9 مصاحف الكتاب الاسلامي/

الأربعاء، 24 مايو 2023

كتاب تسهيل الفرائض

تسهيل الفرائض

مقدمة 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليماً.

أما بعد: فإن الله فرض المواريث بحكمته وعلمه، وقسمها بين أهلها أحسن قسم وأعدله، بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة ورحمته الشاملة وعلمه الواسع، وبيَّن ذلك أتمّ بيان وأكمله، فجاءت آيات المواريث وأحاديثها شاملة لكل ما يمكن وقوعه من المواريث، لكن منها ما هو صريح ظاهر يشترك في فهمه كل أحد، ومنها ما يحتاج إلى تأمل وتدبر.

وكان أهل الجاهلية في جاهليتهم لا يورثون النساء، ولا الصغار من الذكور، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فأبطل الله هذا الحكم المبني على الجهل والظلم، وجعل الإناث يشاركن الذكور بحسب ما تقتضيه حاجتهن، فجعل للمرأة نصف ما للرجل من جنسها، ولم يحرمها كما فعل أهل الجاهلية، ولا سوّاها بالرجل كما فعله بعض المنحرفين عن مقتضى الفطرة والعقل، ثم قال: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ."النساء: من الآية11".

وقال في آية أخرى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} "النساء: من الآية12

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . "النساء:13" {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . "النساء:14" وقال في آية ثالثة: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ."النساء: من الآية176".

فبيَّن الله تعالى أنه فرض المواريث بحسب علمه وما تقتضيه حكمته، وأن ذلك فرض منه لازم لا يحل تجاوزه ولا النقص منه، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشى فيها على ما حدّه وفرضه، جنات تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وتوعد من خالفه وتعدى حدوده، بأن يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين.

كما امتنّ بفضله علينا بالبيان التام حتى لا نضل ولا نهلك، فلله الحمد رب العالمين.

واعلم أنك إذا جمعت قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" 1، إلى آيات المواريث؛ وجدتها قد استوعبت عامة أحكام المواريث ومهماته، وها أنا أشرح ذلك بحول الله، فأقول وبالله أقول:

__________

1 رواه البخاري "6732" كتاب الفرائض، 5- باب ميراث الولد من أبيه وأمه

آيات المواريث التي ذكرها الله نصاً في المواريث ثلاث:

الآية الأولى: في إرث الأصول والفروع.

الآية الثانية: في إرث الزوجين وأولاد الأم.

الآية الثالثة: في إرث الإخوة لغير أم.

فالآية الأولى: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ."النساء: من الآية11"؛ بيّن الله فيها أن الأولاد وهم الفروع ثلاثة أقسام: ذكور خلّص، وإناث خلّص، ومختلط من الجنسين.

فالذكور الخلّص لم يقدِّر لهم ميراثاً فدل، على أنهم عصبة يرثون بالسوية.

والإناث الخلّص قَدَّر ميراثهن للواحدة النصف، ولمن فوق الثنتين الثلثان، وقد دل الحديث ومفهوم قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف} ."النساء: من الآية11"على أن للثنتين الثلثين.

والمختلط من الجنسين لم يقدر لهم ميراثاً، فدل على أنهم عصبة ولكن للذكر مثل حظ الأنثيين.

أما الأصول؛ فابتدأ الله بيان إرثهم بقوله: {وَلِأَبَوَيْه} "النساء: من الآية11"إلى آخره فذكر لهم حالتين:

إحداهما: أن يكون للميت أحد من الأولاد الذكور أو الإناث.

الثانية: أن لا يكون للميت أحد من الأولاد.

ففي الحال الأولى: ميراث كل واحد من الأبوين السدس فرضاً، والباقي للأولاد إن كانوا ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً؛ لأنهم حينئذٍ يكونون عصبة، وعصبة الفروع أولى من عصبة الأصول؛ لأن الفروع جزء من الميت.

(1/7)

وإن كان الأولاد إناثاً خلّصاً، أخذن فرضهن والباقي - إن كان - يأخذه الأب؛ لأنه أولى رجل ذكر، ولا يتصور أن يبقى له شيء إذا كن اثنتين فأكثر مع الأم.

وفي الحال الثانية: وهي أن لا يكون للميت أحد من الأولاد، وورثه أبواه، فقد فرض الله للأم الثلث، وسكت عن الأب فيكون له الباقي، إلا أن يكون للميت إخوة اثنان فأكثر، فقد فرض الله لها السدس فقط والباقي للأب.

وتأمل قوله عز وجل: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاه} ."النساء: من الآية11"؛ فإنه ربما يؤخذ منه أنه لو ورثه معهما غيرهما، لم يكن للأم الثلث، فيكون فيه إشارة إلى ميراث الأم في العمريتين، وهما زوج وأم وأب، وزوجة وأم وأب، فإن للزوج أو الزوجة فرضه، ثم تعطى الأم ثلث الباقي بعده، والباقي للأب، وذلك أن الله جعل للأب مثليها إذا انفردا بالمال، فقياس ذلك أن يكون له مثلاها إذا انفردا ببعضه، والله أعلم.

والآية الثانية: قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} "النساء: من الآية12"، يبيِّن الله تعالى فيها أن للزوج حالين:

إحداهما: أن يكون لزوجته الميتة أحد من الأولاد الذكور أو الإناث؛ ففرضه الربع.

الثانية: أن لا يكون لها أحد من الأولاد؛ ففرضه النصف.

وكذلك بيَّن أن للزوجة حالين:

إحداهما: أن يكون لزوجها الميت أحد من الأولاد الذكور أو الإناث؛ ففرضها الثمن.

الثانية: أن لا يكون له أحد من الأولاد؛ ففرضها الربع.

أما أولاد الأم وهم الإخوة والأخوات من الأم فبيّن الله

(1/8)

تعالى أنهم يرثون في الكلالة، وأن ميراثهم مقدّر للواحد السدس، وللاثنين فأكثر الثلث بالسوية لا فضل لذكر على أنثى؛ وذلك - والله أعلم - لأن اتصالهم بالميت من طريق الأم - وهي أنثى - فليس هنا جهة أبوة حتى يفضل جانب الذكورة.

والآية الثالثة: قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة} "النساء: من الآية176"ذكر الله فيها ميراث الإخوة لغير أم، ويؤخذ من الآية الكريمة أنهم ثلاثة أقسام:

أحدها: ذكور خلّص ويرثون بالسوية بلا تقدير.

الثاني: إناث خلّص ويرثن بالتقدير للواحدة النصف، وللثنتين فأزيد الثلثان.

الثالث: مختلط من الجنسين ويرثون بلا تقدير؛ للذكر مثل حظ الأنثيين.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"؛ فيؤخذ منه إرث من عدا الأصول والفروع والإخوة، وأنه لا يرث منهم إلا الذكور بلا تقدير، يقدم الأولى فالأولى كالعم على ابنه، والشقيق على الذي لأب.

ويؤخذ من قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "لأنفال: من الآية75"إرث ذوي الأرحام وهم من سوى أهل الفرائض والعصب، ولكن هذه الآية ليست نصاً في الميراث، فمن ثَمّ اختلف أهل العلم في إرث ذوي الأرحام، كما يأتي بيانه إن شاء الله.

(1/9)

علم الفرائض

حدّه ــ موضوعه - ثمرته - حكمه

حدّه: العلم بقسمة المواريث فقهاً وحساباً.

موضوعه: التركات وهي ما يخلفه الميت من أموال وحقوق واختصاصات.

ثمرته: إيصال كل وارث ما يستحقه من التركة، ومن ثم نعرف أهميته وحكمه.

حكمه: فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الباقين سنة.

الحقوق المتعلقة بالتركة

يتعلق بالتركة خمسة حقوق مرتبة بحسب أهميتها كالآتي:

1 - مؤن تجهيز الميت: من ثمن ماء تغسيله، وكفنه، وحنوطه، وأجرة الغاسل، وحافر القبر، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأمور من حوائج الميت، فهي بمنزلة الطعام والشراب واللباس والسكن للمفلس.

2 - ثم الحقوق المتعلقة بعين التركة: كأرش جناية العبد المتعلق برقبته، والدَّين الذي فيه رهن، وإنما قدمت على ما بعدها لقوة تعلقها بالتركة حيث كانت متعلقة بعينها.

وعند الأئمة الثلاثة - مالك وأبي حنيفة والشافعي -: تقدم

(1/11)

هذه الحقوق على مؤن التجهيز؛ لأن تعلقها بعين المال سابق، وعلى هذا فيقوم بمؤن التجهيز من تلزمه نفقة الميت إن كان، وإلا ففي بيت المال، وهذا القول كما ترى له حظ من النظر، والله أعلم.

3 - ثم الديون المرسلة التي لا تتعلق بعين التركة، كالديون التي في ذمة الميت بلا رهن، سواء كانت لله كالزكاة والكفارة، أم للآدمي كالقرض والأجرة وثمن المبيع ونحوها، ويسوّى بين الديون بالحصص إن لم تف التركة بالجميع، سواء كان الدَّين لله أم للآدمي، وسواء كان سابقاً أم لاحقاً.

وإنما قدّم الدَّين على الوصية لما روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: إنكم تقرؤون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْن} "النساء: من الآية12"

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدَّين قبل الوصية 1.

__________

1 علقه البخاري ووصله أحمد "1/79" والترمذي "2097" كتاب الفرائض،

5- باب ماجاء في ميراث الإخوة من الأب والأم. وقال: تكلم بعض أهل العلم في الحارث.

وقال ابن كثير "1/460": لكنه كان حافظا للفرائض معتنيا بتا وبالحساب.

ورواه ابن ماجه "2715" كتاب الوصيا، 7- باب الدين قبل الوصية.

صححه ابن ماجه "950" وحسنه الألباني، وضعفه البهقي "6/267" وقال الحافظ في "الفتح" "5/377"، وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذي: إن العمل على مقتضاه. وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه، وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به. وقد أورد في الباب ما يعضده أيضا. ولإجماع حكاه غير الترمذي وابن حجر جمع منهم ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "1338".

(1/12)

وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال إلا أنه يعضده المعنى والإجماع؛

أما المعنى فلأن الدَّين واجب على الميت والوصية تبرع منه، والواجب أولى بالتقديم من التبرع.

وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على تقديم الدَّين على الوصية.

فإن قيل: فما الحكمة في تقديم الوصية على الدين في الآية الكريمة؟

فالجواب: إن الحكمة - والله أعلم - هو أن الدَّين واجب والوصية تبرع؛ والتبرع ربما يتساهل به الورثة ويستثقلون القيام به فيتهاونون بأدائه بخلاف الواجب، وأيضاً؛ فالدَّين له من يطالب به، فإذا قُدِّر أن الورثة تهاونوا به فصاحبه لن يترك المطالبة به، فجبرت الوصية بتقديم ذكرها، والله أعلم.

4 - ثم الوصية بالثلث فأقل لغير وارث.

فأما الوصية للوارث فحرام غير صحيحة، قليلة كانت أو كثيرة؛ لأنّ الله قسّم الفرائض ثم قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . "النساء:13" {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . "النساء:14"

والوصية للوارث مِنْ تعدِّي حدود الله؛ لأنها تقتضي زيادة

(1/13)

بعض الورثة عما حدَّ الله له وأعطاه إياه، وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" 1. رواه الخمسة إلا النسائي، وقد أجمع العلماء على العمل بمقتضى هذا الحديث.

لكن إن أجاز الورثة المرشدون الوصية لأحد من الورثة، نفذت الوصية؛ لأن الحق لهم، فإذا رضوا بإسقاطه سقط، ولحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" 2. رواه الدارقطني.

__________

1 رواه أبو داود "2870" كتاب الوصايا، باب ماجاء في الوصية للوارث.

والترمذي "2120" كتاب الوصايا، 5- باب ماجاء لا وصية لوارث، وقال: حسن صحيح.

وابن ماجه "2713" كتاب الوصايا، 6- باب لاوصية لوارث.

وأحمد في "المستند" "5/267".

2 رواه الدارقطني "4/152" كتاب الوصايا.

وعنه البهيقي "6/263" كتاب الوصايا، باب نسخ الوصية للوالدين والأفربين والوارثين.

وأبو داود في "المراسيل" "349"، 63- ما جاء في الوصايا وقال: عطا الخراساني لم يدرك ابن عباس.

وضعفه ابن حزم.

قال الحافظ في "الدراية" "2/290": رجاله لا بأس بهم، ولم يجب عن الانقطاع. وثبته في "التخليص" "3/92".

وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند:

الترمذي "2121" كتاب الوصايا، 5- باب ما جاء لا وصية لوارث.

وقال: حسن صحيح. والنسائي "6468" كتاب الوصايا، 5- باب إبطال الوصية للوارث وابن ماجه "2712" كتاب الوصايا، 6- باب لاوصية لوارث. وصححهما الألباني.

(1/14)

وأما الوصية لغير الوارث فإنها تجوز وتصح بالثلث فأقل، ولا تصح بما زاد عليه؛ لأن الثلث كثير، فيدخل ما زاد عليه بالمضارة، ولحديث ابن عباس أنه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير" 1 متفق عليه.

فإن أجاز الورثة المرشدون الوصية بما زاد على الثلث صح ذلك؛ لأن الحق لهم فإذا رضوا بإسقاطه سقط.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله: متى تعتبر إجازة الورثة الوصية للوارث أو بما زاد على الثلث؟

فالمشهور من مذهب الإمام أحمد عند أصحابه: أنها لا تعتبر إلا بعد الموت، فلو أجازوا قبله لم تصح الإجازة ولهم الرجوع.

والراجح أن الإجازة إن كانت في مرض موت المورث صح وليس لهم الرجوع، وإن كانت في غير مرض موته لم تصح ولهم الرجوع، وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ذكره في "بدائع الفوائد" صفحة "4" من الجزء الأول".

__________

= قال ابن عبد البر في "التمهيد" "14/299": هذا إجماع علماء المسلمين.

قال ابن المنذر في "الإجماع" "ص81": وأجمعوا على أن لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ذلك.

قال ابن حزم "113": واختلفوا إذا أذن في ذلك سائر الورثة وأجازوه، أيجوز أم لا؟.

1رواه البخاري "1295"كتاب الجنائز، 37- باب رثى النبي صالى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ومسلم "1628".

(1/15)

5- ثم الإرث لأن الله سبحانه قال بعد قسمة المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار} "النساء: من الآية12"ويبدأ بذوي الفروض وما بقي فللعصبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" 1 متفق عليه، فإن لم يكن عصبة ردّ على ذوي الفروض بقدر فروضهم، إلا الزوجين. فإن لم يكن عصبة، ولا ذوو فرض يرد عليهم، فلذوي الأرحام؛ لقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} "لأنفال: من الآية75"، فإن لم يكن ورثة فلبيت المال.

"تنبيه": إذا قيل: ما معنى تقديم الوصية على الإرث، مع أنها لا ينفذ منها - إذا لم تجز الورثة - إلا الثلث، والباقي للورثة؟

فالجواب: أن معناه أن الموصَى به يُخْرَجُ من التركة قبل المواريث كاملاً، ثم يقسم الباقي على الورثة كتركة مستقلة فيدخل النقص عليهم دون الوصية، ويتبين ذلك بالمثال:

فإذا هلكت امرأة عن زوجها وأختها الشقيقة وقد أوصت بالثلث؛ فالمسألة من ثلاثة: للوصية الثلث واحد، ويبقى اثنان هي التركة الموروثة؛ للزوج نصفها وهو واحد، وللأخت نصفها وهو واحد.

فأنت تعرف في هذا المثال أن للوصية الثلث، وللزوج النصف، وللأخت النصف، ولم يحصل لكل من الزوج والأخت حقيقة إلا الثلث.

أما الوصية فَأُعْطِي الموصَى له الثلث كاملاً، وصار النقص على الورثة. ولو قلنا بعدم تقديم الوصية لجعلنا الثلث الموصَى به

__________

1 سبق "ص6" وأنه في "الصحيحين".

(1/16)

كثلث مفروض؛ فتكون المسألة من ستة، وتعول إلى ثمانية؛ للوصية الثلث اثنان، وللزوج النصف ثلاثة، وللأخت النصف ثلاثة، وتعول إلى ثمانية فيدخل النقص على الجميع.

وخلاصة ما سبق أن الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة مرتبة كالآتي:

الأول: مؤن التجهيز.

الثاني: الحقوق المتعلقة بعين التركة، ومذهب الأئمة الثلاثة أن هذا مقدّم على مؤن التجهيز.

الثالث: الديون المرسلة.

الرابع: الوصية لغير وارث بالثلث فأقل.

الخامس: الإرث.

(1/17)

الإرث

أركانه - شروطه - أسبابه - موانعه - أقسامه

أركان الإرث ثلاثة: مورِّث، ووارث، وموروث.

فالمورِّث: من انتقلت التركة منه وهو الميت.

والوارث: من انتقلت التركة إليه.

والموروث: التركة.

وشروط الإرث ثلاثة:

- أحدها: موت المورِّث حقيقة أو حكماً.

- الثاني: حياة الوارث بعده ولو لحظة، حقيقة أو حكماً.

- الثالث: العلم بالسبب المقتضي للإرث.

أما موت المورِّث فلقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك} "النساء: من الآية176"والهلاك الموت، وتركه لماله لا يكون إلا بعد انتقاله من الدنيا إلى الآخرة.

ويحصل تحقق الموت بالمعاينة والاستفاضة وشهادة عدلين.

وأما الموت حكماً: فذلك في المفقود إذا مضت المدة التي تحدد للبحث عنه؛ فإننا نحكم بموته إجراء للظن مجرى اليقين عند تعذره، لفعل الصحابة رضي الله عنهم.

وأما اشتراط حياة الوارث بعد موت مورِّثه؛ فلأن الله تعالى

(1/18)

ذكر في آيات المواريث استحقاق الورثة باللام الدالة على التمليك، والتمليك لا يكون إلا للحي.

ويحصل تحقق حياته بعد موت مورثه بالمعاينة، والاستفاضة، وشهادة عدلين.

وأما حياة الوارث حكماً: فمثلوا له بالحمل يرث من مورثه إذا تحقق وجوده حين موت مورثه، وإن لم تنفخ فيه الروح بشرط خروجه حياً.

وأما اشتراط العلم بالسبب المقتضي للإرث؛ فلأن الإرث مرتب على أوصاف كالولادة والأبوة والأخوة والزوجية والولاء ونحو ذلك، فإذا لم نتحقق وجود هذه الأوصاف، لم نحكم بثبوت ما رتب عليها من الأحكام؛ لأن من شروط ثبوت الحكم أن يصادف محله، فلا يحكم بالشيء إلا بعد وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه.

ومعنى العلم بالسبب المقتضي للإرث: أن تعلم كيف يتصل الوارث بالمورث؛ هل هو زوج أو قريب أو ذو ولاء أو نحو ذلك؟ لكن ههنا حالان:

إحداهما: أن يكون للميت وارث معلوم فيدعي آخر أنه أولى بإرث الميت منه؛ ففي هذه الحال لا بد أن نعلم بكيفية اتصال المدعي بالميت، وبمنزلته منه أيضاً؛ بأن نعلم أنه أخوه أو عمه أو ابن أخيه أو ابن عمه، وهل هو بعيد المنزلة من الميت أو قريب؛ لتعلم بذلك أيهما أولى بالإرث، ولا يكفي في هذه الحال أن تعلم أنه قريبه ونحوه؛ لئلا ندفع به حق الوارث المعلوم بلا علم

الثانية: أن لا يكون للميت وارث معلوم ففي هذه الحال يكفى أن نعلم أنه قريبه أو من قبيلته ونحوه، ويستأنس لهذا بما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: مات رجل من خزاعة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بميراثه فقال: "التمسوا وارثاً أو ذا رحم"، فلم يجدوا له وارثاً ولا ذا رحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا أكبر رجل من خزاعة". رواه أبو داود"1".

وأسباب الإرث ثلاث: نكاح، ونسب، وولاء.

فالنكاح عقد الزوجية الصحيح؛ فيرث به الزوج من زوجته والزوجة من زوجها بمجرد العقد، وإن لم يحصل وطء ولا خلوة؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم} ."النساء: من الآية12" {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} ."النساء: من الآية12": 12] . والمرأة تكون زوجة بمجرد العقد ولا تكون زوجة إلا بعقد صحيح، وروى الخمسة من حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود: أنه قضى في امرأة توفي عنها زوجها ولم يكن دخل بها أن لها الميراث، فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى به. وصححه الترمذي"2".

__________

1 رواه أبو داود "2903، 2904" كتاب الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام، والنسائي "6394" كتاب الفرائض، 28- توريث ذوي الأرحام.

وأحمد "5/347".

وضعفه المنذري والألباني.

2 رواه أحمد "1/430".

وأبو داواد "2114 - 2116" كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات. والترمذي "1145" كتاب النكاح، 44- باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها. وقال: حسن صحيح 

والنسب: هو الرحم، وهو الاتصال بين إنسانين بولادة قريبة أو بعيدة، لقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ."لأنفال: من الآية75"

والولاء: ولاء العتاقة وهي العصوبة التي تثبت للمُعْتِقِ وعصبته المتعصبين بأنفسهم، سواء كان العتق تبرعاً أو عن واجب؛ من نذر أو زكاة أو كفارة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" 1. متفق عليه.

__________

= والنسائي "5515" كتاب النكاح، 70- إباحة التزوج بغير من صداق.

وابن ماجه "1831" كتاب النكاح، 18- باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك.

وصححه ابن حزم والألبان، والحاكم "2/196-197".

1 رواه البخاري "2155" كتاب البيوع، 67- باب البيع والشراء مع النساء، ومسلم "1504" كتاب العتق، 2- باب إنما الولاء لمن أعتق.

من حديث عائشة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق