناس, ونحر بدنا عظيمة, وتردد بها على الخلق, ورمى الجمرة, وتطيب, ثم أفاض إلى مكة فطاف بالبيت سبعاً, وشرب من زمزم, ومن نبيذ السقاية, وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدار يمكن الرجوع من مكة إلى منى قبل الظهر ويدرك بها صلاة الظهر في أيام آزار, والله أعلم. انتهى.

وقد جمع بين الحديثين بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة قبل الزوال, ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها, ثم رجع إلى منى, فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك, فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى, والله أعلم.

وقد حدث ابن سعد في "الطبقات" عن عبد الوهاب بن عطاء, عن ابن جريج قال: أخبرنا ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر, فغدا غدواً قبل أن تزول الشمس, ثم رجع فصلى الصلوات بمنى.

 

#212#

$[مطلب: شرب ماء زمزم]$

وأما قول جابر رضي الله عنه: "فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم".

فروى أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" [قال: أخبرنا جدي], أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي. ح.

وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "أخبار مكة": حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مسلم, عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس, عن زيد بن علي, عن أبيه, عن عبيد الله بن أبي رافع, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا بسجل من ماء زمزم, فتوضأ, ثم قال: «انزعوا على سقايتكم يا بني عبد المطلب, فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم» هذا لفظ الأزرقي.

وهو في زيادات عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسند أبيه" ولفظه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا بسجل من ماء زمزم, فشرب منه وتوضأ.

وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية

 

#213#

فاستسقى, فقال العباس: يا فضل, اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها, فقال: «اسقني» فقال: يا رسول الله, إنهم يجعلون أيديهم فيه, قال: «اسقني» فشرب, ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها, فقال: «اعملوا, فإنكم على عمل صالح» ثم قال: «لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه» يعني على عاتقه, وأشار إلى عاتقه.

خرجه البخاري في "صحيحه".

وفي رواية: ثم ناولوه الدلو, فشرب.

وقال الشافعي: أخبرنا سفيان, أخبرنا عاصم الأحول, عن الشعبي, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدلو من زمزم فنزع له فشرب وهو قائم.

تابعه الحميدي وأبو نعيم وغيرهما عن سفيان بنحوه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث قطن بن نسير الذراع, حدثنا عبد الوارث بن سعيد, حدثنا ليث, عن عطاء وطاوس ومجاهد, عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم قالا: قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نريد إلا الحج فأهللنا بالحج، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يستلم الركن بمحجن كان معه, ثم عدل إلى السقاية فقال: «اسقوني منها», قال العباس: يا رسول الله, ألا نسقيك من شراب لم تمسه الأيدي؟ قال: «لا, اسقوني منها», ثم شرب وعدل إلى زمزم, فقال: «انزعوا لي منها دلواً», فنزعوا له دلواً, فأخذ حسوة فمضمض, ثم مجه في

 

#214#

الدلو, ثم قال: «أعيدوه فيها», فقال: «يا بني هاشم إنكم على عمل صالح, لولا أن تغلبوا عليه أو يتخذ سنة لأخذت معكم ...» وذكر الحديث.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا أبو أحمد, حدثنا مسعر, عن عبد الجبار بن وائل, عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدلو من ماء زمزم فتمضمض, فمج فيه أطيب من المسك, أو قال: مسك, واستنثر خارجاً من الدلو.

أبو أحمد هو محمد بن عبد الله الزبيري.

وحدث به أحمد أيضاً عن أبي نعيم, حدثنا مسعر, عن عبد الجبار بن وائل قال: حدثني أهلي, عن أبي قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم, فشرب منه, ثم مج في الدلو, ثم صب في البئر أو شرب من الدلو, ثم مج في البئر, ففاح منها مثل ريح المسك.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء, عن ابن جريج, عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض نزع لنفسه بالدلو لم ينزع معه أحد, فشرب, ثم أفرغ ما بقي في الدلو في البئر, وقال: «لولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لم ينزع منها أحد غيري» قال: فنزع هو نفسه الدلو التي شرب منها لم يعنه على نزعها أحد.

وقال الإمام الشافعي في "مسنده": أخبرنا سفيان, عن عبد الله بن طاوس, عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض فأتى السقاية فقال للعباس:

 

#215#

«اسقني», فقال له: إن هذا شراب قد أثقل وخاضته الأيدي ووقع فيه الذباب, وعندنا في البيت شراب هو أصفى منه, فقال: «منه فاسقني» فشرب منه صلى الله عليه وسلم قال ابن طاوس: فكان أبي يقول: فشرب النبيذ من تمام الحج. هذا مرسل.

وقد تقدم أول الحديث من رواية أبي قرة اليماني, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, ومن رواية عبد الوهاب بن عطاء, عن ابن جريج, عن هشام بن حجير أنه سمع طاوساً يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زمزم فقال: «ناولني», فنوول دلواً فشرب منها, وذكر بقيته نحو ما تقدم.

والنبيذ: تمر وزبيب أو نحو ذلك, ينبذ في الإناء فينقع.

قال الشافعي: وسقي النبيذ في الجاهلية وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد إلى اليوم, غير أنا لا نشك فيما أتى إلينا من الأخبار أنهم إنما سقوه حلواً أو مجاوزاً للحلاوة قبل أن يسكر, فإذا بقي مسكراً فلا يحل شربه, فإذا كان غير مسكر فشربه أحب إلي.

رواه البيهقي في "المعارف" عن الشافعي.

وخرج أيضاً في "المعارف" من طريق أبي داود, من حديث حميد, عن بكر بن عبد الله قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ, وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق أبخل بهم أم حاجة؟ فقال ابن عباس: ما بنا من بخل وما بنا

 

#216#

من حاجة, ولكن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة بن زيد رضي الله عنهما فأتي بنبيذ, فشرب منه ودفع فضله إلى أسامة بن زيد فشرب, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنتم وأجملتم, كذلك فافعلوا» فنحن لا نريد أن نغير ما قال رسول الله.

وخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث يزيد بن زريع, عن حميد الطويل.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث سريج بن النعمان, حدثنا هذيل بن بلال, سمعت القاسم بن أبي بزة وعبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً أتاه فاستسقاه فسقي نبيذاً فقال: ما شأن إخوانكم يسقون العسل واللبن .... الحديث بنحوه.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا روح, حدثنا ابن جريج، أخبرني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وداود بن علي بن عبد الله بن عباس يزيد أحدهما على صاحبه: أن رجلاً نادى ابن عباس والناس حوله, فقال: أسنة تبتغون بهذا النبيذ, أم هو أهون عليكم من اللبن والعسل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء النبي صلى الله عليه وسلم عباساً, فقال: «اسقونا» فقال: إن هذا النبيذ شراب قد مغث ومرث أفلا نسقيك لبناً أو عسلاً؟ فقال: «اسقونا مما تسقوا منه الناس», فأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه من المهاجرين بسقائين فيهما النبيذ, فلما شرب النبي صلى الله عليه وسلم

 

#217#

عجل قبل أن يروى فرفع رأسه, فقال: «أحسنتم, هكذا فاصنعوا», قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أحب إلي من أن تسيل شعابها لبناً وعسلاً.

تابعه محمد بن بكر, أخبرنا ابن جريج.

 

#218#

$[كساء النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة]$

وأظن – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم كسا البيت بعد طواف الإفاضة:

حدث ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى" عن الواقدي بإسناد له عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه [قال]: كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته البيت الحبرات.

إلى هنا انتهى ما ذكرناه من الأحاديث الشاهدة لحديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع, والأحاديث التي في معنى ذلك.

وقد جرى في حجة الوداع قصص لها شأن غير مقيدة بمكان ولا زمان.

منها: ما روينا من حديث أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي, حدثنا محمد بن يونس القرشي, حدثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليمامي سنة عشر ومائتين بالجردة وقد انصرفنا من عدن, حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليمامي, عن أبيه, عن جده معرض بن معيقيب رضي الله عنه قال: حججت حجة الوداع فدخلت داراً بمكة, فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن وجهه دارة القمر, فسمعت

 

#219#

عجباً, جاءه رجل من أهل اليمامة بصبي يوم ولد قد لفه في خرقة, فقال: «يا غلام, من أنا؟» فقال: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «صدقت بارك الله فيك», قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب, قال: قال أبي: كنا نسميه مبارك اليمامة.

تابعه أحمد بن عبيد الصفار وغيره عن الكديمي.

وقال أبو الحسن أحمد بن محمد بن منصور العتيقي: سمعت أبا عبد الله يعني عثمان بن جعفر العجلي مستملي ابن شاهين يقول: سمعت بعض شيوخنا يقول: [لما] أملى الكديمي هذا الحديث – يعني حديث شاصونة – استعظمه الناس وقالوا: هذا كذب, من هو شاصونة؟ فلما كان بعد وفاته جاء قوم من الرحالة ممن جاءوا من عدن فقالوا: دخلنا قرية يقال لها الجردة, فلقينا بها شيخاً, فسألناه: عندك شيء من الحديث؟ قال: نعم, فكتبنا عنه، قلنا: ما اسمك؟ قال محمد بن شاصونة بن عبيد, وأملى علينا هذا الحديث فيما أملى عن أبيه.

 

#220#

وذكر البيهقي في "الدلائل" عن شيخه أبي عبد الله الحاكم أنه قال: وقد أخبرني الثقة من أصحابنا عن أبي عمر الزاهد قال: لما دخلت اليمن دخلت جردة, فسألت عن هذا الحديث, فوجدت فيها لشاصونة أعقاباً وحملت إلى قبره فزرته. انتهى.

ورويناه في "معجم ابن جميع": حدثنا العباس بن محبوب بن عبيد أبو الفضل, [حدثنا أبي, حدثنا جدي شاصونة بن عبيد .... فذكره.

وقال البيهقي: ورواه أبو الفضل] أحمد بن خلف بن محمد المقرئ القزويني, عن أبي الفضل العباس بن محبوب بن شاصونة.

ثم قال: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل في وقت الكلام.

ثم روى من طريق وكيع بن الجراح, عن الأعمش, عن شمر بن عطية, عن بعض أشياخه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي قد شب لم يتكلم, قال: «من أنا؟» قال: رسول الله.

ورواه من طريق أحمد بن عبد الجبار, حدثنا يونس بن بكير, عن الأعمش, عن شمر بن عطية, عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة

 

#221#

بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحرك, فقالت: يا رسول الله, إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدنيه», فأدنته منه, فقال: «من أنا؟» فقال: أنت رسول الله.

وقد أضربنا عن تخريج القصص المطلقة مما بلغنا في الحجة ورويناه اكتفاء بما في معنى ذلك خرجناه, ونذكر الآن تتمة سيرة حجته صلى الله عليه وسلم إلى حين رجوعه إلى المدينة واستقراره بها حسبما تضمنته الأحاديث التي وقعت لنا.

 

#222#

$[رجوعه صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة]$

لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة وصلاة الظهر خطب خطبة يوم النحر بمنى.

وقد تقدم من رواية الواقدي من طريق عمارة بن حارثة, عن عمرو بن يثربي الضمري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة, والغد من يوم النحر بعد الظهر.

وهذه الخطبة أعلم الناس فيها بحرمة يوم النحر وشهر ذي الحجة, وحرم مكة على جميع البلاد, وأوصاهم فيها بأنواع من أمور الإسلام.

وقبل ذلك أمر جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن يستنصت الناس.

صح من حديث أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن جده جرير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: «استنصت الناس ....» الحديث.

 

#223#

وفتح الله تعالى لتلك الخطبة أسماع الناس حتى سمعها أهل منى في منازلهم.

قال مسدد في "مسنده": حدثنا عبد الوارث, عن حميد الأعرج, عن محمد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا, فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال: «بحصا الخذف», ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد, وأمر الأنصار أن ينزلوا من فناء المسجد, ثم نزل الناس بعده.

وخرجه أبو داود عن مسدد [به], وخرجه النسائي بنحوه.

ومحمد بن إبراهيم التيمي لم يدرك عبد الرحمن بن معاذ بن عثمان بن عمر بن كعب التيمي وهو ابن عم طلحة.

وحدث بالحديث ابن سعد في "الطبقات" عن عبد الله بن عمر, عن أبي معمر المنقري، حدثنا عبد الوارث بن سعيد مولى بني العنبر، حدثنا حميد بن قيس المكي ... فذكره.

 

#224#

وحدث به مسدد أيضاً في "مسنده" عن سفيان, عن حميد الأعرج, عن محمد بن إبراهيم, عن رجل من بني تيم – ولم يسمه – قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلمنا مناسكنا, ونزل الناس منازلهم, فقال صلى الله عليه وسلم: «ينزل المهاجرون ههنا, وينزل الأنصار ههنا» ففتح الله عز وجل أسماعنا حتى كنا سمعنا في منازلنا, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا الجمرة بمثل حصا الخذف».

وحدث به أبو داود في "سننه" عن أحمد بن حنبل, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن حميد الأعرج, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن عبد الرحمن بن معاذ, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمنى, ونزلهم منازلهم, فقال: «لينزل المهاجرون ههنا» وأشار إلى ميمنة القبلة, «والأنصار ههنا» وأشار إلى ميسرة القبلة «ثم لينزل الناس حولهم».

وخرجه أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة" عن ابن أبي عمر, عن سفيان كنحو رواية مسدد عن سفيان.

وقال أيضاً: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن الحسن بن مسلم, عن طاوس قال: كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على يسار مصلى الإمام, وكان منزل الأنصار خلف دار الإمارة وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انزلوا ههنا.

 

#225#

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الشق الأيمن من منى.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا إسرائيل وزيد بن الحباب, أخبرني إسرائيل المعنى عن إبراهيم بن مهاجر, عن يوسف بن ماهك, عن أمه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله, ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: «لا, إنما هو مناخ لمن سبق إليه».

وقال المفضل الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا صامت, حدثنا عبد المجيد, عن ابن جريج, عن إسماعيل بن أمية, أن خالد بن مضرس أخبره أنه رأى أشياخاً من الأنصار يتحرون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام المنارة قريباً منها.

وقال يزيد بن هارون: أخبرنا حجاج بن أرطأة, عن أبي يزيد مولى عبد الله بن الحارث, عن أم جندب الأزدية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس, لا تقتلوا أنفسكم عند جمرة العقبة, وعليكم بمثل حصا الخذف».

قال حجاج: وقال عطاء: حصا الخذف مثل طرف الأصبع.

 

#226#

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" منه حديث عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «يا أيها الناس, أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام. قال: «أي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام. قال: «أي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. قال: «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا», ثم أعادها مراراً, ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم هل بلغت؟» مراراً, وقال: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب, لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

وهو في "صحيح البخاري", وعنده: ثم رفع رأسه, فقال: «اللهم هل بلغت؟».

وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير وغيره.

ورواه يزيد بن هارون, عن عاصم بن محمد بن زيد, عن أبيه, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: «أتدرون أي يوم هذا؟ ....» الحديث.

وقال عبد الرحمن بن جبلة: حدثني عمرو بن النعمان, عن كثير بن الفضل, عن مطرف بن عبد الله بن الشخير, سمعت عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أي يوم هذا؟» قلنا: يوم النحر. قال: «أي شهر هذا؟» قلنا: ذو الحجة, شهر [حرام]. قال: «فأي

 

#227#

بلد هذا؟» قلنا: بلد حرام. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, ألا ليبلغ الشاهد الغائب».

وقال البخاري: قال هشام بن الغاز: أخبرنا نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بها, وقال: «هذا يوم الحج الأكبر», فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اشهد», فودع الناس قالوا: هذه حجة الوداع.

وما علقه البخاري حدث به ابن سعد في "الطبقات" عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا هشام بن الغاز, أخبرني رافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما [أن النبي صلى الله عليه وسلم] وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج. فقال للناس: «أي يوم هذا؟» قالوا: يوم النحر, قال: «فأي بلد هذا؟» قالوا: البلد الحرام, قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: الشهر الحرام. فقال: «هذا يوم الحج الأكبر, فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا اليوم», ثم قال: «هل بلغت؟» قالوا: نعم, فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اشهد» ثم ودع الناس, فقالوا: هذه حجة الوداع.

 

#228#

وروى أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي عن زمعة – يعني ابن صالح, عن يعقوب بن عطاء, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف بين الجمرتين بمنى في الحجة التي حج وذلك يوم النحر, فقال في حديثه: «هذا يوم الحج الأكبر».

 

#229#

$[من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى]$

ومن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ما رويناه من حديث أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثنا الفرج بن فضالة الدمشقي, عن لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, فحمد الله وأثنى عليه وسمعته يقول: «ألا لعلكم لا تروني بعد عامكم هذا» ثلاث مرات, فقام رجل طوال الشعر كأنه من رجال شنوءة, فقال: ما الذي نفعل يا رسول الله؟ قال: «اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم, وصوموا شهركم, وحجوا بيتكم, وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم».

ورواه أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري في كتابه "السنة" فقال: حدثنا معن بن عيسى القزاز, أخبرنا معاوية بن صالح, عن أبي يحيى سليم بن عامر, سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول يوم حجة الوداع وهو راكب على الجدعاء قد جعل رجليه في غرز الرحل يتطاول يسمع الناس, فقال: «ألا تسمعون»؟ فقال رجل من طوائف

 

#230#

الناس لا يدرى من هو: بم تأمرنا, أو بم تعهد إلينا؟ فقال: «اعبدوا ربكم, وصلوا خمسكم, وصوموا شهركم, وأدوا زكاة أموالكم, وأطيعوا ذا أمركم, تدخلوا جنة ربكم».

وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" لسليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول في حجة الوداع وهو على الجدعاء, قد جعل رجليه في غرز الركاب تطاول يسمع الناس بطول صوته, فقال قائل من طوائف الناس: بماذا تعهد إلينا؟ قال: «اعبدوا ربكم, وصلوا خمسكم, وأدوا زكاة أموالكم, وأطيعوا أمراءكم, تدخلوا جنة ربكم» قال: قلت: مثل من أنت يومئذ؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة أزاحم البعير حتى أزحزحه قدماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الترمذي من حديث سليم بنحوه, وقال: حديث حسن صحيح.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا الهيثم بن خارجة, حدثنا الوليد بن مسلم, عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر,

 

#231#

حدثني سليم بن عامر قال: قلت لأبي أمامة: ابن كم كنت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما سألني عنها أحد غيرك, كنت ابن ثلاث وثلاثين سنة, ولقد رأيتني وحضرت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه الوداع, فجعل الرجل يقبل علي بصدر راحلته ليزيلني عن السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأضع يدي في صدر الراحلة فأزيلها.

وقال الحسين بن إسماعيل: حدثنا إبراهيم بن هانئ, حدثنا أبو الوليد يعني الطيالسي, حدثنا عكرمة بن عمار, حدثني الهرماس بن زياد الباهلي رضي الله عنه قال: أبصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي مردفي وراءه على جمل له وأنا صبي صغير, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته العضباء [و] يخطب الناس يوم الأضحى بمنى.

وحدث به أبو داود في "سننه" عن: هارون بن عبد الله هو أبو موسى الحمال, عن هشام بن عبد الملك الطيالسي. تابعهما أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي ومحمد بن سعد, عن أبي الوليد الطيالسي بنحوه.

 

#232#

وألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في "الصحيح". ورواه أبو النضر هاشم بن القاسم التميمي ويقال الليثي عن عكرمة بن عمار مختصراً.

وخرجه النسائي في "سننه": عن إبراهيم بن يعقوب, عن أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان, عن عكرمة بن عمار بنحوه.

وحدث النسائي أيضاً عن يعقوب بن إبراهيم, عن يحيى بن أبي زائدة وعن إسحاق بن منصور, عن أبي أسامة, كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أخيه, عن أبي كاهل رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقة وحبشي آخذ بخطام الناقة.

ورواه يحيى بن محمد بن صاعد, فقال: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أبو أسامة, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أخيه, عن أبي كاهل عبد الله بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم .... فذكره.

تابعهما محمد بن عثمان بن كرامة, عن أبي أسامة كذلك.

وحدث به أبو كريب, عن ابن نمير, عن إسماعيل, عن أخيه, عن أبي كاهل به ولم يسمه.

وحدث به ابن ماجه, عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: رأيت أبا كاهل, وكانت له صحبة, فحدثني أخي عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم .. فذكره.

 

#233#

تابعه إسحاق بن راهويه عن وكيع كذلك.

ورواه يحيى بن عبد الحميد الحماني عن وكيع بنحوه.

وهو عند الحماني أيضاً عن المبارك, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن عائذ رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر على ناقة حمراء.

ورواه كذلك يحيى بن محمد بن صاعد, حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن عائذ نحوه.

وكذلك خرجه ابن ماجه في "سننه" عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن محمد بن عبيد الطيالسي .... فذكره, ولم يذكر فيه أخو إسماعيل.

 

#234#

وروى الحديث إبراهيم بن موسى الرازي, أخبرنا عيسى بن يونس, عن إسماعيل, أخبرني أخي سعيد, عن أبي كاهل قيس بن عائذ الأحمسي .... فذكره بنحوه.

وفي هذا أن أبا كاهل اسمه قيس بن عائذ, وبه قال جماعة منهم عمرو بن علي الفلاس والبخاري في "تاريخه الكبير", ومسلم في كتابه "الكنى", وأبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي في "تاريخه" وأبو عبد الله بن منده في كتابه "الكنى" وغيرهم.

وقيل: اسمه عبد الله بن مالك كما تقدم مصرحاً به في رواية أبي أسامة.

وقال أحمد بن آدم الجرجاني غندر: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري, حدثنا سعيد بن أبي حيان الباهلي, حدثنا شبل بن نعيم الباهلي, حدثني عبد الله بن أبي مسقبة الباهلي قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, فألفيته واقفاً على بعيره كأن ساقه في غرزة الجمار, فاحتضنتها فقرعني بالسوط, فقلت: القصاص يا رسول الله, فدفع إلي السوط, فقبلت ساقه ورجله.

 

#235#

هذا حديث غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه, قاله أبو عبد الله محمد ابن منده.

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا سلمة بن نبيط, حدثني أبي – أو نعيم بن أبي هند, عن أبيه – قال: حججت مع أبي وعمي, فقال لي أبي: ترى ذاك صاحب الجمل الأحمر الذي يخطب؟ ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أبو هند هو النعمان بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه.

وقال أبو العباس أحمد بن محمد الرقي: حدثنا محمد بن كثير, وأبو حذيفة, عن سفيان, عن سلمة بن نبيط, عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جمل أحمر.

ورواه مروان بن معاوية وغيره, عن أبي مالك الأشجعي, عن نبيط بن

 

#236#

شريط قال: كنت ردف أبي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم. ... وذكره.

وخرج أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين": من حديث عاصم بن علي, حدثنا قيس بن الربيع, عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن أبي ليلى الكندي: سمعت رب هذه الدار حريزاً – أو أبا حريز – فقال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمنى فوضعت يدي على رحله فإذا ميثرته ضائنة مسك ضائنة.

وخرجه أيضاً من حديث الحماني, حدثنا قيس, عن عثمان بن المغيرة, عن أبي ليلى: حدثني رب هذه الدار حريز أو أبو حريز: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فوضعت يدي على ميثرة رحله فإذا هو من جلدة شاة ضائنة.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن محمد بن مقاتل, أخبرنا عبد الله بن المبارك, حدثنا قيس بن الربيع .... فذكره.

تفرد به قيس بن الربيع.

 

#237#

وخرج أبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث عبد الله بن يوسف, حدثنا أبو معاوية, حدثنا هلال بن عامر, عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى على بغل عليه برد أخضر, ورجل من أهل بدر يعبر عنه, فجئت حتى أدخلت يدي بين قدمه وشراكه فجعلت أعجب من بردها.

وخرجه أبو داود في "سننه" حدث به عن مسدد, عن أبي معاوية.

تابعهما أحمد بن حنبل وإبراهيم بن أبي معاوية عن أبي معاوية هكذا.

ورواه محمد بن عبيد الطيالسي, عن شيخ من بني فزارة, عن هلال بن عامر, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعامر لم يرو فيما ذكره الطبراني وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً غير هذا.

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": (حدثنا ابن إسحاق), حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا هلال بن عامر المزني, عن رافع بن عمرو المزني قال: إني يوم حجة الوداع خماسي أو سداسي,

 

#238#

فأخذ أبي بيدي حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء يخطب الناس, فتخللت الرجال حتى أقوم عند ركاب البغلة فأضرب بيدي كلتيهما على ركبتيه صلى الله عليه وسلم, فمسحت الساق حتى بلغت القدم, ثم أدخل يدي بين الركاب والقدم, فإنه ليخيل إلي الساعة أني أجد برد قدميه على كفي.

وعلقه أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي في "تاريخه" فقال: ذكر صالح الكوفي عن يعلى بن عبيد .... فذكر نحوه.

وخرجه أبو داود والنسائي لمروان بن معاوية الفزاري, عن هلال بن عامر, عن رافع به.

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا سليمان, حدثنا أحمد بن زكريا الإيادي بمدينة جبلة, حدثنا يزيد بن قيس, حدثنا عبد المجيد بن عبد الله بن أبي رواد, عن إبراهيم بن طهمان, عن الحكم بن عتيبة,

 

#239#

عن طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى يقول: «لو يعلم أهل الجمع بمن حلوا لاستبشروا بالفضل بعد المغفرة».

 

#240#

$[رمي النبي صلى الله عليه وسلم الجمار]$

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أيام التشريق يرمي كل يوم الجمار ماشياً بعد الزوال.

روى ابن جريج, عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي إلى الجمار.

خرجه عبد الرزاق في "جامعه" عن ابن جريج, وقال: أخبرنا الأسلمي, عن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار ماشياً ذاهباً وراجعاً, وكان يرميها عند زوال الشمس في أيام التشريق.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن مطرف بن عبد الله اليساري, حدثنا الزنجي ابن خالد, عن جعفر ... فذكره بنحوه.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهباً وراجعاً, خرجه الترمذي وصححه.

 

#241#

وهو في "مسند أحمد" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمرة يوم النحر راكباً وسائر ذلك ماشياً, ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

وخرج البخاري في "صحيحه" فقال: وقال محمد: حدثنا عثمان بن عمر, أخبرنا يونس, عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي عند مسجد منى يرميها بسبع حصيات, بكبر كلما رمى بحصاة, ثم تقدم أمامها, فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو, وكان يطيل الوقوف, ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي, فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو, ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات, يكبر عند كل حصاة, ثم ينصرف, ولا يقف عندها.

قال الزهري: سمعت سالم بن عبد الله يحدث بمثل هذا عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله.

ومحمد هذا الذي لم ينسبه البخاري: قال الحافظ أبو بكر البرقاني: قال بعض أصحابنا: رواه البخاري عن محمد بن يحيى.

وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر فيما وجدته بخطه على "أطراف

 

#242#

خلف" الواسطي: ورأيته أنا في بعض النسخ: محمد بن سلام, فالله أعلم.

قلت: ويحتمل أنه الذهلي كما حكاه البرقاني, فقد قال البخاري في كتاب الكفارات: حدثنا محمد بن عبد الله, حدثنا عثمان بن عمر.. وذكر حديثاً, فذكر الحاكم أبو عبد الله في كتاب "المدخل" أنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد الذهلي, نسبه إلى جده.

قلت: ولا يمتنع أن يكون محمد هذا هو ابن إسحاق الصاغاني, فإن البيهقي روى هذا الحديث في "معارف السنن" من حديث أبي العباس محمد ين يعقوب, حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني, أخبرني عثمان بن عمر, أخبرنا يونس, عن الزهري .... فذكره.

لكن الصاغاني هذا معدود من رجال مسلم, فالله أعلم.

وتقدم لحديث ابن عمر هذا شاهد من حديث ابن مسعود وجابر وقدامة بن عبد الله الكلابي وعائشة وأم الحصين رضي الله عنهم.

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": حدثنا علي بن سهل الرملي, حدثنا الوليد, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي غالب, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: عرض رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند رميته الجمرة الأولى, فقال: يا رسول الله, أي الجهاد أفضل؟ قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رمى الجمرة الثانية عرض له رجل وسأله,

 

#243#

فأعرض عنه, فلما رمى جمرة العقبة فوضع رجله في الغرز ليركب قال: «أين السائل؟» قال: أنا ذا يا رسول الله, قال: «كلمة حق عند ذي سلطان جائر».

تابعه وكيع وغيره عن حماد.

وقال أبو علي حامد بن محمد الرفا, أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز, حدثنا عمر بن عبد الوهاب الرياحي, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا روح بن القاسم, عن إسماعيل بن أمية, عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار, عن عبيد ابن جريج, عن الحارث بن البرصاء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمشي بين جمرتين من الجمار وهو يقول: «من أخذ شيئاً من مال امرئ مسلم بيمين فاجرة فليتبوأ بيتاً في النار».

 

#244#

$[الخطبة الرابعة ونزول سورة النصر]$

وفي أوسط أيام التشريق خطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة الرابعة وهي آخر خطب الحج الأربع.

قال إسماعيل بن أبي أويس: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم, عن أبيه, عن جده, سمعت أبا مالك الأشعري رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع في وسط أيام الأضحى: «أليس هذا يوم حرام؟» قالوا: بلى.

حدث به الحافظ أبو نعيم فقال: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا عباس بن الفضل, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس .... فذكره.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أبو مسلم الكشي, حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, حدثنا ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن الغنوي, حدثتني سري بنت نبهان – وكانت ربة بيت في الجاهلية – قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «هل تدرون أي يوم هذا؟» قالت: وهو اليوم الذي يدعونه يوم الرؤوس

 

#245#

قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: «إن هذا أوسط أيام التشريق», قال: «هل تدرون أي بلد هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: «هذا المشعر الحرام», ثم قال: «إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا, ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم, ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم, ألا هل بلغت؟», فلما قدم المدينة لم يلبث إلا قليلاً حتى مات صلى الله عليه وسلم.

خرجه بنحوه البخاري في كتابه "خلف أفعال العباد" فحدث به عن أبي عاصم مختصراً.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" مطولاً عن أبي عاصم, ولا يعرف إلا به, وسري بفتح السين المغفلة وبإمالة الراء المضعفة.

وكذلك خرجه أبو داود, وقال: وكذلك قال عم أبي حرة الرقاشي أنه صلى الله عليه وسلم خطب أوسط أيام التشريق. انتهى.

وعم أبي حرة هذا صحابي مختلف في اسمه فقيل: حكيم بن أبي يزيد, وقيل: عامر بن عبدة, وقيل: ابن عبيدة, وقيل: اسمه حنيفة.

وخرج أبو داود من حديث عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي, عن أبيه, عن رجلين من بني بكر, قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب من أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى.

 

#246#

وقال يعقوب بن إبراهيم الدورقي: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا سعيد الجريري, عن أبي نضرة قال: حدثني – أو قال: حدثنا – من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: «يا أيها الناس ألا إن ربكم عز وجل واحد, ألا وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي على أعجمي, ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى, ألا قد بلغت؟» قالوا: نعم, قال: «ليبلغ الشاهد الغائب».

خرجه الإمام أحمد في "مسنده".

وسمي هذا المبهم من الصحابة في طريق [رواها] أبو الفضل يوسف بن يعقوب بن إسماعيل الأطروش البصري, حدثنا العلاء بن مسلمة, حدثنا شيبة أبو قلابة القيسي, عن الجريري, عن أبي نضرة, عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ....» الحديث, وفيه زيادة.

وحدث به الحسن بن سفيان عن العلاء بنحوه.

وخرج البيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي, عن صدقة بن

 

#247#

يسار, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أنزلت هذه السورة {إذا جاء نصر الله والفتح} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع, فأمر براحلته القصواء فرحلت, واجتمع الناس, فقال: «يا أيها الناس ....» ثم ذكر الحديث في خطبته.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا محمد بن معمر, حدثنا بهلول. ح.

وحدثنا محمد بن إسحاق حدثنا مكي بن إبراهيم, قالا: حدثنا موسى بن عبيدة, أخبرني صدقة بن يسار وعبد الله بن دينار, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تنزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا جاء نصر الله والفتح} فعرف أنه وداع, فأمر براحلته القصواء, فرحلت, ثم ركب, فوقف الناس بالعقبة, واجتمع عليه ما شاء الله من المسلمين, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله, ثم قال «أما بعد, أيها الناس, فإن كل دم كان في الجاهلية فهو هدر, وأول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث, وكان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل ...» وذكر الخطبة بطولها نحو ما تقدم في خطبته صلى الله عليه وسلم بنمرة.

[و] قال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد: أخبرنا أبو حفص الفاروق بن عبد الكبير, حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا عطاف بن خالد المخزومي,

 

#248#

حدثنا إسماعيل بن رافع المديني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف من منى فأتاه رجل من الأنصار, ورجل من ثقيف, فدعوا له دعاء خفياً, ثم قالا: جئناك نسألك. قال: «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني, وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت».

فقالا: أخبرنا نزدد إيماناً أو يقيناً – الشك من قبل إسماعيل – قال الأنصاري للثقفي: سل رسول الله صلى ه عليه وسلم   , قال: بل أنت فسل, فإني أعرف لك حقك, فقال الأنصاري: أخبرني يا رسول الله.

قال: «جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه, وعن طوافك بالبيت وما لك فيه, وعن الركعتين بعد الطواف وما لك فيهما, وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه, وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه, وعن رميك الجمار وما لك فيه, وعن نحرك وما لك فيه, وعن حلقك رأسك وما لك فيه, وعن طوافك بالبيت بعد ذلك – يعني الإفاضة – وما لك فيه».

قال: إي والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك.

قال: «فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لم تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلا كتب الله لك بها حسنة, ومحا عنك بها خطيئة, وأما طوافك بالبيت فإنك لا تضع رجلاً ولا ترفعها إلا كتب الله لك بها حسنة ومحا عنك بها خطيئة, ورفع لك بها درجة, وأما ركعتاك بعد الطواف فعتق رقبة من بني إسماعيل, وأما طوافك بين الصفا والمروة فكعتق سبعين رقبة, وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله عز وجل يهبط

 

#249#

إلى السماء الدنيا يباهي بكم الملائكة يقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً شفعاً, جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي, فلو كانت ذنوبكم عدد الرمل أو كعدد القطر أو كزبد البحر لغفرتها لكم, أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له, وأما رميك الجمار فبكل حصاة رميتها – يعني – غفران كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات, وأما نحرك فمدخور لك عند ربك, وأما حلاقك رأسك فبكل شعرة حلقتها حسنة وتمحى عنك بها خطيئة».

قال: يا رسول الله, فإن كانت الذنوب أقل من ذلك؟

قال: «إذن يدخر لك في حسناتك, وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك, يأتي ملك حتى يضع يده بين كتفيك ثم يقول: اعمل لما يستقبل فقد غفر لك ما مضى».

وخرجه أبو القاسم الطبراني في كتابه "الطوالات" من حديث حجاج بن منهال ومسدد, عن العطاف بن خالد.

تابعهم الليث بن سعد, وهشام بن عمار, ومسلم بن إبراهيم, ويعقوب بن أبي عباد, وسعيد بن منصور, والحماني, وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي وغيرهم عن العطاف بن خالد, وهو من أفراده, وشيخه إسماعيل متروك لم يدرك أنساً.

ورواه أبو معاذ سليمان بن خالد البلخي, عن إسماعيل بن رافع, عن

 

#250#

محمد بن أبي بكر, عن أنس قال: كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم .... فذكره نحوه.

ورواه آدم بن أبي إياس, عن أبي شيبة شعيب بن رزين, عن عطاء الخراساني مرسلاً.

ورواه ليث بن أبي سليم, عن القاسم بن أبي بزة معضلاً.

ورواه الدبري عن عبد الرزاق, عن ابن مجاهد, عن أبيه, عن ابن عمر قال: جاء رجلان, أنصاري وثقفي .... وذكر نحو الحديث.

تابعه خلاد بن يحيى عن عبد الوهاب – هو ابن مجاهد – وهو ضعيف جداً.

وله طريق أخرى إلى مجاهد.

 

#251#

$[فضل مسجد الخيف]$

وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه": أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى, حدثنا محمد بن الصباح الدولابي, حدثنا هشيم, أخبرنا يعلى بن عطاء, عن جابر بن يزيد [بن] الأسود العامري, عن أبيه, قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته, فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف من منى, فلما قضى صلاته إذا برجلين في آخر الناس لم يصليا فأتي بهما ترعد فرائصهما, فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» قالا: يا رسول الله كنا قد صلينا في رحالنا, قال: «فلا تفعلا, إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة».

هذا الحديث قد قدمناه بتعليل من عرفة قبل ذكرنا وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة, ثم ذكرناه عند ذكر أفعاله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق؛ لأنه لم يلح لنا في أي الوقتين كان هذا على التحقيق, والله أعلم. .

قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سريج بن النعمان, حدثنا حماد بن سلمة, عن كلثوم بن جبر, عن خثيم بن مروان, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تشد المطي إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف, ومسجدي, والمسجد الحرام».

 

#252#

قال أبو هريرة: لو كنت ساكناً مكة لأتيته كل يوم مرة, فإن لم أفعل ففي كل يومين, فإن لم أفعل ففي كل جمعة. يعني: مسجد منى.

 

#253#

$[رحيله صلى الله عليه وسلم إلى المحصب بعد أيام التشريق]$

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار ثم أفاض إلى المحصب:

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر [يومه] يوم النحر حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى, فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس .... الحديث.

وخرجه أبو داود [و] ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه" وقد تقدم.

وقال البخاري في "صحيحه": ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى.

أبو حسان هو مسلم بن عبد الله الأعرج الأحرد البصري.

 

#254#

وقال عبد الرزاق في "مصنفه": أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض ليالي منى كلها.

وحدث به أبو داود في "المراسيل" عن ابن خلاد, عن يحيى, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة من ليالي منى.

قال أبو داود: قد أسند.

 

#255#

$[إرداف النبي صلى الله عليه وسلم للشريد بن سويد خلفه]$

وفي طريق إفاضته إلى المحصب أردف صلى الله عليه وسلم الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه. كما قدمنا في أوائل الكتاب من طريق أبي يونس القشيري, حدثنا سماك بن حرب: أن عمرو بن رافع حدثه وكان مولى لأبي سفيان أن الشريد رضي الله عنه بينما هو يمشي بين منى والشعب في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حج قال: فإذا وقع ناقة خلفي فالتفت, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفني, فقال: «الشريد؟» قلت: نعم, قال: «ألا أحملك خلفي يا شريد؟» قلت: بلى يا رسول الله, ما بي إعياء ولا لغوب, ولكن ألتمس البركة في مركبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «يا شريد, هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ ...».

الحديث تقدم بطوله مع بعض طرقه, وأبو يونس القشيري هو حاتم بن أبي صغيرة مسلم القشيري البصري.

أخبرنا المسند الكبير أبو هريرة عبد الرحمن بن الذهبي, أخبرنا القاسم بن مظفر الطبيب, أخبرنا علي بن أبي عبد الله السلامي حضوراً وأبو الحسن محمد بن القطيعي ومحمد بن عبد الواحد بن المتوكل

 

#256#

إجازة أن أبا بكر محمد بن عبيد الله بن الراعوني أنبأهم, زاد السلامي فقال: وأنبأنا نصر بن نصر العكبري: ح.

وأخبرنا أبو هريرة, حدثنا القاسم بن محمد الحافظ, أنبأنا إبراهيم بن علي الواسطي, وعبد الرحمن بن أحمد المقدسي, ومحمد بن مؤمن الصوري, قالوا: أخبرنا داود بن أحمد أبو الفتوح, أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الرطبي, ح.

وقال الواسطي والمقدسي أيضاً: وأخبرنا الحسن بن إسحاق بن موهوب, أخبرنا محمد بن عبد الله بن الراعوني, قال هو ونصر العكبري وابن الرطبي: أخبرنا علي بن أحمد البندار, أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي, حدثنا يحيى بن محمد – يعني ابن صاعد – حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا أبو أسامة, حدثنا حاتم بن أبي صغيرة, عن سماك بن حرب, عن عمرو بن رافع, عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف, قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, فبينا أنا أمشي ذات يوم إذا وقع ناقة خلفي, فالتفت, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الشريد؟» فقلت: نعم. قال: «ألا أحملك؟» قلت: بلى, وما بي من إعياء ولا لغوب ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأناخ فحملني فقال: «أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت؟» قلت: نعم, قال: «هات», فأنشدته, قال: أظنه قال مائة بيت, قال: فقال: «عند الله علم أمية بن أبي الصلت, عند الله عز وجل علم أمية بن أبي الصلت».

 

#257#

$[إفاضة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المحصب وضرب القبة له]$

وكانت إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى المحصب يوم الثلاثة بعد الظهر.

والمحصب: هو خيف بني كنانة في الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح وهو منه كما تقدم.

وقال أبو زكريا النووي رحمه الله عن المحصب: وهو ما بين الجبل الذي عنده مقابر مكة والجبل الذي يقابله مصعداً في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعاً عن بطن الوادي, وليست المقبرة منه, والله أعلم. انتهى.

وحدث أبو داود والنسائي: عن محمود بن خالد, عن عمرو بن عبد الواحد, عن الأوزاعي, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» ... الحديث.

وأصله في "الصحيحين" عن الأوزاعي.

 

#258#

فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المحصب وجد مولاه أبا رافع قد ضرب قبته صلى الله عليه وسلم هناك, ولم يأمره.

روى سفيان بن عيينة, عن صالح بن كيسان, سمع سليمان بن يسار يحدث عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا ضربت قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل – يعني بالأبطح – وهو المحصب.

خرجه مسلم في "صحيحه" وأبو داود في "سننه" لسفيان بن عيينة بنحوه.

وصح أيضاً عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنهما قالت: نزول الأبطح ليس بسنة, إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج.

وعن الزهري, عن سالم أن أبا بكر وعمر وابن عمر رضي الله عنهم كانوا ينزلون الأبطح.

قال الزهري: وأخبرني عروة, عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك, وقالت: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه.

 

#259#

وعن سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس قال: ليس التحصيب بشيء, إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا الزبير أخبره أن عبد الله ابن العباس رضي الله عنهما كان يقول: ما الإناخة بالمحصب شيئاً, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما انتظر به عائشة حتى تأتي.

 

#260#

$[طواف الوداع]$

وخرج أحمد في "مسنده" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء, ثم هجع هجعة, ثم دخل مكة.

وخرجه أبو داود.

وهو في "صحيح البخاري" و"سنن النسائي" من حديث عمرو بن الحارث المصري, عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء, ثم رقد رقدة بالمحصب, ثم ركب إلى البيت, فطاف به.

تابعه سعيد هو ابن أبي عروبة, عن قتادة.

 

#261#

وهذا الطواف هو طواف الوداع, ويقال له طواف الصدر أيضاً كما يقال لطواف الإفاضة.

وطواف الوداع طافه النبي صلى الله عليه وسلم في سحر تلك الليلة, وأمر الناس به.

خرج مسلم في "صحيحه": من حديث سليمان الأحول, عن طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحدكم حتى يكون [آخر عهده بالبيت».

ومن حديث ابن طاوس, عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون] آخر عهدهم بالبيت, إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.

زاد أحمد في "مسنده": إلا أنه خفف عن المرأة الحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة.

وخرجه البخاري مختصراً من حديث طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت.

 

#262#

$[حيض صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم, ورغبة عائشة في العمرة]$

وحينئذ أخبر صلى الله عليه وسلم أن صفية قد حاضت, ورغبت إليه عائشة أن يعمرها.

صح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت. قال: «فلا إذن».

ورواه جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية وهي تبكي وهي حائض, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك حابستنا؟» قالت: أجل, قال: «طفت يوم النحر؟» قالت: نعم, قال: «فانفري فإنك قد فرغت».

وحدث به جرير أيضاً عن منصور, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج, فلما قدمنا تطوفنا بالبيت, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل, فحل من لم يكن ساق الهدي, ونساؤه لم يسقن فأحللن, قالت عائشة رضي الله عنها: فحضت فلم أطف بالبيت, فلما كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله, يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة؟ قال: «وما طفت ليالي قدمنا مكة؟!» قلت: لا, قال: «فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم, فأهلي بعمرة, ثم موعدك كذا وكذا», فقالت صفية: ما أراني إلا حابستهم, قال: «عقرى حلقى أوما طفت يوم النحر؟!», قالت:

 

#363#

قلت: بلى, قال: «لا بأس انفري». قالت عائشة: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها.

تكلموا في هذا الشك أيهما الصواب, فقال أبو محمد بن حزم: والذي لا شك فيه أنها كانت مصعدة من مكة وهو منهبط؛ لأنها تقدمت إلى العمرة, وانتظرها صلى الله عليه وسلم حتى جاءت, ثم نهض إلى طواف الوداع, فلقيها منصرفة إلى المحصب عن مكة.

وقال أبو العباس ابن تيمية فيما وجدت بخطه: الصواب – والله أعلم – وهو مصعد من مكة خارجاً منها وأنا منهبطة أي داخلة, فإنه لم يرجع بعد التوديع إلى المحصب, ولا عائشة أيضاً بل ودعت ورجعت, ومكة لا ينهبط أحد منها, بل يصعد منها, فإنها في الوادي, والراوي هو الذي شك, مع أنه قد يراد بالانهباط الخروج منها, ومراده باللفظين له: أنا دخلنا إلى مكة وهو خارج منها. انتهى.

وقال البخاري في "صحيحه": حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان, عن عمرو [سمع عمرو] بن أوس أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يردف عائشة ويعمرها من التنعيم.

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ" عن أبيه وحامد بن يحيى, قالا: حدثنا ابن عيينة .... فذكره.

 

#264#

وفي رواية عن القاسم, عن عائشة رضي الله عنها قالت: فنزلنا المحصب, فدعا عبد الرحمن, فقال: «اخرج بأختك الحرم فلتهل بعمرة, ثم افرغا من طوافكما أنتظركما هاهنا» فأتينا في جوف الليل فقال: «فرغتما؟» قلت: نعم, فنادى بالرحيل في أصحابه, فارتحل الناس ومن طاف بالبيت قبل صلاة الصبح, ثم خرج موجهاً إلى المدينة.

وخرج النسائي وابن ماجه من حديث عمار بن رزيق, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أدلج النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء ليلة النفر إدلاجاً.

 

#265#

$[إتيان الملتزم]$

واختلف هل وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملتزم بعد وداعه للبيت أم لا.

وقد خرج الدارقطني في "سننه": من حديث يزيد العدني, حدثنا سفيان [عن المثنى], عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلصق وجهه وصدره بالملتزم.

تابعه ابن جريج, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه قال: طاف محمد بن عبد الله بن عمرو مع أبيه عبد الله [بن عمرو] بن العاص, فلما كان في السابع أخذ بيده إلى دبر الكعبة, فجبذه وقال: أعوذ بالله من النار, ثم مضى حتى أتى الركن, فاستلمه, ثم قام بين الركن والباب, فألصق صدره ووجهه بالبيت, وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل.

 

#266#

خرجه أبو داود في "سننه" فقال: [حدثنا مسدد], حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا المثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه قال: طفت مع عبد الله, فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار, ثم مضى حتى استلم الحجر, فأقام بين الركن والباب, فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطاً, ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

وحدث به أبو الوليد الأزرقي عن القعنبي, عن عيسى بنحوه.

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب "الآحاد والمثاني": حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا جرير, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن عبد الرحمن بن صفوان, قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت, فلما خرج سألت من كان معه, فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى عن يمينها, ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتزم البيت ما بين الحجر والباب.

 

#267#

$[الخروج من مكة]$

ولما خرج صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بعد طواف الوداع خرج من باب الحناطين الذي يقال له باب الحزورة, كما قدمناه من رواية عبد الله بن نافع, عن مالك, [عن نافع], عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلنا معه من باب بني عبد مناف, وهو الذي يسميه الناس باب بني شيبة, وخرجنا معه إلى المدينة من باب الحزورة, وهو باب الحناطين.

وصح عن عائشة أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها.

وله شاهد من حديث ابن عمر, حدث عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العلياء التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى.

كداء: وزان سحاب, هي الثنية التي تشرف على الحجون وتنحدر منها إلى المقبرة التي في أصل الحجون, وتسمى عقبة باب المسلاة,

 

#268#

وقد ذكرناها قبل, ولا تنصرف إعراباً, وقال أبو زكريا النووي: ويجوز الصرف على إرادة الموضع. انتهى.

والثنية السفلى يقال لها (كدى) بالقصر والتنوين مع ضم الكاف وهي بالمسفلة من مكة, ومن المعلاة إلى المسفلة نحو ميلين وهو طول مكة من الحد الجنوبي إلى الشمالي.

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى ذي طوى فبات بها حتى أصبح, ذكره ابن عمر رضي الله عنهما ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم قاصداً إلى المدينة, فكانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة منذ دخلها إلى أن خرج منها متوجهاً إلى المدينة عشرة أيام كما تقدم في حديث أنس, وكان أولها يوم الأحد رابع ذي الحجة, وآخرها يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي الحجة على خلاف في ذلك.

 

#269#

$[عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجه]$

وفي هذه الحجة لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم جوف الكعبة على الصحيح.

قال أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي: حدثني جدي, سمعت سفيان يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح, ثم حج فلم يدخلها.

وقال الواقدي: حدثنا شيبان بن عبد الرحمن, عن جابر, عن أبي يحيى, عن قزعة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوماً ودخل البيت وعليه كآبة, فقلت: مالك يا رسول الله؟! قال: «فعلت اليوم أمراً ليتني لم أكن فعلته, دخلت البيت, ولعل الرجل من أمتي لا يقدر أن يدخله فينصرف وفي نفسه حزازة, وإنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول».

وخرجه الترمذي من طريق إسماعيل بن عبد الملك – هو ابن أبي الصفراء – عن ابن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس, فرجع إلي وهو حزين, فقلت له, فقال: «إني دخلت الكعبة, ووددت أني لم أكن فعلت».

هذا حديث حسن صحيح, قاله الترمذي.

 

#270#

وخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم في "مستدركه" وصححه.

وإسماعيل: ضعفه ابن معين وغيره, لكن قال البخاري: يكتب حديثه.

وقال طاهر بن خالد بن نزار: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن قيس, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله, كل أزواجك دخل الكعبة غيري؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «ادخلي الحجر فصلي فيه حتى تمس البيت عقصتك إذا سجدت وكل ذلك من البيت».

وحدث أحمد بن حنبل في "مسنده" عن حسن – هو ابن موسى الأشيب – حدثنا حماد بن سلمة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله كل أهلك قد دخل البيت غيري. فقال: «أرسلي لي شيبة فيفتح لك الباب» فأرسلت

 

#271#

إليه, فقال شيبة: ما استطعنا فتحه في جاهلية ولا إسلام بليل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلي في الحجر, فإن قومك استقصروا عن بناء البيت حين بنوه».

وحدث به يحيى بن أبي طالب فقال: حدثنا علي بن عاصم, أخبرنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله, كل نسائك قد دخلن البيت غيري, قال: «فاذهبي إلى ذي قرابتك», قالت: فأتيته, فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تفتح لي, قالت: فاحتمل المفتاح, ثم ذهب معها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, والله ما فتحت الباب بليل في الجاهلية ولا في الإسلام, فقال لعائشة رضي الله عنها: «إن قومك حين بنو البيت قصرت بهم النفقة, فتركوا بعض البيت في الحجر, فاذهبي فصلي في الحجر ركعتين».

خرجه البيهقي في "سننه" من طريق يحيى بن أبي طالب.

 

#272#

$[عود النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة]$

ولما توجه النبي صلى الله عليه وسلم نحو المدينة لقي ركباً بالروحاء فسلم عليهم.

والروحاء قرية جامعة من عمل الفرع على ليلتين من المدينة بينهما نحو من أربعين ميلاً.

حدث الشافعي, عن سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن عقبة, عن كريب مولى ابن عباس, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قفل, فلما كان بالروحاء لقي ركباً فسلم عليهم وقال: «من القوم؟» فقالوا المسلمون, فمن القوم؟ فقال: («رسول الله صلى الله عليه وسلم»), فرفعت إليه امرأة صبياً لها من محفة, فقالت: يا رسول الله, ألهذا حج؟ قال: «نعم, ولك أجر».

رواه دون لفظه: (قفل) مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن أبي عمر جميعاً عن سفيان.

تابعه مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة, عن أبيه إبراهيم بنحوه.

 

#273#

والحديث عند سفيان الثوري, عن إبراهيم بن عقبة وأخيه محمد, فرواه فيما خرجه مسلم أبو أسامة, وعبد الرحمن – هو ابن مهدي – عن الثوري, عن محمد بن عقبة.

ورواه أبو نعيم, عن الثوري, عن إبراهيم بن عقبة.

وممن رواه عن مالك, عن إبراهيم بن عقبة موصولاً: الشافعي, ومعن بن عيسى, ويحيى بن بكير, وأبو مصعب, وغيرهم.

ورواه فيما ذكره البيهقي في "المعارف" الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني في كتاب "القديم" عن الشافعي عنه مالك منقطعاً, لم يذكر ابن عباس.

قال البيهقي: وكذلك رواه غيره عن مالك. انتهى.

 

#274#

$[أكل النبي صلى الله عليه وسلم من أضحيته]$

وفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأكل من لحم شاة قددها له ثوبان مولاه من منى.

خرج أبو داود من حديث جبير بن نفير, عن ثوبان رضي الله عنه قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يا ثوبان, أصلح لنا لحم هذه الشاة» فما زلت أطعمه منها حتى قدمنا المدينة.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" ولفظه عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته في السفر, ثم قال: «يا ثوبان, أصلح لحمها», فلم أزل أطعمه منها حتى قدمنا المدينة.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

قلت: بلي خرجه مسلم في "صحيحه" من طريق معاوية بن صالح, عن أبي الزاهرية, عن جبير بن نفير, عن ثوبان قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم ضحيته, ثم قال: «يا ثوبان, أصلح لحم هذه», فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة.

وخرجه مسلم أيضاً من طريق الزبيدي, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه, عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال

 

#275#

لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أصلح هذا اللحم» قال: فأصلحته, قال: فلم يزل صلى الله عليه وسلم يأكل منه حتى بلغ المدينة.

وخرجه الدارمي في "مسنده" عن جبير أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى: «أصلح لنا من هذا اللحم», فأصلحت له منه, فلم يزل يأكل منه حتى بلغنا المدينة.

وفي "الصحيحين" عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

 

#276#

$[وصول النبي صلىالله عليه وسلم  إلى غدير خم]$

ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى غدير خم كان وصوله فيما قيل في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة في منصرفه من حجة الوداع.

والغدير: على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة للطريق بقرب مكة.

وهذا الغدير تصب فيه عين, وحوله شجر كثير ملتف, وهي الغيطة التي تسمى خم, وبين الغدير والعين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#277#

$[طرق حديث موالاة علي بن أبي طالب]$

وفي ذلك المكان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي رضي الله عنه وقال: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه».

قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بن راهويه: أخبرنا شبابة بن سوار المدائني, حدثنا نعيم بن حكيم, حدثنا أبو مريم, عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يوم غدير خم فقال: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه», قال: فزاد الناس بعد: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

وهذا الحديث له طرق هذا أمثلها, ونعيم فيه لين, وأبو مريم سماه البخاري في "تاريخه الكبير" ومسلم في كتابه "الكنى": قيساً الثقفي. زاد مسلم فقال: ويقال الحنفي, وسماه أبو نصر بن ماكولا: عبد الله بن سنان الكوفي, وليس به, والله أعلم.

وروى محمد بن بكار بن الزبير العيشي البصري, قال: حدثنا نوح بن قيس, حدثنا الوليد بن صالح, عن أبي امرأة زيد بن أرقم, عن

 

#278#

زيد بن أرقم قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع حتى قدم الجحفة بين مكة والمدينة بين الروحات فقم ما تحتها .... وذكر الحديث مطولاً, ثم قال: «إنكم توشكون أن تردوا علي الحوض فأسألكم حين تلقوني عن ثقلي كيف خلفتموني فيهما» قال: فعيل علينا فلم ندر ما الثقلان؟ حتى قام رجل من المهاجرين فقال: يا نبي الله، ما الثقلان؟ قال: «الأكبر منهما كتاب الله, والأصغر منهما عترتي», ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه, وعاد من عاداه».

وحدث غندر, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل, سمعت أبا الطفيل, عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم – شك شعبة – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

وجاء عن شعبة مرة, عن ميمون أبي عبد الله, عن زيد بن أرقم بنحوه.

وحدث فطر بن خليفة, عن أبي الطفيل قال: جمع علي رضي الله عنه [الناس] في الرحبة ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ سمع رسول الله

 

#279#

صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ما سمع لما قام, فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال للناس: «أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: نعم يا رسول الله, قال: «من كنت مولاه فهذا مولاه, اللهم وال من والاه, وعاد من عاداه» ثم قال لي زيد بن أرقم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.

وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار, عن أبيه, عن عامر بن سعد, عن أبيه رضي الله عنه قال: أما والله أشهد لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم غدير خم, وأخذ بضبعيه: «أيها الناس من مولاكم؟» قالوا: الله ورسوله, قال: «من كنت فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

وخرج الدارقطني في "الأفراد" من حديث إسماعيل بن أبان الوراق, عن أبي داود الطهوي, واسمه عيسى بن مسلم, عن

 

#280#

عمرو بن عبد الله, وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: خطب الناس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الرحبة,. فقال: أنشد الله امرءاًَ نشدة الإسلام سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم أخذ بيدي يقول: «ألست أولى بكم يا معشر المسلمين من أنفسكم» قالوا: بلى يا رسول الله, قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه, وانصر من نصره واخذل من خذله» إلا قام فشهد, فقام بضعة عشر رجلاً فشهدوا, وكتم قوم فما فنوا في الدنيا حتى عموا وبرصوا.

تفرد به الطهوي عن عمرو بن عبد الله بن هند الجملي, وعبد الأعلى, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ أنه سمع علياً ينشد الناس في الرحبة .. وذكر الحديث بنحوه.

ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في "مسند أبيه" من طريق سماك بن عبيد, عن ابن أبي ليلى.

وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن عقدة في كتابه "الموالاة": حدثنا جعفر بن عبد الله, حدثنا نصر بن مزاحم وعثمان بن سعيد الأحول, أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن الحسين, حدثني أبي, عن أبيه, عن جده, عن علي رضي الله عنه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما نزل بغدير خم ... فذكر الحديث.

 

#281#

وقال أيضاً: حدثنا إبراهيم بن الوليد بن حماد, أخبرنا أبي, أخبرنا يحيى بن يعلى, عن حرب بن مسيح, عن ابن أخت حميد الطويل, عن ابن جدعان, عن سعيد بن المسيب, قال: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني أريد أن أسألك عن شيء, وإني أتقيك, قال: سل عما بدا لك, فإنما أنا عمك. قال: قلت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم يوم غدير خم, قال: نعم, قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» الحديث, وذكر له ابنه عقدة طرقاً غير ذلك.

أخبرنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد إجازة إن لم يكن سماعاً أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد بن محمد المزي, قراءة عليه غير مرة, أنبأنا إسماعيل بن علي الجوهري, أخبرنا أبو المعالي عمر بن علي الصيرفي قراءة عليه وأنا أسمع في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة, أخبرنا رزق الله التميمي, أخبرنا أبو الحسين أحمد بن المتيم الواعظ, حدثنا أحمد, حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأزدي, حدثنا أبي, حدثنا عبد النور بن عبد الله, قال: وحدثنا سليمان بن قرم وهارون بن سعد وسعيد بن دينار وفطر بن خليفة عن أبي إسحاق, عن سعيد بن وهب وعمرو ذي

 

#282#

مر وزيد بن بثيع: أن علياً رضي الله عنه قال في الرحبة: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم يقول ما قال إلا قام, فقام ثلاثة عشر رجلاً ستة من جانب وسبعة من جانب, وقال هارون: اثنا عشر رجلاً, فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه, وانصر من نصره».

أحمد شيخ ابن المتيم هو ابن عقدة صاحب كتاب "الموالاة".

وأخبرناه أبو هريرة عبد الرحمن بن الفارقي بقراءتي عليه أنبأك سليمان بن حمزة الحاكم ويحيى بن سعيد وغيرهما قالوا: أخبرنا الحسن بن يحيى بن صباح المصري إجازة – زاد الحاكم فقال: وأنبأنا أبو عبد الله محمد بن عماد الحراني, قالا: أخبرنا عبد الله بن رفاعة السعدي سماعاً, أخبرنا علي بن الحسن القاضي بقرافة مصر, أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسين بن جعفر العطار, قراءة عليه وأنا أسمع, حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق العسكري, حدثنا أبو عبد الله محمد بن زريق بن جامع المديني سنة سبع وتسعين ومائتين, حدثنا أبو الحسين سفيان بن بشر الأسدي الكوفي, حدثنا علي بن هاشم بن البريد, عن عبد العزيز بن سياه, عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما

 

#283#

كان يوم غدير خم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدوح فقم ثم أمر بلالاً فهجر بالصلاة, ثم قام فقال: «يا معشر المسلمين, ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى, ثم أخذ صلى الله عليه وسلم بيد علي رضي الله عنه فقال: «من كنت مولاه فهذا مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

قال: فما بالدوح يومئذ إنسان يسمع بأذنيه ويبصر بعينيه.

وقال أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي: حدثنا الفضل بن صالح الهاشمي, حدثنا هدبة بن خالد, حدثني حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان, عن عدي بن ثابت, وأبي هارون العبدي, عن عدي بن ثابت: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين ونودي في الناس أن الصلاة جامعة, فدعا علياً رضي الله عنه فأخذ بيده فأقامه عن يمينه فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى, قال: «ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى, وفي آخر الحديثين: «أليس أزواجي أمهاتكم؟» قالوا: بلى, قال: «هذا ولي وأنا مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فقال له عمر رضي الله عنهما: هنيئاً لك يا علي, أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن.

ورواه عبد الرزاق, عن معمر, عن علي بن زيد.

ومن طرق الحديث الواهية التي زيد فيها ما قال علي بن بحر: حدثنا

 

#284#

سلمة بن الفضل الأبرش – قاضي الري – عن سليمان بن قرم, عن أبي إسحاق الهمداني, عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] يوم غدير خم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه, وانصر من نصره, واخذل من خذله».

 

#285#

$[من بدع الشيعة]$

وقد بلغنا أن الشيعة قد اخذوا اليوم الذي وصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى غدير خم – وهو الثامن عشر من ذي الحجة – وقال في حق علي رضي الله عنه ما قال اتخذوه عيداً, فيحيون ليلة ذلك اليوم ويصلون في صبيحتها ركعتين قبل الزوال.

وأول من أحدث عيد الغدير معز الدولة أبو الحسن علي بن بويه في سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة بعد أن أحدث النياحة على الحسين رضي الله عنه؛ لأنه لما كان عاشر المحرم من السنة المذكورة أمر ابن بويه ببغداد أن تغلق الأسواق وأن تلبس النساء المسوح من الشعر وأن يخرجن كاشفات عن وجوههن ناشرات شعورهن يلطمهن وجوههن ينحن على الحسين رضي الله عنه ولم يتمكن أهل السنة من منع ذلك.

وفي ثاني عشر ذي الحجة من السنة أمر ابن بويه أيضاً بإظهار الزينة ببغداد وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد, وأن تضرب الدباب والبوقات, وأن تشعل النيران بأبواب الأمراء وعند الشرط فرحاً بيوم غدير خم, فكانتا بدعتين ظاهرتين شنيعتين إلى أن زالتا وما جانسهما من البدع بزوال ملك بني بويه في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ولله الحمد, جنبنا الله الحوادث والبدع وجعلنا ممن اقتفى السنة النبوية واتبع.

 

#286#

$[صدور النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ونزوله الجحفة]$

وقال حنبل بن إسحاق الشيباني: حدثنا سعيد بن سليمان, أخبرنا زيد بن الحسن القرشي, حدثنا معروف بن خربوذ, حدثنا أبو الطفيل, عن حذيفة ابن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: لما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجة الوداع نزل الجحفة ونهى عن شجرات أن ينزل تحتهن, ثم بعث إليهن فقمم ما تحتهن من الشوك، فصلى تحتهن، ثم انصرف، فقال: «أيها الناس إنه نبأني اللطيف الخبير, فإني لأظنني سأدعى فأجيب وإني مسئول وإنكم مسئولون فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيراً. قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن الجنة حق، وأن النار حق, وأن البعث بعد الموت حق, والساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور؟» قالوا: نشهد بذلك. ثم قال: «ألا إني فرطكم وإنكم واردون علي الحوض, حوض أعرض مما بين بصرى وصنعاء, فيه عدد النجوم قدحان من فضة وإني سائلكم حين تردون علي».

 

#287#

$[مبيت النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة]$

ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة بات بها حتى أصبح, ذكره ابن عمر رضي الله عنهما.

وقال دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم: حدثنا ابن أبي فديك, حدثنا عبد الله بن نافع, عن أبيه, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من مكة بذي الحليفة, دبر المسجد على شفة الوادي حين تهبط عن يمينك حتى أصبح ثم دخل فقال: «إنكم بتم ببطحاء مباركة».

 

#288#

$[وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة]$

ولما أبصر النبي صلى اللهعليه وسلم  دوحات المدينة أوضع ناقته وكبر ثلاث مرات, وقال ما كان يقوله إذا قدم من سفر:

صح عن حميد أنه سمع أنساً رضي الله عنه يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر دوحات المدينة أوضع ناقته, وإن كانت دابة حركها من جهتها.

وصح عن نافع, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون, صدق الله وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده».

وله شاهد من حديث أنس.

 

#289#

$[الصلاة إذا قدم من سفر]$

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نهاراً من طريق العريش فأناخ على باب مسجده, ثم صلى فيه ركعتين ثم انصرف إلى بيته.

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب – يعني ابن إبراهيم – حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حين أقبل من حجه قافلاً في تلك البطحاء قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأناخ على باب مسجده, ثم دخل فركع فيه ركعتين, ثم انصرف إلى بيته, قال: فكان عبد الله بن عمر كذلك يصنع.

وحدث به أبو داود في "سننه": عن محمد بن منصور الطوسي, عن يعقوب بن إبراهيم, بنحوه.

 

#290#

$[خطبته صلى الله عليه وسلم بالمدينة]$

وحدث أبو السكين زكريا بن يحيى الطائي, عن سليمان بن داود الهاشمي قال: حدثني خالد بن عمرو بن محمد الأموي – وهو ابن عم عبد العزيز بن أبان – عن سهل بن يوسف، بن سهل بن مالك الأنصاري, عن أبيه, عن جده رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «يا أيها الناس, إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا ذلك له, أيها الناس, إني راض عن عمر بن الخطاب, وعثمان بن عفان, وعلي بن أبي طالب, وطلحة بن عبيد الله, والزبير بن العوام, وسعد بن مالك, وعبد الرحمن بن عوف, والمهاجرين الأولين, فاعرفوا ذلك لهم, يا أيها الناس, إن الله تعالى قد غفر لأهل بدر والحديبية. يا أيها الناس, احفظوني في أختاني وفي أصهاري وفي أصحابي لا يطلبنكم الله بمظلمة أحد منهم؛ فإنها ليست توهب, يا أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين, وإذا مات الرجل فلا تقولوا فيه إلا خيراً» ثم نزل صلى الله عليه وسلم.

 

#291#

وحدث به أبو روح الفرج بن سعيد العاص القرشي, عن سهل بن يوسف بن سهل بن مالك ابن أخي كعب بن مالك, عن أبيه, عن جده ..... فذكره.

تابعهما محمد بن معاوية النيسابوري, فرواه العاصي به.

وحدث به سيف بن عمر في "الفتوح" عن أبي الهمام سهل بن يوسف بنحوه.

 

#292#

$[متى كان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة]$

وكان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لسبع أو ثمان بقين من ذي الحجة, روي عن علي رضي الله عنه.

رواه سيف بن عمر في "الفتوح" عن عطية, عن رجل, عن علي رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لسبع بقين من ذي الحجة أو ثمان فوجد صداعاً يوم قدم وفترة, [و] قدم عليه في أول يومه ذلك خلع من بالبحرين من ربيعة, وقدم وافدهم في أثره بالسلم فوافق النبي صلى الله عليه وسلم وقد بدت الناس إليهم فوضع البعث وأمضى عمرو بن العاص إلى عُمان إلى جيفر بن الجلندا يدعوه, فمضى عمرو وعوفي النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الصداع وتلك الفترة لأيام بقين من ذي الحجة, وكان كالمتحلل من السير.

وروى الشعبي عن نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من حجته فتحلل به السير فما زال محلوجاً حتى استعن به الوجع.

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق في "المغازي": حدثنا إبراهيم بن سعد, قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة

 

#293#

الوداع فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة [و] المحرم وصفر.

 

#294#

&[أبواب مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته]&

$*[ابتداء شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم]:$

(وقال ابن إسحاق) : فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراد به من رحمته وكرامته في ليال بقين من صفر, أو في أول شهر ربيع الأول.

خرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر, وبدأ وجعه عند وليدة له يقال لها: ريحانه, كانت من سبي اليهود, وكان أول يوم مرضه صلى الله عليه وسلم يوم السبت.

وروى سيف بن عمر, عن سعيد بن عبد الله, عن عبد الله بن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي لزمه في ليلة (ريحانة) بنت شمعون وفي بيتها لأول ليلة من صفر.

وهذا مبني على القول بأن ريحانة رضي الله عنها ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم, والصحيح أنها ماتت في حياته صلى الله عليه وسلم.

وذكر البيهقي في "الدلائل": من رواية الواقدي, عن أبي معشر, عن محمد بن قيس قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة في بيت زينب بنت جحش.

 

#295#

وروى الواقدي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم بدئ في بيت ميمونة زوجته.

وقال أبو حاتم بن حبان وأبو عمر بن عبد البر: ثم بدأ به صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات منه يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر.

وهذا فيه نظر؛ لأن وقفة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كانت يوم الجمعة على الصحيح الذي ما سواه وهم وغلط, فيكون أول ذي الحجة يوم الخميس، [و] على هذا إما أن يكون ذو الحجة كاملاً والمحرم كاملاً, وذو الحجة ناقصاً, وإما أن يكون عكس ذلك فعلى الأول والثاني [يكون أول] صفر يوم الإثنين, وعلى الثالث والرابع يكون أول صفر الأحد, وعلى كل من ذلك لا يصح أن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر, لكنه يتصور في يوم الأربعاء لمن قال: اشتكى يوم الأربعاء لإحدى عشرة بقيت من صفر كما قدمناه, ويتصور أيضاً في قول من قال يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول, والله أعلم.

$*[ابتداء وجع النبي صلى الله عليه وسلم بالصداع]$

وكان ابتداء وجع النبي صلى الله عليه وسلم الصداع, فحم وصدع وتمادى به, وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيراً ويتألم من ذلك أياماً.

 

#296#

روى يونس بن بكير, عن المسيب بن مسلم الأزدي, حدثنا عبد الله بن بريدة, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة فمكث اليوم واليومين لا يخرج, فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس. وذكر الحديث.

$*[نعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه]$

وقبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه الشريفة مراراً.

منها: ما قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن مبشر السعيدي, عن ابن شهاب قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا فقصها على أبي بكر رضي الله عنه فقال: «يا أبا بكر, رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف» قال: خير يا رسول الله, يبقيك الله حتى ترى ما يسرك, وتقر عينك, قال: فأعاد عليه ثلاث مرات, وأعاد عليه مثل ذلك, قال: فقال له في الثالثة: «رأيت كأني استبقت أنا وأنت في درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف» قال: يا رسول الله, يقبضك الله إلى رحمته ومغفرته وأعيش بعدك سنتين ونصفاً.

ومنها: ما قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرني أبي, عن ميناء, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت مع

 

#297#

النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن فلما انصرف تنفس, فقلت: ما شأنك؟. قال: «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود».

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا المعلى بن أسد, حدثنا وهيب, عن أيوب, عن عكرمة قال: قال العباس رضي الله عنه: لأعلمن بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا, فقال له: لو اتخذت عرشاً فإن الناس قد آذوك فقال: «والله لا أزال بين ظهرانيهم ينازعوني ردائي ويصيبني غبارهم حتى يكون الله تبارك وتعالى يريحني منهم» قال العباس: فعرفنا أن بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا قليل.

ومنها: ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر رضي الله عنه: إنه ممن قد علمتم, فدعاه ذات يوم فأدخله معهم, قال: فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم مني, قال: فما تقولون في قول الله تعالى : {إذا جاء نصر الله والفتح}؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا, وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً, فقال: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا, قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له, قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} وذلك علامة أجلك, {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن القاسم,

 

#298#

حدثنا عمي عيسى بن المساور, حدثنا سويد بن عبد العزيز, عن سفيان بن حسين, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال: فتح مكة, نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فاستغفر الله ربك, واعلم أنه قد حضر أجلك.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن سفيان بن حسين إلا سويد بن عبد العزيز.

وقال سيف بن عمر التميمي الأسيدي في كتابه "الردة والفتوح": حدثنا محمد بن عون, عن يحيى بن يعمر الرشقي, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {إذا جاء نصر الله والفتح} فنعى إليه نفسه, فالفتح: فتح مكة, والنصر: على العرب قاطبة, {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً} وذلك أن الهجرة انقطعت إلى المدينة بعد الفتح, فكانت القبيلة بأسرها تسلم وتقيم مكانها, وكان دخولهم قبل ذلك الرجل بعد الرجل, والعدة بعد العدة؛ لأنهم أمروا بالهجرة فثقلت, فإذا كان ذلك فسبح, فصل فأكثر, واحمد الله واستغفره للأموات من أمتك وللأحياء, إنه كان تواباً لمن تاب منهم, ففعل صلوات الله وسلامه عليه, فأكثر وألح.

وفي رواية عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني نفسه – فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة.

 

#299#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليهوسلم : «نعيت إلي نفسي» بأنه مقبوض في تلك السنة.

وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن أنزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: «سبحانك ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي».

وثبت عنها أيضاُ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: «سبحان الله وبحمده, أستغفر الله وأتوب إليه» فقلت: يا رسول الله, أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه, فقال: «خبرني ربي عز وجل أني سأرى علامة في أمتي, فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده, أستغفر الله وأتوب إليه فقد رأيتها: {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره لا يقوم, ولا يقعد, ولا يذهب, ولا يجيء إلا قال: «سبحان الله وبحمده» فذكرت ذلك فقال: «إني أمرت بذلك» وتلا هذه السورة.

 

#300#

وهذه السورة تسمى: سورة التوديع قاله ابن مسعود رضي الله عنه.

وقال قتادة ومقاتل: عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.

وحدث مكي بن إبراهيم, عن موسى بن عبيدة, عن صدقة بن يسار, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت هذه السورة: {إذا جاء نصر الله والفتح} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فعرف أنه الوداع فبركت ناقته العضباء .... هذا مختصر.

ورواه مكي, عن موسى, عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر رضي الله عنهما مثله.

وجاء من حديث أبي بكر بن أبي الجهم, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً: {إذا جاء نصر الله والفتح}.

خرجه الطبراني في معجمه الكبير.

وحدث به مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر بن أبي شيبة وهارون ابن عبد الله, وعبد بن حميد, عن جعفر بن عون, أخبرنا أبو عميس, عن عبد المجيد بن سهيل, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم – وقال هارون: تدري – آخر سورة من القرآن نزلت جميعاً؟ قلت: نعم {إذا جاء نصر الله والفتح} قال: صدقت.

 

#301#

قال: وفي رواية ابن أبي شيبة: تعلم أي سورة؟ لم يقل: آخر.

[قال]: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا أبو معاوية, حدثنا أبو العميس, بهذا الإسناد مثله, وقال: آخر سورة.

وروى موسى بن عقبة في "المغازي" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نعى [الله] عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزل عليه: {إذا جاء نصر الله والفتح} فكان الفتح من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثمان فلما طعن في سنة تسع من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى فلم يدر متى الأجل ليلاً أو نهاراً, ففعل على قدر ذلك فوسع السنن, وسدد الفرائض, وأظهر الرخص, ونسخ كثيراً من الأحاديث فنسخت الرخصة الشدة, والشدة في بعض الرخصة, وغزا تبوك, وفعل فعل مودع صلى الله عليه وسلم.

وروي سيف بن عمر الأسيدي, عن عطية, عن الضحاك, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الله عز وجل قد عهد إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه متوفيه على حين فراغه في الذي بعثه به, وتأدية الذي عليه, وأمره أن ينعي إلى أمته نفسه بصرفه لكي لا يفتنوا من بعده فقرأ عليهم: {إذا جاء نصر الله والفتح} وقص عليهم رؤيا رآها: أن القمر دلي إليه ثم رفع, وقال لهم بمنى وعرفات: «إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا».

ورواه سيف أيضاً عن محمد بن كريب, عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قد نعانا نبي الله صلى الله عليه وسلم نفسه مراراً لو عقلنا عنه, وكره أن يفجعنا, فلم

 

#302#

نعرف ما ذلك حتى كان من أمره حين أنزل الله عز وجل: {إذا جاء نصر الله والفتح} وحين قال: «إني رأيت القمر دلي لي بأمراس فركبته ثم رفعت إلى السماء», وحين قال بمنى: «إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً» وقوله صلى الله عليه وسلم على المنبر: «إن عبداً خيره الله جل وعز أن يكون ملكاً مخلداً في الدنيا ما بقيت ثم الجنة, وبين ما عنده والجنة, فاختار لقاء الله جل وعز».

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "العزاء": حدثني محمد بن عثمان العجلي, حدثنا خالد بن مخلد, أخبرني موسى بن يعقوب, أخبرني أبو حازم, عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيعزي الناس بعضهم بعضاً للتعزية بي» فكان الناس يقولون: ما هذا, فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الناس بعضهم بعضاً, يعزي بعضهم بعضاً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو اليمان: حدثنا صفوان بن عمرو, عن راشد بن سعد, عن عاصم بن حميد السكوني: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فخرج النبي صلى الله عليه وسلم معه يشيعه, ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راحلته فلما فرغ قال: «يا معاذ, إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي وقبري». فبكى معاذ أسفا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبك يا معاذ، البكاء – أو أن البكاء – من الشيطان».

 

#303#

وقال سيف بن عمر فى كتابه "الفتوح والردة" عن عطية, عن أبي أيوب, عن علي رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} قال: اليوم يوم عرفة من حجة التمام, بهذا سميت حجة التمام وحجة الإسلام, وأما قوله تعالى : {أكملت لكم دينكم} فيعني حكم ما بينكم فلم ينزل بعد ذلك اليوم فريضة ولا حد, كمل الدين يعني الحكم ما يدينون به الرعية فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد فرغ من الإبلاغ والتأدية, وأن الأجل قد أظل فأقام لهم أحكامهم, وتجرد لسن السنن.

وحدث أيضاً عن داود بن [أبي] هند, عن عامر أنه قال في هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} قال: قالت اليهود: إنا لنعجب من العرب كيف لم يحفظوا هذا اليوم فيتخذونه عيداً؟! فقال عمر رضي الله عنه: أشد ما حفظوه, نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, وقد وقف نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة وقد وقف صلى الله عليه وسلم موقف إبراهيم صلى الله عليه وسلم, وصد المشركون عن البيت واضمحل الشرك, وهدمت منار الجاهلية. تابعه ابن علية, عن داود.

وقد تقدم في حجة الوداع مع بعض طرق حديث نزول قوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم} قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحد وثمانين يوماً.

وقال مقاتل في "تفسيره": ثمانين ليلة.

 

#304#

وقوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم} المراد به يوم عرفة كما تقدم عن علي رضي الله عنه, وصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول المفسرين قاطبة, إلا ما روي عن عطية, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ليس بيوم معين, وقاله السدي.

وقد اختلف في إكمال الدين ما معناه؟ فقال ابن عباس: هو إكمال فرائضه وحدوده, ولم ينزل بعد هذه الآية تحريم ولا تحليل.

وكذا قال مقاتل: هي آخر آية نزلت في الحلال والحرام.

وذكره السدي, واختاره المحققون من الأئمة.

وقال سعيد بن جبير وقتادة: أكمل الدين ينفي المشركين عن البيت فلم يحج معهم مشرك عامه.

وقال الشعبي: كمال الدين ههنا عزه وظهوره, وذل الشرك ودثوره, لا بتكامل الفرائض والسنن؛ لأنها لم تزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال نحوه الزجاج: إكمال الدين زوال الخوف من العدو والظهور عليهم.

وقيل: إكمال الدين رفع النسخ عليه, فشريعته لا تنسخ بشريعة أخرى بعدها, كما نسخ بهذه الشريعة ما تقدمها من الشرائع، والله أعلم.

 

#305#

$[إسرار النبي صلى الله عليه وسلم بوفاته إلى ابنته فاطمة]$

وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة, فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي, لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رآها رحب وقال: «مرحباً بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله, ثم سارّها فبكت بكاء شديداً, فلما رأى حزنها سارّها الثانية فإذا هي تضحك, فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارّك قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره, فلما توفي صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتيني, قالت: أما الآن فنعم, فأخبرتني قالت: أما حين سارني صلى الله عليه وسلم في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة «وأنه قد عارضني به العام مرتين, فلا أرى الأجل إلا قد اقترب, فاتقي الله واصبري, فإني نعم السلف أنا لك».

قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت, فلما رأى جزعي سارّني الثانية فقال: «يا فاطمة, ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين» أو «سيدة نساء هذه الأمة».

 

#306#

وفي رواية قالت: إنه خبرني أني أول أهله يتبعه, فضحكت.

وروي عن ميسرة بن حبيب, عن المنهال بن عمرو, عن عائشة بنت طلحة, عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت إذا دخلت عليه رحب وقام إليها وأخذ بيدها فقبلها, فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فرحب بها, وقبلها, وأسر إليها فبكت, ثم أسر إليها فضحكت, فقلت: كنت أحسب أن لهذه المرأة فضلاً على النساء, فإذا هي منهن تبكي إذ هي تضحك فسألتها فقلت: إني إذن لبذرة, فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها فقالت: أسر إلي فأخبرني أنه ميت فبكيت, ثم أسر إلي فأخبرني أني أول أهله لحوقاً به, يعني فضحكت.

خرجه أبو داود والترمذي والنسائي لميسرة.

وجاء عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته: أن عائشة حدثتها: أنها كانت تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة: «يا بنية, أحني علي» فأحنت عليه فناجاها ساعة, ثم انكشفت عنه وهي تبكي, وعائشة حاضرة, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بساعة: «أحنى علي يا بنية) فأحنت عليه، فناجاها ساعة, ثم انكشفت تضحك, قال: فقالت عائشة: أي بنية

 

#307#

أخبريني ماذا ناجاك أبوك صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: أوشكت رأيته ناجاني على حال سر وظننت أني أخبر بسره وهو حي؟! قال: فشق ذلك على عائشة, أن يكون سراً دونها, فلما قبضه الله عز وجل قالت لفاطمة: ألا تخبريني بذلك الخبر؟ قالت: أما الآن فنعم ناجاني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة «وأنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش بعده نصف عمر الذي كان قبله, وأخبرني أن عيسى ابن مريم عليهما السلام عاش عشرين ومائة سنة, فلا أزاني إلا ذاهباً على رأس الستين» فأبكاني ذلك وقال: «يا بنية, إنه ليس أحد من نساء المسلمين أعظم رزية منك, فلا تكوني من أدنى امرأة صبراً» وناجاني في المرة الآخرى فأخبرني أني أول أهله لحوقاً به, وقال: «إنك سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من البتول مريم بنت عمران» فضحكت لذلك.

خرجه البيهقي في "الدلائل" وقال: كذا في هذه الرواية, وقد روي عن ابن المسيب أن عيسى ابن مريم عليه السلام حين رفع إلى السماء كان ابن ثلاث وثلاثين سنة, وعن وهب بن منبه اثنان وثلاثون سنة, [فإن صح قول ابن المسيب ووهب] فالمراد من الحديث – والله أعلم – بما يبقى في الأرض بعد نزوله من السماء, والله أعلم. انتهى قول البيهقي.

 

#308#

وروي عن عبد الله بن أبي لبيد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت فاطمة عن بكائها حين سارّها النبي صلى الله عليه وسلم, وعن ضحكها, فقالت: أخبرني أنه مقبوض, «وإن أمتي سيصيبهم بعدي بلاء شديد» فبكيت, ثم أخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به فضحكت.

وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة رضوان الله عليها عام الفتح فناجاها فبكت, ثم حدثها فضحكت, قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن بكائها وضحكها, قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت, فبكيت, ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت.

خرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.

قلت: هذا يشعر أن هذه القصة وقعت مرتين, هذه المرة في سنة الفتح سنة ثمان, وفي سنة وفاته صلى الله عليه وسلم في ضعف الموت كما قدمناه, والله أعلم.

 

#309#

$[صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أهل البقيع ودعاؤه لهم]$

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا معن بن عيسى ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك, عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, ح.

وقال أيضاً: وأخبرنا محمد بن عمر, حدثنا أسامة بن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي, فقيل له: اذهب فصل على أهل البقيع, ففعل ذلك, ثم رجع فرقد, [فأتي], فقيل له: اذهب فصل على أهل البقيع, فذهب فصلى عليهم, فقال «اللهم اغفر لأهل البقيع» ثم رجع, فرقد, فأتي, فقيل له: اذهب فصل على الشهداء, فذهب إلى أحد, فصلى على قتلى أحد, فرجع معصوب الرأس, فكان بدء الوجع الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم.

البقيع المذكور هو – بقيع الغرقد – مقبرة المدينة النبوية, قال الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع حين دفن فيه عثمان بن مظعون فسمي بقيع الغرقد لهذا.

وقال الزبيدي في "مختصر العين": البقيع موضع فيه أروم شجر من ضروب شتى, والغرقد: ضرب من الشجر, وقيل: هو العوسج, وقيل: الشجر العظام.

 

#310#

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق في "المغازي": حدثنا إبراهيم بن سعد, قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدئ به من ذلك عليه الصلاة والسلام فيما ذكر لي – يعني من وجعه – أنه خرج إلى البقيع بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم, ثم رجع إلى أهله فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن المخزومي, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضجعه من جوف الليل, فقلت: أين, بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: «أمرت أن أستغفر لأهل البقيع» قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخرج معه مولاه أبو رافع, وكان أبو رافع يحدث قال: استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم طويلاً ثم انصرف وجعل يقول: «يا أبا رافع إني خيرت بين خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة, وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي».

وحدث ابن سعد بنحو هذه القصة, عن محمد بن عمر, حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة, عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده, عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل: «يا أبا مويهبة, إني

 

#311#

قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي» فخرج وخرجت معه .... وذكر الحديث.

وحدث به سيف بن عمر وأبو يحيى بكر بن سليمان الأسواري, ويونس بن بكير, وجرير بن حازم, وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم – واللفظ له – عن ابن إسحاق, حدثني عبد الله بن عمر بن علي العبلي, عن عبيد بن جبير مولى الحكم بن أبي العاص, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, عن أبي مويهبة – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة, إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي» [قال]: فانطلقت معه, [قال]: فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر, ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس, لو تعلمون ما نجاكم الله منه, أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أخراها أولاها, الآخرة شر من الأولى» ثم أقبل علي فقال: «يا أبا مويهبة, هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها, ثم الجنة, خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة».

 

#312#

قال: قلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها, ثم الجنة.

قال: «لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة».

قال: ثم استغفر لأهل البقيع, ثم انصرف, فبدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه حين أصبح.

خرجه الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما من طريق ابن إسحاق.

ورواه سيف بن عمر أيضاً عن مبشر بن الفضل, عن عبيد بن جبير بنحوه.

ورواه مرة, عن عبد الله بن سعيد بن ثابت, عن عبيد بن جبير, وزاد في آخره وقال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعث أسامة وندب معه وجوه المهاجرين منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمره أن يوطئ إبل الزيت من مشارف الأردن، فقال المنافقون في ذلك, فلم يجتمع آخرهم وعسكرهم بالجرف حتى توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

#313#

$[إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش أسامة بن زيد]$

وفي "الطبقات" لابن سعد أنه لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم, فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد فقال: «سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل, فقد وليتك هذا الجيش, فأغر صباحاً على أهل أبنى وحرق عليهم, وأسرع السير تسبق الأخبار, فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم, وخذ معك الأدلاء, وقدم العيون والطلائع أمامك» فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم فحم وصدع, فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده, ثم قال: «اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله» فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي وعسكر بالجرف, فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة, فيهم: أبو بكر الصديق, وعمر بن الخطاب, وأبو عبيدة بن الجراح, وسعد بن أبي وقاص, وسعيد بن زيد, وقتادة بن النعمان, وسلمة بن أسلم بن حريش, فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً, فخرج وقد عصب على رأسه عصابة, وعليه قطيفة, فصعد المنبر, فحمد الله وأثنى

 

#314#

عليه, ثم قال: «أما بعد أيها الناس, فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة, ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله, وايم الله, إن كان للإمارة لخليقاً, وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة, وإن كان لمن أحب الناس إلي, وإنهما لمحيلان لكل خير, فاستوصوا به خياركم» ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول .... وذكر بقيته.

قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن الزهري قال: كان أسامة بن زيد يخاطب بالأمير حتى مات, يقولون: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه الحاكم في "مستدركه" من طريق إسحاق بن إبراهيم الدبري, عن عبد الرزاق به.

وقال أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن لؤلؤ الوراق حدثنا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي, حدثنا بشر بن الوليد القاضي, أخبرنا أبو معشر, عن محمد بن قيس قال: لما يلق عمر أسامة بن زيد قط إلا قال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته, أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينزعه حتى مات.

وقال أحمد يبن منصور الرمادي: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب, وأعطيت الخزائن, وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل».

 

#315#

هذا مرسل.

وروي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه, قال: «بل أنا والله يا عائشة وارأساه» قالت: ثم قال: «وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فكفنتك وصليت عليك ودفنتك» قالت: قلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك قد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك, قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#316#

$[استئذان النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه أن يمرض في بيت عائشة]$

وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعن به وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي, فأذن له, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس, ورجل آخر, تخط قدماه عاصباً رأسه حتى دخل بيتي قال عبد الله: فحدثت هذا الحديث عنها عبد الله بن عباس رضي الله عنهم [فقال]: هل تدري من الرجل الآخر؟ قلت: لا, قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه فقال: «هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم» قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر, ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده: حسبكم حسبكم.

وحدث ابن سعد في "الطبقات": عن يزيد بن هارون, أخبرنا حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني, عن يزيد بن بابنوس

 

#317#

قال: استأذنت أنا ورجل من أصحابي على عائشة رضي الله عنها فأذنت لنا, فلما دخلنا جذبت الحجاب, وألقت لنا وسادة, فجلسنا عليها, فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر ببابي يلقي إلي الكلمة ينفع الله بها, فمر ذات يوم فلم يقل شيئاً, ثم مر ذات يوم فلم يقل شيئاً: يا جارية ألقي لي وسادة على الباب, فألقت لي وسادة فجلست عليها على طريقه صلى الله عليه وسلم وعصبت رأسي, فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما شأنك؟» فقلت: أشتكي رأسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وارأساه» ثم مضى فلم يلبث إلا يسيراً حتى جئ به محمولاً في كساء, فأدخل بيتي, فأرسل إلى نسائه فاجتمعن عنده فقال: «إني أشتكي ولا أستطيع أن أدور بيوتكن, فإن شئتن أذنتن لي فكنت في بيت عائشة» فأذن له, فكنت وإني أمرضه أوصبه, ولم أوصب مريضاً قط قبله.

وروى سيف بن عمر, عن سعيد بن عبد الله, عن عبد الله بن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي لزمه في ليلة ريحانة بنت شمعون, وفي بيتها لأول ليلة من صفر, واشتكيت في تلك الليلة شكوى شديدة فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في صرة أنادي: واغماه, وارأساه, عاصباً رأسه يعودني فقال: «لقد طرقني يا عائشة طارق من صداع فما برحني والآن وجعك ضورني فكيف تجدينك؟» قالت: فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد فزعت فزعة طار عني ما أجد حتى ما أحس منه شيئاً وثرت إليه فالتزمته وأنا أقول: واويلاه, فقال: «واضراه, لا تدعي بالويل» وأقبل يمازحني حتى سكنني وإنه لمثبت, وفزع الناس لصيحتي, فأقبلوا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إليكم فإنه لم يحدث إلا خير» وتراجع الناس ولزمه النسوة ودرن معه دورة, ثم استأذنهن في بيتي فأذن له.

 

#318#

وروى سيف – أيضاً – عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, ويزيد بن رومان وأبي بكر بن عبد الله أن الذي كان ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجعه الذي لزمه أن دخل على عائشة وهو يجد صداعاً فوجدها تصدع وتقول: وارأساه, فقال: «بل أنا والله يا عائشة وارأساه» قالت: فوالله لطار عني ما أجد, وكدت أن أستطار فسكنني بالمزاح على تجشم منه, فقال: «وما ضرك يا عائشة لو مت قبلي فأقوم عليك وإليك وأصلى عليك؟» قالت: فتفاءلت له فما نجاني مما خشيت الحذر, وقلت: أجل والله لكأني بك قد فعلت قد أعرست ببعض نسائك في بيتي من آخر ذلك اليوم, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ثم تمادى به وجعه وهو في ذلك يدور على نسائه حتى استعن برسول الله صلى الله عليه وسلم] وهو في بيت ميمونة رضي الله عنها قالت: فلما رأوا ما به اجتمع رأي من في البيت على أن يلدوه, وتخوفوا أن يكون به ذات الجنب ففعلوا ثم فرج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لدوه فقال: «من فعل هذا؟» فهبنه واعتللن بالعباس رضي الله عنه فاتخذ جميع من في البيت العباس سبباً, ولم يكن له في ذلك رأي, فقالوا: يا رسول الله عمك العباس أمر بذلك وتخوفنا أن يكون بك ذات الجنب, فقال: «إنها من الشيطان, ولم يكن الله عز وجل ليسلطه علي, ولا ليرميني بها, ولكن هذا عمل النساء, لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس؛ فإن يميني لا تناله» فلدوا كلهم, ولدت ميمونة وكانت صائمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم خرج رسول الله صلى اللهعليه وسلم  إلى بيت عائشة, وكان يومها بين العباس وعلي, والفضل ممسك بظهره, ورجلاه تخطان في الأرض, حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فلم يزل عندها مغلوباً لا يقدر على

 

#319#

الخروج, وغير مغلوب وهو يقدر على الخروج من بيتها إلى غيره.

وقال عبد الله بن وهب في كتابه: «لا هام»: أخبرني يونس, عن ابن شهاب, أخبرني أبو بكر بن الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى أول اشتكائه الذي توفي فيه وهو في بيت ميمونة فاشتد وجعه حتى غمر من شدة الوجع, فاجتمع عنده نساء من أزواجه منهم أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وعباس بن عبد المطلب, وأسماء بنت عميس الخثعمية وهي أم عبد الله بن جعفر, وأم الفضل بنت الحارث وهي أم عباس بن عبد المطلب فتشاوروا في لد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غمر فلدوه, وهو مغمر, فلما أفاق قال: «من فعل هذا؟ [هذا] عمل نساء جئن من ههنا» وأشار بيده إلى أرض الحبش, فقالوا: يا رسول الله, حسبنا بك ذات الجنب فلددناك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الله» أحسبه قال: «ليعذبني بذلك الداء .. » الحديث.

 

#320#

$[تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس]$

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا سليمان بن داود, أخبرنا عبد الرحمن, عن هشام بن عروة, أخبرني أبي: أن عائشة رضي الله عنها قالت له: يا ابن أختي, لقد رأيت من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أمراً عجيباً, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأخذه الخاصرة فتشتد به جداً, فكنا نقول: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرق الكلية, لا نهتدي أن نقول: الخاصرة, ثم أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فاشتدت به جداً, حتى أغمي عليه, وخفنا عليه, وفزع الناس إليه فظننا أن به ذات الجنب فلددناه, ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفاق فعرف أنه قد لد, ووجد أثر اللدود فقال: «ظننتم أن الله جل وعز سلطها علي, ما كان الله عز وجل ليسلطها علي, والذي نفسي بيده, لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي عليه السلام» فرأيتهم يلدونهم رجلاً رجلاً, قالت عائشة رضي الله عنها: ومن في البيت يومئذ فيذكر فضلهم فلد الرجال أجمعون, وبلغ اللدود أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلددن امرأة [امرأة], حتى بلغ اللد امرأة منا – قال ابن أبي الزناد: لا أعلمها إلا ميمونة – قال: وقال الناس: أم سلمة, قالت: إني والله صائمة, فقلنا: بئس ما ظننت أن نتركك وقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلددناها, والله يا ابن أختي وإنها لصائمة.

 

#321#

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض, عن المقبري, عن عبد الله بن رافع, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه في بيت ميمونة, فكان إذا خف عنه ما يجد, خرج فصلى بالناس, وإذا وجد ثقلة قال: «مروا الناس فليصلوا» فتخوفنا عليه ذات الجنب, وثقل فلددناه, فوجد النبي صلى الله عليه وسلم خشونة اللد فأفاق, فقال: «ما صنعتم بي؟» قالوا: لددناك قال: «بماذا؟» قلنا: بالعود الهندي وشيء من ورس وقطرات من زيت, فقال: «من أمركم بهذا؟» قالوا: أسماء بنت عميس, قال: «هذا طب أصابته بأرض الحبشة, لا يبقين أحد في البيت إلا التد إلا ما كان من عم رسول الله صلى الله عليه وسلم» يعني العباس, ثم قال: «ما الذي كنتم تخافون علي؟» قالوا: ذات الجنب, قال: «ما كان الله ليسلطها علي».

ولهذا طرق غير ما ذكرنا.

وقال أبو عبد الملك بن حبيب السلمي الأندلسي في كتابه "التداوي": حدثني أسد بن موسى, عن إبراهيم بن محمد, عن العباس بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غشي عليه في مرضه الذي مات فيه, فتخوفوا أن يكون ذات الجنب فلدوه فوجدوه خف فأفاق فقال: «ما صنعتم؟» قالوا: لددناك يا رسول الله, قال: «بماذا؟» قالوا: بالعود الهندي – يعني الكست – وشيء من ورس, وقطرات زيت, وزبد, قال: «من أمركم بذلك؟» قالوا أسماء بنت عميس،

 

#322#

قال: «هذا طب أصابته بأرض الحبشة, لا يبقين أحد في البيت إلا لد إلا ما كان من عمي» يعني العباس, ثم قال: «ما الذي تخافون علي؟» قالوا: ذات الجنب, قال: «ما كان الله ليسلطها علي, ولكن هذا من شاة اليهودية يوم خيبر, هذا أوان قطعت أبهري».

 

#323#

$[نعت النبي صلى الله عليه وسلم اللدود لذات الجنب]$

و"اللدود" الموصوف في هذا الحديث ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينعته من ذات الجنب:

قال الترمذي في "جامعه": حدثنا محمد بن بشار, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي, عن قتادة, عن أبي عبد الله, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب, قال قتادة: يلده ويلده من الجانب الذي يشتكيه.

هذا حديث صحيح, وأبو عبد الله اسمه ميمون شيخ بصري, قاله الترمذي.

تابعه محمد بن أبي بكر المقدمي, عن معاذ بن هشام.

وخرجه الترمذي أيضاً من طريق شعبة, عن خالد الحذاء, أخبرنا ميمون أبو عبد الله سمعت زيد بن أرقم قال: أمرنا رسول الله صلىالله عليه وسلم  أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت.

هذا حديث حسن صحيح غريب. قاله الترمذي.

 

#324#

وهو في "تاريخ البخاري الكبير" لشعبة.

ورواه يعقوب بن إسحاق الحضرمي [عن] عبد الرحمن بن ميمون, عن أبيه بنحوه.

وقال عبد الملك بن محمد الرقاشي: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي, حدثني عبد الرحمن بن ميمون, حدثني أبي, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب ورساً وزيتاً وقسطاً.

خرجه الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" للرقاشي, وإسناده جيد.

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الله بن جعفر, عن عثمان بن محمد الأخنسي قال: دخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فقالت: يا رسول الله, ما وجدت مثل هذه الحمى التي عليك على أحد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر, ما يقول الناس؟» قال: قلت: يقولون: به ذات الجنب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الله عز وجل ليسلطها على رسوله إنها همزة من الشيطان, ولكنها من الأكلة التي أكلتها أنا وابنك هذا أوان قطعت أبهري».

وله طريق أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى.

 

#325#

$[تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين ما عند الله]$

وقال الزهري: حدثني أيوب بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر, ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد, ثم استغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم, ثم قال: «إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله» قال: ففهمها أبو بكر رضي الله عنه وعرف أن نفسه يريد, فبكى وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ثم قال: «على رسلك يا أبا بكر, أنظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر فإني لا أعلم أن أحداً كان أفضل عندي يداً في الصحبة منه».

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ في كلامه: «لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً, ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده».

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا أبو الوليد, حدثني أبو عوانة, عن عبد الملك بن عمير, عن أبي المعلى, عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال: «إن عبداً خيره ربه عز وجل بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها, ويأكل من الدنيا ما شاء أن

 

#326#

يأكل, وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه» قال: فبكى أبو بكر رضي الله عنه فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً صالحاً خيره ربه عز وجل بين لقاء ربه, وبين الدنيا, فاختار لقاء ربه, وكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أبو بكر: بل نفديك يا رسول الله بأموالنا وأبنائنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة, ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة, ولكن ود وإخاء إيمان – مرتين – وإن صاحبكم خليل الله».

وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري وغيره.

وجاء عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علينا في نفسه وذات يده أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته, ولكن أخوة الإسلام, سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر» رضي الله عنه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحد أعظم عندي يداً من أبي بكر واساني بنفسه وماله, وأنكحني ابنته».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر وقال: ما أنا ومالي إلا لك.

 

#327#

خرجه أحمد في "مسنده" وابن ماجه في "سننه".

وخرج عبد الرزاق في "جامعه" عن ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر» قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه.

 

#328#

$[مبلغ ما أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم]$

[قلت]: ومبلغ مال أبي بكر الذي أنفقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون ألفاً:

جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنفق أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أربعون ألفاً.

وروي عن عروة بن الزبير من قوله نحوه.

وأما ما قدمناه في الهجرة عن أسماء أن أبا بكر رضي الله عنهما لما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في سفر الهجرة احتمل أبو بكر ماله كله خمسة آلاف درهم أو ستة لا ينافي ما تقدم آنفاً؛ إذ لعله والله أعلم من حين أسلم أبو بكر كان ماله أربعين ألفاً فأنفق منه إلى حين الهجرة فبقي منه هذه الخمسة آلاف أو ستة فاحتملها معه, ثم أنفقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أرباح تلك النفقة ما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه, ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله عز وجل بها يوم القيامة».

هذا مع ما خص به رضي الله عنه من الكرامات وحصل له من شريف المقامات وبشر ببعضه كما تقدم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#329#

ومن ذلك: ما حدث به عبيد الله بن عمر, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن الحارث, أخبرنا جندب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفى بخمس يقول: «قد كان لي منكم إخوة وأصدقاء, إني أبرأ إلى الله عز وجل أن يكون لي منكم خليل, ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلاً, وإن ربي عز وجل اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً, ألا إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك».

 

#330#

$[من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته]$

وقال أبو الحسن أحمد بن مكرم البرتي: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا معن بن عيسى القزاز, حدثنا الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن إياس الليثي الأشجعي, عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبيه, عن عطاء بن أبي رباح المكي, عن ابن عباس, عن أخيه الفضل بن عباس رضي الله عنهم قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرجت إليه، فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه, فقال: «خذ بيدي» فأخذت بيده، فانطلق حتى جلس على المنبر ثم قال لي: «ناد في الناس» قال: فصحت في الناس, فلما اجتمعوا إليه حمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أما بعد, أيها الناس, فإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم, فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه, ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه, ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه, ولا يقول رجل: إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني, فإن أحبكم إلي من أخذ شيئاً إن كان له, أو حللني فلقيت الله عز وجل وأنا طيبة نفسي, وإني أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مراراً».

قال الفضل رضي الله عنه: ثم نزل فصلى الظهر, ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى بالشحناء وغيرها, فقام رجل فقال: يا رسول الله,

 

#331#

إن لي عندك ثلاثة دراهم.

قال: «أما إنا لا نكذب قائلاً ولا نستحلفه على يمين, ففيم كانت لك عندي؟» قال: يا رسول الله تذكر يوم مر بك المسكين فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم؟ قال: «أعطه يا فضل» قال: فأمر به فجلس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان لنا عنده شيء فليرده, ولا يقول رجل: فضوح الدنيا, ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة» فقام رجل فقال: يا رسول الله, عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله عز وجل قال: «ولم غللتها؟» قال: كنت محتاجاً إليها. قال: «خذها منه يا فضل» ... وذكر الحديث.

تابعه عبد الرحمن بن يعقوب القلزمي, وموسى بن إسماعيل أبو عمران الحبلي, عن معن بن عيسى القزاز.

خرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" عن أبي مسلم الكجي, عن ابن المديني علي بن عبد الله نحوه, وقال: لا يروى هذا الحديث عن الفضل إلا بهذا الإسناد, تفرد به الحارث بن عبد الملك.

قلت: حدث به ابن سعد في "الطبقات" عن كثير بن هشام, أخبرنا جعفر بن برقان قال: حدثني رجل من أهل مكة قال: دخل الفضل

 

#332#

ابن عباس رضي الله عنهما على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال: «يا فضل, شد هذه العصابة على رأسي» فشدها, ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرني يدك؟» قال: فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فانتهض حتى دخل المسجد, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم» .... وذكر الحديث بنحو ما تقدم.

وخرجه أبو أحمد العسكري في كتابه "المواعظ والزواجر" مطولاً.

وقال الزهري: وحدثني عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد, وذكر من أمره ما ذكر قال مع مقالته يومئذ: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً؛ فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد, وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها, فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم».

وقال سيف بن عمر في كتابه "الفتوح": حدثني سعيد بن عبد الله, عن أبيه قال: لما رأت الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلاً أطافوا بالمسجد, فدخل العباس رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم, فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم ثم دخل عليه الفضل رضي الله عنه فأعلمه بمثل ذلك, ثم دخل عليه علي رضي الله عنه فأخبره بمثل ذلك, فمد يده وقال: «ها» فتناولوه فقال: «ما يقولون؟» قال: يقولون: نخشى أن يموت, وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فثار النبي صلى الله عليه وسلم فخرج متوكئاً على علي

 

#333#

والفضل والعباس أمامه والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط رجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر, وثاب الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس بلغني أنكم تخافون علي الموت – كأنه استنكار منكم للموت – وما تنكرون من موت نبيكم؟! ألم أنع لكم وتنع لكم أنفسكم؟ هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟! إلا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون به, وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً, وأوصي المهاجرين فيما بينهم فإن الله عز وجل قال: {والعصر . إن الإنسان لفي خسر} – إلة آخرها – وإن الأمور تجري بإذن الله, فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله, فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد, ومن غالب الله غلبه, ومن خادع الله خدعه {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وأوصيكم بالأنصار خيراً فإنهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم الثمار؟ ألم يوسعوا عليكم في الدار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم, ألا ولا تستأثروا عليهم, ألا وإني فرط لكم وأنتم لاحقون بي, ألا وإن موعدكم الحوض, حوض أعرض مما بين بصرى الشام وصنعاء اليمن, يصب فيه ميزاب الكعبة, أشد بياضاً من اللبن وألين من الزبد وأحلى من الشهد, من شرب منه لم يظمأ, أبداً حصباؤه اللؤلؤ وبطحاؤه المسك, من حرمه في الموقف هذا حرم الخير كله, ألا فمن أحب أن يرده علي غداً فليكف يده ولسانه إلا مما ينبغي».

فقال العباس رضي الله عنه: يا نبي الله, أوص بقريش. فقال: «إنما أوصي بهذا

 

#334#

الأمر قريشاً, الناس تبع لقريش برهم لبرهم, وفاجرهم لفاجرهم, فاستوصوا إلى قريش بالناس خيراً, يا أيها الناس, إن الذنوب تغير النعم وتبدل القسم, فأذا بر الناس برهم أئمتهم, وإذا فجر الناس عقوهم, وقال الله جل وعز: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون}.

 

#335#

$[آخر مجلس جلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر]$

وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا, فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك, قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال: فصعد المنبر, ولم يصعده بعد ذلك اليوم, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي, وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم, فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم».

ورواه ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا عبيد الله بن موسى العبسي, والفضل بن دكين, وهشام بن الوليد الطيالسي, قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عبيد الله في حديثه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: هذه الأنصار في المسجد نساؤها ورجالها يبكون عليك, قال: «وما يبكيهم؟» قال: يخافون أن تموت, ثم اجتمعوا في الحديث, فقالوا جميعاً في حديثهم: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على المنبر مشتملاً متعطفاً عليه بملحفة طارحاً طرفيها على منكبيه عاصباً رأسه بعصابة. قال عبيد الله:

 

#336#

وسخة, وقال أبو نعيم وأبو الوليد: دسماء, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «يا معشر الناس, إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي من أمرهم شيئا فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم».

قال أبو الوليد في حديثه: خرج في مرضه الذي مات فيه وكان آخر مجلس جلسه حتى قبض صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث وما قبله مصرح أن هذا آخر مجلس جلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره.

 

#337#

$[خطبة الوداع بالمدينة]$

وأما تلك الخطبة المسماة بخطبة الوداع التي رويت من طريق أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني, حدثنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين البكري, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الليثي, حدثنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد, حدثنا أبو محمد الحارث بن أبي أسامة, حدثنا داود بن المحبر بن قحذم أبو سليمان البصري, حدثنا ميسرة بن عبد ربه, عن أبي عائشة السعدي, عن يزيد بن عمر بن عبد العزيز, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة قبل وفاته, وهي آخر خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى لحق بالله فوعظنا فيها موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب واقشعرت منها الجلود, وتقلقلت منها الأحشاء, ثم أمر بلالاً فنادى: الصلاة جامعة, قبل أن يتكلم, فاجتمع إليه الناس فارتقى المنبر, وقال: «يا أيها الناس, ادنوا وأوسعوا لمن خلفكم» ثلاث مرات, فدنا الناس, واضظم بعضهم إلى بعض وجعلوا يلتفتون فلا يرون أحداً فقام رجل فقال: لمن نوسع؟ للملائكة؟! فقال: «نعم؛ لأنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ولا من خلفكم, ولكن يكونون عن أيمانكم وشمائلكم» قال: ولم لا يكونون بين أيدينا ولا خلفنا؟ أهم أفضل منا؟ قال: «بل أنتم أفضل من

 

#338#

الملائكة, اجلس» فجلس, ثم خطب فقال: «الحمد لله نحمده ونستعينه ...» الخطبة بطولها.

فهي خطبة مصنوعة ملفقة في بضع عشرة ورقة, وإسنادها مظلم وفيه متهمان بالوضع: أحدهما: داود بن المحبر, والثاني: ميسرة بن عبد ربه, وهو أشد وهناً من الأول, قال أبو زرعة عن ميسرة: كان يضع الحديث وضعا.

وإنما ذكرت هذا لبيانه؛ لئلا يغتر به من ليس الحديث من شأنه.

 

#339#

$[شدة حمى النبي صلى الله عليه وسلم وازدياد وجعه]$

ولما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم على منبره بالأنصار ونزل عنه تتام به وجعه, وكانت حماه شديدة, ووجعه متزايد قال هناد بن السري في كتابه "الزهد": حدثنا أبو الأحوص, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبي بردة, عن بعض أمهات المؤمنين قالت: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد علزه, فلما أفاق, فقلت له: لو أن إحدانا فعلت هذا لخشيت أن تجد عليها, قالت: فقال: «أولا تعلمين أن المؤمن يشدد عليه في وجعه ليحط عنه من خطاياه».

جاء أن هذه القائلة عائشة رضي الله عنها.

ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله, إنك توعك وعكاً شديداً, قال: «أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: «أجل, ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى – شوكة فما فوقها – إلا كفر الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها».

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً الوجع أشد عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#340#

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا الفضل بن دكين, عن شيبان بن عبد الرحمن.

قال: وأخبرنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا أبان بن يزيد العطار جميعاً, قالا: حدثنا يحيى بن أبي كثير, عن أبي قلابة, عن عبد الرحمن بن شيبة, عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع, فجعل يشتكي ويتقلب على فراشه, فقالت له عائشة: يا رسول الله, لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه, فقال لها – قال الفضل بن دكين: «إن الصالحين», وقال مسلم بن إبراهيم: - «إن المؤمنين يشدد عليهم؛ لأنه لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما فوقها» – قال مسلم: «ولا وجع إلا رفع الله له بها درجة, وحط عنه بها خطيئة» ثم قال الفضل بن دكين: «فما فوقها إلا حط بها عنه خطيئة».

وقال أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي: حدثنا خالد بن الحارث, عن شعبة, أخبرني حصين, سمعت أبا عبيدة, عن عمته فاطمة أنها قالت: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده, فإذا سقاء يقطر عليه من شدة ما يجد من الحمى, فقلت: يا رسول الله, لو دعوت الله عز وجل كشف عنك, فقال: «إن من أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم».

 

#341#

فاطمة هي أخت حذيفة بن اليمان.

وقال أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم عن رجل, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: وضع رجل يده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر, إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله, وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيجوبها, وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء».

وكذلك حدث به في كتابه "الزهد", والرجل المبهم في الإسناد هو عطاء بن يسار.

قال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه, حدثنا بشر بن موسى, حدثنا خالد بن خداش بن عجلان المهلبي, حدثنا عبد الله بن وهب, عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو محموم فوضعت يدي من فوق القطيفة فوجدت حرارة الحمى, فقلت: ما أشد حماك يا رسول الله! قال: «إنا كذلك معشر الأنبياء, يضاعف علينا الوجع ليضاعف لنا الأجر ....» الحديث.

 

#342#

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. انتهى.

تابعه محمد بن سعد في "الطبقات" وأبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "المرض والكفارات" فحدثا به عن خالد بن خداش.

ورواه زيد بن الحباب التميمي العكلي, عن موسى بن عبيدة الربذي, عن زيد بن أسلم, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ... فذكره بنحوه, ولم يذكر بين زيد بن أسلم وأبي سعيد أحداً.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عبيد الله بن موسى, عن موسى بن عبيدة الربذي كذلك.

وقال عبد الله بن وهب في كتاب "لا هام": أخبرني عبد الرحمن بن زيد, عن أبيه أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه حمى فوضعت يدي فآذاني حرها, فقلت: يا رسول الله, إن الحمى تأخذك بشيء ما تأخذ به أحداً! فقال: «إنا كذلك معشر الأنبياء, إنا كما يضاعف علينا البلاء كذلك يضاعف لنا الأجر ...» الحديث.

وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا حسين بن محمد, عن الفضيل بن سليمان, عن محمد بن مطرف, عن أبي حازم, عن عمر بن

 

#343#

الخطاب رضي الله عنه أنه قال: دخلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك, فوضعت يدي فوق ثوبه فوجدت حرها من فوق الثوب, فقلت: يا نبي الله, ما رأيت أحداً تأخذه الحمى أشد من أخذها إياك! قال: «كذلك يضاعف لنا الأجر, من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون, إن كان من الأنبياء لمن يبتلى بالفقر حتى يتدرع العباءة من الفقر, وإن كان منهم ليسلط عليه القمل حتى يقتله».

وحدث ابن سعد في "الطبقات": عن عفان بن مسلم, حدثنا أبو هلال, حدثنا بكر بن عبد الله, أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محموم أو مورود قال: فوضع يده عليه فقبضها من شدة حره, فقال: يا نبي الله, ما أشد وردك! أو أشد حماك! قال: «فإني قد قرأت الليلة أو البارحة سبعين سورة فيهن السبع الطول» قال: يا نبي الله قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فلو رفقت بنفسك, أو خففت عن نفسك, قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً».

وخرج أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي في كتاب "الزهد" له من حديث سليمان بن المغيرة, عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرض ويصح فلما مرض مرضه الذي توفي فيه قال: «ما أرى هذا إلا الذي ليس الله بتارك منه أحداً لموافاة يوم القيامة».

 

#344#

وفي ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم سأله أبو بكر أن يمرضه عنده.

روى سيف بن عمر الأسيدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي فأمرضك وأكون الذي أقوم عليك, فقال: «يا أبا بكر, إن لم أحمل أزواجي وبناتي علاجي, إن دارت مصيبتي عليهم عظماً, وقد وقع أجرك على الله تعالى».

 

#345#

$[قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين نسائه في مرضه]$

ولما اشتد عليه الوجع, كان يحمل صلى الله عليه وسلم في ثوب ليقسم بين نسائه.

حدث محمد بن سعد, عن أنس بن عياض, عن جعفر بن محمد, عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه, وهو مريض يقسم بينهن.

وخرجه أحمد في "مسنده" عن عائشة بمعناه.

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد, قال ابن إسحاق: ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أن يكون في بيت عائشة, ويقال: إنما قال ذلك لهن فاطمة رضي الله عنها فقالت: إنه يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختلاف فأذن له, فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة تخط رجلاه بين عباس ورجل آخر حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها.

وقال سيف بن عمر: حدثنا سلمة بن نبيط, عن نعيم بن أبي هند, عن شقيق بن سلمة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يدور بين نسائه ويتحامل, فقال يوماً لهن وهن مجتمعات عنده: «قد ترين ما قد أصابني من الشكوى, وهو يشتد علي أن أدور بينكن, فلو أذنتن لي فكنت في بيت إحداكن حتى أعلم ما يصنع الله بي» فقالت إحداهن: أي نبي الله, قد أذنا لك وعرفنا البيت الذي تريد, فتحول إليه, فالزمه,

 

#346#

فإنا لو قدرنا أن نفديك بأنفسنا فديناك وسررناك. قال: «فأي بيت هو؟» قالت: بيت عائشة لا تعدل به. قال: «صدقت» قالت: فتحول [رسول الله] صلى الله عليه وسلم إلى بيتي.

وروى سيف, عن محمد بن عبيد الله, عن أبي الزبير وعبد الله بن عبيد وابن أبي مليكة, قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه: «أين أنا غداًَ؟» فيقال: في بيت فلانة, فيعرف, ذلك في وجهه, فأجمع ملاء النسوة على الذي يريد أنه أوفق له. فقلن: نعم, قد علمنا الذي تريد, وأحب ذلك إلينا أحبه إليك, وقد أحببنا أن تحول إلى بيت عائشة قال: «أجل», وسر بذلك, وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى سيف أيضاً, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه وهو عند بعض نسائه: «أين أنا غداً؟» قالوا عند فلانة, ثم سأل أيضاً, فقال: «أين أنا غداً؟» وكذلك حتى قال بعض نسائه: إنما تريد بنت أبي بكر, فأذن له, قلن له: يا رسول الله, إنما نحن أخوات, فأنت في حل. قال: «[أكذلك؟» قلن]: نعم، فأخذ ثوبه, ثم أتى بيت عائشة رضي الله عنها.

وروى سيف, عن محمد بن عبيد الله, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فخرج رسول الله صلىالله عليه وسلم  بين العباس وعلي والفضل وهو

 

#347#

آخذ بظهره, ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل البيت فلم يزل فيه.

وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد, عن أبيه, عن عطاء بن يسار قال: اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في مرضه الذي مات فيه, فقالت صفية زوجته: أما والله يا نبي الله, لوددت أن الذي بك بي, فغمزنها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبصرهن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مضمضن» فقلن: من أي شيء؟ قال: «من تغامزكن بصاحبتكن, والله إنها لصادقة».

 

#348#

$[تطبيب عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم]$

وقد جاء أن عائشة رضي الله عنها كانت تعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأدوية التي توصف لها لما ضعف صلى الله عليه وسلم في آخر عمره.

خرج أحمد بن حنبل في "مسنده" من حديث هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة: يا أمتاه لا أعجب من فقهك, أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر رضي الله عنه, ولا أعجب من علمك بالشعر, أقول ابنة أبي بكر رضي الله عنه, ولكن أعجب من علمك بالطب, كيف هو, ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عروة, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سقم عند آخر عمره أو في آخر عمره, فكانت تقدم عليه وفود العرب, فتنعت له الأنعات فكنت أعالجها, فمن ثم.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" لهشام ولفظه قلت لعائشة: قد أخذت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والشعر والعربية عن العرب, فعمن أخذت الطب؟ قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مسقاماً, وكان العرب يأتونه فأتعلم منهم.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه.

وهو في "الحلية" لأبي نعيم بنحو الحديث الأول, وخرجه أبو نعيم أيضاً في كتاب "الطب".

 

#349#

وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات, ومسح عليه بيده, فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه, طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم لبركتها.

وفي بعض طرقه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه, جمع كفيه ثم نفث فيهما بـ: {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده, يبدأ بهما على رأسه ووجهه, وما أقبل من جسده, فيفعل ذلك ثلاث مرات.

قالت عائشة رضي الله عنها: فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرني أن أفعل ذلك.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا عارم بن الفضل وسليمان بن حرب وخالد بن خداش, قالوا: حدثنا حماد بن زيد, عن عمرو بن مالك النكري, عن أبي الجوزاء, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء إذا مرض: أذهب الباس رب الناس, بيدك الشفاء, لا شافي إلا أنت, اشف شفاء لا يغادر سقماً, قالت: فلما

 

#350#

كان مرضه الذي مات فيه ذهبت أعوذه به, فقال: «ارتفعي عني, فإنه إنما كان ينفعني في المدة».

وهو في "مسند أحمد" بنحوه.

وحدث به ابن سعد, عن إسحاق بن يوسف الأزرق, حدثنا هشام الدستوائي, [عن حماد], عن إبراهيم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضاً مسح بيده على وجهه وصدره, وقال: «اذهب الباس رب الناس, واشف وأنت الشافي, لا شفاء إلا شفاؤك, شفاء لا يغادر سقماً» قال: فلما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم تساند إلى عائشة رضي الله عنها فأخذت بيده فجعلت تمسحها على وجهه وصدره, وتقول هؤلاء الكلمات, فانتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده منها وقال: «اللهم أعلى جنة الخلد».

وحدث به أيضاً عن عفان بن مسلم, حدثنا حماد بن سلمة, [عن حماد] عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة .... فذكر نحوه, إلا أنه قال: وقال: «أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد».

ورواه أيضاً عن يحيى بن حماد, حدثنا أبو عوانة, عن سليمان – يعني الأعمش – عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عائشة بنحوه,

 

#351#

وفيه قالت: فانتزع يده من يدي فقال: «اللهم اغفر لي واجعلني في الرفيق الأعلى» مرتين, قالت: فما علمت بموته حتى وجدت ثقله.

وروى الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا سريج, حدثنا نافع, عن ابن أبي مليكة, قالت عائشة رضي الله عنها: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت يدي على صدره فقلت: أذهب الباس رب الناس, أنت الطبيب, وأنت الشافي, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وألحقني بالرفيق الأعلى».

وروى أبو يحيى – عبد الله بن أحمد بن زكريا – حدثنا خلاد بن يحيى, حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي بردة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجري, فجعلت أمسح وجهه وأدعو له بالشفاء, فقال: «لا, بل اسألي الله الرفيق الأعلى الأسعد, مع جبريل [وميكائل وإسرافيل».

خرجه ابن حبان في "صحيحه" بنحوه.

 

#352#

$[رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم]$

وقد ورد أن جبريل] عليه السلام رقى النبي صلى الله عليه وسلم:

قال علي بن عياش: حدثنا ابن ثوبان, عن عمير بن هانئ: أنه سمع جنادة بن أبي أمية, سمعت عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو يوعك, فقال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك, من حسد حاسد, ومن كل عين, اسم الله يشفيك.

تابعه زيد بن الحباب فيما خرجه أبو محمد عبد بن حميد في "مسنده" فقال: حدثني ابن أبي شيبة, حدثنا زيد بن الحباب, عن عبد الرحمن بن ثوبان, أخبرني عمير بن هانئ, وذكره بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من طرق إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه منها: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت يا محمد؟ قال: «نعم» قال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك, من شر كل نفس وعين يشفيك, باسم الله أرقيك.

وهو في "صحيح مسلم" و"جامع الترمذي", وفي كتاب "مساؤي

 

#353#

الأخلاق" تأليف أبي بكر الخرائطي ولفظه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرقاه جبريل عليه السلام فقال: باسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك, من كل حاسد وعين, الله يشفيك.

وقال أسد بن موسى: حدثنا الفضيل بن مرزوق, عن ميسرة بن حبيب, عن المنهال بن عمرو, عن محمد بن علي – وهو ابن الحنفية – عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشتكي, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك رقية رقاني بها جبريل عليه السلام» قال: بلى يا رسول الله, قال: فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله أرقيك, والله يشفيك من كل داء يعنيك, خذها فلتغنيك».

وله شاهد, عن عائشة رضي الله عنها.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري, حدثنا ابن جريج, أخبرني عطاء وعمرو بن شعيب وجبير بن أبي سليمان أن جبريل عليه السلام كان يعوذ محمداً صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم, باسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك, من شر كل عين ونفس حاسد وباغ يبغيك, باسم الله أرقيك, والله يشفيك.

وقال الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة الكوفي: حدثنا أحمد بن طارق الوابشي, حدثنا علي بن هاشم, عن محمد بن عبيد

 

#354#

الله, عن عون بن أبي رافع, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: دخلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض, فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق, والنبي صلى الله عليه وسلم نائم, فلما دخلت عليه قلت: أدنو؟ قال الرجل: أدن إلى ابن عمك, فأنت أحق به مني, فدنوت منهما, فقام الرجل وجلست مكانه, ووضعت رأس النبي صلى الله عليه وسلم في حجري كما كان في حجر الرجل, فمكثت ساعة, ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ فقال: «أين الرجل الذي كان رأسي في حجره؟» فقلت: لما دخلت عليك دعاني, ثم قال: ادن إلى ابن عمك فأنت أحق به مني, ثم قام فجلست مكانه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهل تدري من الرجل؟» قلت: لا بأبي وأمي, قال: «ذلك جبريل عليه السلام كان يحدثني حتى خف عني وجعي ونمت, ورأسي في حجره».

إسناده ضعيف, ومحمد هذا هو ابن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم, وهو شيعي كالراوي عنه, وقد ضعفا.

 

#355#

$[رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابه لأصحابه عند موته]$

وثبت عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى، ثم قال: اشتد برسول الله {صلى الله عليه وسلم] وجعه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» فتنازعوا، ولا ينبغي عند [نبي] تنازع.

وفي رواية: فقال بعضهم لبعض.

وفي رواية: قال عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا» قال عبيد الله: فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب هم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.

 

#356#

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى فقال: [قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا» فقالوا: يهجر رسول الله، ثم سكتوا وسكت قالوا: يا رسول الله، ألا نأتيك [بعد]، قال: «بعد ما».

وقد صح هذا في "صحيح مسلم" من حديث طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير دون الزيادة التي أولها: ثم سكتوا.

قال الإمام أبو بكر البيهقي رحمة الهح عليه حين روى الحديث: وإن عمر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع .. الحديث.

قال البيهقي: وإنما قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم [حين رآه قد غلب عليه الوجع، ولو كان ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم] أن يكتب شيئا مفروضا لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عز وجل: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} كما لم يترك تبليغ غيره لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وإنما أراد فيما حكى سفيان بن عيينة عن أهل [العلم قبله أن] يكتب لهم

 

#357#

استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ثم ترك كتبته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك، كما هم [به] في ابتداء مرضه حين قال: «وارأساه». ثم بدا له أن لا يكتب وقال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

 

#358#

$[رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة باستخلاف أبي بكر الصديق]$

قلت: قال الحسن بن عرفة: حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، عن عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر «ائتني بكتف حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه بعدي» قالت: فلما قام عبد الرحمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر الصديق رضي الله عنه».

وحدث به أسد السنة في كتابه "فضائل أبي بكر وعمر" رضي الله عنهما عن محمد بن خازم.

وكذلك أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: «ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه» فلما

 

#359#

ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: «أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر».

ورواه محمد بن أبان الجعفي: حدثنا عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي ملكية، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: «ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر، أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد بعدي» ثم قال: «دعيه، معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر رضي الله عنه».

تابعهما نافع بن عمر الجمحي، فرواه عن ابن أبي مليكة كرواية عبد الرحمن وعبد العزيز.

وقال مسلم في "صحيحه": حدثني عبيد الله بن سعيد، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك، حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل أنا ولا، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

وفي "كتاب السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «ألا أرسل إلى ابن أبي قحافة وابنه، فلا يطمع في هذا الأمر طامع»، ثم قال: «كلا ويدفع الله، ويدفع بالمؤمنين».

 

#360#

وجاء من طريق جعفر بن شاكر الصائغ حدثنا الخليل بن زكريا، حدثنا محمد بن ثابت، حدثني أبي، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة - في شكاته التي توفي فيها – أدعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر، حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد بعدي، معاذ الله لا يختلف على أبي بكر أحد من المؤمنين»

 

#361#

$[استخلاف أبي بكر رضي الله عنه]$

قال البيهقي: ثم نبه صلى الله عليه وسلم أمته على خلافته – يعني أبا بكر – رضي الله عنه باستخلافه إياه في الصلاة, حين عجز عن حضورها.

قلت: ونبه صلى الله عليه وسلم على خلافة أبي بكر رضي الله عنه بغير ذلك.

منها: ما رويناه من الحديث المتفق على صحته من طريق محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه, قالت: أرأيت يا رسول الله إن جئت ولم أجدك, كأنها تقول الموت, فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» رضي الله عنه.

وقد روينا من حديث أبي الحسن علي بن عمر الحربي, أخبرنا أبو عبد الله – أحمد بن الحسن الصوفي – حدثنا أبو زكريا يحيى بن معين, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا الليث بن سعد, عن خالد بن يزيد, عن سعيد بن أبي هلال, عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شفي الأصبحي فقال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:] «يكون خلفي اثنا عشر خليفة: أبو بكر لا يلبث خلفي إلا قليلاً, وصاحب رحى دارة العرب يعيش حميداً ويموت شهيداً»,

 

#362#

قالوا: ومن هو؟ قال: «عمر بن الخطاب», قال: ثم التفت إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: «يا عثمان إن كساك الله قميصاً فأرادك [الناس] على خلعه فلا تخلعه, فوالذي نفسي بيده لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».

خرجه ابن حبان في كتاب "الضعفاء" عن الصوفي, وهذا يعد من أفراد أبي صالح وله مناكير هذا منها. بلى, وربيعة بن سيف صاحب مناكير وعجائب, والعجب من ابن معين كيف رواه من غير تبيين؟!.

ومن هذا الضرب: ما رويناه من طريق أبي يعلى الموصلي, حدثنا أبو بهز الصقر بن عبد الرحمن ابن ابنة مالك بن مغول, حدثنا عبد الله بن إدريس, عن المختار بن فلفل, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بستاناً, وجاء آت فدق الباب, فقال: «يا أنس افتح له وبشره بالجنة وبشره بالخلافة من بعدي» قال: قلت: يا رسول الله, أعلمه؟ قال: «أعلمه» فإذا أبو بكر رضي الله عنه فقلت: أبشر بالجنة, وأبشر بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ثم جاء آت فدق الباب .... وذكر الحديث في عمر وعثمان.

 

#363#

وهذا موضوع من قبل الصقر, ذاك الكذاب الوضاع, ولا يلتفت إلى قول أبي حاتم فيه: صدوق, قال الذهبي: من أين جاءه الصدق؟!

وله طريق أخرى عن أبان بن أبي عياش, عن أنس.

وقد قدمنا في ذكر بناء مسجد النبي صلى الله عليهسلمقا من حديث يحيى الحماني, عن حشرج بن نباتة, حدثنا سعيد بن جمهان, عن سفينة قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجراً ثم قال: «ليضع أبو بكر حجراً إلى حجري, ثم ليضع عمر حجراً إلى حجر أبي بكر» ثم قال: «ليضع عثمان إلى حجر عمر» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء الخلفاء بعدي».

وله شاهد نحوه في الضعف, عن ابن عمر, وتقدم.

وقال قريش بن أنس: حدثنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري, عن رجل سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته, كنت رجلاً أتتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم,

 

#364#

فرأيته وحده, فجلست فجاء أبو بكر فسلم وجلس, ثم جاء عمر, ثم عثمان رضي الله عنهم وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن خنيناً كخنين النحل, ثم وضعهن فخرسن, ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن, ثم وضعهن فخرسن, ثم وضعهن في يد عمر فسبحن, ثم وضعهن فخرسن, ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن, ثم وضعهن فخرسن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه خلافة النبوة».

ورواه شعيب بن أبي حمزة, عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلاً من بني سليم كبير السن, كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة, ذكر له هذا الحديث عن أبي ذر.

وجاء عن عاصم بن حميد, عن أبي ذر.

وله شاهد عن أنس رضي الله عنه لكنه من طريقين واهيين, والله أعلم.

وفي نسخة عصمة بن مالك بن أمية الخطمي رضي الله عنه التي رواها الطبراني, عن أحمد بن رشدين المصري, حدثنا خالد بن عبد السلام

 

#365#

الصدفي, حدثنا الفضل بن المختار, عن عبد الله بن موهب, عن عصمة قال: قدم رجل من أهل البادية بإبل له, فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتراها منه فلقيه علي رضي الله عنه فقال: ما أقدمك؟ قال: قدمت بإبل فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فنقدك؟ قال: لا, ولكن بعتها منه بتأخير, فقال له علي رضي الله عنه: ارجع إليه فقل له: يا رسول الله, إن حدث بك حدث من يقضيني مالي, وانظر ما يقول لك, فارجع إلي حتى تعلمني, فقال: يا رسول الله, إن حدث بك حدث من يقضيني؟ قال: «أبو بكر» فأعلم علياً, فقال له: فارجع فاسأله, فإن حدث بأبي بكر فمن يقضيني, فجاءه فسأله, فقال: «عمر» فأعلم علياً, فقال له: ارجع فاسأله إذا مات عمر, فسأله, فقال رسول الله صلى الله عله وسلم: «ويحك إذا مات عمر, فإن استطعت أن تموت فمت».

وروى أحمد بن عبد المؤمن المصري, عن يعقوب بن عبد الرحمن الحنفي, عن محمد بن جابر, حدثنا أبو مالك الأشجعي, حدثني أبو العريض دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمال فأتيته أتقاضاه فقضاني جملاً منها وبقيت بقية, فقلت: يا رسول الله, أرأيت إن لم أجدك؟ قال: «فات أبا بكر» فلقيني علي رضي الله عنهما فقال: ارجع فاسأله إن لم أجد أبا بكر, قال: فرجعت, قال: «فأت عمر» قال: فلقيني علي رضي الله عنه فقال: ارجع فقل له: إن لم أجد عمر قال فرجعت, فقال: «ائت عثمان» فرجعت إلى علي رضي الله عنهما فأخبرته.

 

#366#

وحدث بنحوه محمد بن المسيب الأرغياني, عن أبي حاتم الرازي, عن محمد بن دينار, عن عبد الله بن المطلب, عن محمد بن جابر.

وقال البيهقي بعد قوله: ثم نبه صلى الله عليه وسلم أمته على خلافته – يعني أبا بكر رضي الله عنه – باستخلافه إياه في الصلاة, حين عجز عن حضورها قال: وإن كان المراد به رفع الخلاف في الدين, فإن عمر رضي الله عنه علم أن الله تعالى قد أكمل دينه بقوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم} وعلم أنه لا تحدث واقعة إلى يوم القيامة إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بيانها نصاً أو دلالة, وفي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع ذلك في مرض موته مع شدة وعكه مما يشق عليه, فرأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاقتصار على ما سبق بيانه نصاً أو دلالة تخفيفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكي لا تزول فضيلة أهل العلم بالاجتهاد في الاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول بما دل الكتاب والسنة عليه, وفيما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» دليل على أنه صلى الله عليه وسلم وكل [بيان] بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء, وأنه أحرز من أصاب منهم الأجرين الموعودين أحدهما بالاجتهاد, والآخر بإصابة العين المطلوبة بما عليها من الدلالة في الكتاب أو السنة, وأنه أحرز من اجتهد فأخطأ أجراً واحداً باجتهاده ورفع عنه إثم الخطأ, وذلك في أحكام الشريعة التي لم يأت بيانها نصاً, وإنما ورد خفياً, فأما مسائل الأصول فقد ورد بيانها جلياً، فلا عذر لمن خالف بيانه, (فرأى عمر بن

 

#367#

الخطاب رضي الله عنه من الصواب تركه على هذه الجملة) لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد, وإلحاق الفروع بالأصول بالدلالة مع طلب التخفيف على صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم, وفي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار عليه فيما قال دليل واضح على استصوابه رأيه, وبالله التوفيق. انتهى.

 

#368#

$[استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة]$

واستخلاف النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في الصلاة: ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» قالت عائشة: فقلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء, فمر عمر فليصل بالناس فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» قالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء, فمر عمر فليصل للناس, ففعلت حفصة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه, إنكن لأنتن صواحب يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً.

ورواه يونس بن يزيد الأيلي وشعيب بن أبي حمزة, عن الزهري, حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواه الذي توفي فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليصل للناس أبو بكر» وذكر الحديث, وفي آخره قالت عائشة: فوالله ما حملني حينئذ على أن أكلمه في ذلك إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول رجل يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كان يقع في نفسي أن يحب الناس رجلا يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا.

 

#369#

وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر, وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً, وإن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان, [فكنت] أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا زكريا بن يحيى, حدثنا يوسف بن خالد, حدثنا موسى بن دينار المكي, حدثنا موسى بن طلحة, عن عائشة بنت سعد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليصل أبو بكر بالناس» قالوا: يا رسول الله لو أمرت غيره أن يصلي, قال: «لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر» رضي الله عنه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, عن أبيه, عن [عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد] بن عبد العزى رضي الله عنه قال لما استعن برسول الله صلىالله عليه وسلم  وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه

 

#370#

بلال [رضي الله عنه] إلى الصلاة فقال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس» قال عبد الله بن زمعة: فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً, فقلت: يا عمر, قم [فصل بالناس, قال]: فقام فكبر فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته, قال: وكان عمر رضي الله عنه رجلاً جهيراً, قال: فقال: «وأين أبو بكر؟ يأبى الله [ذلك] والمسلمون» مرتين, قال: فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر بالناس, فقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا فعلت بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ولولا ذلك ما صليت بالناس, قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة في الناس.

لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا محمد بن إسحاق, ولا يروى عن عبد الله بن زمعة إلا بهذا الإسناد, قاله الطبراني.

ورواه متابعة لابن سلمة إبراهيم بن سعد, وإسحاق بن يوسف الأزرق, وعبد الأعلى, ويونس بن بكير.

ومن طريقه خرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا محمد بن إسحاق, ولا يروى عن عبد الله بن زمعة إلا بهذا الإسناد.

 

#371#

قلت: ورواه عن الزهري أيضاً ابن أخيه محمد بن عبد الله.

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني محمد بن عبد الله, عن الزهري, عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن, عن أبيه .... فذكره.

وخرج القصة أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عبد الأعلى, حدثنا معمر, عن الزهري قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم – وهو في بيت ميمونة – لعبد الله بن زمعة: «مر الناس فليصلوا» ... وذكر القصة بنحوها.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا وكيع, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أرقم بن شرحبيل, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه, فكان في بيت عائشة قال: «أدعو لي علياً» قالت عائشة: ندعو لك أبا بكر؟ قال: «ادعوه», قالت حفصة: يا رسول الله, ندعو لك عمر قال: «ادعوه», قالت أم الفضل: يا رسول الله ندعو لك العباس, قال: «ادعوه», فلما اجتمعوا رفع رأسه فلم ير علياً فسكت, فقال عمر: قوموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بلال يؤذنه بالصلاة, فقال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس» فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل حصر, ومتى لا يراك الناس يبكون, فلو أمرت عمر يصلي بالناس, فخرج أبو بكر فصلى بالناس, فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة, فخرج يهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض, فلما رآه الناس سبحوا بأبي بكر, فذهب يتأخر, فأوما إليه أي مكانك, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس, وقام أبو بكر

 

#372#

عن يمينه, فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم, والناس يأتمون بأبي بكر. قال ابن عباس: وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كان بلغ أبو بكر, ومات في مرضه ذاك صلى الله عليه وسلم.

خرجه أسد بن موسى في كتابه "فضائل أبي بكر وعمر" رضي الله عنهما فقال: حدثنا إسرائيل, عن إبي إسحاق, عن الأرقم بن شرحبيل, قال: سافرت مع ابن عباس من المدينة إلى الشام فسألته: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة رضي الله عنها فقال: «ادعوا لي علياً» ... الحديث بنحوه, وزاد في آخره: فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص.

تابعه زكريا بن أبي زائدة, عن أبي إسحاق.

أرقم بن شرحبيل هذا ليس بأخي هزيل – والله أعلم – بل هو أرقم بن أبي أرقم, واسم أبي أرقم فيما قاله ابن الجوزي: شرحبيل.

وأرقم بن أبي أرقم روى حميد بن مهران الخياط عنه قال: سئل ابن عباس رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل؟ قال: نعم, مرتين.

خرجه البخاري في "تاريخه الكبير" وقال: هو – يعني أرقم – شيخ مجهول, لا يعرف إلا بهذا. انتهى.

وأما أرقم بن شرحبيل أخو هزيل فهو من الرواة عن ابن مسعود, قال البخاري: ولم يذكر أبو إسحاق سماعاً منه.

 

#373#

وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا, هم ينتظرونك يا رسول الله, قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» ففعل فاغتسل, ثم ذهب لينوء فأغمي عليه, ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا, هم ينتظرونك يا رسول الله, قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» ففعل فاغتسل, ثم ذهب لينوء فأغمي عليه, ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا, هم ينتظرونك يا رسول الله, والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة, فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه بأن يصلي بالناس, فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس, فقال أبو بكر – وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر صل بالناس, فقال له عمر: أنت أحق بذلك, فصلى أبو بكر تلك الأيام.

وحدث موسى بن عبيدة الربذي, عن مصعب بن محمد, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً, أو كشف ستراً بينه وبين الناس, وهم يصلون خلف أبي بكر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي توفاه الله تعالى حتى يؤمه رجل من أمته».

ورواه مختصراً عبد الله بن وهب وابن القاسم, فقالا: حدثنا مالك بن أنس, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته» .... الحديث.

 

#374#@

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أسود بن عامر, حدثني عبد الحميد بن أبي جعفر – يعني الفراء – عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع, عن علي رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله, من نؤمر بعدك؟ قال: «إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا, راغباً في الآخرة, وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً, لا يخاف في الله لومة لائم, وإن تؤمروا علياً, ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم».

تابعه سفيان الثوري فيما قاله أبو حامد بن الشرقي, حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا يحيى بن العلاء, عن سفيان الثوري, ح.

وقال أيضاً: حدثنا حمدان السلمي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا النعمان بن شيبة, عن سفيان الثوري, عن أبي إسحاق, عن زيد .... فذكره بنحوه.

وحدث به أبو الصلت الهروي عبد السلام بن صالح, عن عبد الله

 

#375#

ابن محمد, هو ابن نمير, حدثنا سفيان, حدثنا شريك, عن أبي إسحاق .... فذكره.

وقال البرقاني: رواه عبد الرزاق وابن هراسة, عن الثوري, لم يذكرا شريكاً.

وقال الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن إسحاق البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار": حدثنا حاتم بن عقيل, حدثنا يحيى بن إسماعيل, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا شريك, عن أبي اليقظان, عن أبي وائل, عن حذيفة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله, ألا تستخلف علينا, فقال: «إن أستخلف عليكم خليفة من بعدي ثم عصيتم خليفتي نزل العذاب بكم», ثم قال: «إن تولوا هذا الأمر أبا بكر, تجدوه قوياً في أمر الله، ضعيفا في بدنه، وإن تولوها عمر [تجدوه قويا في أمر الله] قوياً في بدنه, وإن تولوها علياً – ولن تفعلوا – تجدوه هادياً مهدياً, يسلك بكم الطريق المستقيم».

قال الإمام أبو بكر الكلاباذي رحمه الله: النبي صلى الله عليه وسلم كان أفطن الخلق كلهم, وأبعدهم عما يخل بأفعاله, سمع الله تعالى يقول حكاية عن كليمه حين قال لأخيه هارون: {أخلفني في قومي} فكان منهم ما كان من عبادتهم العجل, فكانت توبتهم أغلظ توبة, قال الله تعالى {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم في

 

#376#

الاستخلاف عليهم ما حل بقوم موسى, واستخلف الله عليهم, فقال: «الله خليفتي عليكم» فخار الله لهم, فاستخلف الله أبا بكر, فهو رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة, وخليفة الله بياناً.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر ضعيف في بدنه, قوي في أمر الله, وأن عمر قوي في بدنه, قوي في أمر الله, وأجمع أهل السنة والجماعة أن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر, ثم عمر. وقال ابن عمر: كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنخير أبا بكر, ثم عمر بن الخطاب, ثم عثمان بن عفان.

ثم ذكر أبو بكر الكلاباذي إسناده إلى ابن عمر, ثم قال: فكان أبو بكر خيراً من عمر وهو أضعف بدناً من عمر, وعمر أقوى بدناً منه, وكلاهما قويان في أمر الله رضي الله عنهما فدل ذلك على أن الفضل ليس من جهة قوة الأبدان, ولا بكثرة الأعمال؛ لأن من كان أقوى بدناً مع قوته في أمر الله يجب أن يكون أكثر عملاً, فدل ذلك على أن كثرة العمل لا توجب الفضل, وإنما يوجب الفضل صحة العمل, ومعنى في السر, بل إنما يكون الفضل لمن فضله الله, والله تعالى لا يفعل شيئاً بعلة, وإنما يفعل ما يفعل بالمشيئة, فيختار من يشاء ويفضل من يريد, وهو الحكيم الخبير, ثم يجعل في قلب من فضله واختاره معنى يكون ذلك علماً لفضله, ودليلاً على اختيار الله له, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أبا بكر لم يفضلكم بكثرة صلاة ولا صيام, ولكن بشيء وقر في قلبه» انتهى قوله.

وقال أبو بكر بن عياش الكوفي المقرئ أحد الأعلام: أبو بكر رضي الله عنه

 

#377#

خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن؛ لأن في القرآن في المهاجرين {أولئك هم الصادقون} فمن سماه الله تعالى صادقاً لم يكذب, هم سموه وقالوا: يا خليفة رسول الله.

 

#378#

$[تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً]$

ولما انقطع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بالمسلمين قوي به سقمه واشتد مرضه, فكان يغتم تارة ويفيق أخرى:

ثبت عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه, فإذا اغتم كشفها عن وجهه, فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق, حدثني صالح بن كيسان, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن عائشة رضي اله  عنها قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشتد به وجعه, فهو يضعها مرة على وجهه, ومرة يكشفها ويقول: «قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ذلك على أمته.

وقال الفيض بن وثيق: حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن حنيف المؤذن, عن أبي الرقاد, عن علقمة بن قيس, عن علي رضي الله عنه قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمي عليه فلما أفاق قال: «يا علي ائذن للناس».

 

#379#

فأذن علي للناس, وقام على الباب وعرض رجله؛ أن لا يكثروا عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله أناساً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

تابعه أبو موسى الهروي, حدثنا جرير ... فذكره.

وخرجه النسائي في "مسند علي" رضي الله عنه لجرير بنحوه.

وقال يحيى بن معين: حدثنا جرير.. فذكره مرسلاً, لم يذكر فيه علياً.

وكذا رواه أبو خيثمة زهير بن حرب, عن جرير.

وأبو الرقاد: اسمه شويس, وسماه البخاري في "تاريخه الكبير" ومسلم في كتابه "الكنى" شويس, زاد البخاري في نسبه فقال: ابن حياش, وفي نسخة: ابن جياش, والمعروف الأول, والله أعلم.

وقال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا عبد الله بن نمير, أخبرنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم تذاكرن عنده في مرضه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية, فذكرن من حسنها وتصاويرها, وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل

 

#380#

الصالح بنوا على قبره مسجداً, ثم صوروا فيه تلك الصور, أولئك شرار الخلق عند الله».

قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً؛ خوفاً من المبالغة في تعظيمة والافتتان به, فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية.

ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه, ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام, ويؤدي إلى المحذور, ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين حرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ذكره الشيخ أبو زكريا النووي في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى» ... الحديث, ولهذا قال راوي الحديث: ولولا ذلك لأيرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.

 

#381#

$[تألم النبي صلى الله عليه وسلم عند موته من أكله الشاة المسمومة بخيبر]$

وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة, ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر, فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم».

وخرج الدارمي في "مسنده" [عن أبي سلمة], عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة, وأهدت له امرأة من خيبر شاة مصلية, فتناول منها وتناول بشر بن البراء رضي الله عنهما ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده, ثم قال: «إن هذه خبرتني أنها مسمومة» فمات بشر بن البراء, فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت؟» فقالت: إن كنت نبياً لم يضرك شيء, وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك, فقال في مرضه: «ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر, فهذا أوان انقطاع أبهري» وفي رواية: «ما زالت أكلة خيبر تعادني فالآن أوان قطعت أبهري».

وجاء من طريق بقية: حدثنا أبو بكر العنسي عن يزيد بن أبي

 

#382#

حبيب ومحمد بن يزيد المصريين قالا: حدثنا نافع, عن ابن عمر, قالت أم سلمة: يا رسول الله, لا يزال يصيبك في كل عام وجع من تلك الشاة المسمومة التي أكلت, فقال: «ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم عليه السلام في طينته».

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر فقال: «ما هذه؟» قالت: هدية, وحذرت أن تقول من الصدقة فلا يأكل منها, فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأكل الصحابة, ثم قال: «أمسكوا», ثم قال للمرأة: «هل سممت هذه الشاة؟» قالت: من أخبرك بهذا؟ قال: «هذا العظم» لساقها وهو في يده صلى الله عليه وسلم قالت: نعم, قال: «لم», قال: قالت: أردت إن كنت كاذباً أن يستريح منك الناس, وإن كنت نبياً لم يضرك [شيء], قال: فاحتجم النبي صلى الله عليهوسلم  ثلاثة على الكاهل, وأمر أصحابه أن يحتجموا, فاحتجموا فمات بعضهم.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا سعيد بن سليمان, حدثنا عباد بن العوام, عن هلال بن خباب, عن عكرمة, عن ابن مسعود رضي الله عنه أن امرأة من يهود خيبر أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة, ثم علم بها أنها مسمومة فأرسل إليها فقال: «ما حملك على ما صنعت؟» قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبياً فسيطلعك الله عليه, وإن كنت كاذباً

 

#383#

نريح الناس منك, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد شيئا احتجم, قال: فخرج مرة إلى مكة, فلما أحرم وجد شيئاً فاحتجم.

وهذه المرأة التي سمت الشاة جاءت مسماة. قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة, عن داود بن الحصين, عن أبي سفيان, عن أبي هريرة.

قال – يعني ابن عمر -: وحدثني محمد بن عبد الله, عن الزهري, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, عن جابر بن عبد الله.

قال: وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة, عن يونس بن يوسف, عن سعيد بن المسيب.

قال: وحدثني عمر بن عقبة, عن سعيد, عن ابن عباس, زاد بعضهم على بعض.

قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واطمأن, جعلت زينب ابنة الحارث بنت أخي مرحب, وهي امرأة سلام بن مشكم, تسأل أي الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون الذراع, فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها, ثم عمدت إلى سم لائطي قد شاورت يهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه, فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف, فلما غابت الشمس وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله, فسأل عنها, فقالت: يا أبا القاسم, هدية أهديتها لك, فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت منها فوضعت بين

 

#384#

يديه, وأصحابه حضور, أو من حضر منهم, وفيهم بشر بن البراء بن معرور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادنوا فتعشوا» وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظما آخر فانتهس منه، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدرد بشر بن البراء ما في فيه، وأكل القوم منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع» أو قال بعضهم: «فإن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة» فقال بشر: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك من أكلتي التي أكلت حين التقمتها، فما منعني أن ألفظها إلا أني كرهت أن أنغص إليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت ألا تكون ازدرتها وفيها بغي، فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان وما طله وجعه سنة لا يتحول إلا ما حول، ثم مات.

وقال بعضهم فلم يرم بشر من مكانه حتى توفى، وطرح منها لكلب فأكل، فلم يتبع يده حتى مات، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة الحارث, فقال: «ما حملك على ما صنعت؟» فقالت: / نلت من قومي ما نلت, قتلت أبي وعمي وزوجي, فقلت: إن كان نبياً ستخبره الذراع, وقال بعضهم: الشاة, وإن كان ملكاً استرحنا منه, ورجعت اليهودية كما كانت, قال: فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم [إلى ولاة بشر بن البراء فقتلوها, وهو الثبت, واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم] على كاهله من أجل الذي أكل, حجمه أبو هند بالقرن والشفرة, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاحتجموا بأوساط رؤوسهم, وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين, حتى كان وجعه الذي قبض فيه, جعل يقول في مرضه:

 

#385#

«ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر عداداً حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري» – عرق في الظهر – وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً.

"السم اللائطي" المذكور في هذا الحديث لا يلبث أن يقتل من ساعته, وهو الذي يقول الناس: سم ساعة.

والعداد قال الجوهري في "صحاحه": العداد اهتياح وجع اللديغ, وذلك إذا تمت له سنة مذ يوم لدغ, اهتاج به الألم يقال: عادته اللسعة إذا أتته بعداد, وفي الحديث: «ما زالت أكلة خيبر تعادني, فهذا أوان قطعت أبهري».

وقال الشاعر:

يلاقي من تذكر آل ليلى ... كما يلقى السليم من العداد

كذا قال الجوهري إن العداد اهتياج وجع اللديغ، وليس هو خاصا بوجع اللديغ، بل بكل وجع يأتي لوقت.

قال الزبيدي في "مختصر العين": والعداد اهتياج وجع يعاد الرجل، أي يأتيه لوقت معلوم.

وقال أبو الحسين بن فارس في "مجمله" والعداد اهتياج كل وجع يأتي لوقت كحمى الربع والغب.

وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الضرير الأندلسي ابن سيده في كتابه "المحكم": وبه قال: مرض عداد وهو أن يدعه زمانا، ثم

 

#386#

يعاوده، وقد عاده معادة وعدادا، وكذلك السليم والمجنون، كأن اشتقاقه من الحساب من قبل عدد الشهور والأيام، أي أن الوجع كأنه يعد ما يمضي من السنة، فإذا تمت عاود الملدوغ، وفي الحديث: «ما زالت أكله خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري». قال:

يلاقي من تذكر آل سلمى ... كما يلقى السليم من العداد

وقيل: عداد السليم، أن تعد له سبعة أيام، فإن مضت رجوا له البرء، وما لم تمض قيل هو في عداده وعداد الحمى وقتها المعروف الذي لا يكاد يخطئه. وعم بعضهم بالعداد فقال: هو الشيء يأتيك لوقت، وأصله من العدد كما تقدم.

وذكر الجوهري في "الصحاح" في الأبهر أنه عرق إذا قطع مات صاحبه، وهما أبهران يخرجان من القلب، ثم يتشعب منهما سائر الشرايين.

وقال أبو الحسن ابن سيده في "المحكم" الأبهر عرق في الظهر

 

#387#

يقال: هو الوريد في العنق، وبعضهم يجعله عرقا مستبطن الصلب، وقيل: الأبهران الأكحلان، وقيل: الأبهر عرق منشؤه من الرأس، ويمتد إلى القدم، وله شرايين تتصل بأكثر الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمى النامة، ومنه قولهم أسكت الله نامته، أي أماته، ويمتد إلى الحلق فيسمى الوربد، ويمتد إلى الصدر فيسمى الأبهر، ويمتد إلى الظهر فيسمى الوتين، والفؤاد معلق به، ويمتد إلى الفخذ فيسمى النسا، ويمتد إلى الساق فيسمى الصافن.

وحجامة النبي صلى الله عليه وسلم على الكاهل لأجل السم الذي أكله؛ لمعنى وهو أن الكاهل أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فاحتجم فيه ليكون أبلغ وأسرع في إخراج المادة [السمية] التي تصل إلى القلب فخرجت مع الدم غير بقايا يسيرة كانت تعاد النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة، لما يريد الله تعالى من إكمال مراتب الفضل كلها، فحين أراد الله إكرامه بالشهادة الخطيرة ظهرت بقايا ذلك السم اليسيرة، فقطعت من أبهره صلى الله عليه وسلم، ما كان موصولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا وظهر سر قوله تعالى لأعدائه اليهود: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}فجاء بلفظ {كذبتم} بالماضي الذي وقع منهم وتحقق، وجاء بلفظ {تقتلون} بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه، والله أعلم، ذكره بنحوه بعضهم.

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا ابن وهب، أخبرنا ابن

 

#388#

سمعان: أن ربيعة أخبره أن أبن هند يسارا هو الذي حجم النبي صلى الله عليه وسلم بقرن وشفرة من الشكوى الذي كان يعتريه من الأكلة التي أكلها بخيبر.

وهذا أحد الأقوال في اسم أبي هند [الحجام] مولى بني بياضة.

[وروى أبو اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري قال: كان جابر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم على كاهله من أجل الشاة التي أكلها، حجمه أبو هند مولى بني بياضه] بالقرن والشفرة.

 

#389#

$[طرق حديث سم النبي صلى الله عليه وسلم]$

وطرق حديث سم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة.

ومنها: ما صح من حديث أنس رضي الله عنه أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، فقالت: أردت أقتلك، فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك» أو قال: «علي» قالوا: أفنقتلها؟ قال: «لا».

وجاء من حديث جابر بن عبد الله [رضي الله] عنهما وفيه: فعفا عنها ولم يعاقبها.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه في إحدى الطرق أنه قال: أتت يهودية النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فقال لأصحابه: «أمسكوا، فإنها مسمومة فقال: ما حملك على ما صنعت؟» قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا أريح الناس منك، فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر البيهقي في "الدلائل" عن الزهري قال: فأسلمت فتركها النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#390#

وفي رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فأمر بها فقتلت.

وخرجه أبو داود، عن أبي سلمة مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باليهودية فقتلت، وأن بشر بن البراء كان ممن أكل من تلك الشاة فمات رحمه الله [تعالى].

قال أبو محمد عبد الحق الأشبيلي في "الأحكام الوسطى": هكذا رواه مرسلا، والصحيح ما تقدم – يعني من حديث أنس رضي الله عنه قالوا: أفنقتلها؟ قال: «لا» إلا أن عندي أن الخبرين لا يتنافيان، فيمكن أن أولياء بشر ما عفو فقتلها بذلك.

وقال البيهقي في كتاب "السنن الكبير": اختلفت الروايات في قتلها ورواية أنس بن مالك أصحها، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم في الابتداء لم يعاقبها حين لم يمت أحد من أصحابه ممن أكل، فلما مات بشر بن البراء أمر بقتلها، فأدى كل واحد من الرواة ما شاهد، والله أعلم.

قلت: تقدمت الرواية مصرحة بما ظنه البيهقي رحمه الله في حديث ابن سعد الذي رواه عن شيخه، عن رجاله.

قال الشيخ أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي رحمه الله في شرح قصيدة الشقراطسي: ولم أر في شيء من الحديث التعبير عن قصة الذراع بالنطق.

 

#391#

قلت: ورد التعبير بالكلام وبالقول وهو النطق.

قال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا عمر بن حفص، عن مالك بن دينار، عن الحسن أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فأخذ منها بضعة فلاكها في فيه، ثم طرحها، فقال لأصحابه: «أمسكوا إن فخذها يكلمني أنها مسمومة» ثم أرسل إلى اليهودية فقال: «ما حملك على ما صنعت؟» قالت: أردت أن أعلم إن كنت صادقا أن الله سيطلعك على ذلك، وإن كنت كاذبا أرحت الناس منك.

وقال سيف بن عمر الأسيدي في كتابه "الفتوح والردة": حدثني سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت أم بشر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجد غما ونفسا، فقال: «يا أم بشر هذا أوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلتها أنا وابنك يوم خيبر».

وكانت امرأة من أهل خيبر أتتهما بشاة مصلية مسمومة، فأهوى ابنها إلى اللقمة ونهش النبي صلى الله عليه وسلم الذراع وقال: «آكل.؟» قالت: لا تأكل فإني مسمومة، فرمى بها وتعقبه منها ما تعقب.

ونقدم في حديث أبي هريرة: «إن هذه خبرتني أنها مسمومة».

وفي حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: «هل سممت هذه الشاة؟» قالت: من أخبرك بهذا؟ قال:

 

#392#

«هذا العظم» لساقها وهو في يده.

وفي رواية موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: «فإن كتف هذه الشاة تخبرني أن قد بغيت فيها».

وروينا من حديث أبي القاسم عبيد الله بن معروف، أخبرنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قراءة عليه وأنا أسمع، حدثني هلال بن بشر أبو الحسن، حدثني سهل بن حماد، ح.

وقال الحاكم أبو عبد الله في كتابه "المستدرك" واللفظ له: حدثنا أبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي بمرو، حدثنا أبو قلالة الرقاشي، حدثنا أبو عتاب سهل بن حماد، حدثنا عبد الملك بن أبي نضره، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن يهودية أهدت شاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (سميطا، فلما بسط القوم أيديهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم): «كفوا أيديكم، فإن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة» قال: فأرسل إلى صاحبتها: «أسممت طعامك هذا؟» قالت: نعم، أحببت إن كنت كاذبا أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقا علمت أن الله عز وجل سيطلعك عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا اسم الله وكلوا» وقال: فأكلنا فلم تضر أحدا منا شيئا.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال أبو تميلة يحيى بن واضح: حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا

 

#393#

عبد الملك بن أبي بكر، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل من هدية أهديت له حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها؛ للشاة التي أهديت له بخيبر.

خرجه الطبراني في "معجمة الكبير" من طريق أبي تميلة.

ورواه العباس بن محمد الدوري فقال: حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا أبو تميلة .... فذكره, ولفظه: أن عماراً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل هدية حتى يأمر صاحبها يأكل منها؛ للشاة التي أهديت له بخيبر.

 

#394#

$[موت النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً]$

قال ابن إسحاق: إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة, يعني من ذلك السم.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن أبي الأحوص, عن عبد الله قال: لأن أحلف بالله تسعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً أحب إلي من [أن] أحلف واحدة, وذلك بأن الله عز وجل اتخذه نبياً وجعله شهيداً.

تابعه محمد بن سعد في "الطبقات" فرواه عن أبي معاوية.

وحدث به يعقوب بن شيبة في "مسنده" عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن أبي معاوية.

وهكذا رواه جرير, عن الأعمش, كما رواه أبو معاوية, قاله أبو يوسف يعقوب بن شيبة في "المسند".

ورواه الإمام أحمد مرة فقال: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان, عن الأعمش ... فذكره.

وقد حصلت الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم من وجه آخر:

 

#395#

قال أبو الحسن الدارقطني: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الحميد ابن سليمان الوراق, حدثنا جعفر بن محمد الوراق, حدثنا عامر ابن أبي الحسين, حدثنا إبراهيم بن بكر الشيباني, حدثنا عمر بن ذر, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موت الغريب شهادة».

هذا حديث غريب من حديث عمر بن ذر, عن عكرمة, عن ابن عباس, تفرد به إبراهيم بن بكر الشيباني, ولم يروه عنه غير عامر بن أبي الحسين, قاله الدارقطني.

وتابعه محمد بن إسماعيل بن العباء ومحمد بن المظفر, عن عبد الحميد. ورواه عنهما أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "الحلية".

وخرجه في الكتاب أيضاً من طريق أبي المنذر الهذيل بن الحكم الأزدي, عن عبد العزيز بن أبي رواد, عن عكرمة مثله, تفرد به الهذيل فيما ذكره أبو نعيم.

ورواه أبو إسحاق إبراهيم بن بكر الكوفي الأعور, عن عبد العزيز بن أبي رواد, فقيل: سرقه من الهذيل, وكل منهما منكر الحديث.

وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا جعفر بن العباس الكوسج, حدثنا بشر بن آدم المكفوف, عن المشمعل بن

 

#396#

ملحان, حدثنا عبد الملك بن هارون, عن أبيه, عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موت الغريب شهادة».

وخرجه الطبراني من حديث عمرو بن الحصين العقيلي, حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة, عن الحكم بن أبان, عن وهب بن منبه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موت الغريب شهادة» الحديث.

وخرجه ابن ماجه بنحوه.

وله شاهد من حديث ابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة.

ولفظ حديث أنس وأبي هريرة: «من مات غريباً مات شهيداً».

وروى سعيد بن عفير المصري, عن ابن وهب, عن حيي المعافري, عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن رجلاً مات بالمدينة ممن مولده بها, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «وددت أنه مات في غير مولده؛ لأن المؤمن إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة».

ورواه يحيى بن معين, عن سعيد بن عفير.

 

#397#

وخرجه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى, وابن ماجه, عن حرملة, عن يحيى كلاهما عن ابن وهب به.

وروى سفيان بن عيينة, عن سعيد القداح, عن ابن جريج, عن إبراهيم بن أبي يحيى, عن موسى بن وردان, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات مريضاً مات شهيداً».

خرجه ابن ماجه في "سننه"

ورواه زياد بن يحيى, حدثنا سعيد بن سالم, حدثنا ابن جريج, عن إبراهيم بن محمد بن [أبي] عطاء, عن موسى به.

ورواه الوليد بن مسرح الحراني, عن سعيد بن سالم ومخلد, عن ابن جريج, عن إبراهيم بن محمد بن أبي عاصم, عن موسى .... فذكره.

ورواه علي بن خشرم, حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء به, وزاد في [آخره: «ووقي] فتاني القبر».

 

#398#

ورواه عبد الرزاق, أخبرنا ابن جريج, عن إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء, وزاد فيه: «وغدي عليه وريح برزقه من الجنة».

ورواه الحسن بن زياد اللؤلؤي, عن ابن جريج, عن موسى بن وردان, عن أبي هريرة به, فأسقط إبراهيم بن أبي يحيى؛ لأن مدار طرق هذا الحديث على إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أحد المتروكين, ويأتي مدلساً كثيراً, فهو إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء دلسه ابن جريج, وتارة كان يقول: إبراهيم بن أبي عطاء, وتارة يقول: حدثنا أبو الذئب, وذلك فيما رواه ذواد بن علبة, عن ابن جريج, عن أبي الذئب, عن أبي هريرة مرفوعاً [به], فأسقط ذواد موسى بن وردان.

وكان الواقدي يقول: حدثنا أبو إسحاق محمد بن, وربما قال: إسحاق بن إدريس, وكان مروان بن معاوية يقول: عبد الوهاب المغربي.

وجاء الحديث من طريق أبي محمد عبد الله بن أيوب بن زاذان القربي الضرير, حدثنا إبراهيم بن بكر, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس مرفوعاً: «موت الغريب شهادة» لكن عبد الله الأعمى وشيخه الأعور متروكان, والأعور كان يسرق الحديث. وأظنه سرق هذا, والله أعلم.

 

#399#

نعم, جزم بسرقته أبو الفضل محمد بن طاهر الحافظ, فقال: هذا يعرف بالهذيل بن الحكم السرخسي, عن عبد العزيز, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: وإبراهيم سرقه منه, قاله في كتابه "ذخيرة الحفاظ".

والهذيل منكر الحديث.

ورواه الوليد بن محمد الموقري, عن الزهري, عن أنس مرفوعاً به, والموقري متروك.

 

#400#

$[أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج ذهب كان عنده في مرضه]$

والنبي صلى الله عليه وسلم مرض مدة قبل موته, كما سيأتي [ذكرها] إن شاء الله تعالى .

وفي ليلة من ليالي مرضه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها بإخراج ذهب كان عنده: ستة دنانير أو سبعة:

قال قتيبة بن سعيد: حدثنا بكر, عن موسى بن جبير, عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة رضي الله عنها, فقالت: لو رأيتما نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مرض له, قالت: وكانت له عندي ستة دنانير أو سبعة, قالت: فأمرني أن أفرقها فشغلني وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله, قالت: ثم سألني عنها, فقلت: لا والله, لقد كان شغلني وجعك, قالت: فدعا بها, ثم وضعها في كفه فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده».

وقال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب, حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن عمرو بن أبي عمرو, عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها وهي مسندته إلى

 

#401#

صدرها: «يا عائشة, ما فعلت تلك الذهب؟» قالت: هي عندي, قال: «فأنفقيها» ثم غشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على صدرها, فلما أفاق قال: «هل أنفقت تلك الذهب يا عائشة؟» قالت: لا والله يا رسول الله, قالت: فدعا بها فوضعها في كفه بعدها, فإذا هي ستة فقال: «ما ظن محمد بربه لو لقي الله عز وجل وهذه عنده» فأنفقها كلها, ومات من ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو سعيد الخليل بن أحمد السجزي في كتابه "الآداب": أخبرنا ابن خزيمة, حدثنا علي, حدثنا إسماعيل, حدثنا محمد بن أبي سلمة, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه: «ما فعلت الذهبة؟» فقلت: هذه عندي يا رسول الله, قال: «ائتيني بها» فأتيته بها, وهي بين التسع إلى الخمس, ثم جعلها في كفه فقال: «ما ظن محمد بالله لو لقي الله وهذه عنده, أنفقيها».

وحدث به هناد بن السري في كتابه "الزهد" عن عبدة, عن محمد ابن عمرو, حدثنا أبو سلمة, عن عائشة .... فذكره بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا يحيى, عن محمد بن عمرو, حدثني أبو سلمة قال: قالت عائشة .... فذكره.

 

#402#

وحدث به ابن سعد في كتابه "الطبقات" عن عبد الوهاب بن عطاء, حدثنا محمد بن عمرو ..... فذكره.

وحدث به أيضاً عن يحيى بن إسحاق البجلي, أخبرنا يحيى بن أيوب, عن أبي حازم, عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة هلمي تلك الذهب» قالت: فأتيته بها وهي إحدى العددين: تسعة أو سبعة، فأخذها بيده وقال: «ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده». تابعه أبو غسان محمد بن مطرف، حدثنا أبو حازم. فذكره بنحوه، وفيه أن الشك في الدنانير من أبي حازم.

وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا سعيد بن منصور، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير وضعها عند عائشة, فلما كان في مرضه قال: «يا عائشة ابعثي بالذهب إلى علي» رضي الله عنه ثم أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك ثلاث مرات, كل ذلك يغمى عليه, ويشغل عائشة ما به, فبعثت – يعني به – إلى علي رضي الله عنه فتصدق به, ثم أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين في حديد الموت, وأرسلت عائشة إلى امرأة من النساء بمصباحها, فقالت لها: اقطري لنا في مصباحنا من عكتك السمن, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في حديد الموت.

 

#403#

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم الاثنين الذي قبض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم [خرج إلى الناس, وهم يصلون الصبح, فرفع الستر وفتح الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم] حتى قام على باب عائشة رضي الله عنها وكاد المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه, فرحاً به, فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, سروراً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم, وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة, قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه.

وهو في الصحيحين بنحوه.

ورواه عبد الله بن الزبير الحميدي في "مسنده" عن أنس رضي الله عنه ولفظه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة يوم الاثنين والناس صفوف خلف أبي بكر [الصديق] رضي الله عنه فلما رأوه كأنهم أي تحركوا, فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اثبتوا, فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف, وألقى السجف, وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر ذلك اليوم.

 

#404#

$[إمامة أبي بكر في الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم]$

وقال أبو إسماعيل محمد [بن إسماعيل الترمذي: حدثنا أيوب ابن سليمان بن بلال, حدثني أبو بكر بن أبي أويس, عن سليمان] ابن بلال, عن أبي عبد العزيز الربذي, عن مصعب بن محمد بن شرحبيل, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف, عن عائشة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستراً أو فتح باباً – لا أدري أيهما قال مصعب – فنظر إلى الناس وراء أبي بكر يصلون, فحمد الله, وسر بالذي رأى منهم, وجلس وقال: «الحمد لله, ما من نبي بتوفاه الله حتى يؤمه رجل من أمته, أيها الناس أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليتعز بمصيبته بي عن مصيبته التي يصاب منها من بعدي, فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد من مصيبته بي».

 

#405#

وقال الهيثم بن كليب الشاشي: حدثنا الحارث بن أبي أسامة, حدثنا عبد الله بن أبي أمية البصري, حدثنا نفر من بني تميم أنهم كانوا عند عبد الله بن الزبير قال: حدثني عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] قال: حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يمت نبي حتى يؤمه رجل من أمته».

تابعه أبو محمد إسماعيل بن علي بن إسماعيل الخطبي, عن الحارث.

وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث فليح بن سليمان, عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص, عن عروة بن المغيرة بن شعبة, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يمت نبي حتى يؤمه رجل من قومه».

وقال أبو جعفر أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي في "مسنده": حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا أيوب, عن محمد, عن عمرو بن وهب الثقفي قال: كنا عند المغيرة بن شعبة فسئل: هل أم النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة أحد غير أبي بكر؟ قال: نعم, قال: فزاده عندي تصديقاً

 

#406#

الذي قرب به الحديث, قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر, فلما كان من السحر ضرب عنق راحلته, فظننت أن له حاجة, فعدلت معه فانطلقنا حتى برزنا عن الناس, فنزل صلى الله عليه وسلم عن راحلته .... وذكر الحديث, وفيه: ثم ركب فأدركنا الناس, وقد تقدمهم عبد الرحمن بن عوف وصلى بهم ركعة, وهو في الثانية فذهبت أؤذنه فنهاني, فصلينا الركعة التي أدركنا وقضينا التي سبقتنا.

تابعه ابن سعد فرواه في "الطبقات" عن ابن علية بنحوه مطولاً, وهو في "صحيح مسلم" بمعناه.

وخرج مسلم في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الها عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له, ألا وإني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً, فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل, وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء, فقمن أن يستجاب لكم».

وعنه أيضاً قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب في مرضه الذي مات فيه فقال: «اللهم هل بلغت – ثلاث مرات – إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة» وذكر الحديث بنحوه.

 

#407#

وروى أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي الفراء, عن أبي إسحاق الفزاري, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن أبي الزعراء أو زيد بن وهب الجهني, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: فلما حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أبا بكر أن يصلي بالناس, وهو يرى مكاني, فكان أبو بكر يصلي بالناس سبعة أيام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم, [فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ولاه المسلمون أمرهم حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم] عظم دينهم.

وروى يحيى بن سعيد الأموي, عن محمد بن السائب الكلبي, عن أبي صالح, عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: إن أبا بكر صلى بالناس سبعة أيام.

قال البيهقي: والذي يدل عليه حديث أم الفضل – يعني قولها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {والمرسلات عرفاً}, ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله عز وجل – وحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم, ثم حديث عبد العزيز بن صهيب, عن أنس بن مالك أن أبا بكر رضي الله عنهما صلى بالناس صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة, ثم صلى بهم خمس صلوات يوم الجمعة, ثم خمس صلوات يوم [السبت, ثم خمس صلوات يوم] الأحد, ثم صلى بهم صلاة الصبح يوم الإثنين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.

 

#408#

وكان قد خرج فيها ما بين ذلك حين وجد من نفسه خفة لصلاة الظهر, إما يوم السبت وإما يوم الأحد بعدما افتتح أبو بكر صلاته بهم, فافتتح صلاته وعلقوا صلاتهم بصلاته, [و] هو قاعد وهم قيام.

وصلى مرة أخرى خلف أبي بكر, وفي رواية [نعيم] بن أبي هند ومن تابعه, فتكون جملة ما صلى أبو بكر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع ما افتتحها قبل خروجه سبع عشرة صلاة.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو عبد الله الأصبهاني, حدثني الحسن بن جهم, حدثنا الحسين بن الفرج, حدثنا الواقدي, قال: سألت أبا بكر بن أبي سبرة: كم صلى أبو بكر رضي الله عنه بالناس؟ قال: سبع عشرة صلاة, قلت: من أخبرك؟ قال: أيوب بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة, عن أبيه, عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: قلت: وقد ذهب موسى بن عقبة في "مغازيه" إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في صلاة الصبح من يوم الاثنين حتى وقف إلى جنب أبي بكر فصلى خلفه ركعة, فلما سلم أبو بكر أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى.

 

#409#

قلت: هذا رواه موسى بن عقبة في "مغازيه" عن ابن شهاب, قال لم يزل أبو بكر رضي الله عنه يؤم الناس حتى كان ليلة الاثنين من شهر ربيع الأول فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعك فأصبح مفيقاً, فغدا إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل بن العباس, وعلى غلام له يدعى ثوبان, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما, وقد سجد الناس سجدة مع أبي بكر من صلاة الصبح, وهو قائم في الأخرى, فتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف يفرجون له حتى قام إلى جنب أبي بكر, فاستأخر أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في مصلاه, فصفا جميعاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر قائم يقرأ القرآن, فلما قضى أبو بكر الصلاة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع معه الركعة الأخرى, ثم جلس أبو بكر حتى قضى سجوده, فتشهد والناس جلوس, فلما سلم أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الآخرة.

و[أما] [ما] ذكره ابن شهاب حدث به ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز, عن عبد الله بن أبي بكر, عن أبيه, عن عمرة, عن عائشة رضي الله عنها قالت:

 

#410#

لما كانت ليلة الاثنين بات رسول الله صلى الله عليه وسلم دنفاً فلم يبق رجل ولا امرأة إلا أصبح في المسجد لوجع رسول الله [صلى الله عليه وسلم], فأتاه المؤذن يؤذنه, بالصبح, فقال: «قل لأبي بكر يصلي بالناس» فكبر أبو بكر في صلاته, فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر فرأى الناس يصلون, فقال: «إن الله جعل قرة عيني في الصلاة» وأصبح يوم الاثنين مفيقاً, فخرج يتوكأ على الفضل بن العباس, وعلى ثوبان – غلامه – حتى دخل المسجد وقد سجد الناس مع أبي بكر سجدة من الصبح وهم قيام في الأخرى, فلما رآه الناس فرحوا به, فجاء حتى قام عند أبي بكر رضي الله عنه, فاستأخر أبو بكر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقدمه في مصلاه, فصفا جميعاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر رضي الله عنه قائم على ركنه الأيسر يقرأ القرآن, فلما قضى أبو بكر السورة, سجد سجدتين, ثم جلس يتشهد, فلما سلم صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الآخرة, ثم انصرف.

وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري وأم سلمة رضي الله عنهما.

قال الواقدي: ورأيت هذا الثبت عند أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر رضي الله عنه.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا صخر بن جويرية, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه قال: [صلى رسول الله] صلى الله عليه وسلم يوم توفي الغداة في المسجد, فمن الناس من يقول:

 

#411#

جاء وأبو بكر قائم يؤم الناس, فجلس عند رجله, ومنهم من يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم, وعظم الناس يرون أبا بكر كان المقدم.

قال البيهقي: وكذلك يعني كرواية موسى بن عقبة التي ذكرت هو في مغازي أبي الأسود, عن عروة, وذلك يوافق ما رويناه عن حميد, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر, ورواية نعيم بن أبي هند وغيره في حديث عائشة, ولا ينافي ما روينا عن الزهري وغيره, عن أنس رضي الله عنه, ويكون الأمر فيه محمولاً على أنه رآهم وهم صفوف خلف أبي بكر في الركعة الأولى من صلاة الصبح فقال ما حكى هو وابن عباس, ثم خرج فأدرك معه الركعة الآخرة أو خرج فصلى, ثم قال ما حكيا فنقلا بعض الخبر ونقل غيرهما ما تركاه, كما نقل أحدهما فيما روياه ما ترك صاحبه, وبالله التوفيق.

وقال البيهقي أيضاً بعد أن روى حديث أنس في كشف سجف الحجرة وإرخاء الستر فقال: وهذا الذي رواه أنس بن مالك من إرخائه الستر بعدما نظر إليهم وأظهر الفرح بمكانهم صفوفاً خلف أبي بكر, كان في الركعة الأولى من صلاة الصبح, ثم أنه صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة فخرج فأدرك في الركعة الثانية, فصلاها خلف أبي بكر, فلما سلم أبو بكر أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الآخرة, وتوفي من يومه ذلك, هكذا ذكره موسى بن عقبة في "مغازيه", وكذلك ذكره عروة بن الزبير, وبمعناه ذكره عبد الله بن أبي مليكة.

 

#412#

ويشهد له ما أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن, أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن خنب, حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي, حدثنا أيوب بن سليمان, حدثنا أبو بكر بن [أبي] أويس, عن سليمان بن بلال, عن حميد الطويل, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحاً به خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه .... انتهى.

وهذا الحديث قد طعن في إسناده أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الرد على عبد المغيث" فما أنصف, قال: وقد روى هذا الحديث أبو حاتم بن حبان من حديث أبي بكر بن أبي أويس, عن سليمان بن بلال .... وساق الحديث, ثم قال: والعجب له وهو صاحب الجرح والتعديل, كيف يحتج بأبي بكر بن أبي أويس, وليس بشيء عند العلماء, قال أبو الفتح الأزدي الحافظ: أبو بكر بن أبي أويس يضع الحديث. انتهى.

وهذا الكلام فيه ما فيه, وقوله: "وليس بشيء عند العلماء", إن أراد بالعلماء أهل الحديث فليس بصحيح, فإنهم مجمعون على توثيقه إلا ما شذ عنهم أبو الفتح الأزدي بما نقل عنه ابن الجوزي فيه, وهذه زلة قبيحة من الأزدي فيما ذكره أبو عبد الله الذهبي الحافظ؛ لأن يحيى بن معين ومن بعده وثقوه, وقال الدارقطني: حجة, وقدمه أبو داود كثيراً على أخيه إسماعيل, وأبو بكر أخرج له الشيخان في "الصحيح" وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

 

#413#

والعجب من ابن الجوزي لما حكى الحافظ أبو بكر الخطيب طعن الأزدي في مهنا بن يحيى صاحب الإمام أحمد, حيث قال فيه: منكر الحديث, وقول الدارقطني فيه: ثقة نبيل, أكثر الشناعة على الخطيب بذلك, وقال: كيف يقابل مدح الدارقطني بقول الأزدي: الكذاب؟!

فكيف قابل ابن الجوزي في طعنه على سند هذا الحديث مدح الدارقطني لأبي بكر بن أبي أويس حيث قال فيه: حجة, بقول الأزدي, وهناك ترجم الأزدي بالكذب, وهنا بالحفظ؟! فنسأل الله تعالى أن يعفو عنا [وعنه] بمنه وكرمه.

مع أن الحديث حدث به الترمذي في "جامعه" عن عبد الله بن أبي زياد, عن شبابة بن سوار, عن محمد بن طلحة, عن حميد الطويل, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشحاً به.

وجاء عن حميد, عن أنس دون ذكر ثابت, وسيأتي إن شاء الله تعالى .

ورواية نعيم بن أبي هند التي أشار إليها البيهقي [وهي] ما رواها من طريق شبابة بن سوار, حدثنا شعبة, عن نعيم بن أبي هند, عن أبي وائل, عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر رضي الله عنه قاعداً.

 

#414#

وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده" عن شبابة بن سوار, أخبرنا شعبة, عن نعيم بن أبي هند, فذكره بنحوه, ولفظه: [صلى رسول الله] صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر قاعداً.

وخرجه أيضاً في "المسند" فقال: حدثنا بكر بن عيسى, سمعت شعبة, عن نعيم بن أبي هند, عن أبي وائل, عن مسروق, عن عائشة: أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف.

وخرجه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي, فقال: حدثنا عبد الأعلى هو ابن حماد, حدثنا معتمر, سمعت أبي يحدث, حدثنا نعيم بن أبي هند, عن أبي وائل, عن عائشة رضي الله عنها [أنها] قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما أفاق قال: «هل نودي بالصلاة؟» قالت: فقلنا: لا, أو فقيل: لا, قال: «مري بلالاً, أو: مرن بلالاً فليناد بالصلاة, ليصل بالناس أبو بكر» فقلت: يا رسول الله, إن إبا بكر رجل أسيف, وإنه لا يستطيع أن يقوم مقامك, قالت: فنظر إلي, يعني حين فرغت من كلامي, ثم أغمي عليه, فلما أفاق قال: «هل نودي بالصلاة؟» قالت: قلت: لا, قال: «مري بلالاً فليناد بالصلاة, وليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف» ثم أغمي على

 

#415#

رسول الله صلى الله عليه وسلم, [و] أقام بلال الصلاة, فصلى بالناس أبو بكر, فجاءت نويبة وبريرة فاحتملتاه, فقالت عائشة: وكأني أنظر إلى أصابع قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم تخط في الأرض, أو تمس, قالت: فلما أحس أبو بكر بجيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتأخر, فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجيء بنبي الله صلى الله عليه وسلم فوضع بحذاء أبي بكر, أو قالت: في الصف.

وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" عن الحسن بن سفيان, عن عبيد الله بن معاذ العنبري, عن معتمر, عن أبيه, عن نعيم بن أبي هند, عن أبي وائل, أحسبه عن مسروق, عن عائشة .... فذكره بنحوه, وعنده: فجاءت نوبة وبريرة.

قيل: المشهور نوبة, ولكنها صغرت في رواية أبي يعلى, وذكر أبو حاتم أن هذه القصة وحديث عائشة خرج بين رجلين قصتان.

قال: وقد دللنا بحمد الله ومنه على أن هذه الأخبار التي رويت كان في صلاتين لا صلاة واحدة على حسب ما وصفنا, فكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها بين رجلين, وكان فيها إماماً, وصلى بهم قاعداً,

 

#416#

وأمرهم يالقعود في تلك الصلاة, وهذه الصلاة كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها بين بريرة ونوبة, وكان فيها مأموماً, وصلى قاعداً في الصف خلف أبي بكر رضي الله عنه. انتهى.

وحدث سيف بن عمر الأسيدي في كتابه "الفتوح" عن سعيد بن عبد الله, عن أبيه, عن عائشة قالت: قلت: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر؟ قالت: نعم, قاعداً.

وقد حدث أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني, عن عبد الله بن جعفر, أخبرنا إسماعيل بن عبد الله, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا شعبة, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر رضي الله عنه.

وحدث به يعقوب بن سفيان في كتابه في "السنة" عن مسلم بن إبراهيم به.

وروى بدل بن المحبر, عن شعبة, عن موسى بن أبي عائشة, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه.

أعله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الرد على عبد المغيث" بأن رواية موسى بن أبي عائشة المخرجة في الصحيحين عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: حدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم .... الحديث بطوله, قال: وليس فيه: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه, وإنما فيه: فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخراجه في الصحيحين بخلاف هذا الطريق دليل على غلط بدل بن المحبر على

 

#417#

شعبة, وبدل ليس من شرط الصحيح. انتهى.

وهذه غفلة من ابن الجوزي رحمه الله فإن بدل بن المحبر أبا المنير اليربوعي البصري أحد شيوخ البخاري, وثقه أبو زرعة الرازي وغيره.

وقال أبو أحاتم: هو أرجح من بهز وحبان وعفان, توفي سنة خمس عشرة ومائتين.

وفي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة, فخرج بين رجلين – أحدهما العباس – لصلاة الظهر, وأبو بكر يصلي بالناس, فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر, فأوما إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر, فقال: اجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم, والناس يصلون بصلاة أبي بكر, والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد.

وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان الثوري, عن حميد الطويل, عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في مرضه وعليه بردة.

ورواه عبد الوهاب بن عطاء والمعتمر بن سليمان فقالا: حدثنا حميد الطويل, عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد.

 

#418#

تابعهما علي بن عاصم, عن حميد.

ورواه محمد بن جعفر المديني, حدثني حميد الطويل, أنه سمع أنس بن مالك يقول: أن آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر.

وقال محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا أيوب بن سليمان, حدثنا أبو بكر بن أبي أويس, عن سليمان بن بلال, عن حميد الطويل, عن ثابت البناني, عن أنس رضي الله عنه أنه قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم, صلى في ثوب واحد متوشحاً به خلف أبي بكر رضي الله عنه.

 

#419#

$[أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنفاذ جيش أسامة بن زيد]$

ورواه يحيى بن أيوب الغافقي المصري, عن حميد الطويل، حدثني ثابت البناني, عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه, فلما أراد أن يقوم قال: «ادعوا لي أسامة بن زيد» فأسند ظهره إلى نحره, فكانت آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

زاد فيه يحيى بن أيوب وغيره: ثابتاً البناني, وهو الصحيح.

وذكر يحيى بن أيوب في آخر قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما وكان أسامة رضي الله عنه قد ضرب عسكره بالجرف وهو على فرسخ من المدينة إلى جهة الشام, وحين ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أسامة بالجيش هناك لينظر ما الله قاض في رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: إن أسامة رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الإقامة حتى يشفيه الله تعالى , كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقال تمام بن محمد بن عبد الله الرازي أبو القاسم: أخبرنا أبو الحسين محمد بن يحيى بن أيوب بن أبي عقال, قراءة عليه في داره بحجر الذهب, أخبرنا أبي أبو زيد يحيى بن أيوب بن أبي عقال,

 

#420#

واسم أبي عقال هلال بن زيد بن الحسن بن أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن نعمان بن بن فيدة بن ثور بن كلب.

قال تمام: وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عبد الملك بن مروان – قراءة عليه – أخبرنا أبو زيد يحيى بن أيوب بن أبي عقال هلال بن زيد بن حسن بن أسامة بن زيد بن حارثة – قراءة عليه – أن أباه حدثه وكان صغيراً فلم يع عنه, [قال]: فحدثني عمي زيد بن أبي عقال, عن أبيه: أن آباءه حدثوه: أن حارثة تزوج إلى طيئ امرأة من بني نبهان ... وذكر قصة طويلة.

ثم قال: وأول لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى الشام لزيد رضي الله عنه, وأول شهيد كان بمؤتة زيد, ونائبه جعفر الطيار, وآخر لواء عقده بيده لأسامة على اثني عشر ألفاً من الناس فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم فقال: إلى أين يا رسول الله [صلى الله عليه وسلم؟] قال: «عليك بيبنا, فصبحها صباحاً, فقطع وحرق, وضع سفيك, وخذ بثأر أبيك» واعتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «جهزوا جيش أسامة, أنفذوا جيش أسامة» فجهز إلى أن صار إلى الجرف, واشتدت علة النبي صلى الله عليه وسلم, فبعث إلى أسامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم يريدك, فرجع, فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقد أغمي عليه, ثم أفاق صلى الله عليه وسلم, فنظر إلى أسامة, فأقبل يرفع يده إلى السماء ثم يفرغها عليه, قالوا: فعرفنا أنه إنما يدعو له, ثم قبض صلى الله عليه وسلم, فكان فيمن غسله: الفضل بن العباس

 

#421#

وعلي بن أبي طالب, وأسامة يصب عليه, فلما دفن صلى الله عليه وسلم قال عمر لأبي بكر: ما ترى في لواء أسامة؟ قال: ما أحل عقداً عقده النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يحل من عسكره رجل إلا أن تكون أنت يا عمر, ولولا حاجتي إلى مشورتك ما حللتك من عسكره .... وذكر بقيته.

وحدث محمد بن إسحاق, عن سعيد بن عبيد بن السباق, عن محمد بن أسامة بن زيد, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة, يعني جيشه الذي خرج فيه, قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلا يتكلم, فجعل يرفع يده إلى السماء يصبها علي أعرف أنه يدعو لي.

خرجه الطبراني في "معجمه الأوسط", وقال: لا يروى هذا الحديث عن أسامة إلا بهذا الإسناد, تفرد به محمد بن إسحاق.

ومن طريقه خرجه الترمذي في "جامعه" وقال: حسن غريب.

وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يوم الاثنين, وأبو بكر يصلي بالناس الصبح انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى جذع من جذوع المسجد, قال: فجلس رسول الله صلى الله عله وسلم إلى ذلك الجذع, واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية, ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال: «اغد على بركة الله والنصر والعافية, ثم أغر حيث أمرتك أن تغير» فقال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: يا نبي الله, قد أصبحت مقنعاً, وأرجو أن يكون الله عز وجل قد شفاك, فأذن لي أن أمكث

 

#422#

حتى يشفيك الله, فإني إن خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة من شأنك, وأكره أن أسأل عنك الناس, فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقام فدخل بيت عائشة رضي الله عنها وهو يومها.

 

#423#

$[تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الفتن]$

وروي أنه صلى الله عليه وسلم حذرهم يومئذ من الفتن:

وقال خيثمة بن سليمان في كتابه "فضائل الصحابة" رضي الله عنهم: حدثنا عبد الله بن سعدويه المكي, حدثنا أحمد بن يحيى بن بشير, حدثنا الحسن بن محمد أبو محمد البلخي, حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري, عن ابن أبي مليكة, عن عبيد الله بن عمير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه [أن] يصلي بالناس صلاة الصبح, ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج تفرج له الصفوف, وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت إذا صلى, فلما سمع أبو بكر الحس من ورائه عرف أنه لا يتقدم من ذلك المكان إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتأخر إلى الصف, وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانه, وقعد إلى جنب أبي بكر رضي عنه فافتتح الصلاة, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي, وأبو بكر يقتدي به, والناس يقتدون بأبي بكر رضي الله عنه فلما فرغ قام إلى جنب حجرته يحذرهم الفتن فقال: «يا فاطمة بنت محمد, ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملا لما عند الله تعالى فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً» حتى يسمع صوته خارجاً من المسجد, فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, إنك قد أصبحت اليوم

 

#424#

صالحاً, وهذا يوم بنت خارجة, فأذن رسول الله لأبي بكر رضي الله عنه فأتى أهله, قال: فما انتصف النهار من ذلك حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن يزيد بن هارون, أخبرنا يحيى بن سعيد, عن أبي بكر بن أبي مليكة, عن عبيد بن عمير الليثي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه, أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس .... وذكر القصة بنحوها مطولة.

وقال سيف بن عمر: حدثني سعيد بن عبد الله, عن عبد الله بن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يومئذ صوته حتى أسمع من وراء المسجد, فقال: «يا أيها الناس, سعرت النار, وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم, وإنها أكلة من وجدت على رأس خمس وثلاثين سنة إلا من تمسك بالثقلين كتاب الله وسنتي, وإني والله لا تعقلون علي بشيء, إني لم أحل إلا ما أحل القرآن, ولم أحرم إلا ما حرم القرآن, والمسلمون شهود الله فيما لم يكن فيه كتاب ولا سنة, فما حسنوه فحسن وما قبحوه فقبيح, فالزموا الجماعة والطاعة» فأما الجماعة فالسنة, وأما الطاعة فالعصمة ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته وقال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس».

ورواه ابن إسحاق عن ابن أبي مليكة مرسلاً مختصراً بنحوه وفي آخره: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال له أبو بكر: يا نبي الله,

 

#425#

إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنب خارجة أفآتيها؟ قال: «نعم», قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح.

وذكر موسى بن عقبة, عن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل يوم الاثنين بيت عائشة دخل أبو بكر على ابنته عائشة فقال: قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقاً, وأرجو أن يكون الله عز وجل قد شفاه, ثم ركب فلحق بأهله بالسنح, وهنالك كانت امرأته حبيبة ابنة خارجة بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج, وانقلبت كل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتها وذلك يوم الاثنين.

 

#426#

$[أمر العباس علياً بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم للبيعة]$

وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الناس: يا أبا حسن, كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً, قال: فأخذ العباس رضي الله عنه بيده, ثم قال: يا علي أنت والله عبد العصا بعد ثلاث أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب, فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كان هذا الأمر فينا أعلمناه, وإن كان في غيرنا سألناه, فأوصى بنا الناس, فقال علي رضي الله عنه: والله لا أفعل, والله لئن منعناه لا يؤتيناها الناس بعده.

ورواه عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, أخبرني ابن كعب بن مالك, عن ابن عباس بنحوه.

قال عبد الرزاق: فكان معمر يقول لنا: أيهما كان أصوب عندكم رأياً, فتقول: العباس, فيأبى ثم قال: لو أن علياً سأله عنها فأعطاه إياها فمنعه الناس كانوا قد كفروا.

وقال عبد الرزاق: فحدثت به ابن عيينة فقال: قال الشعبي: لو أن علياً سأله عنها كان خيراً له من ماله وولده.

وقال بكر بن خلف: حدثنا عثمان بن اليمان, حدثنا أبو بكر بن أبي

 

#427#

عون أنه سمع عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن أبيه, عن جده, [أو قال عن أبيه, أو عن جده], سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لقيني العباس فقال: يا علي, انطلق بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فإن كان لنا من الأمر شيء وإلا أوصى بنا الناس, فدخلنا عليه وهو مغمى عليه, فرفع رأسه وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ثم قالها الثالثة, فقلما رأينا ما به خرجنا ولم نسأله عن شيء, قال: فسمعت علياً يقول: يا ليتني أطعت عباساً, يا ليتني أطعت عباساً.

تابعه أحمد بن الدورقي, عن عثمان بن اليمان بنحوه.

 

#428#

$[ختيار النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى]$

وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة, ثم يحيى أو يخير» فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضره القبض, ورأسه على فخذ عائشة, فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت, ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» فقلت: إذن لا يختارنا, وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا, وهو صحيح.

وروى إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري, عن أبيه, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة» فلما كان في مرضه الذي قبض فيه, أخذته بحة شديدة, فسمعته يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين» قالت: فعلمت أنه يخير.

تابعه شعبة, عن سعد بن إبراهيم.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا محمد بن عبد الله

 

#429#

الأسدي, حدثنا كثير بن زيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب, ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه أو أن يلحق» قالت: وكنت قد حفظت ذلك منه, فإني لمسندته إلى صدري, فنظرت إليه حتى مالت عنقه, فقلت: قد قضى, قالت: وعرفت الذي قال: قالت: فنظرت إليه حتى ارتفع ونظر, قالت: قلت: إذن والله لا يختارنا, فقال: «مع الرفيق الأعلى في الجنة {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ...}» إلى آخر الآية.

تابعه الإمام أحمد, فحدث به في "مسنده" عن محمد بن عبد الله بن الزبير بنحوه.

 

#430#

$[موت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وفي يومها بين سحرها ونحرها]$

وصح عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري, وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل علي عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه, وعرفت أنه يحب السواك, فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم, فتناولته, فاشتد عليه, فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم, فلينته فأمره وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء, فجعل يدخل يديه في الماء, فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله, إن للموت سكرات» ثم نصب يده, فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» حتى قبض, ومالت يده صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء, وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء, ثم يقول: «اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت» خرجه الترمذي.

وفي حديث مرسل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إنك تأخذ الروح من

 

#431#

بين العصب والأنامل, اللهم فأعني على الموت وهونه علي».

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها في قصة السواك ألفاظ غير ما تقدم منها أنها قالت: فاستن به, فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استن استناناً قط أحسن منه, فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه ثم قال: «في الرفيق الأعلى» ثلاثاً, ثم قضى صلى الله عليه وسلم.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا إسماعيل, أخبرنا أيوب, عن [ابن] أبي مليكة قال: قالت عائشة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ويومي وبين سحري ونحري, فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب, فنظر إليه, فظننت أن له فيه حاجة, قالت: فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته [إليه], فاستن كأحسن ما رأيته مستناً قط, ثم ذهب يرفعه إلي فسقط من يده, فأخذت أدعو الله عز وجل بدعاء كان يدعو له به جبريل عليه السلام وكان هو يدعو به إذا مرض فلم يدع به في مرضه ذاك, فرفع بصره إلى السماء وقال: «الرفيق الأعلى, الرفيق الأعلى» – تعني وفاضت نفسه صلى الله عليه وسلم – فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا.

 

#432#

وحدث به ابن حبان في "صحيحه" عن عمران بن موسى بن مجاشع, حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا ابن علية ... فذكره.

وفي لفظ قالت: فدخل علي رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر, قالت: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده نظراً عرفت أنه يريده, قالت: فقلت: يا رسول الله, تحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: «نعم»: فأخذته فمضعته له حتى ألينه, ثم أعطيته إياه, فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله, ثم وضعه, قالت: فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري, قالت: فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» قالت: فقلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق.

وفي لفظ خرجه ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجري, فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء, فلما أفاق قال صلى الله عليه وسلم: «لا, بل اسألي الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل».

وقد تقدم هذا الحديث.

وقال الواقدي: حدثني شبل بن العلاء, عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم, لما حضرته الوفاة بكت فاطمة, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبكين يا بنية, قولي

 

#433#

إذا مت: إنا لله وإنا إليه راجعون, فإن لكل إنسان بها من كل مصيبة معوضة» قالت: ومنك يا رسول الله؟ قال: «ومني».

وقال الواقدي أيضاً: حدثني الحكم بن القاسم, عن أبي الحويرث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتك شكوى إلا سأل الله العافية حتى [كان] مرضه الذي مات فيه, فإنه لم يكن يدعو بالشفاء ويقول: «يا نفس مالك تلوذين كل ملاذ» قال: وأتاه جبريل عليه السلام في مرضه ويقول: إن ربك يقرئك السلام ورحمة الله, ويقول: إن شئت شفيتك وكفيتك, وإن شئت توفيتك وغفرت لك؟ قال: «ذلك إلى ربي يصنع بي ما شاء».

وكان لما نزل به دعا بقدح من ماء فجعل يمسح به وجهه ويقول: «اللهم أعني على كرب الموت, ادن مني يا جبريل, ادن مني يا جبريل, ادن مني يا جبريل».

وروى موسى بن عقبة, عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف يوم الاثنين دخل بيت عائشة وهو يومها, قالت: ووعك رسول الله صلى الله عليهوسلم  حين رجع أشد الوعك, واجتمع إليه نساؤه, وأخذ بالموت, فلم يزل كذلك حتى زاغت الشمس من يوم الاثنين يغشى عليه زعموا الساعة, ثم يفيق, ثم يشخص بصره إلى السماء فيقول: «اللهم الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً» ثم قال: واشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع, وأرسلت

 

#434#

فاطمة إلى علي, وأرسلت حفصة إلى عمر, وأرسلت كل امرأة إلى حميمها, فلم يجتمعوا حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر عائشة وفي يومها.

وجاء أن عائشة رضي الله عنها قالت: فلما خرجت نفسه صلى الله عليه وسلم لم أجد ريحاً قط أطيب منها.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس, عن زيد بن أبي عتاب, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً فعجبت من حداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في حجري, فلم أتركه على حاله في حجري حتى يغسل, ولكن تناولت وسادة فوضعتها تحت رأسه, ثم قمت مع النساء أصيح وألتدم, وقد وضعت رأسه على الوسادة وأخرته عن حجري.

وروينا من طريق سعيد بن عبد الله الحدثاني, حدثنا سويد بن عبد العزيز بن المختار, عن ثابت, عن إسحاق بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب, عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته, فجعلت سكرة الموت تذهب الطويل ثم نسمعه يقول: «مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء

 

#435#

والصالحين وحسن أولئك رفيقاً» ثم يغلب, ثم يغرق فيقول مثلها, ثم قال: «أوصيكم بالصلاة, أوصيكم بما ملكت أيمانكم» ثم قضى عندها عليه أفضل الصلاة والسلام.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث علي بن ثابت الجزري عن المختار بن نافع, عن عبد الأعلى التيمي, [عن إبراهيم التيمي] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء ملك الموت عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه فاستأذن ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته, فقال علي رضي الله عنه ارجع فإنا مشاغيل عنك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدري من هذا يا أبا حسن؟ هذا ملك الموت, أدخل راشداَ» فلما دخل قال: إن ربك عز وجل يقرئك السلام قال: «أين جبريل؟» قال: ليس هو قريب مني, الآن يأتي, فخرج ملك الموت حتى نزل عليه جبريل عليه السلام, فقال له جبريل وهو قائم بالباب: ما أخرجك يا ملك الموت؟ قال: التمسك محمد صلى الله عليه وسلم, فلما أن جلسا, قال جبريل: سلام عليك يا أبا القاسم, هذا وداع مني ومنك, فبلغني أنه لم يسلم ملك الموت على أهل بيت قبله, ولا يسلم بعده.

إسناده واه.

وروى أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد فقال: حدثنا محمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدي بالبصرة سنة خمسين ومائتين, وقدم علينا

 

#436#

بغداد قبل هذا الوقت, وكتبنا عنه, حدثنا أصرم بن حوشب, حدثنا المبارك بن فضالة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وقد أغمي عليه, فقالت: واكرباه لكربك يا أبتاه, قال: فرفع رأسه ونظر إليها فقال: «يا بنية, لقد حضر من أبيك ما ليس الله يمؤخر عنه أحداً لموافاة يوم القيامة».

قال: ثم أغمي عليه, وأتاه آت فقال: السلام عليك أدخل؟ فقال من حول رسول الله صلى الله عليهسلم  : إن كنت من المهاجرين أو من الأنصار فارجع, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك مشغول, فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: «من تطردون؟ تطردون داعي ربي؟ ادخل يا ملك الموت».

قال: وكان أمر أن لا يدخل عليه صلى الله عليه وسلم إلا بأذن, قال: «جئت لقبض روحي ولم ألق حبيبي يا ملك الموت؟ أنظرني حتى ألقى حبيبي جبريل» عليه السلام, قال: ذلك لك يا محمد. قال: وكان أمر بذلك, فخرج ملك الموت, فلقيه جبريل, فقال: أين يا ملك الموت؟ قال: إنه سألني أن لا أقبض روحه حتى يلقاك. قال: يا ملك الموت, أما ترى أبواب السموات قد فتحت لجيئة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما ترى أبواب الجنان قد فتحت لجيئة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما ترى الملائكة قد نزلوا لجيئة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال فأقبلا جميعاً حتى دخلا عليه, فسلما, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل: ما بد من الموت؟» قال: يا محمد: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأن مت فهم الخالدون}, {كل نفس ذائقة الموت} قال: يا جبريل, فمن لأمتي؟ قال: يا محمد {كل نفس ذائقة الموت

 

#437#

وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} قال: فقبضه ملك الموت وإن رأسه لفي حجر جبريل عليه السلام, فلما قبض صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها: وا أبتاه إلى جبريل ننعاه, من ربه ما أدناه, أهل السموات بالبشرى تلقاه, والرسل به تحظى في عدن الجنان مأواه, ثم إنها قعدت فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون, ثم إنا لله وإنا إليه راجعون انقطع الخبر من السماء, وما جبريل بنازل علينا أبدا أبداً.

وروى محمد بن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا أنس بن عياض أبو ضمرة قال: حدثونا عن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث, نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا أحمد, إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك, وخاصة بك, يسألك عما هو أعلم به منك, يقول: كيف تجدك؟ قال: «أجدني يا جبريل مغموماً, وأجدني يا جبريل مكروباً» فلما كان اليوم الثاني هبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا أحمد, إن الله أرسلني إليك إكراماً لك, وتفضيلاً لك, وخاصة بك يسألك عما هو أعلم به منك, يقول: كيف تجدك؟ قال «أجدني يا جبريل مغموماً, وأجدني يا جبريل مكروباً» فلما كان اليوم الثالث, نزل إليه جبريل عليه السلام وهبط معه ملك الموت, ونزل معه ملك يقال له إسماعيل يسكن الهواء, لم يصعد إلى السماء قط, ولم يهبط إلى الأرض منذ يوم كانت الأرض على سبعين ألف ملك ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك, فسبقهم جبريل عليه السلام فقال: يا أحمد,

 

#438#

إن الله أرسلني إليك إكراماً لك, وتفضيلاً لك, وخاصة بك, يسألك عما هو أعلم به منك, يقول لك: كيف تجدك؟ قال: «أجدني يا جبريل مغموماً, وأجدني يا جبريل مكروباً» ثم استأذن ملك الموت عليه السلام فقال: - يعني جبريل عليه السلام -: يا أحمد, هذا ملك [الموت يستأذن عليك؟ ولم يستأذن على آدمي كان قبلك, ولا يستأذن على آدمي بعدك, فقال: «(ائذن له»] فدخل ملك الموت عليه السلام, فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, يا أحمد, إن الله تعالى أرسلني إليك, وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمرني, إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها, وإن أمرتني أن أتركها تركتها, قال: «وتفعل يا ملك [الموت]؟» قال: بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني, فقال جبريل عليه السلام: يا أحمد, إن الله عز وجل قد اشتاق إليك, قال: «فامض يا ملك الموت لما أمرت به» قال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله, هذا آخر موطئي الأرض, إنما كنت حاجتي من الدنيا, فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاءت التعزية يسمعون الصوت والحس, ولا يرون الشخص: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته, {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة}, إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفا من كل هالك, ودركاً من كل ما فات, فبالله فثقوا, وإياه فارجوا, إنما المصاب من حرم الثواب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وخرجه البيهقي في كتابه "الدلائل" من حديث سيار بن حاتم,

 

#439#

حدثنا عبد الواحد بن سليمان الحارثي, حدثنا الحسن بن علي, عن محمد بن علي ...فذكره بنحوه, وقال قوله: إن الله عز وجل, قد اشتاق إلى لقائك. إن صح إسناد هذا الحديث, فإنما معناه: قد أراد [لقاءك, وذلك بأن يردك من دنياك إلى معادك زيادة] في قربتك وكرامتك.

وخرجه من طريق أخرى من حديث الطحاوي, حدثنا المزني, حدثنا الشافعي, عن القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أن رجالاً من قريش دخلوا على أبيه علي بن الحسين, فقال: ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، فحدثنا عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، قال: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل .... وذكر الحديث بنحوه, ثم قال: والمراد بقوله: إن الله اشتاق إلى لقائك. أي: أراد ردك من دنياك إلى آخرتك ليزيد في كرامتك ونعمتك وقربتك.

وخرجه أبو أحمد العسكري في كتابه "المواعظ".

وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة", فقال: وحدثنا

 

#440#

أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري, حدثنا محمد بن يحيى الأزدي, حدثنا المثنى بن بحر القشيري, حدثنا عبد الواحد بن سليمان, عن الحسن بن الحسن بن علي, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام هبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد, أرسلني إليك من هو أعلم منك بما تجد, خاصة لك, وإكراماً لك, وتفضيلاً لك يقول لك: كيف تجدك .... وذكر الحديث بطوله.

وحدث به أبو عبد الله محمد بن مسلم بن واره الرازي فقال: حدثنا المنهال بن بحر بن سلام بن مسلم القشيري أبو سلمة, حدثني عبد الواحد بن سليمان, حدثني الحسن بن علي رجل من أهل المدينة، عن محمد بن علي, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... فذكره مطولاً بنحوه.

وحدث به ابن سعد أيضاً, عن محمد بن عمر, حدثنا رجل, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي رضي الله عنه ودخل عليه رجلان من قريش فقال: ألا أخبركما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالا: بلى حدثنا عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم, قال: لما كان قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام هبط إليه جبريل, ثم ذكر مثل الحديث الأول, وقال في آخره: فقال علي رضي الله عنه: تدرون من هذا؟ يعني الذي سمعوا صوته بالتعزية, قالوا: لا. قال: هذا الخضر عليه والسلام.

 

#441#

$[ما ورد في أن النبي صلى الله عليه وسلم مات جالساً]$

وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي جالساً:

قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي, [حدثنا إبراهيم بن خالد], حدثنا رباح قال: قلت لمعمر: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس؟ قال: نعم.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب, عن أبيه, عن جده, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ادعوا لي أخي» فدعي له علي, فقال: «ادن مني» فدنوت منه, فاستند إلي فلم يزل مستنداً إلي, وإنه ليكلمني حتى إن بعض ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبني, ثم نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم, وثقل في حجري, فصحت: يا عباس, أدركني, فإني هالك, فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه.

وخرج أبو الحسن الدارقطني في كتابه "الأفراد" من حديث إسماعيل بن أبان الوراق, حدثنا عبد الله بن مسلم الملائي, عن أبيه, عن إبراهيم, عن علقمة والأسود, عن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها لما حضره الموت: «ادعو لي حبيبي»

 

#442#

فدعوت له أبا بكر, فنظر إليه ثم وضع رأسه, ثم قال: «ادعوا لي حبيبي» فدعوا له عمر, فلما نظر إليه وضع رأسه, ثم قال: «ادعوا لي حبيبي» فقلت: ويلكم ادعو له علي بن أبي طالب, فوالله ما يريد غيره, فلما رآه أفرد الثوب الذي عليه, ثم أدخله فيه, فلم يزل محتضنه حتى قبض ويده عليه.

فهذا حديث كالذي قبله منكر جداً, تفرد به مسلم بن كيسان الملائي الضبي الأعور, وهو منكر الحديث جداً, قاله الفلاس, وقال البخاري: ضعيف ذاهب الحديث, ولا أروي عنه. وضعفه يحيى بن معين وأبو زرعة الرازي وغير واحد.

وقال معاذ بن المثنى: حدثنا كثير بن يحيى, حدثنا أبو عوانة, عن الأجلح, حدثنا زيد بن علي بن الحسين قال: لما كان اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً وظهره إلى صدر عائشة رضي الله عنها وهو مستند به, والناس مجتمعون في المسجد, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي أخي وصاحبي» قالت عائشة: ادعوا أبي يا جارية, فلما دخل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوا لي أخي وصاحبي» فقالت حفصة: ادعوا لي أبي يا جارية, فلما دخل قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي أخي وصاحبي» فلما دخل علي رآه عمر بن الخطاب فقام ليخرج, أو خرج من البيت,

 

#443#

فسلته عائشة حتى وضعت رأسه على المرفقة وقامت, فأخبر نبي الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بألف باب مما يكون قبل يوم القيامة, يفتح كل باب منها ألف باب .... وذكر قصة.

ولا يلتفت إلى هذا, فإن راويه كثير بن يحيى بن كثير شيعي أحاديثه من هذا الضرب, وقد نهى عباس العنبري الناس عن الأخذ عنه.

وقال أبو أحمد بن عدي: حدثنا أبو يعلى, حدثنا كامل بن طلحة, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا يحيى بن عبد الله, عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «ادعوا لي أخي» فدعوا له أبا بكر .... وذكر الحديث بنحو ما تقدم, وفيه عن علي قال: علمني ألف باب يفتح كل باب ألف باب.

وهذا حديث منكر: ولعل البلاء فيه من ابن لهيعة فإنه شديد الإفراط في التشيع, وقد تكلم فيه الأئمة ونسبوه إلى الضعف. قاله ابن عدي.

 

#444#

وحدث محمد بن إبراهيم بن المقرئ, عن أبي يعلى الموصلي, حدثنا أبو خيثمة, حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أم موسى قالت: قالت أم سلمة: والذي تحلف به أم سلمة إن كان أقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليهوسلمج, فقالت: [لما] كانت غداة قبض فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان أرى في حاجة بعثه لها, قال: فجعل غداة بعد غداة يقول: «جاء علي؟», ثلاث مرات, فجاء قبل طلوع الشمس, فلما جاء عرفنا أن له إليه حاجة, فخرجنا من البيت, وكنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في بيت عائشة, قالت: فكنت آخر من خرج من البيت, ثم جلست أدناهن من الباب, فأكب عليه علي, فكان آخر الناس به عهداً, وجعل يساره ويناجيه.

قال ابن عساكر في "تاريخه": والمراد بالوصية – يعني في هذه المسارة – أنه أمره أن يقضي عنه ديونه ثم استدل بما ثبت في "الصحيح" من قول علي: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فيه أسنان الإبل وأشياء من الجراحات فقد كذب .... الحديث.

 

#445#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا علي بن عاصم, عن سعيد بن إياس الجريري, عن أبي عبد الله الجسري قال: دخلت على عائشة وعندها حفصة بنت عمر فقالت لي: هذه حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, ثم أقبلت عليها, فقالت: أنشدك الله أن تصدقيني بكذب قلته, أو تكذبيني بصدق قلته, تعلمين أني كنت أنا وأنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأغمي عليه, فقلت لك: أترينه قد قبض؟ قلت: لا أدري, فأفاق, فقال: «افتحوا لي الباب» ثم أغمي عليه, فقلت لك: أترينه قد قبض؟ قلت: لا أدري, ثم أفاق, فقال: «افتحوا لي الباب» فقلت لك: أبي وأبوك؟ قلت: لا أدري, ففتحنا الباب, فإذا عثمان بن عفان, فلما أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادنه» فانكب عليه, فساره بشيء لا أدري أنا وأنت ما هو, ثم رفع رأسه فقال: «أفهمت ما قلت لك؟» قال: نعم. قال: «ادنه» فأكب عليه أخرى مثلها, فسارة بشيء لا أدري ما هو, ثم رفع رأسه فقال: «أفهمت ما قلت لك؟» قال: نعم, قال: «ادنه« فأكب عليه إكباباً شديداً, فساره بشيء, ثم رفع رأسه فقال: «أفهمت ما قلت لك؟» قال: نعم, سمعته أذني, ووعاه قلبي, فقال له: «اخرج» فقال: قالت حفصة: اللهم نعم, أو قالت: اللهم صدقت.

وفي لفظ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي بعض أصحابي» قالت: أبا بكر؟ قال: «لا» قلت: عمر؟ قال: «لا» قلت: ابن عمك؟ قال: «لا» قلت: عثمان؟ قال: «نعم» فلما جاء قال: «تنحي»

 

#446#

فجعل يساره, ولون عثمان يتغير, فلما كان يوم الدار وحصر فيها, قلنا يا أمير المؤمنين, ألا نقاتل؟ قال: لا, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً, وإني صابر نفسي عليه.

خرجه أحمد في "مسنده" وهو في "جامع الترمذي" و"صحيح ابن حبان".

 

#447#

$[آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم]$

وكان آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم, ما روى ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا أسباط بن محمد القرشي, عن سليمان التيمي, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيبن حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها في صدره, وما كاد يفيض بها لسانه. أي: ما يقدر على الإفصاح بها.

تابعه جرير, وسفيان الثوري, عن التيمي, وخرجه البيهقي.

وقال أبو سعيد الخليل بن أحمد السجزي في كتابه "الآداب": حدثنا أبو يعقوب, يعني يوسف بن يعقوب بن شارك السجستاني, حدثني محمد بن إبراهيم الحنائي من أهل البصرة بمصر, حدثنا أبو معاوية الضرير مؤذن مسجد عمرو بن مرزوق, حدثنا بشر بن منصور,

 

#448#

عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة فقال لنا: «اتقوا الله في الصلاة» ثلاثاً يقولها, «اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم, اتقوا الله في الضعيفين: في المرأة الأرملة والصبي اليتيم», وهو يقول: «اتقوا الله في الصلاة» وهو يغرغر حتى فاضت نفسه صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالصلاة وما ملكت أيمانكم حتى انكسر لسانه.

رواه أبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" عن كثير بن عبيد, عن محمد بن خالد, عن الوصافي, عن محارب بن دثار, عن ابن عمر.

وخرج الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق" من حديث عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن سفينة مولى أم سلمة قال: كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة, وما ملكت أيمانكم», حتى جعل يلجلجها في صدره وما يفصح بها لسانه.

وكذلك حدث به النسائي, عن قتيبة بن سعيد, عن أبي عوانة, عن قتادة, عن سفينة قال: كان عامة وصية رسول الله صلى ه وسلم        : «الصلاة الصلاة, وما ملكت أيمانكم» .... الحديث.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن يزيد بن هارون, وعفان بن

 

#449#

مسلم, قالا: أخبرنا همام بن يحيى, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن سفينة, عن أم سلمة.

وهذا أشبه بالصواب.

وهو كذلك في "سنن النسائي" و"ابن ماجه" من حديث يزيد بن هارون, عن همام, عن قتادة, عن صالح أبي الخليل, عن سفينة, عن أم سلمة بنحوه.

وخرجه النسائي أيضاً من حديث يزيد هو ابن زريع, عن سعيد, عن قتادة أن سفينة حدث عن أم سلمة ... فذكره.

وحدث أبو داود في "سننه" عن زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة, كلاهما عن محمد بن فضيل, عن مغيرة, عن أم موسى سرية علي بن أبي طالب, عن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم «الصلاة الصلاة, اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم».

وحدث به ابن ماجه عن سهل بن أبي سهل, عن محمد بن فصيل

 

#450#

به, ولفظه: «الصلاة الصلاة, وما ملكت أيمانكم».

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا بكر بن عيسى الراسبي, حدثنا عمر بن الفضل, عن نعيم بن يزيد, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده, قال: فخشيت أن تفوتني نفسه, قال: قلت: إني أحفظ وأعي, قال: «أوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم».

أخبرنا عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الذهبي أن يحيى بن محمد المقدسي, أخبره عن علي بن مختار العامري, أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ قراءة عليه وأنا أسمع, أخبرنا الشريف أبو الفضل محمد بن عبد السلام ببغداد, أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الرفا الهروي, حدثنا محمد بن صالح – يعني: الأشج – حدثنا يحيى بن نصر, حدثنا المغيرة السراج, عن حماد بن أبي سليمان, عن سعيد [بن جبير], عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: آخر شيء حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «رفيع ذو المعارج, قد بلغت – ثلاثاً – الصلاة, وملك اليمين».

 

#451#

قال المغيرة – يعني ابن مسلم السراج -: يقال [إن] آخر وصية الأنبياء الصلاة.

قلت: وله شاهد من حديث العباس رضي الله عنه, وقد تقدم قريباً.

وقال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: أوصى – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – بكتاب الله.

وحديث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق, حدثني صالح بن كيسان, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد اله  بن عتبة, قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: للرهاويين بجاد مائة وسق من خيبر, وللدرايين بجاد مائة وسق, وللشنئيين بجاد مائة وسق من خيبر, وللأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر, وأوصى بتنفيذ بعث أسامة بن زيد, وأوصى أن لا يترك بجزيرة العرب دينان.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عتيق بن

 

#452#

يعقوب, حدثني حميد بن القاسم بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف, عن أبيه, عن جده, عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة قالوا: يا رسول الله, أوصنا, قال: «أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم, إلا تفعلوه لا يقبل منكم صرف ولا عدل».

لا يروى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف إلا بهذا الإسناد, تفرد به عتيق قاله الطبراني.

وقال أبو الجهم أحمد بن الحسين بن طلاب: حدثنا موسى بن سهل الرملي, حدثنا موسى بن داود, حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن حبة العرني, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى نحري: «يا علي, أوصيك بالعرب خيراً» قال: وسالت نفسه في كفي صلى الله عليه وسلم.

إسناده مظلم سوى الثلاثة الأول فإنهم ثقات, والثلاثة بعدهم ضعفى, فعمرو بن ثابت بن أبي المقدام هرمز أبو ثابت, قال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون, وضعفه غيره جداً, وأبوه ثابت

 

#453#

تكلموا فيه, قاله أبو الفتح الأزدي, وحبة بن جوين العرني شيعي غال مرمي بالكذب.

وقال البيهقي في "السنن الكبرى": أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا العباس بن محمد الدوري, حدثنا أزهر بن سعد السمان, عن ابن عون, عن إبراهيم, عن الأسود قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي رضي الله عنه فقالت: بما أوصى إلى علي, وقد رأيته دعا بطست ليبول فيها, وأنا مسندته إلى صدري, فانخنس – أو قال: فانخنث – فمات, وما شعرت, ففيم يقول هؤلاء أنه أوصى إلى علي رضي الله عنه؟!

وإبراهيم هذا يقال هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي, قاله البيهقي.

وكذا حدث به في "الدلائل". وقال عقبه: وإبراهيم [هذا] هو ابن يزيد بن شريك التيمي.

 

#454#

قلت: بل هو إبراهيم بن يزيد [بن] عمرو النخعي الكوفي ابن أخت الأسود بن يزيد النخعي الذي روى عنه هذا الحديث وغيره, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بنحوه من حديث إسماعيل بن علية, وفي "صحيح البخاري" أيضاً و"سنن النسائي" من حديث أزهر بن سعد كلاهما, عن ابن عون.

وخرجه الترمذي في "الشمائل" من حديث سليم بن أخضر, عن ابن عون, وابن ماجه من طريق حماد بن زيد, عن ابن عون, ولفظه: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عنده أحد غيري, ودعا بالطست .... فلم يذكر فيه أمر الوصية.

وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا محمد بن يونس, حدثنا حماد بن عيسى الجهني, حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «سلام عليك أبا الريحانتين, أوصيك بريحانتي من الدنيا, وعن قليل بنهد ركناك والله خليفتي عليك» قال: فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال علي: هذا أحد الركنين اللذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما ماتت فاطمة قال: هذا

 

#455#

الثاني الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[وخرجه الإمام أحمد في كتابه "مناقب علي" رضي الله عنه.

 

#456#

$[ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من اللباس حين توفي]$

وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم توفي من اللباس ما ثبت عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبداً وإزاراً غليظاً, وقالت: في هذا نزع روح النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث حميد بن هلال, عن أبي بردة, عن عائشة.

و"الكساء الملبد": المرقع على أحد القولين.

وروى يونس بن بكير, عن الحجاج بن أبي زينب, عن طلحة مولى ابن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خميص البطن.

وقال أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس: أخبرنا عبد العزيز بن يحيى, حدثنا حاتم بن إسماعيل, عن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووبيص الطيب يرى في مفارقه.

 

#457#

$[اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في التصديق والتكذيب بموته صلى الله عليه وسلم]$

وقال الحميدي: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي, حدثنا عبد الواحد بن أبي عون, عن موسى بن مناح قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز قال القاسم بن محمد: ينطق العذراء في خدرها, سمعت عمتي عائشة رضي الله عنها تقول: لما قبض – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – ارتدت العرب قاطبة, واشرأب النفاق فصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة حفش .... الحديث.

وجاء في بعض طرقه: وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حين جمعهم الله على أبي بكر رضي الله عنه وكان الناس في موت النبي صلى الله عليه وسلم بين مكذب بموته ومصدق به.

قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني القاسم بن إسحاق,

 

#458#

عن أمه, عن أبيها القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, أو عن أم معاوية أنه لما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم, قال بعضهم: قد مات, وقال بعضهم: لم يمت, وضعت أسماء بنت عميس رضي الله عنها يدها بين كتفيه صلىالله عليه وسلم  وقالت: قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, قد رفع الخاتم من بين كتفيه.

وروى أبو معشر, عن محمد بن قيس, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات, فمرت بي جمع آكل الطعام وأتوضأ, فما يذهب ريح المسك من يدي.

حدث به ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء" فقال: حدثنا أبو عمر التميمي, حدثنا يونس بن بكير, عن أبي معشر. فذكره.

 

#459#

$[عظم مصيبة المسلمين بموته صلى الله عليه وسلم]$

فهذه المصيبة العظيمة والرزية الجسيمة التي لم ينظر المسلمون إلى شكلها ولم يصابوا قبل ولا بعد بمثلها.

خرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث علي بن المديني ومحمد بن أبي بكر المقدمي وزيد بن المبارك, قالوا: حدثنا عبد ربه بن بارق الحنقي, حدثني سماك الحنفي, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة». قالت عائشة: ومن مات له فرط؟ قال: «ومن مات له فرط يا موفقة». قالت: فمن لم يكن له فرط؟ قال: «فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي».

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الصمد, حدثنا عبد ربه بن بارق الحنفي, حدثنا سماك أبو زميل الحنفي, سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة», قالت عائشة رضي الله عنها: بأبي, فمن كان له فرط؟ فقال «ومن كان له فرط يا موفقة» قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: «فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي».

وهو في "جامع الترمذي" بنحوه.

 

#460#

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء": حدثنا عبد الرحمن بن واقد, حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن رجاء بن جميل الأيلي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات ولم يقدم فرطاً لم يرد الجنة إلا تصريداً» قيل: يا رسول الله, ما الفرط؟ قال: «الولد, أو ولد الولد, والأخ تؤاخيه في الله عز وجل فمن لم يكن له فرط فأنا له فرط».

الفرط: في اللغة ما سيق من شيء, والفرط أيضاً والفارط: السابق إلى الماء لمصلحة من يتقدمهم في الغالب.

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم بموته فرطاً لأمته وسلفاً لها ليشفع في مسيئهم, ويشد أمن محسنهم, وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة.

كما ثبت من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله عز وجل رحمة أمة, قبض نبيها قبلها, فجعله لها فرطاً بين يديها, وسلفا لها» ... الحديث.

وأي فرط لأمة أعظم من نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام لهذه الأمة الشريفة, ولهذا كانت المصيبة به أعظم المصائب.

قال أبو أحمد بن عدي في كتابه "الكامل" في ترجمة أبي عبد الرحمن عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي [الحراني: حدثنا

 

#461#

أحمد بن الحسين بن عبد الصمد, أخبرني إسحاق بن زريق, عن عثمان – يعني الطرائفي], حدثنا فطر بن خليفة, عن شرحبيل بن سعد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي, فإنها أعظم المصائب».

قلت: رواه محمد بن عبيد الطنافسي, أخبرنا فطر بن خليفة, عن عطاء بن أبي رباح, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب».

هذا المرسل أثبت.

وخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "العزاء" فقال: حدثني سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثني فطر, عن عطاء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصيبة».

وقال: حدثني محمد بن عثمان العجلي, حدثنا عبيد الله بن موسى, عن مالك بن مغول, عن عطاء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي, فإنها أفضل المصائب».

 

#462#

حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا الوليد بن مسلم, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد حزن أحدكم على هالكه فليذكرني, وليعلم أني قد مت».

حدثني علي بن محمد بن إبراهيم, حدثنا أبو صالح, حدثنا الليث، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته بي فإنها ستهون عليه».

حدثني عثمان بن معبد, حدثنا عبيد بن إسحاق, حدثنا أبو بردة الأشعري, عن علقمة بن مرثد, عن ابن سابط, عن أبيه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبتم بمصيبة فاذكروا مصيبتي فإنها أعظم المصائب».

ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا أبو بردة, عن علقمة بن مرثد, عن ابن سابط، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها, أعظم المصائب».

ابن سابط هو عبد الله بن عبد الرحمن بن سابط الجمحي من الثقات, مات سنة ثمان عشرة ومائة.

 

#463#

قال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الحنفي قال: أنشدني أبي رحمه الله لغيره:

اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد

وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد

وقال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه "المواعظ والوصايا": أخبرنا أبو الحسن – يعني أحمد بن محمد قحطبة المروزي – أنشدنا عبد الله هو ابن محمود قال: وأنشدنا علي بن حجر:

اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد

أوما ترى أن المصيبة جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد

وإذا ذكرت مصيبة تشجو بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد

خرج ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء" من حديث جعفر بن محمد, عن أبيه, قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت صفية رضي الله عنها تلفع بردائها وتقول:

 

#464#

قد كان بعدك أنباء وهنبشة ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

الخطب التي أشارت إليها اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في موته صلى الله عليه وسلم.

 

#465#

$[مواقف الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]$

قال الواقدي: حدثني مسلمة بن عبد الله بن عروة, عن زيد بن أبي عتاب, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: اقتحم الناس على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ينظرون إليه, فقالوا: كيف يموت وهو شهيد علينا ونحن شهداء على الناس, فيموت ولم يظهر على الناس, لا والله ما مات, ولكنه رفع كما رفع عيسى ابن مريم, وليرجعن, وتوعدوا من قال أنه مات, ونادوا في حجرة عائشة وعلى الباب: لا تدفنوه, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت.

وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: وسجى رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة بثوبي, وقعد الرجال, وكانوا كأقوام ليس فيهم أرواح وحق لهم في أطوار من البلاء قسمت بينهم, وكذب بعضهم بموته, وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد الغد, وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير بيان, وبقي آخرون ومعهم عقولهم, وأقعد آخرون, فكان عمر ممن كذب بموته, وعلي فيمن أقعد, وعثمان فيمن أخرس, وخرج عمر على الناس, ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت, وليرجعنه الله، وليقطعن أيدياً وأرجلاً من رجال المنافقين يتمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت, وإنما واعده ربه عز وجل كما واعد موسى عليه السلام وهو آتيكم, وأما

 

#466#

عثمان فجعل لا يكلم أحداً, ويؤخذ بيده فيجاء به ويذهب به.

وروى سيف الأسيدي, عن عبد الله بن سعيد بن ثابت, عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك, عن أبيه قال: بلغ من وجد رجال من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صاروا إلى أطوار من الوجد, فأما عمر فإنه كذب بموته فقال: أيها الناس, كفوا ألسنتكم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم, (فإن النبي صلى الله عليه وسلم) لم يمت, ولكن ربه عز وجل واعده كما واعد موسى, وهو آتيكم, والله لا أسمع أحداً يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي إلا علوته بسيفي هذا, وأما عثمان فإنه بهت فلم يطق كلاماً, وأما علي فإنه أقعد, ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعباس رضي الله عنهما فإن الله عز وجل دلهما على التوفيق والسداد, وإن كان الناس لم يرعووا إلا لقول أبي بكر, جاء العباس قبله فتكلم بنحو من كلامه, فما انتهى له أحد ممن ابتلي حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه فانتهى الناس كلهم إلى قوله وتفرقوا عن كلامه.

وروى ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا عارم بن الفضل, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا أيوب, عن عكرمة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى. قال: وقام عمر

 

#467#

رضي الله عنه خطيباً يوعد المنافقين قال: وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت, ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسى [عليه السلام], لا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي رجال وألسنتهم, فما زال عمر رضي الله عنه يتكلم حتى أزبد شدقاه, قال: فقال العباس رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأسن كما يأسن البشر, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات, فادفنوا صاحبكم,. أيميت أحدكم إماتة، ويميته إماتتين؟ هو أكرم على الله من ذلك، فإن كان كما تقولون فليس على الله بعزيز أن نحث عنه التراب, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاُ, أحل الحلال وحرم الحرام, ونكح وطلق, وحارب وسالم, وما كان راعي غنم تتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطه, ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم.

وقال: أخبرنا يزيد بن هارون, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني, عن يزيد بن بابنوس, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاء أبو بكر رضي الله عنه فدخل عليه, فرفعت الحجاب، فكشف الثوب عن وجهه, فاسترجع, فقال: مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم تحول قبل رأسه, فقال: وانبياه, ثم حدر فمه فقبل جبهته, ثم رفع

 

#468#

رأسه, فقال: واخليلاه, ثم حدر فمه فقبل جبهته, ثم رفع رأسه فقال: واصفياه, ثم حدر فمه فقبل جبهته, ثم سجاه بالثوب, ثم خرج.

وحدث بنحوه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن بهز, عن حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني ... فذكره مطولاً, وعن مرحوم بن عبد العزيز, حدثنا [أبو] عمران الجوني ... فذكره.

وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء" عن أبي موسى محمد بن المثنى, حدثني مرحوم بن عبد العزيز ... فذكره بنحوه.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات, ولكنه ذهب به إلى ربه كما ذهب بموسى بن عمران, فقد غاب عن قومه أربعين ليلة, ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات, والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى, فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات, قال: وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر, وعمر يكلم الناس, فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية البيت مسجى عليه ببرد حبرة, فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أكب عليه فقبله

 

#469#

ثم قال: بأبي أنت وأمي, أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها, ثم لن يصيبك بعدها موتة أبداً, قال: ثم رد البرد على وجهه, ثم خرج وعمر يكلم الناس, فقال: على رسلك يا عمر, أنصت, قال: فأبى إلا أن يتكلم, قال: فلما رآه أبو بكر لا يصمت أقبل على الناس, فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: يا أيها الناس, إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, ثم تلا هذه الآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقيبه فلن يضر الله شيئاً وسجزي الله الشاكرين} قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ, قال: وأخذ الناس عن أبي بكر, فإنما هي في أفواههم.

قال أبو هريرة: قال عمر رضي الله عنهما: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي, وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.

وروي عن جابر رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في السوق, فأتاه فكشف عن وجهه وقال: مات والذي لا إله إلا هو، ثم قبله.

وجاء عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول, عن ليث, عن مجاهد,

 

#470#

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بين عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي طبت حياً وميتاً.

عبد الرحمن ضعيف.

وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" من حديث نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فأكب عليه وقال: بأبي أنت وأمي, طبت حياً وميتاً, وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله عز وجل في السماء حي لا يموت.

وقد روي في خطبة أبي بكر رضي الله عنه زيادة فيما خرجه البيهقي من حديث ابن لهيعة حدثنا أبو الأسود, عن عروة قال: وقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس ويوعد من قال قد مات بالقتل والقطع، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيته, لو قد قام قتل وقطع, وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن أم مكتوم قائم في مؤخر المسجد يقرأ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} إلى قوله: {وسيجزي الله الشاكرين} والناس في المسجد قد ملئوه يبكون ويموجون لا يسمعون, فخرج عباس بن عبد المطلب على الناس, فقال: يا أيها الناس, هل

 

#471#

عند أحد منكم [من] عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفاته فليحدثنا؟ قالوا: لا, قال: هل عندك يا عمر من علم؟ قال: لا. قال العباس: أشهد أيها الناس أن أحداً لا يشهد على النبي صلى الله عليه وسلم بعهد عهده إليه في وفاته, والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت.

قال: وأقبل أبو بكر من السنح على دابته حتى نزل بباب المسجد, ثم أقبل مكروباً حزيناً, فاستأذن في بيت ابنته عائشة, فأذنت له, فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي على الفراش والنسوة حوله, فخمرن وجوههن واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة, فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحنا عليه يقبله ويبكي ويقول: ليس ما يقول ابن الخطاب شيئاً, توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده, رحمة الله عليك يا رسول الله, ما أطيبك حياً [وأطيبك] ميتاً! ثم غشاه بالثوب، ثم خرج سريعاً إلى المسجد يتوطأ رقاب الناس حتى أتى المنبر، وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه, فقام أبو بكر إلى جانب المنبر, ثم نادى الناس فجلسوا, فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد, وقال: إن الله تبارك وتعالى نعى نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى نفسه وهو حي بين أظهركم, ونعاكم إلى أنفسكم, فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله, قال الله تبارك وتعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} إلى قوله {وسيجزي الله الشاكرين}. فال عمر: هذه الآية في القرآن, والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم, وقال: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {نك ميت وإنهم ميتون}, ثم قال: قال الله تبارك وتعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}, وقال:

 

#472#

{كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}، وقال: {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} ثم قال: إن الله تبارك وتعالى عمر محمداً صلى الله عليه وسلم وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله, وبلغ رسالة الله، وجاهد في سبيل االله, ثم توفاه الله عز وجل على ذلك, وقد ترككم على الطريقة, فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء, فمن كان الله ربه فإن الله حي لا يموت, ومن كان يعبد محمداً وينزله إلهاً فقد هلك إلهه, واتقوا الله أيها الناس, واعتصموا بدينكم, وتوكلوا على ربكم, فإن دين الله قائم, وإن كلمة الله تامة, وإن الله ناصر من نصره, ومعز دينه, وإن كتاب الله عز وجل بين أظهرنا, وهو النور والشفاء, وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم, وفيه حلال الله وحرامه, والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله, إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد, ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا يبغين أحد إلا على نفسه. ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر الحديث في غسله صلى الله عليه وسلم وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.

وذكره موسى بن عقبة في "المغازي" عن ابن شهاب.

وحدث محمد بن سعد في "الطبقات": عن يزيد بن هارون, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني, عن يزيد بن بابنوس, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عمر والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما فدخلا عليه, وكشفا الثوب عن وجهه, فقال عمر: واغشياه,

 

#473#

ما أشد غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم قال: فلما انتهينا إلى الدار قال المغيرة: يا عمر, مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر رضي الله عنه: كذبت, ما مات رسول الله صلى الله عليهوسلم , ولكنك رجل تجوسك فتنة, ولن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يفنى المنافقين, ثم جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس, فقال له أبو بكر: اسكت, فسكت, فصعد أبو بكر, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قرأ: {إنك ميت وإنهم ميتون} ... الحديث.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني, عن يزيد بن بابنوس قال استأذنت أنا وصاحب لي على عائشة رضي الله عنها فأذنت لنا, فلما دخلنا عليها جذبت الحجاب وألقت لنا [وسادة], فقال لها صاحبي: يا أم المؤمنين, ما تقولين في العراك؟ فضربت منكبه فقالت: مه آذيت أخاك, فقالت: قل كما قال الله: المحيض, ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال من وجهي وأنا حائض, ويتوشحني, ثم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر ببابي ثم يلقي إلي الكلمة ينفع الله بها, فمر ذات يوم فلم يقل شيئاً, ثم مر يوماً آخر فلم يقل شيئاً, فلما كان اليوم الثالث قلت: يا جارية, ألقي لي وسادة على الباب, فجلست وعصبت رأسي فمر بي وقال: «مالك يا عائشة؟» قلت: أشتكي رأسي. قال: «أنا وارأساه», ثم مضى, فلم يلبث إلا يسيراً حتى جيء به محمولاً في كساء فأدخل بيتي فأرسل إلى نسائه فاجتمعن, فقال لهن: «إني مريض, ويشق علي أن أدور عليكن, فأذن لي أن أكون في منزل

 

#474#

عائشة», فأذن له, فكنت أوصبه ولم أوصب مريضاً قبله, فبينا ذات يوم قد أسندته إلى صدري ووضع رأسه على عاتقي إذ مال رأسه, فظننته يريد من وجهي شيئاً, وخرجت من فيه نطفة باردة, فوقعت على ثغرة تجري, فاقشعر لها جلدي فظننت أنه غشي عليه, فسجيته, فاستأذن عمر بن الخطاب والمغيرة بن شعبة, فألقيت الحجاب, فدخلا عليه, فكشفا عن وجهه, فقال عمر: واغشياه, ما أطول غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم رد الثوب عليه فقاما, فخرجا, فلما انتهيا إلى الباب قال المغيرة لعمر: مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: كذبت, بل تجوسك فتنة, ولن يموت رسول الله صلالله عليه وسلم   حتى يفني المنافقين, فخرج عمر فصعد [المنبر] وجاء أبو بكر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاسترجع, وجلس عند رأسه وقال: وانبياه, واخليلاه, ثم رفعه, ثم حدر فمه فقبله فقال: واصفياه, ثم رد الثوب على وجهه, ثم خرج وعمر يخطب الناس ويقول: إن ناساً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ولت يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يفني المنافقين, فقال له أبو بكر: اسكت, وسكت ونزل, وصعد أبو بكر المنبر, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قرأ: {إنك ميت وإنهم ميتون}, وقرأ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعفابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً}, حتى فرغ من الآية, فقال عمر: أهذا في كتاب الله؟ قال: نعم, ثم قال: من كان يعبد محمداً فإن محمدا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, فقال عمر: أيها الناس, هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه, فبايعه الناس.

 

#475#

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فحدث به كما ذكرته قبل عن بهز بن أسد, عن حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني .... فذكره مطولاً بنحوه.

ورواه أحمد بن حنبل أيضاً, ومحمد بن أبي بكر المقدمي, عن مرحوم بن عبد العزيز العطار, عن أبي عمران بطوله.

وخرجه الإمام أحمد مرة أخرى في "مسنده" مختصراً من طريق يزيد بن بابنوس, عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته, فوضع فمه بين عينيه, ووضع يديه على صدغيه, وقال: وانبياه, واخليلاه, واصفياه.

ولما تكلم عمر رضي الله عنه بما تقدم ذكره خوف الناس وإن فيهم لنفاقاً فخافوا, ولما خطب أبو بكر رضي الله عنه بين للناس الهدى وبصرهم من العمى, فعرفوا الحق من الباطل, ولبثوا على الإسلام, واعتذر عمر رضي الله عنه عن كلامه بعد ذلك بما سنذكره إن شاء الله تعالى .

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له, وفي يده الدرة وما معه غيري, قال وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي قدمه بدرته إذ التفت إلي فقال: يا ابن عباس, هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين, أنت أعلم, قال: فإنه والله إن الذي حملني على ذلك لأني كنت أقرأ هذه الآية: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم

 

#476#

شهيداً}, فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها, فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت.

رواه أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق في "المغازي".

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "العزاء": حدثني أبو محمد البلخي, حدثنا يحيى بن الحكم بن مروان السلمي, حدثنا داود بن المحبر, عن المحبر بن قحذم, حدثنا محمد بن يزيد الأنصاري, عن محمد بن كعب القرظي, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى, فكشف الثوب عن وجهه, ثم قبل بين عينيه ثم قال: بأبي وأمي, ونفسي لك الفداء, طبت حياً وطبت ميتاً, وانقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من النبوة والأنبياء, وعممت حتى صرت مسلاة عمن سواك, وعظمت عن المصيبة وجللت عن البكاء, فلولا أن موتك كان اختياراً منك وأنك نهيت عن البكاء لجدنا لحزنك بالنفوس, وأنفدنا عليك ماء الشئون, فأما ما لا نستطيع دفعه فكمد وادكار, فاذكرنا عند ربك ولنكن من بالك, فلولا ما خلفت فينا من السكينة لم نقم بما خلفت علينا من الوحشة, اللهم أبلغ نبيك صلى الله عليه وسلم واخلفه فينا.

قال ابن عمر: فما احتاج أحد إلى كلام بعده.

 

#477#

$[ما روي في عزاء النبي صلى الله عليه وسلم]$

وحدث سيف بن عمر في كتابه "الفتوح" عن سعيد بن عبد الله, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فاسترجع وصلى وأثنى, فعج أهل البيت عجيجاً سمعه أهل المصلى, كلما ذكر شيئاً ازدادوا, فما سكن عجيجهم إلا تسليم رجل على الباب صيت جلد يقول: السلام عليكم يا أهل البيت: {كل نفس ذائقة الموت} الآية, إن في الله خلفاً من كل أحد, ودركاً لكل رغبة, ونجاة من كل مخافة, فالله فارجوا, وبه فثقوا, فاسمعوا له واذكروه, فقطعوا البكاء, ثم عادوا فبكوا, فناداهم مناد آخر لا يعرفون صوته: يا أهل البيت, اذكروا الله واحمدوه على كل حال تكونوا من المخلصين, إن في الله عزاء من كل مصيبة, وعوضاً من كل رغبة, فالله فأطيعوا, وبأمره فاعملوا, فقال: أبو بكر: هذا الخضر واليسع حضرا النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "الهواتف": حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن بسام, حدثني صالح المري, عن أبي حازم المديني قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المهاجرون فوجاً فوجاً يصلون ويخرجون, ثم دخلت الأنصار فوجا فوجا يصلون ويخرجون، ثم دخل أهل بيته, حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء, فكان منهن

 

#478#

صوت وجزع كبعض ما يكون منهن, فسمعن هدة في البيت, فسكتن, فسمعن قائلاً يقول ولا يرين شيئاً: في الله عزاء عن كل هالك, وعوض من كل مصيبة, وخلف من كل ما فات, فالمجبور من جبره الثواب, والمصاب من لم يجبره الثواب.

وحدث به كذلك في كتابه في "العزاء".

وقال فيه [و] في كتاب "الهواتف" أيضاً: حدثني محمد بن صالح القرشي, حدثني محمد بن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جده, عن علي بن حسين, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء آت يسمع حسه ولا يرى شخصه فقال: السلام عليكم ورحمة الله, إن في الله عوضاً من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك, ودركاً من كل ما فات, فبالله فثقوا, وإياه فارجوا, فإن المحروم من حرم الثواب, والسلام عليكم, لفظه في "الهواتف".

وزاد في كتاب "العزاء": فقال علي رضي الله عنه: تدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام.

وقال في "الهواتف": حدثني الحسن بن يحيى الدعاء – جار أبي همام – حدثنا خازم بن جبلة, عن أبي نضرة العبدي, عن خارجه بن مصعب, عن زيد بن أسلم, عن سويد بن غفلة, عن علي بن أبي

 

#479#

طالب رضي الله عنه قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب, هتف هاتف من ناحية البيت, يسمعون صوتاً ولا يرون شخصاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, السلام عليكم أهل البيت, فردوا عليه, فقال: {كل نفس ذائقة الموت} الآية, إن في الله خلفاً من كل هالك, وعزاء من كل مصيبة, ودركاً من كل ما فات, فبه فثقوا وإياه فارجوا, فإنما المصاب من حرم الثواب.

وخرجه بهذا الإسناد في كتاب "العزاء".

وحديث جعفر بن محمد خرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق الشافعي في "مسنده": أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي بن الحسين قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت التعزية ... وذكر نحوه.

وخرجه أيضاً من طريق أبي الوليد المخزومي, حدثنا أنس بن عياض, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عزتهم الملائكة, يسمعون الحس ولا يرون الشخص: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته, إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفاً من كل هالك, فبالله فثقوا وإياه فارجوا, فإنما المحروم من حرم الثواب.

هذان الإسنادان وإن كانا ضعيفين, فأحدهما يتأكد بالآخر ويدل على أن له أصلاً من حديث جعفر, والله أعلم, قاله البيهقي.

 

#480#

وأبو الوليد المخزومي الذي روى البيهقي الحديث الثاني من طريقه, وهو خالد بن إسماعيل المدني ذاك المتروك.

وخرج البيهقي أيضاً من طريق كامل بن طلحة, حدثنا عباد بن عبد الصمد, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه, فبكوا حوله واجتمعوا, فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم, صبيح, فتخطى رقابهم فبكى, ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة, وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك, فإلى الله فأنيبوا, وإليه فارغبوا, ونظره إليكم في البلاء فانظروا, فإن المصاب من لم يجبر, فانصرف وقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟ قال أبو بكر وعلي رضي الله عنهما: نعم, هذا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام.

عباد بن عبد الصمد ضعيف, وهذا منكر بمرة, قاله البيهقي.

وحدث به أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "العزاء" حدثني كامل بن طلحة .... فذكره بنحوه.

 

#481#

$[بكاء الصحابة لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم]$

ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات فقال وهو يبكيه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد كان جزع تخطب الناس عليه, فلما كثر الناس اتخذت منبراً لتسمعهم, فحن الجزع لمفارقتك حتى جعلت يدك الكريمة عليه فسكن, فأمتك كانت أولى بالحنين إليك حين فارقتهم, يا رسول الله بأبي أنت وأمي, لقد بلغ من فضيلتك أنه جعل طاعتك طاعته فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك في آخر الأنبياء, وذكرك في أولهم فقال: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الآية, لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون لو كانوا أطاعوك, وهم بين أطباقها يعذبون, يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول, بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لئن كان الله قد أعطى موسى حجراً يتفجر منه الأنهار, فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع الماء منها, وإن كان سليمان أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر, فما ذاك بأعجب من البراق حين جريت عليه – يعني إلى المسجد الأقصى – وأسرى بك إلى السماء السابعة, ثم صلبت الصبح من ليلتك بالبطحاء, وإن كان عيسى أعطاه الله إحياء الموتى, فما ذاك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك, لقد دعا نوح على قومه فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً}، فلو دعوت علينا هلكنا عن آخرنا, ولقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك, وكسرت رباعيتك, فأبيت أن تقول إلا خيراً, قلت: «اللهم اغفر لقومي

 

#482#

فإنهم لا يعلمون» لقد اتبعك في قلة سنيك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحاً في كثرة سنيه وطول عمره, ولقد آمن بك الكثير, وما آمن معه إلا قليل, ولبست الصوف وركبت الحمار, ووضعت طعامك على الأرض, ولعقت أصابعك من الطعام تواضعاً منك, صلى الله عليك.

وخرج النسائي في "سننه" من حديث قتادة, عن مطرف بن عبد الله, عن حكيم بن قيس بن عاصم, عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: لا تنوحوا علي, فإن رسول الله صلى الله عليهمسلثر لم ينح عليه.

وروي عن عكرمة أن أم أيمن رضي الله عنها جعلت تبكي – يعني لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم – وقالت: والله إني ما أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون أعلم أنه قد ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا, ولكني أبكي على خبر السماء انقطع.

ورواه سفيان الثوري, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم بكت أم أيمن, وهي أم أسامة بن زيد, فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: انقطع عنا خبر السماء.

وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن أم أيمن رضي الله عنها بكت حين مات النبي صلى الله عليه وسلم, فقيل لها: أتبكين؟ فقالت: إني والله

 

#483#

لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت, ولكن إنما أبكي على الوحي إذ انقطع من السماء.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثني زهير بن حرب, حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي, حدثنا سليمان بن المغيرة, عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها, فلما انتهينا إليها بكت, فقال لها: ما يبكيك, ما عند الله تعالى خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله تعالى خير لرسوله صلى الله عليه وسلم, ولكني أبكي أن الوحي انقطع من السماء, فهيجتهما على البكاء, فجعلا يبكيان معها.

قال يعقوب بن شيبة قبل: رواه سليمان بن المغيرة وقد سمعته ممن يحدث به عن سليمان, ولم يحضرني الآن.

وقال حفيده أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب: ورأيت هذا الحديث في كتاب جدي عن عمرو بن عاصم بخطه, يعني: عن سليمان بن المغيرة, وهو عند مسلم في "صحيحه" عن أبي خيثمة, عن عمرو بن عاصم.

تابعه يعقوب بن شيبة والقاضي أحمد بن علي بن سعيد المروزي, عن أبي خيثمة زهير بن حرب.

وقال محمد بن إسحاق: فبلغني أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله عز وجل وقالوا: والله لوددنا أنا متنا قبله, إنا نخشى أن نفتن

 

#484#

بعده, فقال معن بن عدي رضي الله عنه: لكني والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتاً, كما صدقته حياً.

وقد حدث به مالك بن أنس, عن ابن شهاب, عن سالم, عن أبيه قال: بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات, وقالوا: والله لوددنا أنا متنا قبله, إنا نخشى أن نفتتن بعده, فقال معن بن عدي رضي الله عنه: لكني والله ما أحب أن أموت قبله؛ لأصدقه ميتاً, كما صدقته حياً.

 

#485#

$[إظلام المدينة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم]$

وقال الترمذي: حدثنا بشر بن هلال الصواف البصري, حدثنا جعفر بن سليمان, عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان اليوم [الذي] دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء, فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء, وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

وحدث به ابن ماجه في "سننه" وابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء" عن بشر الصواف به.

قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.

قلت: تابعه مسلم بن إبراهيم وعبيد الله بن عمر القواريري ويزيد بن هارون وغيرهم, عن جعفر, رواه أبو جعفر محمد بن عبد الملك الدقيقي, عن يزيد بن هارون, وابن سعد عن مسلم بن إبراهيم, وقد تقدم.

 

#486#

وروى ابن سعد, عن عفان بن مسلم, عن حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه فذكر حديثاً قال في آخره: فشهدته, يعني النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة, فما رأيت يوماً كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة, وشهدته يوم مات, فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات.

وقد ذكرناه بتمامه في الهجرة.

وروي عن أنس رضي الله عنه أيضاً قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا بعضاً, وكان أحدنا يبسط يده فلا يبصرها .... الحديث.

 

#487#

$[مصيبة أبي هريرة بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقصة المزود]$

وقال الإمام أبو بكر البيهقي في "الدلائل": حدثنا أبو الحسين بن الفضل القطان, أخبرنا أبو سهل بن زياد القطان, حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي, حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا سهل بن أسلم [ح.

وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ, أخبرنا الحسن بن محمد ابن إسحاق, حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي, حدثنا ابن الخطاب, حدثنا سهل بن أسلم] العدوي, عن يزيد بن أبي منصور, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

أصبت بثلاث مصائب في الإسلام، لم أصب بمثلهن: بموت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت صويحبه, وقتل عثمان, والمزود, قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟ قال: كنا مع رسول

 

#488#

الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: «يا أبا هريرة أمعك شيء؟» قال: قلت: تمر في مزود معي قال: «جيء به», فأخرجت منه تمراً فأتيته به, قال: فمسه فدعا فيه, ثم قال: «ادع عشرة» فدعوت عشرة, فأكلوا حتى شبعوا, ثم كذلك, حتى أكل الجيش كله وبقي من تمر المزود, قال: «يا أبا هريرة, إذا أردت أن تأخذ منه شيئاً فأدخل يدك ولا تكبه» قال: فأكلت منه حياة النبي صلى الله عليه وسلم, وأكلت منه حياة أبي بكر كلها, وأكلت منه حياة عمر كلها, وأكلت منه حياة عثمان كلها, فلما قتل عثمان انتهب ما في بيتي وانتهب المزود, ألا أخبركم كم أكلت منه؟, أكثر من مائتي وسق.

لفظ حديث المقرئ.

وحدث به الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه "المعجزات" عن الإمام أبي سهل أحمد بن علي الآبيوردي من إملائه ببخارى, أخبرنا الإمام أبو عبد الله الحليمي, حدثنا أبو بكر بن خنب, حدثنا إسماعيل بن إسحاق .... فذكره بنحوه, وقال في آخره أبو المحاسن.

وروي أنه قال: كان في المزود تسع وعشرون تمرة.

وفي هذا الخبر معجزتان ظاهرتان, كذا قال الروياني.

 

#489#

وجاء في رواية أبي زياد سهل بن زياد, عن أيوب السختياني, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن التمر كان إحدى وعشرين تمرة, وفيه قال أبو هريرة: فأخذت منه خمسين وسقاً في سبيل الله.

وجاء في رواية: أن التمر كان بضع عشرة تمرة.

وجاء الحديث من طريق حماد بن زيد, عن المهاجر مولى آل بكرة, عن أبي العالية, عن أبي هريرة بنحوه.

 

#490#

$[أمر سقيفة بني ساعدة واستخلاف أبي بكر رضي الله عنه]$

قال الزهري: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة, واعتزل علي بن أبي طالب والزبير وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة رضي الله عنهم وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنهم وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل من بين الأنصار, فأتى آت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه, فإن كان لكم بأمر الناس حاجة, فأدركوا الناس من قبل أن يتفاقم أمرهم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرغ من أمره, قد أغلق دونه أهله, قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه قال: فقلت لأبي بكر:

انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار, فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان, فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم, وقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلت: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار, فقالا: فلا عليكم ألا تقربوهم, يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم,

 

#491#

قال: قلت: والله لنأتينهم.

فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة, فإذا رجال بين ظهريهم رجل مزمل, فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة, فقلت: ماله قالوا: وجع, فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله, ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام, وأنتم معشر المهاجرين رهط منا, وقد دفت دافة من قومكم, قال: وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر, فلما سكت أردت أن أتكلم, وقد كنت زورت مقالة – أي هيأتها – قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر, وكنت أدارئ منه بعض الحد, فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر, فكرهت أن أعصيه, فتكلم فهو كان أحلم مني وأوقر, ووالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا وقد قال في بديهته مثالها أو أفضل حتى سكت.

قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل, ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً, وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين, فبايعوا أيهما شئتم, وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره شيئاً مما قال غيرها, كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر – وفي رواية: قال: اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن – قال: فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب, منا أمير ومنكم

 

#492#

أمير, يا معشر قريش, قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت من الاختلاف, فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون, ثم بايعه الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة .... الحديث.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا حسين الجعفي, عن زائدة, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما قبض رسول الله صلى اللهعليه وسلم  قالت الأنصار رضي الله عنهم: منا أمير ومنكم أمير, قال: فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر يصلي بالناس؟ قالوا: بلى, قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضي الله عنه؟ (قالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه).

وقد روي: أن أبا بكر رضي الله عنه قال يومئذ للأنصار: يا معشر الأنصار, إنا رهط رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته الأدنون, وأصل العرب, وقطب الناس, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش إلى أن تقوم الساعة» وقد سمانا الله تعالى في كتابه: الصادقين حين قال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} وسماكم المفلحين فقال: (والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأمركم الله أن تكونوا معنا حيث كنا فقال: {يا أيها الذين

 

#493#

ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقال لكم: «سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال لنا في آخر خطبة خطبها: «أوصيكم بالأنصار خيراً, أن تقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم» ولو كان لكم من الأمر شيء ما رأيتم أثرة ولا وصى بكم, فلما سمعوا ذلك من علمه ووعوه من قوله تذكروا الحق وانقادوا له والتزموا حكمه.

ذكره أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي.

 

#494#

$[روايات قصة السقيفة]$

وقد روي في هذه القصة أحاديث غير ذلك منها:

ما قال الوليد بن مسلم: حدثنا عبد الله بن لهيعة, عن أبي الأسود القرشي, عن عروة بن الزبير, قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا معشر الأنصار أنا أدعوكم إلى عمر بن الخطاب أو إلى أبي عبيدة بن الجراح, فكلاهما قد رضيته للقيام على هذا الأمر, وكلاهما أراهما لذلك أهلاً, قال عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح: ما ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر, أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين, وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة حين رجع فصليت بالناس, فأنت أحق بهذا الأمر من غيرك, فبايعه عمر, ثم أبو عبيدة بن الجراح, ثم الأنصار.

وروى أبو بكر بن عياش ومحمد بن فضيل, قالا: حدثنا إسماعيل بن سميع, عن مسلم البطين, عن أبي البختري قال: قال أبو بكر الصديق – يعني لأبي عبيدة -: [هلم أبايعك, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة أميناً وإن أبا عبيدة بن الجراح] أمين هذه الأمة» فقال أبو عبيد: ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنا حتى مات.

 

#495#

وحدث به أسد بن موسى في كتابه "فضائل أبي بكر وعمر" رضي الله عنهما عن مروان بن معاوية, حدثنا إسماعيل بن سميع, عن يحيى بن أبي كثير: أن أبا بكر قال لأبي عبيدة: هلم لأبايعك, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك لأمين هذه الأمة» فقال أبو عبيدة: ما كنت لأفعل أصلي بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنا حتى قبض.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا قرة بن خالد, عن رجل يقال له القاسم, عن سالم بن عبد الله, عن أبيه رضي الله عنه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر المسلمون خيرهم فاستخلفوه وهو أبو بكر رضي الله عنه [وذكر بقيته.

قال الطبراني: القاسم هذا الذي روى عنه قرة بن خالد هذا الحديث هو أبو نهيك بصري, هو ابن محمد].

 

#496#

$[خطبة أبي بكر الصديق بعد استخلافه]$

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي: حدثنا إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق, قال الزهري: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما بويع أبو بكر رضي الله عنه في السقيفة, وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر, فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر, فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل, ثم قال: أيها الناس, إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت, وما وجدتها في كتاب الله, ولا كانت عهداً عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا, يقول: يكون آخرنا, وإن الله عز وجل قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله صلى الله عليه وسلم, فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان به [هدى] أهله, وإن الله عز وجل قد جمع أمركم على خيركم, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وثاني اثنين إذ هما في الغار, فقوموا فبايعوا, فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة [بعد] بيعة السقيفة, ثم تكلم أبو بكر, فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل, ثم قال: أما بعد, أيها الناس فإني قد وليت عليكم, ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني, الصدق أمانة, والكذب خيانة, والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه – إن شاء الله – والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه – إن شاء الله – لا يدع قوم الجهاد في الله إلا ضربهم الله تعالى بالذل,

 

#497#

ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم [الله] البلاء, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم, قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثنا أحمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد ... فذكره, وفي آخره قال إبراهيم بن سعد: وسمعت أبي يذكر هذه الخطبة.

وقال أسد بن موسى: حدثنا المبارك بن فضالة, عن الحسن البصري قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليهوسلمح جاءه بلال .... الحديث, وفيه قال: ثم خطب أبو بكر خطبة ولا والله إن خطب بعده بها أو قال بمثلها, حمد الله وأثنى عليه, ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فخنقته العبرة, ثم قال: [يا أيها] الناس إني لم أجعل بهذا المكان أني أكون خيركم – قال الحسن: هو والله خيرهم غير مدافع, ولكن المرء المسلم يهضم نفسه – والله لوددت أنه يكفيني هذا الأمر بعضهم – قال الحسن: هو والله صادق – ولئن أخذتموني بما كان الله يقيم له رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي ما ذاك عندي, ما أنا إلا كأحدكم ألا فراعوني, فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني, فإذا أنا زغت فقوموني .... وذكر بقيته.

خرجه في كتابه "فضائل أبي بكر وعمر" رضي الله عنهما.

 

#498#

$[طرق خطبة أبي بكر رضي الله عنه]$

وخطبة أبي بكر رضي الله عنه هذه قد رويت من طرق:

منها: ما قال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا الحارث بن مسكين, حدثنا ابن وهب, حدثني الليث بن سعد, عن إسماعيل بن رافع: أن أبا بكر رضي الله عنه قام فخطب الناس فقال: أيها الناس إني قد وليت عليكم أموركم, ولست أزعم أني أفضلكم, ولكني أثقلكم حملاً, فإن استقمت فاتبعوني, وإن زغت فاعدلوني, وإن أضعف الناس عندي القوي حتى آخذ منه الحق, وإن أقوى الناس عندي الضعيف حتى آخذ له الحق, وإن أكيس الكيس التقى, وإن أحمق الحمق الفجور.

قال ابن وهب: وحدثني الليث: أن أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: يا أيها الناس إني قد وليت أمركم هذا, وإني له لكاره, ولوددت أن بعضكم كفانيه, ولئن كلفتموني أن أعمل فيكم بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أقوم به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم امرؤ أكرمه الله عز وجل بالوحي وعصمه به, وإنما أنا امرؤ منكم لست أزعم أني خيركم, ولكني أكثركم شغلاً, وأثقلكم حملاً, فراعوني, فإن اعتدلت فاتبعوني, وإن ملت فاعدلوني, وأعلموا أن لي شيطاناً يعتريني, فإذا رأيتموني عصيت فاجتنبوني لا أمثل بأشعاركم

 

#499#

وأبشاركم، واعلموا أن أكيس الكيس التقى, وأحمق الحمق الفجور, وإن أضعف الناس عندي القوي حتى آخذ منه الحق, وإن أقوى الناس عندي الضعيف حتى آخذ له الحق.

وقال يعقوب أيضاً: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا حريز بن عثمان, عن نعيم بن محمد قال: كان في خطبة أبي بكر: واعلموا أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه, فإن استطعتم أن ينقضي الأجل وأنتم في عمل الله عز وجل فافعلوا, ولن تنالوا ذلك إلا بالله, وإن أقواماً جعلوا آجالهم لغيرهم, فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم, ولا تكونوا كالذين نسوا الله فنسيهم, أين من تعرفون من إخوانكم قد قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم فخلوا فيه بالشقاوة والسعادة, أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط, قد صاروا تحت الصخر والآكام, هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه, فاستضيئوا منه ليوم الظلمة وانتصحوا كتابه وتبيانه, فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} لا خير في قول لا يراد به وجه الله, ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله, ولا خير فيمن بغلب جهله حلمه, ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.

وقد روي في خطبة أبي بكر هذه زيادة ألفاظ منها ما ذكره أصحاب

 

#500#

الغريب, وأنه قال فيها:

أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع, فإن أحسنت فأعينوني, وإن زغت فقوموني, ألا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك, إذا ملك الملك زهده الله فيما عنده ورغبه فيما عند غيره شطر أجله, وأشرب قلبه الإشفاق, فإذا وجب ونضب عمره وضحاُ ظله حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه, وسترون بعدي ملكاً عضوضاً وأمة شعاعاً ودماً مفاحاً, فإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة, يعفو لها الأثر وتموت السنن, فالزموا المساجد واستشيروا القرآن, وليكم الإبرام بهد التشاور, والصفقة بعد طول التناظر.

الصفقة: بيعة الناس الخليفة.

وروى موسى بن عقبة في "المغازي" عن ابن شهاب في خطبة أبي بكر رضي الله عنه قال: ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم, وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط, ولا كنت فيها راغباً, ولا سألتها الله في سر ولا علانية, ولكني أشفقت من الفتنة, ومالي في الإمارة من راحة, ولقد قلدت أمر اً عظيماً, مالي به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله تعالى , ولوددت أني أقوى الناس عليها مكاني اليوم, قال: فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به, وقال علي والزبير رضي الله عنهما: [ما] غضبنا إلا أننا أخرنا عن المشورة, وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنه لصاحب الغار, اثنين, وإنا لنعرف له شرفه وكبره, ولقد أمره رسول الله

 

#501#

صلى الله عليه وسلم بالصلاة للناس وهو حي.

وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" حدثنا الحارث بن مسكين, عن عبد الله ابن وهب قال: وأخبرني ابن لهيعة, عن أبي الأسود فذكره مطولاً من قوله.

 

#502#

$[رضى الصحابة ببيعة أبي بكر]$

قال يعقوب بن شيبة خارج "المسند": حدثنا العباس بن صالح, سمعت سفيان بن عيينة يقول: معنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها, قال: كان قبول أبي بكر رضي الله عنه لها فلتة من أبي بكر؛ لأنه كان رضي الله عنه أعظم قدراً وأرفع في نفسه من أن يقبلها, فكان ذلك فلتة منه, أو نحو هذا, يشهد لهذا تصريح أبي بكر بالكراهة لذلك غير ما مرة.

وقال محمد بن عبيد: حدثنا تليد بن سليمان, عن أبي الجحاف, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قام أبو بكر رضي الله عنه بعدما استخلف بثلاث يقول: من يستقيلني ببيعتي فأقيله, قال علي: فقلت: لا والله, لا نقيلك, ولا نستقيلك, من ذا الذي يؤخرك, وقد قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه أحمد بن حاتم, عن تليد نحوه.

ورواه علي بن سهل, عن خلف بن تميم, عن عمار بن سيف وعلي بن هاشم, عن هاشم بن البريد, عن أبي الجحاف.

ورواه أسد بن موسى, عن الحجاج بن إبراهيم, عن علي بن هاشم بنحوه.

 

#503#

ورواه عبد الرحمن بن وهب, عن حميد بن مسعدة, عن يونس بن أرقم, عن هاشم بن البريد, عن داود بن أبي عوف, عن علي.

وداود: هو أبو الجحاف لم يدرك علياً, والله أعلم.

وقال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثني عبد الله بن المبارك, عن مالك بن مغول, عن ابن أبجر قال: لما بويع لأبي بكر رضي الله عنه جاء أبو سفيان إلى علي رضي الله عنهما فتكلم, فقال له علي: إنا رأينا أن أبا بكر لها أهلاً.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا خالد بن أبي يزيد القرني, حدثنا نصر بن باب, عن الحسن بن عمارة, عن المنهال بن عمرو, عن سويد بن غفلة, عن علي رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على صلاة المؤمنين فصلى بهم ثمانية أيام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم واختار له ما عنده مفقوداً صلى الله عليه وسلم, ولاه المؤمنون ذلك, وفوضوا إليه الزكاة؛ لأنهما مقرونتان, وأعطوه البيعة طائعين غير مكرهين, أنا أول من سن ذلك من بني عبد المطلب, وهو لذلك كاره.

نصر هذا وشيخه متهمان بالكذب.

وقد قدمنا من حديث أبي صالح محبوب بن موسى الأنطاكي, عن أبي إسحاق الفزاري, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن أبي الزعراء أو زيد بن وهب الجهني, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: فلما حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وهو يرى مكاني, فكان أبو بكر يصلي بالناس سبعة أيام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم,

 

#504#

فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ولاه المؤمنون أمرهم حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عظم دينهم.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا وكيع بن الجراح, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا, فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة, فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا, فقدمنا أبا بكر رضي الله عنه.

هذا مختصر, وفيه قصة حدث بها أبو علي – أحمد بن الفضل بن عباس بن خزيمة, عن عبد الله بن روح, حدثنا سلمة, حدثنا أبو بكر الهذلي, عن الحسن قال: لما قدم علي البصرة قام إليه ابن الكواء وقيس بن عباد, فقالا: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه, تنولى على الأمة تضرب بعضهم ببعض, أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك, فحدثنا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت فقال: أما أن يكون عندي عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا والله إن كنت أول من صدق به, فلا أكون أول من كذب عليه, ولو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عهد ما تركت أخا تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره, ولقاتلتهما بيدي, ولو لم أجد إلا بردي هذا, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل قتلاً ولم يمت فجأة, مكث في مرضه أياماً وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة, فيأمر أبا بكر أن يصلي بالناس وهو يرى مكاني, ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر, فأبى

 

#505#

وغضب, وقال: «أنتن صواحب يوسف, مروا أبا بكر يصلي بالناس» فلما قبض الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمورنا فاخترنا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا, فكانت الصلاة أصل الإسلام وقوام الدين, وهو أمين الدين فبايعنا أبا بكر, فكان لذلك أهلاً, لم يختلف عليه منا اثنان ولم يشهد بعضنا على بعض, ولم يقطع منه البراءة فأديت إلى أبي بكر حقه, وعرفت له طاعته, وغزوت معه في جنوده, وكنت آخذ إذا أعطاني, وأغزو إذا أغزاني, وأضرب بين يديه الحدود بسوطي .... وذكر بقيته.

وحدث به إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن عبدة بن سليمان, حدثنا سالم المرادي – أبو العلاء – قال: سمعت الحسن يقول: لما قدم علي البصرة في إثر طلحة وأصحابة ... وذكره بنحوه.

وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر رضي الله عنه استخلف ما عبد الله, فقيل له: مه يا أبا هريرة, ما تقول؟ فأقام الحجة لذلك حتى صدقوه وشهدوا له بما ذكر فيه.

وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما: ولينا أبو بكر فخير خليفة أرحمه بنا وأحناه علينا.

 

#506#

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا محمد بن عبد الأعلى بن كناسة, قال: وحدثني أيضاً محمد بن القاسم الأسدي, قالا: حدثنا جعفر بن برقان, عن ثابت بن الحجاج الكلابي, عن ابن العفيف قال: شهدت أبا بكر رضي الله عنه وهو يبايع الناس بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم فتجتمع إليه العصابة فيقول: أتبايعوني على السمع والطاعة لله ولكتابه, ثم للأمير؟ قال: فيقولون: نعم. فيبايعهم. قال: فلما خلا من عنده أتيته, وأنا فتى من قريش, فقلت: أبايعك على السمع والطاعة لله وكتابه, ثم للأمير, فصعد في البصر وصوبه, فرأيت أني أعجبته. قال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا عفان بن مسلم, حدثنا سليمان بن المغيرة, عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: افرضوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغنيه, قالوا: نعم, برداه, إذا اخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما, وظهره إذا سافر ونفقته على أهله, كما كان ينفق قبل أن يستخلف, قال أبو بكر: رضيت.

وفي "الطبقات" أيضاً لابن سعد قالوا: فتوفي – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع

 

#507#

الأول, ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة, ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده, فلما بويع لأبي بكر رضي الله عنه أمر بريدة بن الحصيب أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة, ليمضي لوجهه, فمضى بريدة إلى معسكرهم الأول, فلما ارتدت العرب كلم أبو بكر رضي الله عنه في جيش أسامة رضي الله عنه فأبى, وكلم أبو بكر أسامة في عمر رضي الله عنهم أن يأذن له في التخلف ففعل, فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة خرج أسامة فسار إلى أهل أبنى عشرين ليلة فشن عليهم الغارة, وكان شعارهم: يا منصور أمت, فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليه وحرق منازلهم وحروثهم ونخلهم, فصارت أعاصير من الدخاخين, وأجال الخيل في عرصاتها, وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم, وكان أسامة على فرس أبيه سبحة وقتل قاتل أبيه في الغارة, وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهماً وأخذ لنفسه مثل ذلك, فلما أمسي أمر الناس بالرحيل، ثم أغذ السير فوردوا وادي القرى في تسع ليال, ثم بعث بشيراً إلى المدينة يخبر بسلامتهم, ثم فصل يفذ في السير فصار إلى المدينة ستاً, وما أصيب من المسلمين أحد, وخرج أبو بكر الصديق والمهاجرون وأهل المدينة يتلقونهم سروراً بسلامتهم, ودخل على فرس أبيه سبحة, واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب حتى انتهى إلى المسجد، فدخل فصلى ركعتين, ثم انصرف إلى بيته .... وذكر بقيته.

 

#508#

$[ما روي في غسله صلى الله عليه وسلم]$

قال أبو جعفر الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء.

قال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني حسين بن عبد الله, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أجمع القوم لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في البيت إلا أهله: عمه العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وأسامة بن زيد بن حارثة وصالح مولاه, فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الباب أوس بن خولي الأنصاري, ثم أحد بني عوف بن الخزرج, وكان بدرياً: يا علي بن أبي طالب, فقال: يا علي ننشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال له علي: أدخل فدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يل من غسله شيئا, قال: فأسنده علي رضي الله عنه إلى صدره وعليه قميصه, وكان العباس والفضل وقثم يقبلونه مع علي, وكان أسامة بن زيد وصالح مولاه هما يصبان الماء, وجعل علي يغسله, ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

#509#

شيئاً مما يراه من الميت, وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً! حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يغسل بالماء والسدر جففوه, ثم صنع به بما يصنع بالميت, ثم أدرك في ثلاثة أثواب, ثوبين أبيضين وبرد حبرة ... الحديث.

وجاء عن ابن عباس بلفظ آخر فحدث به سيف بن عمر في كتابه "الفتوح" عن الضحاك بن يربوع الحنفي عن ماهان الحنفي, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت: كيف غسل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ضرب عليه العباس كلة له يمانية صفاق, فصارت سنة فينا في كثير من صالحي الناس, ثم أذن لرجال من بني هاشم فقعدوا بين الحيطان والكلة, وسأله الأنصار أن يدخل لهم رجلاً فأدخل أوس بن خولي, ثم دخل العباس الكلة ودعا علياً والفضل وأبا سفيان وأسامة, فكان الفضل لصب الماء والمعونة, فإذا شغله الصب أعقبه أبو سفيان وأسامة, فلما اجتمعوا في الكلة ألقي عليهم النعاس وعلى من وراء الكلة في البيت, حتى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره يغط, فنادلهم مناد فانتبهوا به وهو يقول: ألا لا تغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان طاهرا فقال العباس: ألا بلى, وقال أهل البيت: صدق, فلا تغسلوه, فقال العباس: لا ندع سنته لصوت ما ندري ما هو, وغشيهم النعاس ثانياً, فناداهم مناد فانتبهوا وهو يقول: اغسلوا رسول الله صلى الله عليهوسلمن في ثيابه, فقال أهل البيت: ألا لا, فقال العباس: ألا نعم, وقد كان العباس حيث دخل قعد

 

#510#

متربعاً وأقعد علياً متربعاً فتواجها وأقعد النبي صلى الله عليه وسلم على حجورهم فنودوا أن أضجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره, ثم اغسلوه واستروا, فثاروا عن الصفيح, وأضجعاه فغربا رجل الصفيح وشرقا رأسه, ثم أخذا في غسله, وما يريان أنه ينبغي لهما أن يأتيا على شيء إلا قلب لهما ورفع لهما, وعليه قميص ومجول مفتوح الشق لم يغسل إلا بالماء القراح وطيبوه بالكافور, ثم اعتصر قميصه ومجوله وحنطوا مساجده ومفاصله ووضئوا به ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه, ثم أدرجوا أكفانه على قميصه ومجوله, وجمروه عوداً ونداً, ثم احتملوه حتى وضعوه على سريره وسجوه.

وجاء من حديث عمرو بن أبي قيس, عن مطرف, عن ناجية, عن علي رضي الله عنه بنحوه مختصراً, تفرد به عمرو.

وروي عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر – هو الشعبي – قال: غسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وأسامة بن زيد, وكان علي يغسله ويقول: بأبي وأمي, طبت حياً وميتاً.

وحدث ابن إسحاق, عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه, كما نجرد موتانا,

 

#511#

أو نغسله وعليه ثيابه, قالت: فلما اختلفوا ألقى الله تعالى عليهم النوم, حتى ما منهم رجل إلا ذقته في صدره, ثم كلمهم مكلم في ناحية البيت – لا يدرون من هو -: اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه, قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه, والقميص دون أيديهم, وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه.

تابعه عيسى بن معمر, فيما رواه مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عنه, عن عباد بن عبد الله, عن عائشة.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": حدثني أبي, أخبرنا هشيم, أخبرنا مغيرة, عن مولى لبني هاشم قال: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم ذهبوا ليخلعوا قميصه فناداهم مناد من ناحية البيت لا تنزعوا قميصه دعوه, فغسلوه وعليه قميصه.

وله شاهد من رواية أبي بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو معاوية, حدثنا أبو بردة, عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه قال: لما أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هم بمناد من الداخل: لا تخرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه.

 

#512#

وخرجه أبو عبد الله محمد بن ماجه في "سننه" فقال: حدثنا سعيد بن يحيى بن الأزهر الواسطي, حدثنا أبو معاوية, حدثنا أبو بردة، عن علقمة بن مرثد, عن أبي بريدة, عن أبيه رضي الله عنه قال: لما أخذوا في غسل النبي صلى الله عليه وسلم ناداهم مناد من الداخل: لا تنزعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه.

أبو بردة هو عمرو بن يزيد التميمي الكوفي ضعفوه.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر قال: فحدثني ابن أبي حبيبة, عن داود بن الحصين, عن أبي غطفان, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف الذين يغسلونه فسمعوا قائلاً يقول – لا يدرون من هو -: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه, فغسل رسول الله صلى الله عليهوسلم  في قميصه.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا إسحاق الدبري, عن عبد الرزاق, عن ابن جريج, عن صالح مولى التوأمة, سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميص .... الحديث.

 

#513#

$[ذكر من غسل النبي صلى الله عليه وسلم]$

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب, عن أبيه, عن جده, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أخذنا في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلقنا الباب دون الناس جميعاً, فنادت الأنصار: نحن أخواله ومكاننا من الإسلام مكاننا, ونادت قريش: نحن عصبته, فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين, كل قوم أحق بحيازتهم من غيرهم, فنشدتكم الله, فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه, والله لا يدخل عليه أحد إلا من دعي.

أخبرنا يوسف بن عثمان الكناني, أنبأنا إبراهيم بن محمد الطبري – وتفردت بالرواية عنه في الدنيا – أخبرنا علي بن هبة الله – قراءة عليه وأنا أسمع – أخبرنا أحمد بن محمد – أبو طاهر الحافظ – أخبرنا محمد ابن المظفر وعبيد الله والحسن – ابنا محمد – ومحمد بن عبد الرحمن بن غزو قالوا: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن النهاوندي, أخبرنا علي بن عبد الرحمن البكائي, حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا ضرار بن صرد, حدثنا علي بن هشام, عن حسين بن علي, عن أبيه, عن جده قال: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يغسله, فقال علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخشى أن لا أطيق ذلك. قال: «إنك ستعان علي» قال: فوالله ما أردت أقلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عضواً إلا قلب لي.

 

#514#

ضرار بن صرد هو أبو نعيم الكوفي الطحان, شيعي متروك الحديث, رماه يحيى بن معين بالكذب, مات أبو نعيم هذا سنة تسع وعشرين ومائتين.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر, عن الزهري, عن عبد الواحد بن أبي عون قال: [قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في مرضه الذي توفي فيه: «اغسلني يا علي إذا مت» فقال: يا رسول الله, ما غسلت ميتاً قط, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك ستهيأ أو تيسر» قال علي: فغسلته, فما آخذ عضواً إلا تبعني, والفضل آخذ بحضنه يقول: اعجل يا علي انقطع ظهري.

وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان العباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه, وكان أسامة بن زيد وشقران يصبان الماء عليه, وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره, وعليه قميصه يدلكه بيده من ورائه, لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكره بنحوه الزهري.

وجاء عن الشعبي قال: كان علي يغسل النبي صلى الله عليه وسلم, والفضل وأسامة يحجبانه.

وروي أن علياً رضي الله عنه كان على يده خرقة يغسل (النبي صلى الله عليه وسلم) بها من

 

#515#

تحت القميص, وذلك فيما روي عن عبد الله بن الحارث: أن علياً – لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم – قام فأرتج الباب قال: فجاء العباس معه بنو عبد المطلب, فقاموا على الباب, وجعل علي يقول: بأبي أنت, طيباً حياً, وطيباً ميتاً قال: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط, فقال العباس لعلي: دع خنيناً كخنين المرأة, وأقبلوا على (صاحبكم, فقال علي): أدخلوا علي الفضل. قال: وقالت الأنصار: نناشدكم الله في نصيبنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأدخلوا رجلاً منهم يقال له أوس بن خولي يحمل جرة بإحدى يديه قال: فغسله علي, يدخل يده تحت القميص والفضل يمسك الثوي عليه والأنصاري ينقل الماء, وعلى يد علي خرقة يدخل يده وعليه القميص.

حدث به كذلك ابن سعد, عن مالك بن إسماعيل أبي غسان النهدي, عن مسعود بن سعد, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث. تابعه محمد بن فضيل, عن يزيد بن أبي زياد.

وقال ابن سعد أيضاً: أخبرنا عبد الصمد بن النعمان البزار, أخبرنا كيسان أبو عمر القصار, عن مولاه يزيد بن بلال قال: قال علي – رضي الله عنه: أوصى النبي صلالله عليه وسلم   أن لا يغسله أحد غيري «فإنه لا يرى أحد

 

#516#

عورتي إلا طمست عيناه» قال علي: وكان الفضل وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين.

قال علي: فما تناولت عضواً إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلاً حتى فرغت من غسله صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: غسلت النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميت, فلم أجد شيئاً, فقلت: طبت حياً وميتاً, وسطعت منه ريح طيبة لم نجد مثلها قط.

وحدث به سليمان بن أرقم, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن علي رضي الله عنه قال: غسلت النبي صلى عليه وسلم      فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أجد شيئاً, فقلت: طبت حياً وميتاً.

ورواه صفوان بن عيسى, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن علي رضي الله عنه.

تابعه عبد الواحد بن زياد فيما خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" من طريق عبد الواحد, حدثنا معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال: قال علي: غسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً, وكان طيباً صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً.

 

#517#

ورواه أيضاً من طريق ابن المبارك وعبد الأعلى, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال: التمس علي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم ما يلتمس من الميت فلم يجده فقال: بأبي أنت, طبت حياً وميتاً.

وهو في "المراسيل" لأبي داود من طريق ابن المبارك كذلك.

وحدث به ابن ماجه, عن يحيى بن خدام, عن صفوان بن عيسى, عن معمر بنحوه.

وروى يونس بن بكير, عن المنذر بن ثعلبة, عن العلباء بن أحمر قال: كان علي والفضل بن عباس يغسلان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي علي: ارفع طرفك إلى السماء.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يحيى بن يمان, عن الحسن بن صالح, عن جعفر بن محمد: كان الماء يستنقع في حقوي النبي صلى الله عليه وسلم, فكان علي رضي الله عنه يحسوه.

 

#518#

$[ما روي في غسل النبي صلى الله عليه وسلم من بئر غرس]$

وخرج البيهقي في كتابه "السنن" و"دلائل النبوة" وهذا لفظه في "الدلائل" من حديث أسيد بن عاصم, حدثنا الحسين بن حفص, عن سفيان, عن عبد الملك بين جريج سمعت محمد بن علي – أبا جعفر – قال: غسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً بالسدر, وغسل وعليه قميص, وغسل من بئر يقال لها: الغرس, بقباء, كانت لسعد بن خيثمة, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب منها, وولي سفلته علي, والفضل محتضنه, والعباس يصب الماء, فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئاً يترطل علي.

وحدث به مختصراً ابن سعد, عن الواقدي, حدثني الثوري, عن ابن جريج, عن أبي جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له من بئر غرس ومنها غسل.

وقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا عاصم بن عبد الله الحكمي, عن عمر بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم البئر بئر غرس, هي من

 

#519#

عيون الجنة, وماؤها أطيب المياه», وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له منها, وغسل من بئر غرس.

وقد جاءت الرواية بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أن يغسل من ماء هذه البئر.

حدث أبو عبد الله ابن ماجه في "سننه": عن عباد بن يعقوب, عن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي, عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر, عن أبيه, عن علي رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس», وكانت بقباء, كانت لسعد بن خيثمة, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب منها.

وهذا إسناد جيد, وعباد وإن كان شيعياً جلداً, فقد أخرج له البخاري مقروناً, ووثقه أبو حاتم, وشيخه مشاه ابن عدي, وإسماعيل وثقوه.

وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر, أخبرني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة, عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئر غرس من عيون الجنة».

 

#520#

وقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني سعيد بن أبي زيد (عن ابن أبي زيد), عمن سمع نافعاً, يخبر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس على شفير بئر غرس: «رأيت الليلة أني جالس على عين من عيون الجنة» يعني: هذه البئر.

وقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا سعيد بن محمد, عن سعيد بن رقيش قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء, فانتهى إلى بئر غرس, وإنه يستقي منها على حمار, ثم نقوم عامة النهار ما نجد فيها ماء, فمضمض رسول الله صلى ملله عليه وسل  في الدلو ورده فيها فجاشت بالرواء.

وهذه البئر ذكرها الحافظ أبو عبد الله الذهبي في كتابه "مشتبه الأسماء والأنساب" فقال: وبالضم, بئر غرس بالمدينة ذكره لي ابن المطري, انتهى قول الذهبي.

قال أبو جعفر بن الكويك: لقيت ابن المطري وأخبرته به, فقال إنه رجع عن قوله, وإنه بالفتح. انتهى.

وبالفتح قيده أبو عبيد البكري في كتابه "المعجم" فقال: بئر غرس, بفتح أوله وإسكان ثانيه وسين مهملة: بئر معروفة بالمدينة لسعد بن خيثمة, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها في حياته, وبمائها غسل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

 

#521#

تابع البكري في تقييدها كذلك ياقوت في "معجمه" انتهى.

وهذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل شرقي مسجد قباء إلى جهة الشمال, وهي بين النخيل وتعرف ناحيتها بها, وكانت قد خربت فجددت بعد السبعمائة, وماؤها غزير, وعرضها فيما ذكره الإمام محمد بن أحمد المطري عشرة أذرع, وطولها يزيد على ذلك.

وقال الحافظ محمد بن محمود (بن) النجار في كتابه "الدرة الثمينة في أخبار المدينة": ذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافه منها ذراعان ماؤها، وعرضها عشرة أذرع, والله أعلم.

(و) قال ابن حبان في كتابه "الثقات": حدثنا عمر بن محمد الهمداني, حدثنا أحمد بن المقدام العجلي, حدثنا الفضيل بن سليمان, عن عبد الله بن رقيش قال: رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه أتى قباء, ثم قال: ائتوني بماء من بئر غرس؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

#522#

يشرب منها ويتوضأ, فأتي بماء فصب على يديه, ثم أدخلها في إزاره فأمسه ذكره, ثم توضأ ومسح على خفيه.

ويروى أنه لما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جففوه, ثم جعلوا في مواضع سجوده كافوراً.

وخرج البيهقي في "السنن الكبرى" من حديث الحسن بن صالح, عن هارون بن سعد, عن أبي وائل قال: كان عند علي رضي الله عنه مسك فأوصى أن يحنط به, قال: وقال علي رضي الله عنه: هو فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رواه إبراهيم بن موسى, عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي, عن حسن بن صالح (به.

ورواه محمد بن إسحاق بن خزيمة, عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي, عن حميد الرؤاسي, عن حسن بن صالح), عن هارون بن سعد قال: كان عند علي رضي الله عنه مسك فأوصى أن يحنط به .... وذكره, فلم يذكر أبا وائل.

وهذا يدل على أنه كان في حنوطه صلى الله عليه وسلم مسك.

 

#523#

$[ما روي في تكفينه صلى الله عليه وسلم]$

وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية, ليس فيها قميص ولا عمامة, أدرج فيها إدرجاً قالته عائشة رضي الله عنها.

و"سحولية": من سحول بلدة باليمن.

وإدراجه صلى الله عليه وسلم في الأثواب كان بعد أن نزع قميصه الذي غسل فيه على الصحيح.

وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما فيما خرجه ابن ماجه في "سننه" قال: كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث رياط بيض سحولية.

"الريطة": الملاءة إذا كانت قطعة واحدة لا تكون لفقين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مسكين بن بكير, عن سعيد – يعني: ابن عبد العزيز – قال: قال مكحول: حدثني عروة, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاث رياط يمانية.

وخرج أحمد في "مسنده" أيضاً من حديث الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثوبين أبيضين وبرد أحمر.

 

#524#

وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" ولفظه: في ثوبين أبيضين وبرد حبرة.

وخرجه من طريق أخرى من حديث يزيد بن أبي زياد, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية: الحلة وقميصه الذي مات فيه.

وخرجه أبو داود في "سننه" من طريق يزيد بن أبي زياد, وهو منكر الحديث, قاله البخاري وضعفه غيره.

ولو كفن النبي صلىوسلم عليه       في قميصه الذي توفي فيه لأفسد؛ لأنه لم يجرد عنه على المشهور حين غسل, ففيه غسل ونزع عنه حين كفن, والله أعلم.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: لما غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جففوه, ثم صنع به ما يصنع بالميت, ثم أدرج في ثلاثة أثواب: ثوبين أبيضين وبرد حبرة.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب, حدثنا الحسين بن زيد بن علي, عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب, عن أبيه, عن جده, عن علي رضي الله عنه قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: ثوبين سحوليين وبرد حبرة.

 

#525#

قال يعقوب بن شيبة: وليس حديث الحسين بن زيد بالقوي, كان يحيى بن معين يضعفه. انتهى.

وثبت من حديث هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية, ليس فيها قميص ولا عمامة, قال: فقيل لعائشة: إنهم يزعمون أنه قد كان كفن في برد حبرة قالت عائشة: قد جاءوا ببرد حبرة ولم يكفنوه.

وفي رواية قالت: فأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها, إنما اشتريت ليكفن فيها فتركت الحلة أخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها لنفسي لأكفن فيها, ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم لكفنه فيها, فباعها وتصدق بثمنها.

وفي لفظ: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بردي حبرة كانا لعبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما فلف فيهما, ثم نزعا عنه, فكان عبد الله بن أبي بكر قد أمسك تلك الحلة لنفسه؛ حتى يكفن فيها إذا مات, ثم قال بعد أن أمسكها: ما كنت لأمسك لنفسي شيئاً منع الله منه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكفن فيه, فتصدق بثمنه عبد الله.

 

#526#

خرجه البيهقي في "السنن الكبرى" بنحوه, وقال: وفيه دلالة على أن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما إنما أمسكهما لنفسه؛ لأنهما كانا له.

وخرجه أيضاً في كتابه "دلائل النبوة" وقال في آخره: فهذا يدل على أن الحلة كانت لعبد الله. ثم خرج أيضاً في الكتابين عن عائشة رضي الله عنها قالت: أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمانية كانت لعبد الله بن أبي بكر, ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب .... الحديث.

وخرج أبو داود في "السنن" من حديث الزهري, عن القاسم بن محمد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب حبرة, ثم أخر عنه.

وخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق الزهري وزاد في آخره قال: قال القاسم: إن بقايا ذلك الثوب عندنا.

قال البيهقي عقب هذا: فالذي باع عبد الله بن أبي بكر وتصدق بثمنه هو الحلة, والحلة عندهم ثوبان, والذي قال القاسم: إن بقاياه عندنا. هو الثوب الثالث الذي زعموا أنه صلى الله عليه وسلم كفن فيهما, وفيه: فبينت عائشة رضي الله عنها بياناً شافياً أنه أتي بالثوبين اللذين كانوا يسمونها حلة وببرد حبرة, فلم يكفن فيها وكفن في ثلاثة أثواب بيض كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة, والله أعلم.

 

#527#

وخرج البيهقي أيضاً في "الدلائل" عن الشعبي قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية برود يمنية غلاظ إزار ورداء ولفاقة.

ومن الغرائب ما قال يعقوب بن شيبة في "مسنده": حدثنا عفان بن مسلم والحجاج بن منهال والحسن بن موسى الأشيب, قالوا: حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل, عن محمد بن الحنفية, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في سبعة أثواب.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عفان والأشيب.

تابعهما أبو حسان – الحسن بن عثمان – فرواه عن الحسن الأشيب به.

وقال أبو حسان: أخبرني المعافى بن عمران, عن عبد الله بن مسلم قال: لما قدم القاسم – يعني: ابن محمد – مكة قالوا له: يا أبا محمد, فيم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين.

 

#528#

قال أبو عبد الله البخاري: أصح شيء في هذا الباب أنه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – كفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض.

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء": أخبرنا علي بن الجعد, أخبرنا أبو يوسف, عن يزيد بن أبي زياد, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم تضوع منه ريح لم يوجد مثلها طيباً, فجعل بعضهم يقول: بأبي وأمي طبت حياً وميتاً.

وجاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما فرغ من غسل النبي صلى الله عليه وسلم وأدرجه في أكفانه كشف الإزار عن وجهه صلى الله عليه وسلم ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً, انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والأنبياء, خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك, وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء, ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك الشئون، بأبي أنت وأمي، اذكرنا عند ربك واجعلنا ممن همك, ثم نظر إلى قذاة في عينه صلى الله عليه وسلم فلقطها بلسانه, ثم رد الإزار على وجهه صلى الله عليه وسلم.

 

#529#

$[ما روي في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم]$

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء, أخبرنا عوف, عن الحسن قال: غسلوه صلى الله عليه وسلم وكفنوه وحنطوه, ثم وضع على سرير, فدخل عليه المسلمون أفواجاً يقومون يصلون عليه ثم يخرجون, ويدخل آخرون حتى صلوا عليه كلهم.

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق قال: ولما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته, ثم دخل الناس عليه يصلون عليه أرسالاً الرجال حتى (إذا) فرغوا, أدخل النساء حتى إذا فرغن, أدخل الصبيان, ثم العبيد, ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.

وخرجه البيهقي في كتابه "السنن الكبرى" من طريق ابن إسحاق بسند له, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالاً حتى فرغوا, ثم أدخل النساء يصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالاً لم يؤمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.

 

#530#

وقد قيل: أول من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس رضي الله عنه ثم بنو هاشم, ثم المهاجرون, ثم الأنصار, ثم سائر الناس, ثم الصبيان, ثم النساء.

وروي عن جعفر بن محمد قال: صلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إمام, يدخل المؤمنون زمراً فيصلون عليه ويخرجون, فلما صلي عليه صلى الله عليه وسلم نادى عمر رضي الله عنه: خلوا الجنازة وأهلها.

وخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق الواقدي: حدثني أبي بن عباس بن سهل بن سعد, عن أبيه, عن جده رضي الله عنه قال: لما أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكفانه وضع على سريره, ثم وضع على شفير قبره, ثم كان الناس يدخلون عليه رفقاً رفقاً, لا يؤمهم أحد.

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء": حدثني محمد بن صالح القرشي, قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني ابن أبي سبرة, عن عباس بن عبد الله بن معبد, عن أبيه, عن ابن عباس قال: أول من صلى عليه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – العباس بن عبد المطلب وبنو هاشم, ثم خرجوا, ثم دخل المهاجرون والأنصار, ثم الناس رفقاً رفقا, فلما انقضى الناس دخل عليه الصبيان صفوفاً, ثم النساء.

وروي أن ابن الماجشون لما سئل: كم صلي على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة؟

 

#531#

قال: اثنان وسبعون صلاة كحمزة رضي الله عنه فقيل: من أين لك هذا؟ فقال: من الصندوق الذي تركه مالك بخطه, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما حكاه مغلطاي فيما أنبئونا عنه.

وروى محمد بن سعد, أخبرنا محمد بن عمر, حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: وجدت هذا في صحيفة بخط أبي فيها: لما كفن رسول الله صلى الله عليهوسلمم وضع على سريره دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم قدر ما يسع البيت, فسلموا كما سلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وصفوا صفوفاً لا يؤمهم عليه أحد, فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه ونصح لأمته, وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله الله دينه وتمت كلماته, وأومن به وحده لا شريك له, فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه, وأجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا وتعرفه بنا, فإنه كان يالمؤمنين رءوفاً رحيماً, لا نبتغي بالإيمان بدلاً, ولا نشتري به ثمناً أبداً, فيقول الناس: آمين آمين, ثم يخرجون, ثم يدخل آخرون حتى صلى عليه الرجال, ثم النساء, ثم الصبيان.

وحدث به ابن أبي الدنيا في كتاب "العزاء": عن محمد بن صالح, حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني موسى بن محمد ... فذكره.

 

#532#

قيل: في صلاتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إمام أنه كان آخر العهد, فأراد كل واحد منهم أن يأخذ البركة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مختصاً بها دون أن يكون فيها تابعاً لغيره.

وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك فيما خرجه البزار في "مسنده" والحاكم في "مستدركه" لكن سنده ضعيف, ذكره الحافظ أبو محمد الدمياطي فيما أنبؤونا عنه.

وخرج البيهقي في "السنن الكبرى" عن الشافعي – رحمة الله عليه – أنه قال عن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بغير إمام قال: وذلك لعظم أمر رسول الله صلىالله عليه وسلم  بأبي هو وأمي وتنافسهم على أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد.

هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور, أنهم صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة المعهودة أفراداً.

 

#533#

وقيل: أمهم أبو بكر الصديق رضي الله عنهم.

وقيل: صلوا عليه بصلاة جبريل عليه السلام وكبروا بتكبيره.

وقالت طائفة – مع اتفاقهم على غسل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه: لم يصل عليه أحد أصلاً, وإنما كان الناس يدخلون أرسالاً يدعون وينصرفون, وشبهتهم في ذلك ما قدمناه من طريق الواقدي: لما كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع على سريره دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت, فسلموا كما سلم أبو بكر وعمر وصفوا صفوفاً لا يؤمهم عليه أحد, فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه قد بلغ (الأثر) – (يعني إلى آخره).

وهذه الطائفة القائلون بهذا اختلفوا في علة ترك الصلاة عليه, فقيل: لفضيلته فهو غني عنها, وينخرم عليهم هذا بغسله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: لم يصلوا عليه؛ لأنه لم يكن هناك إمام, وهذا غلط ظاهر, فإن إمامة الفرائض لم تعطل؛ ولأن بيعة أبي بكر كانت قبل جهاز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه, وكان أبو بكر إمام الناس كما تقدم.

والصحيح القول الأول: أنهم صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أرسالاً حسبما جاءت به الروايات التي قدمناها.

وقال مكحول: ثم توفي – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – فمكث ثلاثة أيام لا يدفن, يدخل عليه الناس أرسالاً (أرسالاً) يصلون عليه وطهره ابن

 

#534#

عمه الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب, وكان العباس يناولهم الماء, وكفن في ثلاثة رياط بيض يمانية, فلما كفن وطهر دخل الناس عليه في تلك الأيام الثلاثة, صلوا عليه عصباً عصباً, تدخل العصبة تصلي وتسلم, لا يصفون ولا يصلي بين أيديهم مصل حتى فرغ من يريد ذلك, ثم دفن.

حدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن عبد الحميد بن بكار السلمي من أهل بيروت, أخبرني محمد بن شعيب, أخبرني النعمان, عن مكحول .. فذكره.

 

#535#

$[موضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم]$

ولما فرغوا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا في موضع قبره كما تقدم:

فحدث ابن سعد في "الطبقات" عن عبد الوهاب بن عطاء, أخبرنا (عوف), عن الحسن قال: ائتمروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه في حجري إذ قال: «قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فاجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة.

وحدث الواقدي عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي اختلفوا في دفنه فقيل: بالبقيع, وكان يكثر الاستغفار لهم, وقيل: عند منبره, وقيل: في مصلاه, فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال: إن عندي من هذا خبراً وعلماً, سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي».

وروي هذا الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً من غير وجه, ومن ذلك ما خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" قال: فحدثناه أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا (أبي, عن محمد) بن إسحاق, حدثني

 

#536#

حسين بن عبد الله, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن أبي بكر رضي الله عنهم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض».

وفي بعض طرقه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه, فقال قوم: ندفنه في مسجده, وقائل: مع أصحابه, فقال أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض».

(و) قال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرني ابن جريج, أخبرني أبي: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يدروا أين يقبرون النبي صلى الله عليه وسلم, حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يقبر نبي إلا حيث يموت» فأخروا فراشه, وحفروا له تحت فراشه.

وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده": عن مسدد, حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا ابن جريج, عن أبيه: أنهم شكوا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم, فقال أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يحول عن مكانه, يدفن حيث يموت» فحول فراشه فحفروا له في موضع فراشه صلى الله عليه وسلم.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" عن عيسى بن يونس.

 

#537#

وقال الترمذي: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو معاوية, عن عبد الرحمن بن أبي بكر, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قبض رسول الله صلى اللهعليه وسلم  اختلفوا في دفنه, فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته قال: «ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه» فدفنوه في موضع فراشه صلى الله عليهسلمبك.

وقال الترمذي: هذا حديث غريب, وضعف عبد الرحمن بن أبي بكر من قبل حفظه.

وقال يعقوب بن شيبة في "المسند": وروى هشام بن عروة حديثاً هو أحسنها وأشبهها بالصواب ولم يجاوز أبا بكر وقال: فحدثناه أبو الوليد هشام عن حماد بن سلمة, حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أين ندفنه؟ فقال أبو بكر: في المكان الذي مات فيه, قالت: وكان بالمدينة قباران أحدهما يلحد, والآخر يشق, فأرسل إليهما, فجاء الذي يلحد, فألحد للنبي صلى الله عليه وسلم.

ومن طرقه الموقوفة ما قال مسدد: حدثنا عبد الله بن داود, حدثنا سلمة بن نبيط, عن نعيم بن أبي هند, عن نبيط بن شريط, عن سالم بن عبيد, فذكر حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم مطولاً وفيه: قالوا: يا سالم بن عبيد, اذهب إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني: أبا بكر – قالوا: يا صاحب

 

#538#

رسول الله صلى الله عليه وسلم أندفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, قالوا: وأين يدفن؟ قال: حيث قبض, فإن الله تعالى لم يقبضه إلا في بقعة طيبة, فعلموا أنه كما قال.

وجاء عن الزهري مرسلاً موقوفاً.

قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا محمد بن فليح, حدثنا موسى بن عقبة, عن ابن شهاب قال: اختلفوا في موضع القبر, فقالوا: ما ترى يا أبا بكر؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: نرى أن لا نؤخره من المكان الذي توفاه الله عز وجل فيه, فارفعوا هذا المثال – يعني: الفراش – فلم يراجعه منهم أحد, حين أشار بذلك, ورأوا أنه قد أصاب بما قال, قال: وكان موفقاً, ورضوا بما قال.

ويروى من قول علي رضي الله عنه فيما قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن صدقة بن سعيد, عن جميع بن عمير: أن أمه وخالته دخلتا على عائشة رضي الله عنها فقالتا: يا أم المؤمنين أخبرينا عن علي بن أبي طالب, فقالت: أي شيء تسألن؟! عن رجل وضع يده من رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعاً, فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه, واختلفوا في دفنه فقال: إن أحب البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيه صلى الله عليه وسلم ... الحديث.

وفي غير هذه الرواية, فقال علي رضي الله عنه: ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

#539#

والأكثر على أنه عن عائشة, عن أبي بكر, كما خرجه الترمذي, وذكرناه آنفاً.

وخرجه القاضي أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي في "مسند أبي بكر" الذي جمعه, فحدث به عن أبي كريب شيخ الترمذي, عن أبي معاوية.

وحدث به القاضي أبو بكر في "المسند" أيضاً عن سعيد بن يحيى الأموي قال: حدثنا أبي, عن محمد بن إسحاق, عمن حدثه, عن عروة ابن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما دفن النبي صلى وسلم عل        في مضجعه: أن أبا بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه لم يدفن نبي قط إلا حيث قبض» فلذلك دفنوه صلى الله عليه وسلم حيث قبض.

وقال أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص: حدثنا عبد الله – يعني: البغوي – حدثنا عبد الله بن عون الخراز – وكان من الأبدال – حدثنا عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها

 

#540#

قالت: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أين يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم يجدوا عند أحد من ذلك علماً, فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي يقبض إلا يدفن تحت مضجعه الذي مات فيه».

وقال أسد بن موسى: حدثنا عبد الرحمن بن زياد, عن خالد بن حميد, عن عمر مولى غفرة قال: لما ائتمروا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قائل: ندفنه حيث كان يصلي في مقامه, فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: معاذ الله أن نجعله وثنا يعبد, وقال آخر: ندفنه في البقيع حيث يدفن إخوانه من المهاجرين, فقال أبو بكر: إنا لنكره أن يخرج قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع؛ فيعوذ به عائذ من الناس لله عليه حق, وحق الله فوق حق رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أجرناه ضيعنا حق الله, وإن أخفرناه أخفرنا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا له: فما ترى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه» قالوا: فأنت والله رضي مقنع, ثم خطوا حول الفراش خطاً, ثم احتمله علي والعباس والفضل وأهله, ووقع القوم في الحفر, يحفرون حيث كان الفراش.

وحدث سيف بن عمر في كتابه "الفتوح" عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقصى البيت

 

#541#

مما يلي الحائط في وسط مما بين الحائطين, وكان فراشه قدام سريره ملزقاً بالسرير في وسط مما بين الحائطين, وكان فضل البيت – من عند رأس السرير والفراش, ومن عند رجل السرير والفراش – يسيراً, لا يكون فضله ما بينهما ذراعين, يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً.

 

#542#

$[ما روي في دفن النبي صلى الله عليه وسلم]$

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثني أبي, عن ابن إسحاق, وحدثني حسين بن عبد الله, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة, وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة, وكان يلحد, فدعا العباس رضي الله عنه رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيده, وللآخر: اذهب إلى أبي طلحة, اللهم خر لرسولك صلى الله عليه وسلم, قال: فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه جرير بن حازم, عن ابن إسحاق, ومن طريقه خرجه ابن ماجه في "سننه" وخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (و) "دلائل النبوة" بنحوه.

وحدث به الواقدي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة, عن داود بن الحصين, عن عكرمة.

 

#543#

وحدث إسماعيل بن عياش, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, حدثني ابن حزم, عن عمرة بنت عبد الرحمن, عن أمهات المؤمنين: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف نبني قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم نجعله مسجداً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالوا: فكيف نحفر له؟ قال أبو بكر الصديق: إن من أهل المدينة رجلاً يلحد, ومن أهل مكة رجلاً يشق, اللهم فأطلع علينا أحبهما إليك أن يعمل لنبيك, فأطلع أبا طلحة وكان يلحد, فأمروه أن يلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم دفن ونصب عليه اللبن.

وروي عن أنس رضي الله عنه قال: لحد النبي صلى الله عليه وسلم لحداً.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد له لحد.

وخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث زياد بن خيثمة, حدثني إسماعيل السدي, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس وعلي والفضل, وسوى لحده رجل من الأنصار, وهو

 

#544#

الذي سوى لحود الشهداء يوم بدر.

وقال أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه": حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا معمر, عن الزهري, عن سعيد المسيب قال: ولي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكفانه أربعة دون الناس: العباس وعلي والفضل وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحدوا له ونصبوا عليه اللبن.

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا علي, أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: انزل, فنزل مع القوم.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من طريق يونس بن بكير, عن ابن إسحاق, عن حسين بن عبد الله, عن عكرمة, عن ابن عباس من قوله.

 

#545#

وقال أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه": حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, حدثني أبو مرحب أو ابن أبي مرحب قال: كأني أنظر إليهم أربعة: أحدهم عبد الرحمن بن عوف يعني: في قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

تابعه محمد بن سعد, عن الفضل بن دكين.

(و) تابعه أبو عاصم الضحاك.

وهو في "سنن أبي داود" من حديث الثوري وزهير, عن إسماعيل بنحوه.

ورواه أحمد بن محمد بن أيوب صاحب "المغازي" عن إبراهيم بن سعد, عن سفيان الثوري به وزاد في آخره: وقد كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يدعي أنه أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أخذت خاتمي فألقيته في القبر وقلت: إن خاتمي سقط مني, وإنما طرحته عمداً لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأكون آخر الناس به عهداً.

 

#546#

ففي هذا أنزل أيضاً في قبر النبي صلى الله عليه وسلم) المغيرة بن شعبة.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فلما أرادوا أن يقبروه صلى الله عليه وسلم نحوا السرير من قبل رجليه فأدخل من هناك.

وخرجه الشافعي في "الأم" عن الثقة, عن عمر بن (عطاء, عن) عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه.

ورواه أيضاً عن مسلم بن خالد وغيره, عن ابن جريج, عن عمران بن موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه.

وقال دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": حدثنا موسى بن هارون, حدثنا داود بن رشيد, حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم الحاطبي, حدثني أبي وعمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر عليه أربعاً وأدخل القبر من قبل القبلة.

قال موسى: هكذا حدثنا به داود مرسلاً.

 

#547#

وخرج البيهقي في "السنن الكبرى" من حديث أبي بردة, حدثنا علقمة بن مرثد, عن ابن بريدة, عن أبيه قال: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم من قبل القبلة وألحد له لحد ونصب عليه اللبن نصباً.

قال البيهقي: وأبو بردة هذا هو عمرو بن يزيد التميمي الكوفي وهو ضعيف في الحديث, ضعفه يحيى بن معين وغيره. انتهى.

وتقدم له حديث قبل.

وقال ابن سعد: أخبرنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان الثوري, عن الحجاج بن أرطاه, عن رجل, عن إبراهيم قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من قبل القبلة.

المبهم هو حماد بن أبي سليمان, والله أعلم, وهو يروي عن إبراهيم بن يزيد النخعي لا عن التيمي.

وقبل أن يوضع النبي صلى الله عليه وسلم في لحده فرش له قطيفة نجرانية حمراء كان يتغطى فيها.

وقال ابن سعد: أخبرنا وكيع بن الجراح والفضل بن دكين وهاشم بن القاسم الكناني قالوا: حدثنا شعبة, عن أبي جمرة: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء.

قال وكيع: هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

 

#548#

تابعه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن أبي نعيم الفضل بن دكين وحده.

وهو في "صحيح مسلم" لوكيع عن شعبة بنحوه.

وروى أبو داود في "المراسيل": عن زياد بن أيوب, عن هشيم, عن منصور, عن الحسن قال: جعل في لحد النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء أصابها يوم خيبر, لأن المدينة أرض سبخة.

وقال ابن سعد: أخبرنا عارم بن الفضل وخالد بن خداش, قالا: حدثنا حماد بن زيد, عن يزيد بن حازم, عن سليمان بن يسار: أن غلاماً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما دفن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قطيفة كان يلبسها النبي صلى الله عليه وسلم على ناحية القبر, فألقاها في القبر, وقال: لا يلبسها أحد بعدك أبداً, فتركت.

هذا الغلام هو شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرج الترمذي من حديث عثمان بن فرقد: سمعت جعفر بن محمد, عن أبيه قال: الذي ألحد قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طلحة, والذي ألقى القطيفة (تحته شقران.

قال جعفر: وأخبرني ابن أبي رافع سمعت شقران يقول: أنا والله طرحت القطيفة) تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر.

 

#549#

ابن أبي رافع هذا هو عبيد الله.

قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النرسي, حدثنا زيد بن أخزم, حدثنا (عثمان) بن أبي عثمان الغطفاني, سمعت جعفر بن محمد, يحدث عن أبيه, أخبرني عبيد الله بن أبي رافع، سمعت شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر ابن إسحاق, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته أخذ قطيفة قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها فقذفها معه في القبر, وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك قال: فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال البيهقي حين خرج هذا الحديث في "سننه الكبرى" من طريق ابن إسحاق: ففي هذه الرواية إن كانت ثابتة, دلالة أنهم لم يفرشوها في القبر استعمالاً للسنة في ذلك. انتهى.

وروى الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" من مراسيل الحسن, قال

 

#550#

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افرشوا لي قطيفتي في لحدي, فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء».

ومن الغرائب ما حدث به سيف بن عمر في كتابه "الفتوح" عن جابر بن يزيد, عن محمد بن علي قال: فرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة, ومفرشه, وشعاره, وكل ثوب كان يلبسه نائماً, ففرشت على مفرشه في القبر, ثم وضع عليها وهو في أكفانه ثوبين, وأعقدوا بالقميص الذي غسل فيه, فمن قال: كفن في ثوبين فقد قال, ومن قال: في ثلاثة, فقد صدق, واستقبل استقبالاً.

وحدث أيضاً عن محمد بن إسحاق, عن أبي جعفر: لم يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبداً ولا لبداً إلا دفن معه.

وحدث أيضاً بنحوه عن محمد بن عبيد الله, عن أبي جعفر, قال: فرش (في) لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفرش النبي صلى الله عليه وسلم وقطيفته, وفرشت ثيابه عليها التي كان يلبس يقظاناً على القطيفة والمفرش ثم وضع عليها في أكفانه, وإنما بقي ما بقي في أيدي نسائه من متاعه.

وذكر أبو عمر بن عبد البر: أن القطيفة أخرجت لما فرغوا من وضع اللبنات التسع.

قال البيهقي: وبلغني أنه بني عليه صلى الله عليه وسلم في لحده اللبن.

 

#551#

ويقال: هي تسع لبنات عدداً.

وحدث محمد بن عباد المكي, عن عبد العزيز الدراوردي, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ونصب عليه اللبن نصباً.

وخرج أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" من حديث جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحد ونصب عليه اللبن نصباً, ورفع قبره نحواً من شبر.

وجاء عن يحيى بن سعيد – هو الأنصاري – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وقبر يحفر بالمدينة, فاطلع رجل في القبر فقال: بئس مضجع المؤمن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ما قلت» قال الرجل: إني لم أرد هذا, إنما أردت القتل في سبيل الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا مثل القتل في سبيل الله, ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري بها مثلها», ثلاثاً.

علقه رزين في كتابه "الصحاح".

 

#552#

وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي الحافظ: حدثنا أبو الوليد, حدثنا أبو عوانة, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن أبي المعلى, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(قال أبو حاتم: وحدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن عبد الملك بن عمير, عن بعض بني أبي المعلى, عن أبيه – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو عند قبره: «إن قدمي على ترعة من ترع الجنة».

لقظ الحديث لأبي عوانة, وحديث عبيد الله أتم.

وخرج البيهقي في "الدلائل" عن سعيد بن المسيب قال: عرضت عائشة رضي الله عنها على أبيها رضي الله عنه رؤيا وكان أعبر الناس, فقالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجري فقال: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثة, فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في بيتها قال: يا عائشة, هذا خير أقمارك.

وخرجه أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم في كتابه "الفضائل" بنحوه, وزاد في آخره: ودفن في بيتها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وخرجه كذلك سعيد بن منصور في "سننه".

وخرجه ابن سعد في "الطبقات": عن يزيد بن هارون, عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب نحوه.

 

#553#

ورويناه من حديث إسحاق بن الحسن الحربي, حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد, عن أيوب, عن نافع – أو ابن سيرين – عن عائشة قالت: رأيت [فيما يرى] النائم: كأن ثلاثة أقمار وقعن في حجري, فأخبرت بها أبا بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر: خيراً رأيت .... وذكر الحديث بنحوه.

وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": وحدثنا أبو بكر المطرز أيضاً – يعني: القاسم بن زكريا – حدثنا إبراهيم بن حاتم, حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, عن أبي قلابة: أن عائشة رضي الله عنها رأت في المنام كأن قمراً جاء يهوي من السماء فوقع في حجرها, ثم قمر, ثم قمر, ثلاثة أقمار, فقصتها على أبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر: إن صدقت رؤياك دفن خير أهل الأرض في بيتك, أو قال: في حجرتك.

قال أيوب: فحدثني أبو يزيد المديني قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن, قال أبو بكر رضي الله عنه: يا عائشة, هذا خير أقمارك.

وخرج ابن سعد, عن هاشم بن القاسم, حدثنا المسعودي, عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة رضي الله عنها: رأيت في حجري ثلاثة أقمار, فأتيت أبا بكر فقال: ما أولتها؟

قلت: أولتها ولداً من رسول الله, فسكت أبو بكر حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم

 

#554#

فأتاها فقال لها: خير أقمارك ذهب به, ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما دفنوا جميعاً في بيتها.

وحدث أيضاً عن موسى بن داود, سمعت مالك بن أنس يقول: قسم بيت عائشة باثنين: قسم كان فيه القبر, وقسم كانت تكون فيه عائشة, وبينهما حائط, فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلاً, فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها.

وحدث أيضاَ عن سعيد بن سليمان, حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم, سمعت أبي يذكر قال: كانت عائشة تكشف قناعها حيث دفن أبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما دفن عمر رضي الله عنه تقنعت فلم تطرح القناع.

وقال الحاكم في "مستدركه": حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا الحسن بن علي بن عفان, حدثنا أبو أسامة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل (على) البيت الذي دفن معهما عمر – والله – ما دخلت إلا وأنا مشدود علي ثيابي حياء من عمر رضي الله عنه.

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

 

#555#

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا حماد بن أسامة – يعني: أبا أسامة ... فذكره.

وجاء عن عمرة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي في بيتي حتى دفن عمر رضي الله عنه, فلم أزل متحفظة في بيتي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً فتفضلت بعد.

وقد روي هذا بزيادة في أوله.

قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن, عن إسماعيل بن عبد الله, عن أبيه, عن عبد الله بن أبي بكر, عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلي الغرب, ورأس أبي بكر رضي الله عنه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم, وعمر خلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم, قالت عائشة رضي الله عنها: وما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي حتى دفن عمر رضي الله عنه فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً.

 

#556#

$[صفة القبور الثلاثة الشريفة]$

وحدث سيف بن عمر في "الفتوح" عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: لما فرغ من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أدخل القبر فتناولوه استقبالاً حتى وضعوه في قبره, ثم نصبوا اللبن, وحثوا وسنموا التراب, فلما دفن أبو بكر رضي الله عنه حفر له دونه إلى الباب فجعل رأسه حيال حقوي النبي صلى الله عليه وسلم ورجليه إلى جنب الحائط, وألحد له, ونصب له اللبن نصباً, فلما دفن عمر رضي الله عنه حفر له بحيال قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دون أبي بكر رضي الله عنه إلى الباب, فكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر عمر رضي الله عنه متحاذين, وكان قبر أبي بكر رضي الله عنه في وسط من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه وكان رأس أبي بكر رضي الله عنه بحيال حقوي النبي صلى الله عليه وسلم وسرة عمرة, ورجليه إلى جنب الحائط, قال: فما فضل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشك فيه أحد, وقطعته عائشة رضي الله عنها بحائط فكانت تدخل تلك الفضلة يوم الجمعة مجتمعة, قالت: كنت أدخل وفيه بعلي وأبي في غير حجاب وأما إذ أدخله عمر, فإنه لا يحل لي أن أدخله إلا محتجبة.

وقد روي في صفة القبور الشريفة غير هذا, فحدث أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي الهاشمي مولاهم المدني, عن محمد بن قيس قال: انهدم الحائط الذي على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت قبره مرتفعاً وقبر أبي بكر وقبر عمر رضي الله عنهما, فقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم في القبلة, وقبر أبي بكر رضي الله عنه وراءه من قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم, وقبر عمر

 

#557#

رضي الله عنه وراء قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل رجليه بحذاء قبر أبي بكر رضي الله عنه كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام وهما خلفه. وقد صور هذه الصفة بالخط أبو حسان الحسن بن عثمان الزيادي في "تاريخه" على هذه الصورة:

*صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:

*صفة قبر أبي بكر رضي الله عنه:

*صفة قبر عمر رضي الله عنه:

 

#558#

وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان, عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: رأس أبي بكر رضي الله عنه عند كتفي النبي صلى الله عليه وسلم, ورأس عمر رضي الله عنه (عند) حقوي أبي بكر – رضي الله عنه.

وصورها أبو حسان الزيادي أيضاً في "تاريخه" بالخط على الصورة المشهورة التي قال بها الجمهور, فقال: أخبرنا إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثني عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة (بن) الزبير, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما توفي أبو بكر رضي الله عنه دفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: ووصف لي عبد الله بن محمد, عن أبيه, عن هشام, القبور هكذا:

*صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:

*صفة قبر أبي بكر رضي الله عنه:

*صفة قبر عمر رضي الله عنه:

 

#559#

وحدث زكريا بن يحيى بن خلاد, عن الأصمعي, حدثنا سلمة بن بلال, عن مجالد, عن الشعبي: أن حساناً رضي الله عنه قال في النبي صلى ه وسلملي       وفي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:

(ثلاثة) برزوا بسبقهم ... نضرهم ربهم إذا نشروا

فليس من مؤمن له بصر ... ينكر من فضلهم إذا ذكروا

عاشوا بلا فرقة ثلاثتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا

خرجه أبو القاسم اللالكائي في كتابه "شرح السنة" للشعبي.

وقال أبو هارون موسى بن سهل الرازي: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, حدثنا سفيان الثوري, عن أبي إسحاق الشيباني, عن أبي الأحوص الجشمي, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا وفي سرته من تربته التي يولد منها, فإذا رد إلى أرذل عمره رد إلى تربته التي خلق منها, حتى يدفن فيها, وإني وأبو بكر

 

#560#

وعمر خلقنا من تربة واحدة, وفيها ندفن.

خرجه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد في متصل الأسانيد".

وحدث به في "تاريخه" فقال: أخبرناه أحمد بن محمد بن غالب, أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي, أخبرني محمد بن يوسف الهروي – قاضي دمشق – حدثني محمد بن عبد الرحمن البغدادي بمصر, حدثنا موسى بن سهل أبو هارون الرازي ... فذكره.

ثم قال: غريب من حديث الثوري, عن الشيباني, لا أعلمه يروى إلا من هذا الوجه. وقيل: إن محمد بن مهاجر المعروف بأخي حنيف رواه عن إسحاق الأزرق. انتهى.

وقال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله: حدثنا القاضي محمد بن إسحاق بن إبراهيم الأهوازي, حدثنا محمد بن نعيم, حدثنا أبو عاصم, حدثنا ابن عون, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته».

قال أبو عاصم: ما نجد لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فضيلة مثل هذه, لأن طينتهما طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#561#

وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": أخبرنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكشي, حدثنا سليمان بن داود الشاذكوني, حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي, أخبرني أنيس بن أبي يحيى, عن أبيه, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المدينة فمر بقبر فقال: «من هذا؟» قالوا: فلان الحبشي, فقال: «سبحان الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها».

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا عبد الله بن عيسى الخزاز, عن يحيى البكاء, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن حبشياً دفن بالمدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دفن بالطينة التي خلق منها».

وقال أبو الحسن محمد بن أحمد البراء العبدي في كتابه "الروضة الصغيرة": حدثني محمد بن هشام, حدثني عبد الله بن عبد الرحمن القرشي قال: كنت عند أبي أسامة يوماً فقال للمستملي: خذ إليك, حدثني الأحوص بن حكيم, عن راشد بن سعد وأبي الزاهرية, قالا:

 

#562#

سمعنا أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: مر بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نحتفر قبراً فقال: «ما تصنعون؟» قلنا: نحفر قبراً لهذا الأسود, قال: «جاءت به منيته إلى قبره».

(ثم) قال أبو أسامة: تدرون يا أهل الكوفة لم حدثتكم بهذا الحديث؛ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خلقاً من تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحيري في كتاب "الأحاديث الألف مما يستفاد ويعز وجودها": أخبرنا جدي أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن بحير بن نوح بن حيان بن مختار البحيري, حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي إملاء, حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر, حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه, عن أبي سعيد قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر فقال: «قبر من هذا؟» قالوا: قبر فلان الحبشي قال: «لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها».

وقال: أخبرنا جدي, سمعت محمد بن إسحاق الثقفي يقول: سمعت سوار بن عبد الله بن سوار العنبري قال: سمعت أبي لما حدثته بهذا الحديث قال: يا بني ما لأبي بكر ولا لعمرة رضي الله عنهما فضيلة أفضل منه أن

 

#563#

يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما خلقوا من تربة واحدة.

وأنبأنا أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن العز أحمد بن عبد الحميد المقدسي: أن أبا الفضل سليمان بن حمزة الحاكم أخبره سماعاً, أخبرنا عمر ابن حزم الدينوري كتابة, أخبرنا عبد الأول بن عيسى السجزي سماعاً, حدثنا أبو منصور عبد الوهاب بن أحمد الثقفي رحمه الله فيما قرأه علينا بهراة من كتابه, أخبرنا الشيخ الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عتبة ابن عبد الله بن أحمد بن بالويه, حدثنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم بن أيروين بإستراباذ, حدثنا أبو الحسن (علي بن الحسن) القومسي بجرجان, حدثنا محمد بن الفضل بن حاتم, حدثنا محمد بن الحسن الجوري, حدثنا أحمد بن الحسن بن أبان المصري, حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن عون, عن ابن سيرين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من آدمي إلا ومن تربته في سرته, فإذا دنا أجله قبضه الله عز وجل من التربة التي منها خلق

 

#564#

وفيها يدفن, وخلقت أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما من طينة واحدة, وندفن جميعاً في بقعة واحدة».

المصري واه روى عنه الطبراني.

والقبور الثلاثة بني عليها (جداران, فالجدار الأول بني عليها) فيما أعلم الجدار الذي جعلته عائشة بينها وبين القبور حاجزاً, وهو من شمالي القبور جعلته مستقيماً من جهة الغرب إلى الشرق, ثم بني عليها وعلى الجدار المذكور من جهة باب الحجرة الذي كان مستقبل الشام جداران منحرفان, التقى طرفاهما على الوسط, وهذا هو الحائز الداخل الذي بني خمسة جدران, فطول جداره القبلي خمسة عشر ذراعاً, وطول جداره الشرقي ثمانية أذرع, وهو الذي سقط عليهم في زمن الوليد بن عبد الملك وبدت له قدم عمر رضي الله عنه, وبناه عمر بن عبد العزيز, وطول الجدار الغربي كذلك, وطول كل من الجدارين الشماليين المنحرفين اثنا عشر ذراعاً, وبني خارج ذلك حائز آخر على هيئة الداخل, وهو الحائز الذي يراه الناس اليوم, فطول جداره القبلي سبعة عشر ذراعاً, وفيه المسمار الفضة المقابل لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أول الجدار من جهة الغرب إلى المسمار خمسة أذرع, وطول الجدار الشرقي اثنا عشر ذراعاً, وطول الجدار الغربي تسعة عشر ذراعاً, وطول كل من الجدارين الشماليين المنحرفين اثنا عشر ذراعاً,

 

#565#

وارتفاع جداري الحائز الخارج في السماء ثلاثة وعشرون ذراعاً, وقد أطبق عليها فيما حدثني أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الجبرتي الأصل المدني: سقف من خشب سمر بمسامير, فلم يبق وصول إلى القبور الشريفة بحال, وذلك لقصة أخبرني بها ونحن بين الحرمين الشريفين في الحجة الثانية.

 

#566#

$[هل القبر الشريف مسنم أو مسطح؟]$

وقد اختلف في القبر الشريف هل هو مسنم أو مسطح فروي الوصفان:

وفي "صحيح البخاري": عن أبي بكر بن عياش, عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً.

وروي عن إبراهيم النخعي, (قال) أخبرني من شاهد قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنها مسنمة وعليها أحجار بيض.

وخرج أبو بكر أحمد بن مروان المالكي في "المجالسة" من حديث القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه, اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكشفت لي عن ثلاثة أقبر ليست بالمشرفة ولا اللاطئة مبطوحة من بطحاء العرصة, فرأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً وأبو بكر الصديق رضي الله عنه رأسه عند منكب النبي صلى الله عليه وسلم, وعمر بن الخطاب, رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم.

 

#567#

وخرجه ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرني ابن أبي فديك, عن عمرو بن عثمان بن هانئ, عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه, اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه, فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة, ولا لاطئة, مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.

قال: فرأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مقدماً, وقبر أبي بكر رضي الله عنه عند رأسه, ورأس عمر, عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عمرو بن عثمان: فوصف لي القاسم قبورهم.

وقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني هشام بن سعد, عن عمرو بن عثمان سمعت القاسم بن محمد يقول: اطلعت وأنا صغير على القبور فرأيت عليها حصباء حمراء.

وخرج البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث العباس رضي الله عنه قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه, اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما, فكشفت لي عن ثلاثة قبور, لا مشرفة, ولا لاطئة, مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء – يعني: وضع عليها تراباً أحمر.

وخرج أيضاً في "السنن الكبرى" من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين, حدثنا الحسن بن صالح, عن أبي البراء قال: دخلت مع مصعب بن الزبير البيت الذي فيه قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت قبورهم مستطيلة.

 

#568#

قال البيهقي عقب روايته حديث العباس المذكور قبل: فدلت هذه الرواية على أن قبورهم مسطحة, فإنها – يعني: البطحاء – لا تثبت إلا على مسطح انتهى.

وقال الواقدي: حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أنه قال: جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطوحاً.

قال البيهقي يمكن أن يقال: إن أصل قبر النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسطحاً وسنم على البطحاء, فمن رواه مسطحاً أراد دون الحصباء, ومن رواه مسنماً أراد بالبطحاء.

هذا قوله في "الدلائل".

وقال في كتابه "السنن الكبرى": ومتى ما صحت رواية القاسم بن محمد: قبورهم مبطوحة ببطحاء العرصة, فذلك يدل على التسطيح, وصحت رؤية سفيان التمار قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً فكأنه غير ما كان عليه في القديم, فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبد الملك, وقيل: في زمن عمر بن عبد العزيز, ثم أصلح, وحديث القاسم بن محمد في هذا الباب أصح, وأرى أن يكون محفوظاُ إلا أن بعض أهل العلم من أصحابنا استحب التسنيم في هذا الزمان لكونه جائزاً بالإجماع وأن التسطيح صار شعاراً لأهل البدع, فلا يكون سبباً لإطالة الألسنة فيه, ورميه بما هو منزه عنه من مذاهب أهل البدع, وبالله التوفيق. انتهى.

 

#569#

وخرج أبو داود في "المراسيل" من حديث عيسى – هو ابن يونس – عن محمد بن مرة, عن حماد – وهو ابن أبي سليمان – عن (إبراهيم – هو) ابن يزيد النخعي – قال: جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم نبثاً ولم يسو تسوية.

"نبثاً": مأخوذ من النبيثة: وهي التراب يخرج من البئر.

 

#570#

$[آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم]$

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي, أخبرنا حماد بن سلمة, عن هشام بن عروة, عن عروة أنه قال: لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحده ألقى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه خاتمه في القبر ثم قال: خاتمي خاتمي, فقالوا: أدخل فخذه, قال: فدخل, ثم قال: أهيلوا علي التراب, فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه, فخرج, فلما سوي على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب قال: أخرجوا حتى أغلق الباب فإني أحدثكم عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: لعمري, لئن كنت أردتها لقد أصبتها.

وخرج يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث مجالد بن سعيد, عن عامر, عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت فيمن حفر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحدنا له لحداً, فلما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم طرحت الفأس, ثم قلت: الفأس, ثم نزلت فوضعت يدي على اللحد, قال: فكان يقول: أنا أقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

#571#

وخرجه أبو جعفر أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي في "مسنده" فقال: حدثنا هشيم, أخبرنا مجالد, عن الشعبي, عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه, كان يحدثنا هاهنا بالكوفة فقال: أنا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القبر, ودفن النبي صلى الله عليه وسلم ألقيت خاتمي, فقلت: يا أبا الحسن, خاتمي, قال: انزل فخذ خاتمك, فنزلت, فأخذت خاتمي, ووضعت يدي على اللبن ثم خرجت.

وحدث به ابن سعد, عن سريج بن النعمان, عن هشيم.

وقال أبو محمد دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": حدثنا موسى بن هارون, حدثنا شيبان بن فروخ, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا أبو عمران الجوني, عن أبي عسيب قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف نصلي عليه؟ قال: ادخلوا من هذا الباب أرسالاً أرسالاًً, ثم صلوا عليه, واخرجوا من الباب الآخر, قال: فلما وضعوه في

 

#572#

لحده قال المغيرة بن شعبة: قد بقي من قبل قدمه شيء لم يصلح, قالوا: فأدخل فأصلحه, قال: فدخل, فمس قدمه النبي صلى الله عليه وسلم قال: هيلوا التراب, فهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه, ثم خرج فقال: أنا أحدثكم عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه عفان والأسود بن عامر, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا أبو عمران الجوني, حدثنا أبو عسيم شهد ذاك قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف نصلي عليه, قال: ادخلوا أرسالاً أرسالاً ... وذكر, وهذا لفظ عفان.

قال الحاكم أبو أحمد: ولا يصح أن المغيرة نزل قبره صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقال أحمد بن محمد بن أيوب صاحب "المغازي": حدثنا إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق, فحدثني إسحاق بن يسار, عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل, عن مولاه عبد الله بن الحارث قال: اعتمرت مع علي بن أبي طالب في زمن عمر أو زمن عثمان, فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب فلما فرغ من عمرته رجع, فسكب له ماء فاغتسل, فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق, فقالوا:

 

#573#

يا أبا حسن, جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، قال: أظن المغيرة بن شعبة يخبركم أنه كان أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجل, عن ذلك جئناك نسألك, قال: أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس رضي الله عنهما.

ورواه يحيى بن معين فقال: حدثنا وهب بن جرير, حدثني أبي, سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبيه إسحاق بن يسار, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت مع عمي علي بن أبي طالب رضي الله عنه معتمراً في زمن عثمان رضي الله عنه, فلما قدم مكة نزل على أم هانئ بنت أبي طالب, فلما فرغ من طوافه وحلق دخل عليه رهط من أهل العراق فقالوا: إن المغيرة بن شعبة يحدث أنه كان آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب, آخر الناس عهداً برسول الله صلى عليه وسلم      قثم بن عباس رضي الله عنهما.

وقد قيل: إن آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وخرج البيهقي في "سننه الكبرى" و "الدلائل" وهذا لفظه من طريق الواقدي قال: وحدثنا عبد الله بن جعفر, عن ابن أبي عون, عن أبي عتيق, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشاً.

 

#574#

قال: وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح رضي الله عنه بقربة بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه, ثم ضرب بالماء إلى الجدار لم يقدر على أن يدور من الجدار.

وخرج أيضاً عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها قالت: نحن مجتمعون نبكي, لم ننم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا نسكن لرؤيته على السرير إذْ سمعنا صوت الكرازين في السحر, قالت أم سلمة: فصحنا وصاح أهل المسجد فارتجت المدينة صيحة واحدة, وأذن بلال بالفجر, فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى فانتحب فزادنا حزناً, وعاجل الناس الدخول إلى قبره فغلق دونهم, فيالها من مصيبة ما أصابنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم.

وروي عن عَمْرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء – تعني: لما أهالوا عليه التراب صلى الله عليه وسلم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق